21 Feb 2016
مقدمات في فضائل القرآن
الحمد لله الذي أنزل إلينا كتابه الكريم، المبارك العظيم، وجعله أفضل الكتب وأعظمها، وأكثرها بركة وأكرمها، وأرسل إلينا أفضل رسله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أكرم الناس نسباً، وأزكاهم نفساً، وأطهرهم قلباً، وأحسنهم خلقاً، وأفصحهم بيانا، وجعل شريعته أحسن الشرائع وأكملها وأعظمها، وجعل أمَّته خير أمّة أخرجت للناس، وأكرمها على ربّها، وأنزل إليه كتابه الكريم في خير ليلة، وأشرف بقعة؛ وبواسطة أشرف ملائكته؛ فاختار لكتابه الكريم من كلّ شيء أحسنه وأشرفه وأكرمه؛ فاجتمعت له محاسن الفضائل، وأشرف الخصائل.
وفي هذا من التنبيه على عظيم فضل القرآن ما يكفي ويشفي من كان له قلب يعي ويعقل، مع ما نوّع الله به من الطرق الجليلة في بيان فضائله.
المقدمة الأولى: التعريف بطرق بيان فضل القرآن
فضل القرآن الكريم يتبيّن من طرق متنوّعة متظافرة:
فأولها: أنه كلام الله جل وعلا ، وكلام الله صفة من صفاته، وصفات الله تعالى لها آثارها التي لا تتخلّف عنها؛ فهو العليم الذي وسع علمه كلّ شيء؛ والقدير الذي لا يعجزه شيء، وهو العزيز الحكيم، والرحمن الرحيم، والعليّ العظيم، والحميد المجيد، والواسع المحيط، والحقّ المبين، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي من تفكّر فيها وآمن بها أدرك أن لها آثاراً تتجلّى في كلامه جلّ وعلا، وأن كلامه – تعالى – لا يمكن أن يكون فيه ما هو خلاف مقتضى أسمائه وصفاته، وأن هذا القرآن العظيم لا يمكن أن يكون من قول البشر، ولا من قول الشياطين {وما ينبغي لهم وما يستطيعون}.
وقد قال جماعة من السلف: (فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) وروي مرفوعاً من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ولا يصح.
لكنّه دالّ على معنى صحيح في نفسه، وهو أنّ صفات كل موصوف بحسبه، فكلام البشر يكون مبلغهم فيه مبلغ علمهم وقدرتهم وبيانهم، ويكون فيه من النقص والضعف والخطأ ما يناسب صفاتهم.
وكلام الله تعالى كلام عن علم تامّ وقدرة لا يعجزها شيء، وإحاطة بكلّ شيء، وحكمة بالغة، ورحمة سابغة، وحقّ لا يعتريه باطل، وبيان لا اختلاف فيه، إلى غير ذلك من صفاته جلّ وعلا التي لها آثارها ومقتضياتها، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}.
ولذلك قال ابن عطية رحمه الله في مقدّمة تفسيره: (كتاب الله لو نُزِعَت منه لفظةٌ ثم أديرَ لسانُ العربِ في أن يوجدَ أحسنَ منها لم يوجد).
وهذا مبناه – كما تقدّم - على سَعَة علم الله عزّ وجلّ وإحاطته بكلّ الألفاظ ودلالاتها وأوجه استعمالاتها، وعلى عظيم قدرته جلّ وعلا، وأنّه لا يعجزه شيء؛ فإذا اجتمع العلم المحيط بكل شيء، مع القدرة على كلّ شيء؛ فلا يُمكن أن يأتي أحد بتعبير أحسن من تعبير القرآن؛ لأنه ما من لفظة يدركها علم المخلوق إلا والله تعالى أعلم بها منه من قبل أن يُخلق.
وثانيها: أن الله تعالى وصف القرآن العظيم بصفات جليلة ذات معانٍ عظيمة وآثار مباركة لا تتخلّف عنها؛ وهي أوصاف من عليم خبير، تتضمّن مع إفادة الوصف وبيان الفضل وعوداً كريمة، وشروطاً من قام بتحقيقها ظفر بموعوده بها، ولذلك كان التفكّر فيما وصف الله به كتابه من تلك الصفات الجليلة، وتأمّل آثارها ودلائلها من أخصّ أبواب الانتفاع بالقرآن.
وهذه الصفات التي وصف الله بها كتابه الكريم من أعظم دلائل فضله.
وثالثها: أن الله تعالى يحبّه، وتلك المحبّة لها آثارها ودلائلها المباركة، وما أودع الله تعالى فيه من البركات والخير العظيم، وما جعل له من شأنٍ عظيمٍ في الدنيا والآخرة هو من دلائل محبّة الله تعالى له.
ورابعها: أنّ الله تعالى أخبر عنه بأخبار كثيرة تبيّن فضله وشرفه في الدنيا والآخرة، وبيّن من مقاصده وآثاره ما يدلّ دلالة بيّنة على فضله.
وخامسها: أنَّ الله تعالى أقسم به في مواضع كثيرة من كتابه، فقال تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}، وقال: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، وقال: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}، وقال: { وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}، وفي الإقسام به دلالة بينة على تشريفه وتكريمه ورفعة مقامه، وأقسم الله تعالى – أيضاً – على ما يبيّن به فضله وشرفه ورفعته وكرمه؛ فقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)}
وسادسها: أنّ الله تعالى جعل له أحكاماً كثيرة في الشريعة ترعى حرمته، وتبيّن فضله، ومن ذلك أن جعل الإيمان به من أصول الإيمان التي لا يصح إلا بها، وأوجب تلاوة آياته في كلّ ركعة من الصلوات، حتى جعل للمصحف الذي يُكتب فيه أحكاماً كثيرة، وحرمة عظيمة في الشريعة.
وسابعها: أن الله تعالى رغّب في تلاوته ورتّب عليها أجوراً عظيمة مضاعفة أضعافاً كثيرة، وكثرة ثواب تلاوته وتنوّعها من أظهر دلائل فضله، حتى انصرفت همّة كثير من المصنّفين في فضائل القرآن إلى تتبع ما روي في ثواب تلاوته.
وثامنها: أنّ الله تعالى رفع شأن أهل القرآن؛ حتى جعلهم أهله وخاصّته، وجعل خير هذه الأمّة من تعلّم القرآن وعلّمه، وقدّمهم على غيرهم في الإمامة في الصلاة، وفي التقدّم إليه عند تزاحمهم في الإدخال في القبر، وجعل إجلالهم من إجلاله، ومحبّتهم من آثار محبّته، إلى غير ذلك مما شرّفهم به ورفعهم به من الخصال التي لم يبلغوها إلا بفضل هذا القرآن؛ فكان تكريمهم وتشريفهم ورفعتهم بالقرآن من الدلائل البيّنة على فضل القرآن.
المقدمة الثانية: بيان ثمرات معرفة فضائل القرآن
ومعرفة فضائل القرآن لها ثمرات جليلة، ومن أعظم ثمراتها:
1. أنها تبصّر المؤمن بأوجه فضائل القرآن وعظمة شأنه؛ فيعظّمه ويعظّم هداه ويرعى حرمته ويعرف قدره، وهذا أصل مهم في توقير القرآن وتعظيمه.
2. أنها تكسب المؤمن اليقين بصحّة منهجه، لأنّه مبنيّ على هدى القرآن، وقد تعرّف من دلائله ما يزيده طمأنينة بالحقّ الذي معه، ففي بصائر القرآن وهداياته ونوره ما يضيئ الطريق للسالكين، ويكشف شبهات المضلّين، ويفنّد مزاعم المفسدين، ويجعل لصاحبه فرقاناً يميّز به الحق من الباطل، والهدى من الضلالة، وأولياء الرحمن من أولياء الشيطان؛ فيجد في القرآن من أنواع التبصير والتثبيت ما يطمئنّ به، كما قال الله تعالى: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)}، وقال: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)}
3. أنها ترغّب المؤمن في مصاحبة القرآن؛ بالإيمان به واتّباع هداه والاستكثار من تلاوته والتفقّه فيه، والدعوة إليه، وتعليمه.
4. أنّها تدحض كيد الشيطان في التثبيط عن تلاوته والانتفاع به؛ فكلما ضعفت النفس، ووهن عزمها؛ ذكّرها بفضائل القرآن فاشتدت العزيمة، وعلت الهمّة، وشمّر تشمير المجتهدين؛ ليدرك نصيبه من الفضل العظيم.
5. أنها تحصّن المؤمن من طلب منهل للعلم والمعرفة يخالف منهج القرآن؛ ولا سيّما إذا عرف معاني صفات القرآن، وأدرك حقائقها وآثارها؛ فإنّه يتبيّن خسارة صفقة من استبدل به غيره، وحرمان من اشتغل بغيره.
6. أنها سبب لنجاة المؤمن من مضلات الفتن؛ فإنّ من أدرك تلك الفضائل ورسخت معرفتها في قلبه، عرف أنه لا بدّ أن يصدر في كل شأن من شؤونه عن هدى القرآن الذي من اعتصم به عُصم من الضلالة.
7. أنّها تفيده علماً شريفاً من أشرف العلوم، وأعظمها بركة، فالتفقّه في فضائل القرآن على طريقة أهل العلم من أعظم أوجه إعداد العدّة للدعوة إلى الله تعالى، والترغيب في تلاوة كتابه واتّباع هداه؛ فإنّه يجتمع للدارس في هذا العلم من تفسير الآيات المتعلّقة بفضائل القرآن، ومعرفة دلالاتها على أوجه فضائله، ومعرفة الأحاديث والآثار المروية في هذا العلم الجليل، وما ينتخبه من أقوال العلماء في بيان فضله؛ ما يستعدّ به للدعوة إلى الله على بصيرة، ولا يزال يضيف إلى ما جمعه ما يجد من الفوائد واللطائف والقصص والأخبار الصحيحة المنبّهة على فضائل القرآن، ويزكّي علمه شيئاً فشئياً بالدعوة والتعليم حتى يجد من بركات ما تعلّمه شيئاً كثيراً مباركاً؛ فقد يكون بكلمة واحدة سبباً في إقبال قلب مسلم على تلاوة القرآن وحفظه، وسبباً في ازدياد آخرين من تلاوته، وسبباً في عناية آخرين بهذا العلم وتعلّمه وتعليمه والدعوة به إلى الله؛ بل ربّما كان سبباً في إسلام أناس كانوا على الكفر؛ فخرجوا من الظلمات إلى النور بحسن ترغيبه وتعريفه بكتاب ربّه جلّ وعلا، فيكتسب – بفضل الله تعالى – من أنواع الأجور العظيمة ما لم يكن يخطر له على بال.
ولذلك اعتنى كثير من العلماء بالتأليف في فضائل القرآن.
المقدّمة الثالثة: ذكر المؤلّفات في فضائل القرآن
اعتنى العلماء بالتأليف في فضائل القرآن لما يرجى فيه من الثواب العظيم؛ فقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» رواه مسلم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».
وقد نشأ التأليف في فضائل القرآن في عهد مبكّر، وما يزال التأليف فيه إلى عصرنا الحاضر، ومن أهمّ الكتب المطبوعة في فضائل القرآن وأشهرها:
1. فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، وهو من أجلّ كتب الفضائل.
2. فضائل القرآن لسعيد بن منصور الخراساني، وهو كتاب كبير من سننه.
3. وكتاب فضائل القرآن من مصنّف ابن أبي شيبة.
4. وكتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري.
5. وأبواب فضائل القرآن من صحيح مسلم.
6. وكتاب فضائل القرآن من جامع الترمذي.
7. كتاب فضائل القرآن لابن الضُّرَيس.
8. وكتاب فضائل القرآن لأبي بكر الفريابي.
9. كتاب فضائل القرآن لأبي عبد الرحمن النسائي.
10. وكتاب فضائل القرآن للحافظ المستغفري.
11. وكتاب فضائل القرآن وتلاوته لأبي الفضل الرازي.
12. وفضائل القرآن لضياء الدين المقدسي.
13. وكتاب "الإجلال والتعظيم في فضائل القرآن الكريم" لِعَلَمِ الدين السخاوي، وهو جزء من كتابه الكبير "جمال القرّاء وكمال الإقراء".
14. وكتاب لمحات الأنوار ونفحات الأزهار وري الظمآن لمعرفة ما ورد من الآثار في ثواب قارئ القرآن لأبي القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي، وهو من أكبر الكتب المصنّفة في فضائل القرآن لكنّه لم ينقّحه فوقع فيه غثّ كثير.
15. والوجيز في فضائل الكتاب العزيز للقرطبي.
16. وقاعدة في فضائل القرآن لابن تيمية.
17. وفضائل القرآن لابن كثير، وهو جزء من مقدّمة تفسيره.
18. ومورد الظمآن إلى معرفة فضائل القرآن لابن رجب الحنبلي.
19. وهبة الرحمن الرحيم من جنة النعيم في فضائل القرآن الكريم لمحمد هاشم السندي
20. وكتاب فضائل القرآن لمحمّد بن عبد الوهاب.
21. وموسوعة فضائل سور وآيات القرآن لمحمد بن رزق الطرهوني.
وبعض هذه المصنّفات أجزاء من كتب الحديث، وقد اعتنى بها شرّاح الأحاديث فيما يشرحون من كتبه، ومنهم من يتوسّع في شرحه ومنهم من يختصر، ولذلك تجد لكتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري شروحاً كثيرة لو جُمعت وأفردت في مؤلف لكان في مجلَّدات.
وللمفسّرين عناية ببيان فضائل القرآن في مقدّمات تفاسيرهم، وفيما يفسّرون من الآيات الدالّة على فضل القرآن.
ومن العلماء من أفرد فضائل بعض السور والآيات بمصنفات مستقلة.
المقدّمة الرابعة: التعريف بطرق العلماء في التأليف في فضائل القرآن
كان بيان فضائل القرآن في أوّل الأمر قائماً على تفسير الآيات الدالة على فضل القرآن، ورواية الأحاديث والآثار الواردة في ذلك.
ثم لمّا بدأ عصر التدوين اعتنى بعض العلماء بتدوين ما روي في فضائل القرآن؛ وكان التأليف فيه على أنواع:
النوع الأول: رواية الأحاديث والآثار الواردة في فضائل القرآن بالأسانيد وضمّها إلى دواوين السنة؛ كما فعل البخاري ومسلم وابن أبي شيبة والترمذي.
والنوع الثاني: إفراد فضائل القرآن بالتأليف المستقلّ؛ ورواية ما ورد فيه من الأحاديث والآثار بالأسانيد؛ كما فعل أبو عبيد القاسم بن سلام والنسائي وابن الضريس والفريابي وأبو الفضل الرازي.
والنوع الثالث: جمع ما رواه الأئمة وتصنيفه على الأبواب، وحذف الأسانيد اختصاراً كما فعل ابن الأثير في جامع الأصول، وابن حجر في المطالب العالية، والغافقي في كتابه الكبير في فضائل القرآن.
والنوع الرابع: التصنيف المقتصر على بعض الأبواب المهمّة وترجمتها بما يبيّن مقاصدها وفقهها، كما فعل شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهاب في تأليفه المختصر في ذلك.
والنوع الخامس: التنبيه على بعض مباحث فضائل القرآن كما فعل كثير من المفسّرين في مقدّمات تفاسيرهم، وكما أفرد ابن تيمية رسالة لبيان قاعدة في فضائل القرآن.
والنوع السادس: إفراد فضائل بعض الآيات والسور بالتأليف كما أفرد أبو محمد الخلال جزءاً في فضائل سورة الإخلاص.
والنوع السابع: شرح معاني الآيات والأحاديث والآثار الواردة في فضائل القرآن كما فعل كثير من شرّاح الأحاديث.
والنوع الثامن: عقد فصول في بعض الكتب لبيان بعض فضائل القرآن، كما فعل ابن تيمية في عدد من رسائله، وابن القيّم في كتاب الفوائد وطريق الهجرتين ومدارج السالكين، وابن رجب، والسيوطي، وغيرهم من العلماء.
المقدّمة الخامسة: مباحث علم فضائل القرآن
كلام العلماء في فضائل القرآن يمكن تصنيفه إلى أنواع يحصل بجمعها تكامل حسن للمادّة العلمية في هذا العلم الجليل، ومن تلك الأنواع:
1. بيان معاني أسماء القرآن وصفاته الواردة في القرآن، وهذا النوع إذا أحسن جمع مادّته وتحرير القول فيه من أحسن المداخل لبيان فضائل القرآن لأنّه مبني على تدبّر ما وصف الله به كتابه، وتأمّل معاني تلك الصفات وآثارها ومقتضياتها.
2. جمع الأحاديث والآثار المروية في فضائل القرآن.
3. بيان فضل تلاوة القرآن وفضل اتّباع هداه.
4. بيان فضل أهل القرآن، وهو فرع عن فضل القرآن؛ لأنّهم إنما شرفوا بسببه.
5. بيان فضل تعلّم القرآن وتعليمه.
6. فضائل بعض الآيات والسور.
7. تفاضل آيات القرآن وسوره.
8. بيان خواصّ القرآن.
المقدّمة السادسة: بيان سبب كثرة الأحاديث الضعيفة في فضائل القرآن
مما ينبغي التنبّه له ما شاع من مرويات ضعيفة في فضائل القرآن، حتى ربما كان رواجها أشهر لدى كثير من العامة من بعض ما صحّ من الأحاديث والآثار.
وكان من أسباب شيوع تلك المرويات الضعيفة والواهية تهاون بعض القُصّاص والوعّاظ في الرواية في هذا الباب، ورواية بعضهم بالمعنى بتصرّف مخلّ، وتساهل في الرواية عن بعض المتّهمين وشديدي الضعف، وغالب تلك المرويات مما يكون معناه مقبولا عند العامة؛ فيروج لمحبّتهم للقرآن، ورغبتهم في الأجر بنشر ما يحثّ على العناية به؛ حتى وصل الأمر ببعضهم إلى إشاعة الموضوعات في هذا الباب من غير تمييز.
ولأجل شهرة بعض القصّاص وعنايتهم برواية الأحاديث بالأسانيد أخذ عنهم بعض من لم يشترط الصحّة من المصنّفين من غير تمييز ولا بيان لضعف حالهم، بل ربّما ظنّه بعضهم صحيحاً.
وقد اختلفت مقامات العلماء المصنّفين وأوجه عنايتهم في التأليف في فضائل القرآن؛ فكان منهم من يشترط الصحّة فيما يرويه؛ كالبخاري ومسلم فيما رويا من أحاديث فضائل القرآن في صحيحيهما؛ فهؤلاء قد اتّقوا تلك المرويات وصانوا كتبهم عنها.
وكان منهم من يروي ما فيه ضعف محتمل كالنسائي وابن أبي شيبة والترمذي على تفاوت بينهم في ذلك.
وكان منهم من انصرفت همّته لجمع ما روي في هذا الباب فوقع في مصنّفاته مرويات واهية كما في فضائل القرآن لابن الضريس والفريابي، وكما في كتاب الغافقي الذي جمع فيه فأكثر ولم يميّز الغثّ من السمين.
وسنفرد باباً بإذن الله تعالى للتنبيه على بعض ما شاع من المرويات الضعيفة في فضائل القرآن.
المقدّمة السابعة: بيان درجات المرويات الضعيفة في فضائل القرآن
والمرويّات الضعيفة في فضائل القرآن على درجات:
الدرجة الأولى: المرويات التي يكون الضعف فيها محتملاً للتقوية، لعدم وجود راوٍ متّهم أو شديد الضعف في إسنادها، أو لكونها من المراسيل الجياد، أو الانقطاع فيها مظنون، ويكون معناها غير منكر في نفسه ولا مخالف للأحاديث الصحيحة؛ فمرويات هذه الدرجة قد رأى بعض العلماء روايتها والتحديث بها، بل رأى بعضهم العمل بها.
والدرجة الثانية: المرويات التي في إسنادها ضعف شديد، وليس في معناها ما ينكر من حيث الأصل، وربّما كان في بعضها ما يتوقّف فيه؛ فهذا النوع قد تساهل فيه بعض المصنّفين، وهو أكثر المرويات الضعيفة في هذا الباب.
والدرجة الثالثة: المرويات الضعيفة التي في معناها ما ينكر؛ إما لتضمّنها خطأ في نفسها أو لمخالفتها للأحاديث الصحيحة الثابتة، سواء أكان الإسناد شديد الضعف أو كان ضعفه مقارباً؛ لأنّ النكارة علّة كافية في ردّ المرويات.
والدرجة الرابعة: الأخبار الموضوعة التي تلوح عليها أمارات الوضع.
المقدّمة الثامنة: بيان الحاجة إلى تجديد وسائل النشر لعلم فضائل القرآن
علم فضائل القرآن من العلوم التي تمسّ الحاجة إلى تحرير القول فيها وإحسان بيانها، والدعوة إلى الله تعالى ببيان فضائل كتابه من أعظم مجالات الدعوة نفعاً، وأحسنها أثراً، إذا أحسن الداعية طريقة بيان فضل القرآن، وأحسن الدعوة إلى تلاوته وتدبّره واتّباع هداه.
وكم أسلم من كافر كان عنيداً شديد العداوة للإسلام بعد قراءته ما عرّفه فضل القرآن، ومنهم من يُترجم له بعض ذلك فيقرأ ويتأثر ويسلم بسببه، وكم من غافل ذُكّر بفضل القرآن فتذكّر وأقبل على تلاوته وتدبّره فنفعه الله به.
وإن كان العلماء السابقين قد بذلوا في عصورهم ما أمكنهم من الوسائل لبيان فضائل القرآن والدعوة إليه تأليفاً وتدريساً ورواية وموعظة؛ فالحاجة في هذا العصر الذي يشهد توسّعا مذهلاً في وسائل النشر تقتضي من طلاب العلم الصادقين العناية بهذا الأمر، والإسهام بما يستطيعون بنشر ما أمكنهم في وسائل التواصل الاجتماعي وقوائم البريد الإلكترونية وفي المواقع والمنتديات، وطباعة الكتاب والرسائل والمطويات، وإنتاج المقاطع الصوتية والمرئية، وترجمة المقالات والكلمات إلى لغات متعددة، ونشرها بالوسائل المتاحة، وكلّ ذلك من أبواب الخير العظيمة التي ينبغي لكلّ طالب علم أن يكون له إسهام فيها.
لكن يجب أن يُتنبّه إلى العناية بأمرين مهمّين:
أحدهما: التوثّق من صحّة ما ينشر، وأن لا يعجل بنشر شيء قبل أن يطمئنّ لصحّته.
والأمر الآخر: مراعاة الحكمة وحسن الأسلوب في التحرير والنشر.
وذلك لأجل أن يكون ما ينشره صحيحاً متقناً، والله تعالى قد كتب الإحسان في كلّ شيء، فما بالكم بأمر الإحسان في بيان فضل كتابه العظيم.
والناس يتفاوتون فيما يفتح الله به عليهم وما يمكّنهم منه وما يهبهم من القدرات والملكات؛ فمنهم من يحسن التأليف والتحرير، ومنهم من يحسن الترجمة، ومنهم من يحسن الإخراج والتصميم، ومنهم من يحسن النشر، ولو قام كلّ واحد بما يحسن وأفاد أهل لسانه؛ لأثمر ذلك - بإذن الله تعالى - دعوة مباركة طيّبة إلى كتاب الله تعالى، وتعريف أمم الأرض به، وبيان محاسنه وفضائله لهم.