قال محمد بن صالح العثيمين (ت:1421هـ): ( المكي والمدني
نزل
القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا في خلال ثلاث وعشرين سنة، قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرها بمكة، قال الله تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على النّاس على مكثٍ ونزّلناه تنزيلاً} [الإسراء: 106].
ولذلك قسم العلماء رحمهم الله تعالى القرآن إلى قسمين: مكي ومدني:
فالمكي: ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته إلى المدينة.
والمدني: ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة.
وعلى هذا فقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: الآية 3]
من القسم المدني وإن كانت قد نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع بعرفة، ففي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة».
ويتميز القسم المكي عن المدني من حيث الأسلوب والموضوع:
أ- أما من حيث الأسلوب فهو:
1-
الغالب في المكي قوة الأسلوب، وشدة الخطاب، لأن غالب المخاطبين معرضون
مستكبرون، ولا يليق بهم إلا ذلك، اقرأ سورتي المدثر، والقمر.
أما المدني: فالغالب في أسلوبه اللين، وسهولة الخطاب، لأن غالب المخاطبين مقبلون منقادون، اقرأ سورة المائدة.
2- الغالب في المكي قصر الآيات، وقوة المحاجة، لأن غالب المخاطبين معاندون مشاقون، فخوطبوا بما تقتضيه حالهم، اقرأ سورة الطور.
أما المدني: فالغالب فيه طول الآيات، وذكر الأحكام، مرسلة بدون محاجة، لأن حالهم تقتضي ذلك، اقرأ آية الدين في سورة البقرة.
ب- وأما من حيث الموضوع فهو:
1-
الغالب في المكي تقرير التوحيد والعقيدة السليمة، خصوصا ما يتعلق بتوحيد
الألوهية والإيمان بالبعث، لأن غالب المخاطبين ينكرون ذلك.
أما المدني:
فالغالب فيه تفصيل العبادات والمعاملات، لأن المخاطبين قد تقرر في نفوسهم
التوحيد والعقيدة السليمة، فهم في حاجة لتفصيل العبادات والمعاملات.
2-
الإفاضة في ذكر الجهاد وأحكامه والمنافقين وأحوالهم في القسم المدني
لاقتضاء الحال، ذلك حيث شرع الجهاد، وظهر النفاق بخلاف القسم المكي.
فوائد معرفة المدني والمكي
معرفة المكي والمدني نوع من أنواع علوم القرآن المهمة، وذلك لأن فيها فوائد، منها:
1- ظهور بلاغة القرآن في أعلى مراتبها، حيث يخاطب كل قوم بما تقتضيه حالهم من قوة وشدة، أو لين وسهولة.
2- ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياته حيث يتدرج شيئا فشيئا بحسب الأهم على ما تقتضيه حال المخاطبين واستعدادهم للقبول والتنفيذ.
3- تربية الدعاة إلى الله تعالى، وتوجيههم إلى أن يتبعوا ما سلكه القرآن في الأسلوب والموضوع، من حيث المخاطبين، بحيث يبدأ بالأهم فالأهم، وتستعمل الشدة في موضعها والسهولة في موضعها.
4- تمييز الناسخ من المنسوخ فيما لو وردت آيتان مكية ومدنية، يتحقق فيهما شروط النسخ، فإن المدنية ناسخة للمكية، لتأخر المدنية عنها.
الحكمة من نزول القرآن الكريم
من تقسيم القرآن إلى مكي ومدني، يتبين أنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا. ولنزوله على هذا الوجه حكم كثيرة منها:
1- تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {وقال الّذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك (يعني كذلك نزلناه مفرقاً) لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاً (32) ولا يأتونك بمثلٍ (ليصدوا الناس عن سبيل الله) إلّا جئناك بالحقّ وأحسن تفسيراً (33)}[الفرقان: 32-33].
2- أن يسهل على الناس حفظه وفهمه والعمل به، حيث يقرأ عليهم شيئا فشيئا، لقوله تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على النّاس على مكثٍ ونزّلناه تنزيلاً}[الإسراء: 106].
3-
تنشيط الهمم لقبول ما نزل من القرآن وتنفيذه، حيث يتشوق الناس بلهف وشوق
إلى نزول الآية، لا سيما عند اشتداد الحاجة إليها كما في آيات الإفك
واللعان.
4-
التدرج في التشريع حتى يصل إلى درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ
الناس عليه وألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يجابهوا بالمنع منه منعا باتا،
فنزل في شأنه أولا قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: الآية 219] فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئا إثمه أكبر من نفعه، ثم نزل ثانيا قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون} [النساء: الآية 43] فكان في هذه الآية تمرين على تركه في بعض الأوقات وهي أوقات الصلوات، ثم نزل ثالثا قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون} [المائدة: 90] {إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91] {وأطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول واحذروا فإن تولّيتم فاعلموا أنّما على رسولنا البلاغ المبين} [المائدة: 92] فكان في هذه الآيات المنع من الخمر منها باتا في جميع الأوقات، بعد أن هيئت النفوس، ثم مرنت على المنع منه في بعض الأوقات.[أصول في التفسير: 17 - 21 ]