14 Apr 2016
خواص القرآن
من المباحث المتعلّقة بفضائل القرآن مبحث ما يسمّى بخواصّ القرآن، وهذه التسمية تسمية اصطلاحية متأخرة يطلقها بعض العلماء على ما عرف من الانتفاع ببعض السور والآيات في أحوال مخصوصة، ولم تكن هذه التسمية معروفة عند السلف الصالح وإن كان قد جرى في زمانهم بعض ما يدخل في هذا المعنى.
ولا مشاحّة في الاصطلاح إذا كان له معنى معقول، ولم يُستعمل فيما يخالف هدى الشريعة.
على أنّ كلمة "خواصّ القرآن" يستعملها العلماء لمعاني متعددة:
منها: ما تقدّم ذكره من تأثير بعض السور والآيات في أحوال مخصوصة في الرّقى والكرب وغيرها.
ومنها: ما يختصّ به القرآن من خصائص وأحكام يتميّز بها عن غيره.
ومنها: التأثير الإعجازي للقرآن، وهذا المعنى يذكره بعض من يكتب في إعجاز القرآن، ويغلب عليهم العناية ببلاغة القرآن وحسن بيانه وتأثير خطابه.
ومقصودنا في هذا الباب هو المعنى الأوّل.
دلائل معرفة خواصّ القرآن
الدلالة الأولى: دلالة نصوص الكتاب والسنة الصحيحة على تأثير بعض السور والآيات في أحوال مخصوصة
فأمّا القرآن فباب الفهم فيه واستخراج الخواصّ منه بابٌ واسع، وإذا أصاب فيه المؤمن دلالة صحيحة على بعض الخواصّ فهو فضل عظيم، وقد ذكر العلماء جملة من الأمثلة التي تدلّ اللبيب على ما ورائها:
- فمن ذلك: قول الله تعالى في شأن يونس عليه السلام إذ التقمه الحوت: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين}، وقال تعالى: {فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}
فتبيّن بدلالة الآيتين أثر التسبيح والتوحيد في النجاة من الغمّ والكرب، ودلّ قوله تعالى: {وكذلك ننجي المؤمنين} على أنّ هذا الأمر لا يختصّ بيونس عليه السلام، بل هو عامّ للمؤمنين إذا دعوا واستغاثوا بالله وسبّحوه معترفين ذنوبهم.
ومما يدلّ على صحّة استنباط هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه وغيرهما من طريق إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له».
- ومن ذلك أيضاً: قول الله تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}؛ والقول في هذه الآية نظير ما سبق؛ فإن قوله تعالى: {وذكرى للعابدين} تذكير لهم وحثّ على الاتّساء به عليه السلام.
- ومن ذلك أيضاً: قوله تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}.
فقول هذه الكلمة بإيمانٍ عند الخبر المفزِع والخوف له أثر في دفع البلاء والسلامة منه.
- ومن ذلك أيضاً: قوله تعالى: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد } فقولها مع الإيمان بالله والتوكّل عليه وبذل ما يستطاع من الأسباب له أثر عظيم في دفع كيد الأعداء، لقول الله تعالى بعدها: {فوقاه الله سيئات ما مكروا}.
قال الأمين الشنقيطي: (وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا} دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء).
وأما الأحاديث النبوية التي رويت في هذا الباب فكثيرة، وفيها دلالة بيّنة على بعض ما يُسمّى بخواصّ القرآن:
- فمن ذلك رقية اللديغ بسورة الفاتحة، وفيها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتقدّم في رقيته للديغ بسورة الفاتحة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: «وما يدريك أنها رقية».
فهذا مما يُعدّ من خواصّ سورة الفاتحة.
وفي الحديث فائدة أخرى، وهي اجتهاد الراقي في اختيار الآيات التي يرى مناسبتها للحالة التي يرقيها، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّه على ذلك.
وللرُّقَى أثرٌ معروف في الرّوح والجسد، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن العامّ بالرّقى ما لم يكن فيها شرك، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟
فقال: «اعرضوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك».
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرُّقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرُّقَى، قال: فعرضوها عليه، فقال: «ما أرى بأسا من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه».
وفي هذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم لرقية آل عمرو بن حزم وكانوا يرقون في الجاهلية ويُنتفع برُقَاهم، وسبب استئذانهم من النبي صلى الله عليه وسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة نهى عن الرّقى لما كان الغالب على الرّقى التي كانت في الجاهلية الشرك، وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الرّقى والتمائم والتولة شرك».
والتعريف في "الرقى" في هذا الحديث للعهد الذهني وليس للجنس.
أي أنّ الرقى التي يعهدونها من الجاهلية عامّتها شرك؛ لما فيها من الاستغاثة والتعوّذ بغير الله تعالى، فلمّا كان هذا هو الغالب عليها، نهى النبيّ صلى الله عليه وسلّم عنها، وبيّن حالها وحكمها.
فامتنع من كان يُعرف بالرُّقى من الصحابة رضي الله عنهم امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثمّ استثنى النبي صلى الله عليه وسلم الرقى التي ليس فيها شرك، ومن ذلك الرّقى التي تضمّنت عهوداً ومواثيق أخذها سليمان عليه السلام على الجنّ وبعض الهوامّ، وكانت العرب تأثر شيئاً منها.
قال الزهري: (بلغنا عن الرجال من أهل العلم أنّهم كانوا يقولون: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الرقى حين دخل المدينة، وكانت الرّقى في ذلك الزمان فيها كثير من كلام الشرك؛ فانتهى الناس عنها حين نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيناهم كذلك إذ لُدغ رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهشة حيّة أو عقرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل من راقٍ؟»
قالوا: يا رسول الله قد كان آل حزم يرقون برقية من الحيّة فلمّا نهيت عن الرُّقَى تركوها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا لي عمارة بن حزم»، ولم يكن له ولد، وقد شهد بدراً، فدُعي له، فقال رسول الله عليه السلام: «اعرض عليّ رقيتك»
فعرضها عليه فلم يرَ بها بأساً فأذن له أن يرقيَها). رواه ابن وهب في جامعه.
وكان الإذن أوّلاً بالرقية من العين والحُمة؛ ثمّ ورد الإذن العامّ بكلّ رقية ليس فيها شرك.
- ففي الصحيحين من حديث الأسود بن يزيد النخعي قال: سألتُ عائشة عن الرقية من الحُمَة؛ فقالت:«رخّص النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار في الرُّقية من كل ذي حُمَة».
- وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود من حديث حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا رقية إلا من عين أو حُمة».
قال الخليل بن أحمد: (الحُمَة: اسم كلّ شيء يلدغ أو يلسع).
وقال الأصمعي: (هي فَوْعَة السُّمّ) أي حرارته وحدّته وانتشاره.
- وفي صحيح مسلم من حديث عاصم الأحول عن يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس قال: (رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحُمَة والنملة).
والنملة: قروح تخرج في الجنب وغيره.
ثمّ ورد الإذن العام في الرّقى ما لم يكن فيها شرك كما دلّ عليه:
أ- حديث عوف بن مالك الأشجعي المتقدّم ذكره.
ب- وحديث عمير مولى آبي اللحم أنّه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في خيبَر رقية كان يرقي بها المجانين في الجاهلية؛ فقال له: (اطرح منها كذا وكذا، وارقِ بما بقي). رواه أحمد والترمذي والنسائي.
ج- وحديث ابن أبي حثمة القرشي قال: حدثتني أمّي [وهي الشفاء بنت عبد الله] أنها كانت ترقي في الجاهلية فلمّا جاء الإسلام قالت: لا أرقي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأتته فاستأذنته؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارقي ما لم يكن فيها شرك). رواه ابن حبان والطبراني في الكبير بإسناد حسن.
قال ابن حجر: (وقد تمسّك قوم بهذا العموم فأجازوا كلّ رقية جُرّبت منفعتها، ولو لم يُعقل معناها، لكن دلّ حديث عوف أنّه مهما كان من الرُّقى يؤدّي إلى الشرك يُمنعْ، وما لا يعقل معناه لا يُؤمنُ أن يؤدي إلى الشرك فيُمنع احتياطاً).
والمقصود أنّ الرّقى لها تأثير مجرّب وقد أقرّت الشريعة الرُّقَى السَّالمة من الشرك، ولم تكن لتقرّ أمراً باطلاً، وإذا كان لبعض كلام الناس تأثير في الأرواح والأجساد التي تُرقَى بها، فتأثير كلام الله تعالى أولى وأقوى.
قال ابن القيّم رحمه الله: (ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواصّ ومنافع مجربة، فما الظن بكلام رب العالمين، الذي فَضْلُه على كلِّ كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام، والعصمة النافعة، والنور الهادي، والرحمة العامة الذي لو أنزل على جبل؛ لتصدع من عظمته وجلالته.
قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}، و" من " هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصح القولين كقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكقوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} والأوثان كلها رجس.
فما الظنّ بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلها؟!!
المتضمنة لجميع معاني كتب الله المشتملة على ذكر أصول أسماء الربّ تعالى ومجامعها، وهي الله، والرب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة، وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق، وأنفعه وأفرضه، وما العباد أحوج شيء إليه، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم، المتضمن كمال معرفته، وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق، وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له، وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر والشرع، والأسماء والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكية النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرد على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير " مدارج السالكين " في شرحها.
وحقيقٌ بسورة هذا بعضُ شأنها أن يُستشفى بها من الأدواء، ويرقى بها اللديغ)ا.هـ.
وخلاصة ما تقدّم أنّ من خواصّ سورة الفاتحة الرقية بها، ولا سيما من السمّ؛ فقد ثبت نفعها بالأدلّة الصحيحة، وانتفع كثير من الناس بالرقية بها.
والخواصّ تعمّ الرقى وغيرها، وقد ورد في جملة من الأحاديث الصحيحة ذكر بعض الخواصّ لبعض سور القرآن وآياته.
- فمن خواصّ سورة البقرة نفور الشياطين من البيت الذي تُقرأ فيه، كما دلّ على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
- ومن خواصّها ما ثبت من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» رواه مسلم.
وفي مسند الإمام أحمد عن بريدة بن الحصيب مرفوعاً نحوه.
وقال معاوية بن سلام: بلغني أن البطلة السحرة.
- ومن خواصّ آية الكرسي ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان؛ فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام فأخذته؛ فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث - فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «صدقك وهو كذوب ذاك شيطان».
وقد روي في هذا المعنى عدد من الأحاديث.
وهذا من خواصّ آية الكرسي ودلائل تأثير قراءتها.
- ومن خواصّ آخر آيتين في سورة البقرة أنهما « لا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان » كما في فضائل القرآن لأبي عبيد وسنن الدارمي والترمذي من حديث أبي قلابة الجرمي عن أبي الأشعث الصنعاني عن النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعاً.
- ومن خواصّ القرآن ما ثبت من أثر فواتح سورة الكهف في العصمة من فتنة الدجال؛ كما في صحيح مسلم وغيره من حديث معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال».
وفي سنن أبي داوود من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان الكلابي، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال، فقال: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جِواركُم من فتنته» وأصل الحديث في صحيح مسلم.
ومحاولة استيعاب ما روي في الخواصّ من الأحاديث وتمييز صحيحها من ضعيفها أمرٌ يطول، وما ذُكر من الأمثلة كافٍ في التعريف بالمقصود، غيرَ أنه ينبغي التنبّه إلى توسّع بعض الرواة في هذا الباب؛ فقد رُويت فيه أحاديث كثيرة واهية الإسناد، ومنها ما هو معضود بدعوى تجربة قد تكون صحيحة، وقد تكون مكذوبة أو متوهّمة.
والدلالة الثانية: ما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم.
وقد روي عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب آثار كثيرة، وما يصحّ منها قليل.
فمن ذلك: ما رواه أبو داوود والبيهقي في الدعوات والضياء في المختارة من طريق النضر بن محمد، قال: حدثنا عكرمة -يعني ابن عمار- قال: وحدثنا أبو زميل، قال: سألت ابن عباس، فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله عز وجل: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} الآية ، قال فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئا فقل: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}).
وقد حسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
ومن أهل العلم من يعمل بما كان فيه ضعف يسير ومتنه غير منكر.
- ومن ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة والطبراني من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا عسر على المرأة ولدها، فيكتب هاتين الآيتين والكلمات في صحفة ثم تغسل فتسقى منها: «بسم الله لا إله إلا هو الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم» {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}، {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}).
وابن أبي ليلى يُضعّف في الحديث لسوء حفظه.
لكن هذا الأثر عمل به بعض الأئمة، بناء على أصل الإذن في الرقية، ولظهور المناسبة بين الحالة والرقية، ولكون الضعف في الإسناد غير شديد، ولوجود الحاجة وهي تعسّر الولادة.
قال الخلال: حدّثني عبد الله بن الإمام أحمد قال: رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض أو شيء نظيف، يكتب حديث ابن عباس رضي الله عنه: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ} ، {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}).
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: (قال أحمد: يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولدها في جام ٍأبيض أو شيء نظيف: (بسم الله الرحمن الرحيم: لا إله إلا الله الحليم الكريم...) فذكره بلفظه.
ثم قال: (ثُمَّ تُسقى منه، ويُنضح ما بقي على صدرها).
- ومن ذلك أيضا: ما رواه الدارمي وابن الضريس من طريق عاصم بن بهدلة عن عامر الشعبي، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثاً من آخر سورة البقرة، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه، ولا يُقرَأْن على مجنون إلا أفاق».
عاصم يُضعَّف في الحديث، والشعبي لم يدرك ابن مسعود.
والآثار التي تصحّ عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب محمولة على أحد أمرين:
الأول: أن تكون مما تعلّموه من النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن تكون مما فعلوه اجتهاداً بناء على أصل الإذن الشرعي.
وأما الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم بأسانيد واهية في هذا الباب فكثيرة لا ينبغي أن يُغترّ بها، ولا تقبل في هذا الباب إلا أن تظهر المناسبة بين الآيات والحالة ولا يكون في المتن ما ينكر فتؤخذ على أنّها رقية لا على اعتقاد ثبوتها عن الصحابة رضي الله عنهم.
ومن ذلك: ما رواه البيهقي في الدعوات من طريق الحَسَن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شَموساً فليقرأ هذه الآية في أذنها {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}).
الشَّموس: المتمنّعة.
والحسن بن عمارة متروك الحديث.
الدلالة الثالثة: ما ثبت عن الصالحين من التابعين وتابعيهم.
- ومن ذلك: ما رواه سعيد بن منصور والدارمي من طريق أبي الأحوص، عن أبي سنان الشيباني، عن المغيرة بن سبيع العجلي أنه قال: (من قرأ عند منامه آيات من البقرة لم ينسَ القرآن: أربع آيات من {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، وآية الكرسي، والثلاث آيات من آخرها).
والمغيرة تابعي ثقة من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، والإسناد إليه صحيح.
واشتهر في هذا الباب عن جماعة من التابعين ما لا يصحّ عنهم.
- ومن ذلك: ما رواه أبو عبيد في فضائل القرآن والدارمي في سننه عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، قال: سمعت زِرَّ بنَ حبيش، يقول: «من قرأ آخر سورة الكهف لساعةٍ يريد أن يقومها من الليل قامها»
قال عَبْدَة: فجربناه، فوجدناه كذلك.
قال أبو عبيد: (وقال ابن كثير: وقد جربناه أيضا في السرايا غير مرة، فأقوم في الساعة التي أريد. قال: وأبتدئ من قوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين} إلى آخرها).
محمد بن كثير المصيصي قال فيه الإمام أحمد: منكر الحديث، وقال البخاري: ليّن جدا، وقال ابن عدي: (له روايات عن معمر، والأوزاعي خاصة عداد لا يتابعه عليها أحد).
فهذا الأثر لا يثبت عن زرّ.
- ومن ذلك نشرة وهب بن منبّه المذكورة في جامع معمر بن راشد من غير إسناد.
قال عبد الرزاق: وفي كتب وهب: «أن تؤخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه في الماء، ويقرأ فيه آية الكرسي، وذوات قل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله، وهو جيد للرجل، إذا حبس من أهله».
على أنّ هذه النشرة يعمل بها بعض أهل العلم من باب الرقية لا على اعتقاد ثبوتها.
- ومن ذلك أيضاً ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر الرازي عن ليث بن أبي سليم أنه قال: (بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور الآية التي في سورة يونس: {فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون} والآية الأخرى: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون} إلى انتهاء أربع آيات، وقوله: {إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}).
وليث بن أبي سليم ضعيف الحديث، ولم يسمّ من أخذ عنه هذه الرقية.
الدلالة الرابعة: الاجتهاد في إدراك التناسب بين الآيات والأحوال المخصوصة.
ومن ذلك أن يرقي الراقي كلَّ حالة بما يناسبها من الآيات، وقد ورد عن جماعة من العلماء استعمال ذلك:
ومن أمثلته:
- أن الإمام أحمد بن حنبل بلغه أنّ صاحبه المرّوذِيّ أصابته حُمّى؛ فكتب إليه رقعة فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله، وبالله، محمد رسول الله، {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم . وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين}، اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك، إله الحق آمين).
فهذه الرقية فيها معنى التوسّل إلى الله تعالى بقدرته على جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم أن يذهب عن المحموم حرارة الحمّى التي من فيح جهنّم.
- وذكر ابن القيّم رحمه الله في زاد المعاد أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يكتب على جبهة الراعف: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر}.
قال: وسمعته يقول: (كتبتها لغير واحد فبرأ) وقال: (لا يجوز كتابتها بدم الراعف، كما يفعله الجهال، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى).
وهذه الرقية مبناها على التوسّل إلى الله تعالى بقدرته على إيقاف انهمار المطر الشديد الذي جعله عذاباً على قوم نوح، وأَمْرِهِ الأرض أن تبلعَ ماءها حتى غاض الماء وقضى الله الأمر؛ فيتوسّل إليه تعالى أن يأمر جَسد المرعوف بإيقاف نزفه دمه، وأن يُذهب عنه ما يجد من ذلك النزف.
فدلالة المناسبة ظاهرة؛ فالأرض والجسد من خلق الله تعالى، ومن قدر على تلك الآية العظيمة من تصريف ماء الطوفان العظيم لا يعجزه أن يشفي المرعوف من رعافه.
وهذا التوسّل إذا صدر من قلب مؤمنٍ موقنٍ متوكّلٍ على الله مفتقرٍ إليه نفع بإذن الله.
- وذكر ابن القيّم رحمه الله في زاد المعاد أيضاً كتاباً لمن تعسّرت ولادتها، قال: (يكتب في إناء نظيف: {إذا السماء انشقت - وأذنت لربها وحقت - وإذا الأرض مدت - وألقت ما فيها وتخلت} وتشرب منه الحامل، ويرش على بطنها).
- وكتب بعض أهل العلم لمن تعسّرت ولادتها سورة الزلزلة.
- ومن هذا الباب أيضاً رقية الثآليل بقوله تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً} لظهور المناسبة بأنّ القادر على نسف الجبال لا يعجزه إزالة الثآليل.
- وقال ابن القيّم رحمه الله في مدارج السالكين: (كان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة.
وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها - من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة - قال: فلما اشتد علي الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبَة.
وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه. فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته)ا.هـ.
- ومن هذا الباب أن يقرأ من يجد ضيقاً في صدره سورة الشرح فيجد راحة وانشراحاً.
- ومن ذلك أن يقرأ من يخشى عدوّا يتربّص به قول الله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يُبصرون}، وقول الله تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا}.
وهذا مبناه على التوسل بقدرة الله تعالى في أمر مخصوص مناسب لحالة المتوسّل وكربه، ولو كان العدوّ الذي يخافه مسلماً ظالماً فالتوسّل هو بالقدرة وهي معنى متحقق.
وقد رُوي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ آية يس على رَصد أحاط به من كفار قريش فخرج من بينهم وهم لا يبصرون حتى جعل على رؤوسهم التراب، وهذه الحادثة من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد اشتهرت في كتب السيرة وهي لا تصح لوهاء سندها.
لكن استعملها كثير من الصالحين، وانتفعوا بها في مثل هذه الأحوال.
والخلاصة في هذا الباب أن يقرأ صاحب كلّ بلاء ما يناسب بلاءه من السور والآيات؛ فيجد فيما يقرأ ما يشفي صدره، ويطمئن قلبه، ويتبصّر به سبيل الهدى فيما هو فيه، ويتوسّل إلى الله تعالى بآياته الباهرة، وقدرته الظاهرة، وعزّته القاهرة، ورحمته وإحسانه على أن يذهب عنه ما يجد ويحاذر، وأن يحفظه ويلطف به.
وقيام هذا الباب بالافتقار إلى الله تعالى والتوسّل إليه بآياته وما دلّت عليها من صفاته الجليلة لدفع أنواع من البلاء والكروب، وسؤال الله من فضله.
التحذير من الغلوّ في باب خواصّ القرآن
وليحذر المسلم من الغلوّ في هذا الباب؛ فإنّه قد قاد الغلاة إلى فساد كبير، وضلال مبين، وانحلال من الدين، والعياذ بالله.
ومن ذلك ما ابتدعه بعض الصوفية الغلاة في خواصّ القرآن من دعاوى وضلالات، واستعمال أشياء غير معقولة المعنى من رسوم وأحوال، وجداول وأوفاق تبيّن للمحققين أنها من طلاسم السحر، لكنّهم موّهوا بها على أتباعهم، وسموّا الأمور بغير أسمائها، فسمّوا الشياطين الذين يتقرّبون إليهم خُدّام الآيات، وسمّوا الاستغاثات الشركية عزائم، وسمّوا غرائب أسماء الشياطين أسراراً، ولولا خشية الإغراء بها مع ضعف النفوس لذكرت أمثلة مما ذكروه في هذا الباب مما يدلّ على ضلالهم وتضليلهم وبعدهم عن هدى القرآن، وتلبيسهم على الناس.
وقد اعترف بذلك بعضُ مَنْ مَنَّ الله عليه بالتوبة من السِّحْر من أصحاب تلك الطرق، وذكر أنه كان يعتقد أنه يكلّم الملائكة ويخاطبهم، وأنّ ما هو فيه إنما هو من الكرامات التي يُؤتاها الأولياء والأقطاب عندهم.
وتلا قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}
ثم قال ما معناه: كانت هذه حالنا، كنا نظنّ أننا نخاطب الملائكة ونتقرب إليهم ويخدموننا؛ فإذا بهم شياطين.
والمقصود أن غلاة الصوفية قد أدخلوا على الأمّة من هذا الباب شرّا عظيماً، وبلاء وفتنة ضلّ بها طوائف من أتباع الطُّرُق والعامّة المخدوعين بضلالاتهم؛ فلبسوا الحق بالباطل، وموّهوا على الجهّال والعامّة، وروّجوا أباطيلهم وأسحارهم باسم خواصّ القرآن، وكان منهم من يكتب الحُجب والتمائم ويبيعها، ويزعم أنّ فيها من الخواصّ ما يدفع البلاء، ويجلب السعد، ويحفظ من العين والعدوّ، وأكلوا أموال الناس بالباطل والتمويه والتضليل.
ولكبار الصوفية مؤلفات فيما يدّعون أنّه من "خواصّ القرآن" فيها غلوّ وضلال مبين، ومنها:
1. كتاب "خواصّ القرآن الحكيم" لمحمّد بن أحمد بن سعيد التميمي (ت: 390هـ)، ولم أقف على كتابه، لكن ذُكرت عنه عظائم، وله مخطوطات يعتني بها السحرة.
2. ورسالة في "خواص بسم الله الرحمن الرحيم" لأحمد بن علي بن يوسف البوني (622هـ).
3. وكتاب "العقد المنظوم فيما تحتويه الحروف من الخواص والعلوم" لابن عربي الطائي (ت:638هـ) زعيم الصوفية في زمانه ، وهو كتاب سحرٍ ضمّنه ما ادّعى فيه أنه من خواص القرآن لقضاء الحاجات ودفع المضار تدليساً وتمويهاً.
4. وكتاب "السر الجليل في خواص حسبنا الله ونعم الوكيل " لأبي الحسن الشاذلي (ت: 656هـ ) زعيم الطريقة الشاذلية، وكتابه هذا كتاب سحر في حقيقته.
5. وكتاب "فضائل القرآن وخواصها" لأبي بكر الغساني الودياشي (ت696هـ).
6. وكتاب "البرهان والدليل في خواصّ سور التنزيل" لابن منظور القيسي الأندلسي (ت:750هـ)
7. وكتاب "الدر النظيم في خواصّ القرآن العظيم" لعبد الله بن أسعد اليافعي (ت:768هـ) وكان صوفيّاً أشعرياً متعصّبا، ومبالغاً في تعظيم ابن عربي وعلومه، وكانت الصوفيّة في زمانه تعظّمه وتقدّمه، وكتابه هذا قد أكثر فيه من الموضوعات والأباطيل، وذكر فيه تقاسيم وجداول وأوفاق، وتراسيم يذكرها لقضاء الحاجات؛ كلّها بواطيل تدلّ على اعتمادهم على طرق السحر وتلبيس صناعتهم لباس خواصّ القرآن وأسراره.
وكتب الصوفيّة في هذا الباب كثيرة، والمقصود التنبيه على باطلها بذكر أمثلة منها؛ فليحذرها طلاب العلم، وليحذّروا من اغترّ بها.
وما يذكرونه مما يُحذّر منه في هذا الباب على صنفين:
1. صنف حقيقته سحر وتقرّب إلى الشياطين بأعمال بدعية، ورسوم وأحوال وهيئات، واستغاثات وعزائم.
2. وصنف دعاوى مجرّدة، وكذب على الصالحين بذكر تجارب مزعومة، ودعاوى متوهّمة.
ومن ذلك ما ذُكر عن ابن منظور القيسي في خواصّ قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} أنه نسب إلى ابن الجوزي رحمه الله أن من خواصّها أنها تُقرأ عند شراء البطّيخ، فمن أراد ذلك فليقرأها سراً وهو يقلب البطيخ فإنه يرشد إلى طيب ما فيها، فإذا أراد أكلها قرأ عليها عند شقها بالسكين {فذبحوها وما كادوا يفعلون} فإنه يجدها طيبة إن شاء الله تعالى.
فهذا كذب بيّن على ابن الجوزيّ رحمه الله.
وقد كتب في هذا الباب من غير الصوفية مَن خلط فيه وأساء، وجمع فيه ما يجمع حاطب الليل من الغثّ والسمين، والضعيف والصحيح، والباطل المكذوب، والحكايات البليدة التي تلوح عليها أمارات الكذب والاختلاق.
ومنهم من يأتي بدعاوى منكَرة كما قال الشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي في كتابه "الفوز الكبير في أصول التفسير": (تكلمت طائفة من المتقدمين في خواص القرآن من ناحيتين: إحداهما ما يشبه الدعاء، والثانية ما يشبه السحر، أعوذ بالله منه، ولكنَّ الله تعالى فتح على الفقير باباً وراء ما نُقل من خواصّ القرآن، وألقى في حجري الأسماء الحسنى والآيات العظمى والأدعية المباركة مرة واحدة، وقال: إنها عطاؤنا للتصريف، إلا أن كل آية واسم ودعاء مشروط بشروط لا تضبطها قاعدة من القواعد، بل قاعدتها انتظار عالم الغيب، كما يكون في حالة الاستخارة، حتى ينظر بأي آية أو اسم يشار عليه من عالم الغيب ثم يتلو الآية أو الاسم على طريق من الطرائق المعلومة لدى أهل هذا الفن)ا.ه.
وكلام الدهلوي هذا ضرب من الجهل والغلو في هذا الباب، ودعواه هذه منكرة جداً، وهو وإن لم يكن معدودا من الصوفية، بل ذكر عنه ما يدل على منابذتهم والتحذير منهم وإصلاح ما أفسدوه في بلاد الهند إلا أنّه لم يسلم من التأثّر بهم في بعض الأبواب، فكلامه فيها مضطرب غير مقبول.
وإنما أوردته للتنبيه على أنّ بعض ما يكتب في هذا الباب غلوّ وابتداع حتى يُحذر مما يُكتب باسم "خواصّ القرآن" جهلاً وتخليطاً أو تمويهاً وتلبيساً، وحقيقته لغو وتضليل، أو سحر وتدجيل.
***
اللهمّ اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، ووفّقنا لاتّباع رضوانك، ومنّ علينا بفضلك وإحسانك، وأصلح لنا شؤوننا كلها، لا إله إلا أنت.
وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.