16 Aug 2016
تفسير قول الله تعالى: {مالك يوم الدين}
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
بيان مقصد الآية
مقصد هذه الآية تمجيد الله تعالى والتفويض إليه؛ كما صحَّ في الحديث القدسي المتقدّم ذكره؛ فقد وردت فيه الروايتان في صحيح مسلم:
فأمَّا تمجيد العبد
لربّه بذكر ملكه ليوم الدين فتدلّ عليه لوازم هذا الوصف العظيم ودلائله
الباهرة؛ التي تدلّ على عظمة ملكه تعالى، وكثرة جُنده، وكمال قوّته، وقهره
لعباده، وقدرته على بعثهم بعد موتهم، وسعة علمه فلا يعزب عنه شيء، وإحاطته
بكلّ شيء، وإحصائه أعمال عباده، وسرعة حسابه ومجازاته إياهم، وعدله في
جزائه، ورحمته وإحسانه لأوليائه، وعزَّته وشدّة انتقامه من أعدائه، وحكمته
الباهرة في موافقة الجزاء للعمل، وقدرته على توفية كلّ عاملٍ جزاءه، إلى
غير ذلك من المعاني العظيمة، والصفات الجليلة الباهرة؛ التي هي من أظهر
معاني تمجيد الله تعالى.
وأمَّا التفويض إلى
الله تعالى فيدّل عليه تلاشي كلّ ملك دون ملك الله تعالى، واضمحلال قدرة
كلّ أحد على أن يملك لنفسه أو لأحد غيره شيئاً، فلم يبق إلا التفويض لله
تعالى، وهذا المعنى كما دلَّ عليه لازم معنى الآية، ونصّ الحديث القدسي،
دلَّ عليه أيضاً قول الله تعالى في سورة الانفطار: {وما أدراك ما يوم الدين
ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}.
فيوم الدين هو يوم التفويض التامّ إلى الله تعالى من الخلق كلّهم برّهم وفاجرهم {وألقوا إلى الله يومئذ السلم}.
والمؤمن إذا تلا هذه الآية معتقداً معانيها عالماً بمقاصدها هداه ذلك إلى
تمجيد الله تعالى والتفويض إليه؛ فينفعه هذا التمجيد والتفويض يوم يلقى
ربَّه في ذلك اليوم العظيم.
القراءات في الآية
في هذه الآية قراءتان سبعيتان متواترتان:
الأولى: {مالك يوم الدين} بإثبات الألف بعد الميم، وهي قراءة عاصم والكسائي.
والثانية: [مَلِك يوم الدين] بحذف الألف، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء وحمزة وابن عامر.
بيان معنى القراءتين
أمَّا المَلِك فهو ذو المُلك، وهو كمال التصرّف والتدبير ونفوذ أمره على من تحت ملكه وسلطانه.
وإضافة المَلِك إلى يوم
الدين (ملك يوم الدين) تفيد الاختصاص؛ لأنه اليوم الذي لا مَلِكَ فيه إلا
الله؛ فكلّ ملوك الدنيا يذهب ملكهم وسلطانهم، ويأتونه كما خلقهم أوَّل مرة
مع سائر عباده عراة حفاة غرلاً؛ كما قال الله تعالى: {يوم هم بارزون لا
يخفى على اللّه منهم شيءٌ لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار}.
وأمَّا المالك فهو الذي
يملِكُ كلَّ شيء يوم الدين، فيظهر في ذلك اليوم عظمة ما يَـمْلِكه جلَّ
وعلا، ويتفرّد بالمِلك التامّ فلا يملِك أحدٌ دونه شيئاً إذ يأتيه الخلق
كلّهم فرداً فرداً لا يملكون شيئاً، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً،
ولا يملك بعضهم لبعضٍ شيئاً { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ
لله}.
فالمعنى الأولّ صفة
كمال فيه ما يقتضي تمجيد الله تعالى وتعظيمه والتفويض إليه، والمعنى الثاني
صفة كمال أيضاً وفيه تمجيد لله تعالى وتعظيم له وتفويض إليه من أوجه أخرى،
والجمع بين المعنيين فيه كمال آخر وهو اجتماع المُلك والمِلك في حقّ الله
تعالى على أتمّ الوجوه وأحسنها وأكملها؛ فإذا كان من الناس من هو مَلِكٌ لا
يملِك، ومنهم من هو مالكٌ لا يملُك، فالله تعالى هو المالك الملِك، ويوم
القيامة يضمحلّ كلّ مُلك دون ملكه، ولا يبقى مِلكٌ غير مِلكه.
المراد بيوم الدين
هذه الآية يفسّرها قول الله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}.
فالمراد بيوم الدين هنا
هو يوم القيامة، من غير خلاف بين المفسّرين، وسمّي يوم الدين لأنه يومٌ
يُدان الناس فيه بأعمالهم، أي يجازون ويحاسبون، كما قال الله تعالى: {يومئذ
يوفّيهم الله دينهم الحقّ} أي جزاءهم الذي يستحقونه.
وقال تعالى: {وإنَّ الدين لواقع} أي الجزاء كائن لا بدّ منه.
قال قتادة في قوله تعالى: {مالك يوم الدين} قال: «يوم يدين الله العباد بأعمالهم» رواه عبد الرزاق وابن جرير.
معنى الإضافة في {مالك يوم الدين}
الإضافة في مالك يوم الدين لها معنيان:
المعنى الأول: إضافة على معنى (في) أي هو المالك في يوم الدين؛ ففي يوم الدين لا يملك أحد دونه شيئاً.
والمعنى الثاني: إضافة على معنى اللام، أي هو المالك ليوم الدين.
قال ابن السراج: (إن معنى مالك يوم الدين: أنه يملك مجيئه ووقوعه). ذكره أبو حيان.
وكلا الإضافتين تقتضيان الحصر، وكلاهما حقّ، والكمال الجمع بينهما.