الدروس
course cover
بيان عظمة القرآن
23 Feb 2016
23 Feb 2016

5723

0

2

course cover
بيان فضل القرآن

القسم الأول

بيان عظمة القرآن
23 Feb 2016
23 Feb 2016

23 Feb 2016

5723

0

2


0

0

0

0

2

بيان عظمة القرآن

من أظهر الدلائل البيّنة على فضل القرآن ما دلّت عليه النصوص الصحيحة الصريحة من معاني عظمته التي من تأمّلها وتفكّر في مظاهرها ولوازمها وآثارها في الدنيا والآخرة ازداد يقيناً بعظمة هذا القرآن العظيم وفضله، وأدرك به عظيم منّة الله تعالى على هذه الأمة بما اختصّهم به من إنزاله، وأكرمهم بتيسيره لهم ليهتدوا به، وأيقن أنّ الشرف كلّ الشرف، والرفعة والعزّة إنما تكون بالإيمان به واتّباع هداه، وأنّ لتلك العظمة مقتضيات من العبودية لله تعالى.

وقد ذكرت فيما مضى شيئاً من تلخيص معاني عظمة القرآن، فيما شرح من معاني صفاته على وجه الإيجاز والتنبيه، ولسعة معاني عظمة القرآن أفردتها هنا بحديث مستقلّ؛ لنتوقّف فيه عند تلك المعاني، ونستجلي تلك الحقائق، ونتفكر في دلائلها وآثارها، ونتذكَّر نعمة الله علينا بهذا الكتاب العظيم.

ومعاني عظمة القرآن تتبيّن بمعرفة عظمة قدْره وعظمة صفاته.

فمن عظمة قَدْرِه: أنه كلام الله تعالى؛ الذي لا أعظم من كلامه ولا أصدق ولا أحسن، وشرف الحديث بشرف المتحدّث به، وقد سبق التنبيه إلى آثار أسماء الله تعالى وصفاته في كلامه، وتلك الآثار كما تدلّ على فضل القرآن وعظمته فإنّ لها مقتضيات من أنواع العبودية لله تعالى.

قال ابن القيّم رحمه الله: (القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بأسمائه وصفاته؛ فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال؛ فتخضع الأعناق وتنكسر النفوس وتخشع الأصوات ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء.

- وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات؛ فيستنفد حبُّه من قلبِ العبد قوةَ الحب كلها بحب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله فيصبح فؤاد عبده فارغا إلا من محبته؛ فإذا أراد منه الغير أنْ يعلق تلكَ المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كلَّ الإباء كما قيل:

يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل

فتبقى المحبة له طبعا لا تكلفاً.

- وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان؛ انبعثت قوة الرجاء من العبد وانبسط أمله وقوي طمعه وسار إلى ربه وحادي الرجاءِ يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جدَّ في العمل كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغلّ غلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصَّر في البذر.

- وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة؛ انقمعت النفس الأمارة وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنَّة رعوناتها؛ فأحضرت المطية حظَّها من الخوف والخشية والحذر.

- وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرْع الشرائع؛ انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره، والتبليغ لها، والتواصي بها، وذكرها وتذكرها، والتصديق بالخبر، والامتثال للطلب، والاجتناب للنهي.

- وإذا تجلى بصفة السمع والبصر والعلم؛ انبعث من العبد قوَّةُ الحياء؛ فيستحيي ربَّه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه؛ فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع، غير مُهْمَلة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.

- وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم إليهم ودفع المصائب عنهم ونصره لأوليائه وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم؛ انبعثت من العبد قوة التوكل عليه والتفويض إليه والرضا به وبما في كل ما يجريه على عبده ويقيمه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده وثقته به ورضاه بما يفعله به ويختاره له.

- وإذا تجلى بصفات العزّ والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له؛ فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهبُ طَيْشه وقوته وحدَّته)ا.هـ.

ومن عظمة قدره: كثرة أسمائه وأوصافه المتضمنة لمعان جليلة عظيمة تدل على عظمة المسمى بها والمتصف بها، وقد سبق بيان بعضها.

ومن عظمة قدره: إقسام الله تعالى به في آيات كثيرة؛ فإن القسم به دليل على شرفه وعظمته، وما أخبر الله به عنه من الأخبار العظيمة ما يكفي المؤمن دليلاً على بيان عظمته.

ومن عظمة قدره: أن تبليغه هو المقصد الأعظم من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك}، وقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، وقال: { قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}.

ومن عظمة قدره: أنه أفضل الكتب المنزلة، وأحبّها إلى الله، قد اختار الله له أفضل رسله، وخير الأمم، وأفضل البقاع، وخير الليالي لنزوله، وفي ذلك من التنبيه عن عظمة قدْرِه ما يكفي اللبيب.

ومن عظمة قدره: أنّه محفوظ بحفظ الله {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، فهو منزَّه عن الباطل والاختلاف والتناقض والضعف في الألفاظ والمعاني.

ومن عظمة قدره: أنه قول فصل ليس بالهزل، يحكم بين العباد، ويهدي إلى الرشاد، وينهى عن الفساد، معانيه أسمى المعاني، ومقاصده أشرف المقاصد، ومواعظه أحسن المواعظ {إنّ الله نعمّا يعظكم به}.

ومن عظمة قَدْرِه: أنَّ الله جعله فرقاناً بين الهدى والضلال، والحق والباطل؛ مَن قال به صدق، ومن حَكَم به عدل، ومن جاهد به نُصر، ومن حاجَّ به غَلب، ومن غَالبَه غُلِب، ومن اتبعه هدي إلى صراط مستقيم، ومن ابتغى الهدى في غيره ضل عن سواء السبيل.

ومن عظمة قدره: أنه يهدي للتي هي أقوم في كل ما يُحتاج إلى الهداية فيه، فهو شامل لجميع ما يحتاجه الفرد وتحتاجه الأمة من الهداية في كل شأن من الشؤون، فشريعته أحكم الشرائع، وهداه أحسن الهدى، وبيانه أحسن البيان.

ومن عظمة قدره: أن من اعتصم به عُصِمَ من الضلالة، وخرج من الظلمات إلى النور بإذن ربه، وهدي إلى سبل السلام من كل شر يخشى منه، فهو في أمن وإيمان، وسلامة وإسلام، لا يضل ولا يشقى، ولا يخاف ولا يحزن، ثابت الجنان ، سائرٌ على بيّنة من ربه، حظيٌّ بما أولى من فضله، ذو سكينة وطمأنينة، له نوره الذي يمشي به في الناس سوياً على صراط مستقيم، {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}

ومن عظمة قدره: أن خصه الله بأحكام ترعى حرمته وتبين جلالة شأنه؛ فنُدِب إلى التطهر من الحدث عند تلاوته، وحرمت تلاوته في الأماكن النجسة ، وحرمت تلاوته في حال السجود والركوع، ومن حلف به انعقدت يمينه؛ ومن استهزأ به أو بشيء منه ولو بكلمة فقد كفر وخرج من الملة فإن مات ولم يتب حرمت عليه الجنة أبداً، وكان من الخالدين في عذاب النار.

بل جعل للمصحف الذي يكتب فيه القرآن أحكام تخصه؛ فالورق والمداد بعد أن يتضمنَّا كتابة آياته يكون لهما شأن في شريعة الإسلام؛ فحرم على الحائض والجنب مس المصحف، ونهي عن السفر به إلى أرض العدو، ومن تعمد إهانته فقد كفر كفراً عظيماً.

ومن عظمة قدره: أن جعل الله له في قلوب المؤمنين مكانة عظيمة لا يساميها كتاب؛ فهو عزيز عليهم، عظيم القدر عندهم، يجلُّونه إجلالاً عظيماً ويؤمنون به، وينصتون عند تلاوته، ويتدبرون آياته، ويقفون عند مواعظه، بل إنهم من إجلالهم للقرآن يجلُّون قارئ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه.

ومن عظمة قدره: أن تحدَّى الله تعالى المشركين أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطيعوا، ولو اجتمعت فصاحة الخلق كلهم على أفصح رجل منهم ثم طلب منهم أن يجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن العظيم لا يأتون بمثله، وكيف يضاهي كلام المخلوقين الضعفاء كلام خالقهم العظيم؟!!

كما أنه لا يضاهي علمهم علمه، ولا قدرتهم قدرته، ولا عظمتهم عظمته ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيراً.

فكلام الله صفة من صفاته اللائقة بعظمته ومجده، وهذا القرآن العظيم هو من كلامه جل وعلا، وكلام المخلوقين إنما يليق بمقدار علمهم وقدرتهم التي لا نسبة لها إلى علم الله وقدرته وعظمته.

فهذه إلماحةٌ يسيرة تعرِّفك ببعض أنواع عظمة القرآن في الدنيا، وأما عظمته في الآخرة فأمر يجل عن الوصف، حين تنكشف الحجب وتتبين الحقائق وينتقل الناس من دار الامتحان والعمل إلى دار الجزاء والبقاء، يتبيّن لهم جلالة قَدْرِ هذا الكتاب العظيم، وأن أسعد الناس حظاً أوفرهم نصيباً من اتباعه وصحبته والاهتداء بهداه، ويكفي العبدَ أن يطلع على بعض ما ورد من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن القرآن في الآخرة؛ ليتبيّن هذه الحقيقة، ويقوم بما تقتضيه من تعظيم قدره واتباع ما أنزل الله فيه من البينات والهدى.

- فمن عظمة قدره أنّه يحاجّ عن صاحبه في قبره ويشفع له، فيجد من أثر شفاعته ومحاجّته عنه ما يتبيّن به عظمة قدره حين تنقطه الأسباب، وتتجلّى الحقائق، وتذهب سَكرة الحياة الدنيا؛ فيتمنّى لو كان قضى عمره كلّه في صحبة هذا الكتاب العظيم.

-ومن عظمة قدره في الآخرة: أنه يظلّ صاحبه في الموقف العظيم حين تدنو الشمس من الخلائق؛ فعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته، يقول: « تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» ثم سكت ساعة، ثم قال: « تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان، وإنهما تظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يأتي صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك بالهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذًّا كان أو ترتيلا». رواه أحمد وابن أبي شيبة والدارمي ومحمد بن نصر والطبراني والبغوي كلهم من طريق: بشير بن المهاجر الغنوي، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة.

- ومن عظمة قدره: أنه يشفع لصاحبه، ويحاجّ عنه أحوج ما يكون إلى من يحاجّ عنه؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه )).

وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما )).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( القرآن شافع مشفَّع ومَاحِلٌ مصدَّق، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار )). رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.

وعن ابن مسعود نحوه موقوفاً وصححه الدارقطني.

والماحل في لسان العرب الذي يسعى بالشخص إلى ذي سلطان ليوبقَه ويهلِكَه، أو إلى ذي شأنٍ ليُسقطه من عينه، يقال: محل فلان بفلان إذا مكر به وكاده وفعل به ذلك.

قال عمر بن أبي ربيعة:

ما أَطَعْتُ بها بالغيبِ قد عَلِمَتْ ... مقالةَ الكاشِحِ الواشي إذا مَحَلا

إنِّي لأرجِعُهُ فيها بسخْطَتِهِ ... وقد أتاني يرجّي طاعتي نَفَلا

قال الخليل بن أحمد: (وفي الحديث: ((القرآنُ ماحِلٌ مصدَّق)) يمحَل بصاحبه إذا ضيَّعه).

((مصدَّق)): أي أن ما يقوله فيمن أعرض عنه ولم يعمل به فهو مصدَّق فيه لا يَكْذِب ولا يُكَذَّب.

قال عبد الله بن مسعود: (من مَحَلَ به القرآن يوم القيامة كبَّه الله في النار على وجهه). رواه أحمد.

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاباً قال فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبدِ الله عمرَ إلى عبدِ اللهِ بن قيسِ ومَن معه من حملة القرآن، سلام عليكم، أما بعد:

فإنَّ هذا القرآن كائنٌ لكم أجراً وكائنٌ لكم شرفاً وذخراً، فاتبعوه ولا يتبعنَّكم، فإنه من اتبعه القرآنُ زجَّ في قفاه حتى يقذفه في النار، ومن تَبع القرآنَ ورد به القرآنُ جنات الفردوس، فلْيكونن لكم شافعا إن استطعتم، ولا يكونن بكم ماحلا فإنه من شفع له القرآن دخل الجنة، ومن مَحل به القرآن دخل النار، واعلموا أن هذا القرآن ينابيع الهدى، وزهرة العلم، وهو أحدث الكتب عهدا بالرحمن، به يفتح الله أعينا عمياً، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا).

- ومن عظمة قدره: أنه كرامة ورفعة عظيمة لصاحبه يوم الجزاء إذ يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها، كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

وفي هذا الباب من الأحاديث والآثار ما يستدعي سفراً كبيراً، وشرحاً كثيراً، ولا يبلغ العبد بعد إدراك معاني تلك العظمة والإحاطة بتفاصيلها.

فهذا في شأن عظمة القدر.

وأما عظمة صفاته؛ فشأن آخر يطلعك على أبواب من العلم عظيمة، من استفتحها وتأمل ماوراءها أفضى إلى مهيع واسع من التفكر والتأمل، ودلَّه به تفكُّره على حدائق ذات بهجة، لا يملّ النظر إليها، ولا التربّع في رياضها، بل يدرك أن أعظم نعيم في هذه الحياة إنما هو في تنعّم الروح بما أنزل الله من روحه الذي يحيي به من يشاء من عباده {وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

فيكون للقلب حياة أخرى غير حياة الأبدان هي حياته الحقيقية التي من حرمها فهو ميت وإن عاش بجسده {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}

فهو حياة القلوب وغذاؤها، ودواؤها من عللها وشفاؤها، وأنسها من وحشتها وبهاؤها، وميزانها الذي تزن به الأمور، وتدرك به حقائق الأمور، وعواقب الأمور.

ومن كان كذلك كان صاحب القرآن بحق، وكان القرآن العظيم ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه.

ذلك أن الله تعالى وصف القرآن بصفات عظيمة جليلة تنبئ عن عظمته؛ إذ عظمة الصفات تدل على عظمة الموصوف فوصفه الله بأنه عزيز وكريم، وعليٌّ وحكيم، ومبارك ومجيد، وهدى وبشرى، وذِكْرٌ وذكرى، وشفاء وفرقان، ونور وبيان إلى سائر ما وصفه الله تعالى به من صفات جليلة باهرة، تدل على عظمته دلالة ظاهرة.

فاجتماع هذه الصفات الجليلة في موصوف واحد دليل ظاهر على عظمته، ثم اتصافه في كل صفة من تلك الصفات بالعظمة فيها دليل آخر على عظمة تملأ قلب من يتأملها؛ فيدرك أنه لا يحيط بمعرفة أوجه عظمة هذا القرآن العظيم لكنه يوقن أنه عظيم جد عظيم؛ فهو عظيم في عزته، عظيمٌ في علوّه، عظيم في إحكامه وحكمه، عظيم في مجده، عظيم في بركته، عظيم في كرمه، عظيم في بيانه، عظيم في ما تضمنه من الهدى والرحمة والنور والبشرى، والذكر والذكرى، والشفاء الفرقان، والحق والتبيان، وكذلك سائر صفاته الجليلة العظيمة، كل صفة منها قد حاز هذا القرآن العظمةَ فيها.

وهذه العظمة لها لوازم يقتضيها الإيمانُ بها في قلب العبد المؤمن؛ فيعرف له قدره ويعظّمه في قلبه، ويعظمه إذا تحدث عنه، ويعظمه إذا تلاه، ويعظمه إذا تلي عليه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}