7 Apr 2014
قال محمد بن صالح العثيمين (ت:1421هـ): ( القرآن محكم ومتشابه
ومعنى هذا التشابه، أن القرآن كله يشبه بعضه بعضا في الكمال والجودة والغايات الحميدة {ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82] النوع الثالث: الإحكام الخاص ببعضه، والتشابه الخاص ببعضه، مثل قوله تعالى: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ
أمّ الكتاب وأخر متشابهاتٌ فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه
منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلّا اللّه والرّاسخون
في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلّا أولو الألباب} [آل عمران: 7]. مثاله: فيما يتعلق بالله تعالى، أن يتوهم واهم من قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} [المائدة: الآية 64] أن لله يدين مماثلتين لأيدي المخلوقين. ومثاله فيما يتعلق برسول الله، أن يتوهم واهم من قوله تعالى:{فإن كنت في شكٍّ ممّا أنزلنا إليك فاسأل الّذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحقّ من ربّك فلا تكوننّ من الممترين}[يونس: 94] ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شاكا فيما أنزل إليه. إن موقف الراسخين في العلم من المتشابه وموقف الزائغين منه بينه الله تعالى فقال في الزائغين:{فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: الآية 7] وقال في الراسخين في العلم: {والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا} [آل عمران: الآية 7]
فالزائغون يتخذون من هذه الآيات المشتبهات وسيلة للطعن في كتاب الله،
وفتنة الناس عنه، وتأويله لغير ما أراد الله تعالى به، فيضلون، ويضلون وأما
الراسخون في العلم يؤمنون بأن ما جاء في كتاب الله تعالى فهو حق وليس فيه
اختلاف ولا تناقض لأنه من عند الله {ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}[النساء: الآية82] وما جاء مشتبهاً ردوه إلى المحكم ليكون الجميع محكماً.
يتنوع القرآن الكريم باعتبار الإحكام والتشابه إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الإحكام العام الذي وصف به القرآن كله، مثل قوله تعالى: {كتابٌ أحكمت آياته ثمّ فصّلت من لدن حكيمٍ خبيرٍ} [هود: الآية 1] وقوله: {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] وقوله: {وإنّه في أمّ الكتاب لدينا لعليٌّ حكيمٌ} [الزخرف: 4].
ومعنى
هذا الإحكام الإتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه فهو في غاية الفصاحة
والبلاغة، أخباره كلها صدق نافعة، ليس فيها كذب، ولا تناقض، ولا لغو لا خير
فيه، وأحكامه كلها عدل، وحكمه ليس فيها جور ولا تعارض ولا حكم سفيه.
النوع الثاني: التشابه العام الذي وصف به القرآن كله، مثل قوله تعالى: {اللّه نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه} [الزمر: 23].
ومعنى هذا الإحكام أن يكون معنى الآية واضحا جليا، لا خفاء فيه، مثل قوله تعالى:{يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}[الحجرات: 13] ، وقوله:{يا أيّها النّاس اعبدوا ربّكم الّذي خلقكم والّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} [البقرة: 21]، وقوله:{وأحلّ اللّه البيع} [البقرة: الآية 275]، وقوله:{حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به} [المائدة: الآية 3] وأمثال ذلك كثيرة.
ومعنى
هذا التشابه: أن يكون معنى الآية مشتبها خفيا بحيث يتوهم منه الواهم ما لا
يليق بالله تعالى، أو كتابه أو رسوله، ويفهم منه العالم الراسخ في العلم
خلاف ذلك.
ومثاله فيما يتعلق بكتاب الله تعالى، أن يتوهم واهم تناقض القرآن وتكذيب بعضه بعضا حين يقول:{ما أصابك من حسنةٍ فمن اللّه وما أصابك من سيّئةٍ فمن نفسك} [النساء: الآية 79] ويقول في موضع آخر: {وإن تصبهم حسنةٌ يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيّئةٌ يقولوا هذه من عندك قل كلٌّ من عند اللّه} [النساء: الآية 78].
موقف الراسخين في العلم والزائغين من المتشابه
ويقولون
في المثال الأول: إن لله تعالى يدين حقيقيتين على ما يليق بجلاله وعظمته،
لا تماثلان أيدي المخلوقين، كما أن له ذات لا تماثل ذوات المخلوقين، لأن
الله تعالى يقول: {ليس كمثله شيءٌ وهو السّميع البصير} [الشورى: الآية 11].
ويقولون في المثال الثاني: إن الحسنة والسيئة كلتاهما بتقدير الله عز وجل، لكن الحسنة سببها التفضل من الله تعالى على عباده، أما السيئة فسببها فعل العبد كما قال تعالى:{وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيرٍ} [الشورى: 30]
فإضافة السيئة إلى العبد من إضافة الشيء إلى سببه، لا من إضافته إلى
مقدّره، أما إضافة الحسنة والسيئة إلى الله تعالى فمن باب إضافة الشيء إلى
مقدّره، وبهذا يزول ما يوهم الاختلاف بين الآيتين لانفكاك الجهة.
ويقولون
في المثال الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه شك فيما أنزل
إليه، بل هو أعلم الناس به، وأقواهم يقينا كما قال الله تعالى في نفس
السورة:{قل يا أيّها النّاس إن كنتم في شكٍّ من ديني فلا أعبد الّذين تعبدون من دون اللّه} [يونس: الآية 104] المعنى إن كنت في شك منه فأنا على يقين منه، ولهذا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، بل أكفر بهم وأعبد الله.
ولا يلزم من قوله: {فإن كنت في شكٍّ ممّا أنزلنا إليك} [يونس: الآية 94] أن يكون الشك جائزا على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو واقعا منه، ألا ترى قوله تعالى:{قل إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين} [الزخرف: 81] هل يلزم منه أن يكون الولد جائزا على الله تعالى أو حاصلا؟ كلا، فهذا لم يكن حاصلا، ولا جائزا على الله تعالى، قال الله تعالى: {وما ينبغي للرّحمن أن يتّخذ ولداً} [مريم: 92] {إن كلّ من في السّماوات والأرض إلّا آتي الرّحمن عبداً} [مريم: 93].
ولا يلزم من قوله تعالى: {فلا تكوننّ من الممترين} [البقرة: الآية 147] أن يكون الامتراء واقعا من الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن النهي عن الشيء قد يوجه إلى من لم يقع منه، ألا ترى قوله تعالى: {ولا يصدّنّك عن آيات اللّه بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربّك ولا تكوننّ من المشركين} [القصص: 87]
ومن المعلوم أنهم لم يصدون النبي صلى الله عليه وسلم عن آيات الله، وأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه شرك، والغرض من توجيه النهي إلى من لا
يقع منه التنديد بمن وقع منهم والتحذير من منهاجهم، وبهذا يزول الاشتباه،
وظن ما لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم.
أنواع التشابه في القرآن
التشابه الواقع في القرآن نوعان:
أحدهما:
حقيقي وهو ما لا يمكن أن يعلمه البشر كحقائق صفات الله عز وجل، فإننا وإن
كنا نعلم معاني هذه الصفات، لكننا لا ندرك حقائقها، وكيفيتها لقوله تعالى: {ولا يحيطون به علماً}[طه: الآية 110] وقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللّطيف الخبير} [الأنعام: 103] ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى:{الرّحمن على العرش استوى} [طه: 5]
كيف استوى قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب،
والسؤال عنه بدعة، وهذا النوع لا يسأل عن استكشافه لتعذر الوصول إليه.
النوع الثاني:
نسبي وهو ما يكون مشتبها على بعض الناس دون بعض، فيكون معلوما للراسخين في
العلم دون غيرهم، وهذا النوع يسأل عن استكشافه وبيانه؛ لإمكان الوصول
إليه، إذ لا يوجد في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس، قال الله
تعالى: {هذا بيانٌ للنّاس وهدىً وموعظةٌ للمتّقين} [آل عمران: 138] وقال:{ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيءٍ} [النحل: الآية 89] وقال : {فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه} [القيامة: 18] وقال:{ثمّ إنّ علينا بيانه} [القيامة: 19] وقال: {يا أيّها النّاس قد جاءكم برهانٌ من ربّكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً}[النساء: 174].
وأمثلة هذا النوع كثيرة منها قوله تعالى: {ليس كمثله شيءٌ} [الشورى: الآية 11]
حيث اشتبه على أهل التعطيل، ففهموا منه انتفاء الصفات عن الله تعالى،
وادعوا أن ثبوتها يستلزم المماثلة، واعرضوا عن الآيات الكثيرة الدالة على
ثبوت الصفات له، وأن إثبات أصل المعنى لا يستلزم المماثلة.
ومنها قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً} [النساء: 93] حيث اشتبه على الوعيدية، ففهموا منه أن قاتل المؤمن عمدا مخلد في النار، وطردوا ذلك في جميع أصحاب الكبائر، واعرضوا عن الآيات الدالة على أن كل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة الله تعالى.
ومنها قوله تعالى: {ألم تعلم أنّ اللّه يعلم ما في السّماء والأرض إنّ ذلك في كتابٍ إنّ ذلك على اللّه يسيرٌ} [الحج: 70]
حيث اشتبه على الجبرية، ففهموا منه أن العبد مجبور على عمله، وادعوا أنه
ليس له إرادة ولا قدرة عليه، وأعرضوا عن الآيات الدالة على أن للعبد إرادة
وقدرة، وأن فعل العبد نوعان: اختياري، وغير اختياري.
والراسخون
في العلم أصحاب العقول، يعرفون كيف يخرجون هذه الآيات المتشابهة إلى معنى
يتلاءم مع الآيات الأخرى، فيبقى القرآن كله محكما لا اشتباه فيه.
الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه
لو
كان القرآن كله محكما لفاتت الحكمة من الاختبار به تصديقا وعملا لظهور
معناه، وعدم المجال لتحريفه، والتمسك بالمتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء
تأويله، ولو كان كله متشابها لفات كونه بيانا، وهدى للناس، ولما أمكن العمل
به، وبناء العقيدة السليمة عليه، ولكن الله تعالى بحكمته جعل منه آيات
محكمات، يرجع إليهن عند التشابه، وآخر متشابهات امتحانا للعباد، ليتبين
صادق الإيمان ممن في قلبه زيغ، فإن صادق الإيمان يعلم أن القرآن كله من عند
الله تعالى، وما كان من عند الله فهو حق، ولا يمكن أن يكون فيه باطل، أو
تناقض لقوله تعالى:{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ} [فصلت: 42]وقوله تعالى:{لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: الآية 82].
وأما
من في قلبه زيغ، فيتخذ من المتشابه سبيلا إلى تحريف المحكم واتباع الهوى
في التشكيك في الأخبار والاستكبار عن الأحكام، ولهذا تجد كثيرا من
المنحرفين في العقائد والأعمال، يحتجون على انحرافهم بهذه الآيات
المتشابهة). [أصول في التفسير: 45-51]