قال محمد بن صالح العثيمين (ت:1421هـ): ( القرآن الكريم
مصدر قرأ بمعنى تلا، أو بمعنى جمع، تقول قرأ قرءاً وقرآناً، كما تقول: غفر غفراً وغٌفرانا ً،
فعلى المعنى الأول (تلا) يكون مصدراً بمعنى اسم المفعول؛ أي بمعنى متلوّ،
وعلى المعنى الثاني: (جمع) يكون مصدراً بمعنى اسم الفاعل؛ أي بمعنى جامع لجمعه الأخبار والأحكام.
والقرآن في الشرع: كلام الله تعالى المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس. قال تعالى: {إنّا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلاً} [الإنسان: 23] وقال: {إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون} [يوسف: 2]. وقد حمى الله تعالى هذا القرآن العظيم من التغيير والزيادة والنقص والتبديل، حيث تكفل عز وجل بحفظه فقال: {إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون} [الحجر: 9] ولذلك مضت القرون الكثيرة ولم يحاول أحد من أعدائه أن يغير فيه، أو يزيد، أو ينقص، أو يبدل، إلا هتك الله ستره، وفضح أمره.
وقد وصفه الله تعالى بأوصاف كثيرة، تدل على عظمته وبركته وتأثيره وشموله، وأنه حاكم على ما قبله من الكتب.
قال الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] {والقرآن المجيد} [ق: الآية 1] ، وقال تعالى: {كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدّبّروا آياته وليتذكّر أولو الألباب} [ص: 29] ،{وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ فاتّبعوه واتّقوا لعلّكم ترحمون} [الأنعام: 155] ،{إنّه لقرآنٌ كريمٌ} [الواقعة: 77] ،{إنّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم} [الإسراء: الآية 9] وقال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية اللّه وتلك الأمثال نضربها للنّاس لعلّهم يتفكّرون} [الحشر: 21] ،{وإذا
ما أنزلت سورةٌ فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الّذين آمنوا
فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون (124) وأمّا الّذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم
رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125) } [التوبة: 124-125] ،{وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: الآية 19] ،{فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً} [الفرقان: 52] وقال تعالى: {ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيءٍ وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين} [النحل: الآية 89] {وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل اللّه}[المائدة: الآية 48].
والقرآن الكريم مصدر الشريعة الإسلامية التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس، قال الله تعالى: {تبارك الّذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} [الفرقان: 1] {كتابٌ
أنزلناه إليك لتخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور بإذن ربّهم إلى صراط
العزيز الحميد (1) اللّه الّذي له ما في السّماوات وما في الأرض وويلٌ
للكافرين من عذابٍ شديدٍ (2) }[إبراهيم: 1-2].
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مصدر تشريع أيضاً كما قرره القرآن، قال الله تعالى: {من يطع الرّسول فقد أطاع اللّه ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} [النساء: 80]، {ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً} [الأحزاب: الآية 36]، {وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: الآية 7] ،{قل إن كنتم تحبّون اللّه فاتّبعوني يحببكم اللّه ويغفر لكم ذنوبكم واللّه غفورٌ رحيمٌ} [آل عمران: 31]. نزول القرآن
نزل القرآن أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر في رمضان، قال الله تعالى: {إنّا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1]. {إنّا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ إنّا كنّا منذرين (3) فيها يفرق كلّ أمرٍ حكيمٍ (4) }[الدخان: 3-4]، {شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدىً للنّاس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان} [البقرة: الآية 185]. وكان
عمر النبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل عليه أربعين سنة على المشهور عند
أهل العلم، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء وسعيد بن المسيّب
وغيرهم. وهذه السّن هي التي يكون بها بلوغ الرشد وكمال العقل وتمام
الإدراك.
والذي نزل بالقرآن من عند الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، جبريل أحد الملائكة المقربين الكرام، قال الله تعالى عن القرآن: {وإنّه لتنزيل ربّ العالمين (192) نزل به الرّوح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ (195) } [الشعراء: 192- 19].
وقد
كان لجبريل عليه السلام من الصفات الحميدة العظيمة، من الكرم والقوة
والقرب من الله تعالى والمكانة والاحترام بين الملائكة والأمانة والحسن
والطهارة؛ ما جعله أهلاً لأن يكون رسول الله تعالى بوحيه إلى رسله قال الله تعالى: {إنّه لقول رسولٍ كريمٍ " (19) ذي قوّةٍ عند ذي العرش مكينٍ (20) مطاعٍ ثمّ أمين (21) } [التكوير: 19- 21]،وقال: {علّمه شديد القوى (5) ذو مرّةٍ فاستوى (6) وهو بالأفق الأعلى (7) } [لنجم: 5-7]، وقال: {قل نزّله روح القدس من ربّك بالحقّ ليثبّت الّذين آمنوا وهدىً وبشرى للمسلمين} [النحل: 102]،
وقد بين الله تعالى لنا أوصاف جبريل الذي نزل بالقرآن من عنده وتدل على
عظم القرآن وعنايته تعالى فإنه لا يرسل من كان عظيما إلا بالأمور العظيمة.
أول ما نزل من القرآن
أول ما نزل من القرآن على وجه الإطلاق قطعا ً الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وهي قوله تعالى: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق (1) خلق الإنسان من علقٍ (2) اقرأ وربّك الأكرم (3) الّذي علّم بالقلم (4) علّم الإنسان ما لم يعلم (5) } [العلق: 1- 5] ، ثم فتر الوحي مدة، ثم نزلت الآيات الخمس الأولى من سورة المدثر وهي قوله تعالى: {يا أيّها المدّثّر (1) قم فأنذر (2) وربّك فكبّر (3) وثيابك فطهّر (4) والرّجز فاهجر (5)} [المدثر: 1-5] . ففي
الصحيحين -صحيح البخاري ومسلم- عن عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي قالت:
حتى جاءه الحق ٌّ، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال اقرأ، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ (يعني لست أعرف القراءة) فذكر الحديث، وفيه ثم قال: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق (1)} إلى قوله: {علّم الإنسان ما لم يعلم (5)} [العلق: 1- 5]،وفيهما عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث عن فترة الوحي: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء...." فذكر الحديث، وفيه، فأنزل الله تعالى:{يا أيّها المدّثّر (1) قم فأنذر (2) }إلى {والرّجز فاهجر (5)}[المدثر: 1-5].
وثمت
آيات يقال فيها: أول ما نزل، والمراد أول ما نزل باعتبار شيء معين، فتكون
أولية مقيدة مثل: حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين أن أبا سلمة بن عبد
الرحمن سأله: أي القرآن أنزل أول؟ قال جابر: {يا أيّها المدّثّر} [المدثر: 1] قال أبو سلمة: أنبئت أنه {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق} [العلق: 1] فقال جابر: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت... " فذكر الحديث وفيه: "فأتيت خديجة فقلت: دثروني، وصبوا علي ماء بارداً، وأنزل علي: {يا أيّها المدّثّر} [المدثر: 1] إلى قوله: {والرّجز فاهجر} [المدثر: 1-5] ".
فهذه الأولية التي ذكرها جابر رضي الله عنه باعتبار أول ما نزل بعد فترة الوحي، أو أول ما نزل في شأن الرسالة؛ لأن ما نزل من سورة اقرأ ثبتت به نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وما نزل من سورة المدثر ثبتت به الرسالة في قوله: {قم فأنذر} [المدثر: 2]، ولهذا قال أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم نبئ ب {اقرأ} [العلق: 1] وأرسل ب {يا أيّها المدّثّر} [المدثر: 1]. نزول القرآن ابتدائي وسببي
ينقسم نزول القرآن إلى قسمين:
الأول: ابتدائي: وهو ما لم يتقدم نزوله سبب يقتضيه، وهو غالب آيات القران، ومنه قوله تعالى: {ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصّدّقنّ ولنكوننّ من الصّالحين}[التوبة: 75] الآيات،
فإنها نزلت ابتداء في بيان حال بعض المنافقين، وأما ما اشتهر من أنها نزلت
في ثعلبة ابن حاطب في قصة طويلة، ذكرها كثير من المفسرين، وروجها كثير من
الوعاظ، فضعيف لا صحة له.
القسم الثاني: سببي: وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه، والسبب:
أ - إما سؤال يجيب الله عنه مثل {يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ}[البقرة: الآية 189].
ب - أو حادثة وقعت تحتاج إلى بيان وتحذير مثل: {ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب} [التوبة: الآية 65]
الآيتين نزلتا في رجل من المنافقين قال في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا
مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم ونزل القرآن فجاء الرجل يعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبه {أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون}[التوبة: الآية 65].
ج- أو فعل واقع يحتاج إلى معرفة حكمه مثل: {قد سمع اللّه قول الّتي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى اللّه واللّه يسمع تحاوركما إنّ اللّه سميعٌ بصيرٌ} [المجادلة: 1] ). [أصول في التفسير: 8 - 14 ]
القرآن في اللغة