الدروس
course cover
تفسير قول الله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
24 Aug 2016
24 Aug 2016

12022

0

1

course cover
تفسير سورة الفاتحة

القسم الثالث

تفسير قول الله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
24 Aug 2016
24 Aug 2016

24 Aug 2016

12022

0

1


0

0

0

0

1

تفسير قول الله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}


هذه آية مستقلة عند جمهور أهل العدد، وفي العدّ المكيّ والكوفي قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} آية واحدة.

وفي تفسير هذه الآية مسائل كثيرة ذكرها المفسّرون في تفاسيرهم، والغرض في هذا الدرس تلخيص أقوال أهل العلم في المسائل المتعلّقة بتفسير هذه الآية وترك التعرّض لما ليس له صلة ببيان المعنى، والله المستعان.


الأحاديث المروية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية:

ذكر المفسّرون وأهل الحديث ثلاثة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند تفسيرهم هذه الآية:

الحديث الأوَّل: حديث عديّ بن حاتم الطائي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال)). رواه أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن خزيمة في التوحيد، وابن حبان والطبراني في الكبير من طرق عن سماك بن حرب، عن عباد بن حبيش، عن عدي به، وعباد بن حبيش مجهول.

ورواه ابن جرير الطبري والطبراني في الأوسط وتمام في فوائده من طريق عبد الله بن جعفر الرقّي عن سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عديّ بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المغضوب عليهم: اليهود، والضالين: النصارى».

وهذا الإسناد ظاهره الصحّة ورجاله ثقات، لكن له علة وهي أن سعيد بن منصور رواه عن سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد مرسلاً، وهو كذلك في تفسير سفيان بن عيينة كما في الدر المنثور.

وهو جزء من حديث طويل في خبر إسلام عديّ بن حاتم رضي الله عنه.


والحديث الثاني: حديث بديل بن ميسرة العقيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شقيق، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو على فرسه، وسأله رجل من بلقين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟

قال: ((هؤلاء المغضوب عليهم))، وأشار إلى اليهود.

قال: فمن هؤلاء؟

قال: ((هؤلاء الضالون)) يعني النصارى.

قال: وجاءه رجل، فقال: استشهد مولاك، أو قال: غلامك فلان، قال: ((بل يجر إلى النار في عباءة غلها)) رواه عبد الرزاق وأحمد ومحمد بن نصر، وأبو يعلى.

ورواه ابن مردويه في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير - من طريق إبراهيم بن طهمان، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم، قال: ((اليهود)) ، قلت: الضالين؟ قال: ((النصارى)).

وقد حسّن الحافظ ابن حجر هذا الإسناد.

والحديث له طرق أخرى فيها اضطراب فمنها الموصول والمنقطع، وتخريجها يطول.

والحديث الثالث: حديث سليمان بن أرقم البصري عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، ثم قال: «قال ربكم: ابنَ آدم، أنزلت عليك سبع آيات، ثلاث لي، وثلاث لك، وواحدة بيني وبينك، فأما التي لي: فـ{الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين}، والتي بيني وبينك: {إياك نعبد وإياك نستعين} منك العبادة، وعليَّ العون لك، وأما التي لك: فـ{اهدنا الصراط المستقيم} هذه لك: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم}: اليهود، {ولا الضالين}: النصارى» رواه الطبراني في الأوسط.

وسليمان بن أرقم متروك الحديث، قال فيه أحمد: (لا يسوى حديثه شيئاً) ، وقال يحيى بن معين: (ليس بشيء، ليس يسوى فلساً).

وأبو سلمة لم يسمع من أبيّ بن كعب، إنما ولد أبو سلمة عام 22هـ.


لكن العمدة على حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه، فقد صححه جماعة من أهل العلم، واستشهد لصحة معناه من القرآن جماعة من أهل العلم، ومن أوفاهم عبارةً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ إذ قال: (وقد دل كتاب الله على معنى هذا الحديث، قال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}، والضمير عائد إلى اليهود، والخطاب معهم كما دل عليه سياق الكلام.

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} وهم المنافقون الذين تولوا اليهود باتفاق أهل التفسير، وسياق الآية يدل عليه.

وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وذكر في آل عمران قوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وهذا بيان أن اليهود مغضوب عليهم.

وقال في النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} إلى قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.

وهذا خطاب للنصارى كما دل عليه السياق، ولهذا نهاهم عن الغلو، وهو مجاوزة الحد، كما نهاهم عنه في قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} الآية.

واليهود مقصرون عن الحق، والنصارى غالون فيه)ا.ه.


أقوال السلف في المراد بالمغضوب عليهم وبالضالين:

روي عن ابن مسعود وابن عباس تفسير المغضوب عليهم بأنّهم اليهود، وتفسير الضالين بأنّهم النصارى.

فروى بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: «{غير المغضوب عليهم} قال: «يعني اليهود الّذين غضب اللّه عليهم»

{ولا الضّالّين} قال: «وغير طريق النّصارى الّذين أضلّهم اللّه بفريتهم عليه».

قال: «يقول: فألهمنا دينك الحقّ، وهو لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، حتّى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود، ولا تضلّنا كما أضللت النّصارى؛ فتعذّبنا بما تعذّبهم به. يقول: امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك وقدرتك». رواه ابن جرير وابن أبي حاتم مفرقاً.

وهذا الأثر جزء من تفسير الضحاك بن مزاحم الهلالي، وهو لم يلقَ ابن عباس، وإنما أخذ تفسيره عن سعيد بن جبير وعن عبد الملك بن ميسرة وغيرهما وساق تفسيره مساقاً واحداً من غير تسمية الواسطة بينه وبين ابن عباس؛ فلذلك لا يجزم بثبوت نصّ التفسير عن ابن عباس من طريقه إذا تفرّد به، وإن كان الضحاك صدوقاً في نفسه إلا أنّ الآفة قد تكون من الواسطة، ولذلك يقع فيما يرويه عن ابن عباس في التفسير ما يُنكر.

وقد روي نحو هذا التفسير مختصراً عن ابن عباس من طريق حجاج بن أرطأة عن ابن جريج عن ابن عباس، وهو منقطع.

لكن صحّ هذا التفسير عن مجاهد بن جبر وهو من خاصة أصحاب ابن عباس ومن أعلمهم بالتفسير.

وابن جريج أخذ التفسير عن أصحاب مجاهد.

وروي هذا القول عن ابن مسعود ولا يصحّ عنه، وإنما نُسب إليه لما رواه ابن جرير في تفسيره من طريق السدّي الكبير عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى: «{غير المغضوب عليهم} هم اليهود، {ولا الضّالّين} هم النّصارى».

وهذا الإسناد ليس بمتحقق أنه لهذا الأثر، وإنما هو إسناد تفسير السدّي كلّه؛ فإنّه جمع صحيفة أبي مالك الغفاري عن ابن عباس في التفسير، وصحيفة أبي صالح مولى أمّ هانئ عن ابن عباس، وصحيفة مرة الهمداني عن ابن مسعود، وجمع معها نسخاً أخرى يرويها بأسانيده عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، ولم يبيّن أسانيده إلى هؤلاء الصحابة، وقد يكون فيمن روى عنهم الضعيف والمتروك، ولم يميز روايات بعضهم من بعض، وإنما وأدخل هذه الصحف بعضها في بعض، وكمَّل بعضها ببعض، وساقها مساقاً واحداً من غير تمييز، ووضع لهذا الكتاب إسنادا واحداً في أوّله؛ فكان ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما يروون ما يذكره السدّي في تفسيره مفرّقاً بإسناد واحد مختصر: "عن السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، ويكررون هذا الإسناد في كلّ ما يروونه من تفسير السدي.

ولذلك فلا يصحّ أن ينسب ما قاله في كتابه ذلك إلى ابن مسعود ولا إلى ابن عباس، وإنما ينسب إلى السدّي نسبة اختيار.

وأما ما يروى عن السدّي بأسانيد أخرى من غير هذا الكتاب فيختلف حكمه، والسدّي ضعّفه بعض أهل الحديث، ووثّقه الإمام أحمد، وروى له مسلم في صحيحه، وهو تابعيّ رأى أنس بن مالك وروى عنه؛ فيُقبل من رواياته ما ليس له علة أخرى في الإسناد، وليس فيه ما يُنكر من جهة المتن.

فهذا ما روي عن الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة.


وأما التابعون: فصحّ هذا القول عن مجاهد، وزيد بن أسلم، والسدي، والربيع بن أنس البكري.

وقال به من تابعي التابعين: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وآثارهم مذكورة بأسانيدها في جامع ابن وهب وتفسير ابن جرير وتفسير ابن أبي حاتم.

وذكر السيوطي في الدرّ المنثور أنّ عبد بن حميد رواه عن سعيد بن جبير.

قال ابن أبي حاتم في تفسيره: (ولا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف اختلافا).


بيان المراد بالمغضوب عليهم وبالضالين:

صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه وصف اليهود بأنَّهم مغضوب عليهم، ووصف النصارى بأنّهم ضالون.

ولذلك توافقت أقوال السلف على تفسير المغضوب عليهم باليهود، وتفسير الضالين بالنصارى.

وهذا لا يقتضي قصر هذا الوصف عليهم؛ لأنه وصف له سبب؛ فمن فعلَ مثلَ فعلِهم لقي مثل جزائهم.

وقد تظافرت أقوال السلف على:

- أنَّ سبب الغضب على اليهود أنَّهم لم يعملوا بما علموا؛ فهم يعرفون الحقّ كما يعرفون أبناءهم، لكنَّهم أهل عناد وشقاق وكِبْرٍ وحَسَد؛ وقسوة قلب، يكتمون الحقَّ، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويعادون أولياء الله؛ فاستحقّوا غضب الله.

- وأنَّ النصارى ضلوا لأنّهم عبدوا الله على جهل، متبّعين في عباداتهم أهواءهم، مبتدعين في دينهم ما لم يأذن الله به، قائلين على ربّهم ما ليس لهم به علم؛ فكانوا ضُلّالاً لأنَّهم ضيّعوا ما أنزل الله إليهم من العلم، ولم يسترشدوا به، وعبدوا الله بأهوائهم، وغلوا في دينهم، واتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله؛ بطاعتهم فيما يشرّعون لهم من العبادات، وفي تحريم ما أحلّ الله، وتحليل ما حرّم الله؛ فضلّوا بذلك ضلالاً بعيداً.


التحذير من مشابهة اليهود والنصارى:

وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حذر أمّته من التشبّه باليهود والنصاري، وأخبر أنَّ من هذه الأمّة من سيتبع سننهم؛ كما في الصحيحين من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن».

وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود من حديث حسان بن عطية، عن أبي منيب الجرشي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم».

ولأجل هذا اشتهر تحذير السلف رحمهم الله تعالى من التشبه باليهود والنصارى؛ لئلا يصيب من تشبّه بهم من جنس ما أصابهم من الجزاء.

قال ابن تيمية رحمه الله: (روى الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون)) قال الترمذي حديث صحيح.

وقال سفيان بن عيينة: (كانوا يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى).

وكان غير واحد من السلف يقول: (احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون).

فمن عرف الحقَّ ولم يعمل به أشبه اليهود الذين قال الله فيهم: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} .

ومن عبد الله بغير علم بل بالغلو والشرك أشبه النصارى الذين قال الله فيهم: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}).ا.هـ.



الحكمة من تمييز الفريقين بوصفين متلازمين:

أثار ابن جرير الطبري سؤالاً عن الحكمة من تخصيص اليهود بوصف الغضب عليهم، والنصارى بوصف الضلال مع تلازم الوصفين، وكون الفريقين ضُلالاً مغضوباً عليهم؛ لما تقرّر من أنّ المغضوب عليه ضالّ غير مهتدٍ، وأنّ الضالّ سالكٌ سبيلاً يستحقّ به غضب الله.

ثمّ أجاب على هذا السؤال بجواب تعقّبه فيه ابن عطية وتتابعت أجوبة المفسّرين على هذا السؤال، وذكروا في أجوبتهم أوجهاً حسنة، وتلخيصها:

1. أن الله تعالى وَسَم كلَّ طائفة بما تُعرفُ به، حتى صارت كلّ صفة كالعلامة التي تعرف بها تلك الطائفة، وهذا حاصل جواب ابن جرير.

2. أنَّ أفاعيل اليهود من الاعتداء والتعنّت وقتل الأنبياء وغيرها أوجبت لهم غضباً خاصّا، والنصارى ضلوا من أوّل كفرهم دون أن يقع منهم ما وقع من اليهود، وهذا حاصل جواب ابن عطية.

3. اليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد، والنصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل، وهذا جواب ابن القيّم وتبعه تلميذه ابنُ كثير رحمهما الله.

وقال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد: (الشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة، ومن عدم إرادته والعمل به أخرى..

فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به، وإيثار غير عليه بعد معرفته؛ فلم يكن ضلالا محضاً.

وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه؛ فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوباً عليهم ضالين.

ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره، وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق، والبغي يمنعه من إرادته؛ كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفا وبيانا وإرشادا وإلهاما وتوفيقا وإعانة؛ فيعلمه ويعرفه، ثم يجعله مريدا له قاصدا لاتباعه؛ فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على عمد وعلم، والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال)ا.هـ.

4. وظهر لي وجه آخر، وهو التنبيه على سببي سلبِ نعمة الهداية:

- فمن ترك العمل بالعلم استحقّ سلب نعمة الهداية؛ لمقابلته نعمة الله تعالى بما يُغضب الله إذ لم يتّبع الهدى بعد معرفته به؛ كما فعلت اليهود. - ومن أعرض عن العلم الذي جاء من عند الله ضلَّ عن الصراط المستقيم، وابتدع في دين الله ما لم يأذن به الله؛ كما فعلت النصارى.

واستحضار هذا المعنى مما يقوّي في نفس المؤمن الحرص على اتّباع هدى الله واجتناب ما يعرّض العبد للحرمان من نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم.



الحكمة من تقديم المغضوب عليهم على الضالين

اشتهرت مسألة الحكمة من تقديم ذكر المغضوب عليهم على الضالين، في سورة الفاتحة، ولم أقف على أوّل من أثار هذه المسألة، لكن عناية المفسّرين بالجواب على هذا السؤال ظاهرة، وقد ذكروا أوجهاً حسنة في أجوبتهم:

أحدها: أن ذلك لمراعاة فواصل الآيات، وهذا الجواب وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أنّه لا يستقلّ بالجواب إذ لا بدّ من حكمة أخرى غير مجرّد مراعاة الفواصل، وقد ذكره ابن عاشور وجهاً.

والثاني: لأنَّ اليهود متقدمون في الزمان على النصارى، ذكره ابن القيّم وجهاً.

والثالث: لأن اليهود كانوا مجاورين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، بخلاف النصارى؛ فقدّمهم لقربهم، وهذا الجواب ذكره ابن القيّم أيضاً، ويشكل عليه أنَّ سورة الفاتحة مكية إلا إذا كان المراد أنَّ منازل اليهود في يثرب أقرب من منازل النصارى في نجران والشام؛ وفيه بعد.

والرابع: أن اليهود أغلظ كفراً من النصارى؛ فبدأ بهم، وهذا الجواب ذكره ابن القيّم رحمه الله، وهو جواب شيخنا ابن عثيمين رحمه الله، قال: (قدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين؛ فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه بخلاف المخالف عن جهل)ا.هـ.

والخامس: لإفادة الترتيب في التعوّذ؛ لأن الدعاء كان بسؤال النفي؛ فالتدرّج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى مع رعاية الفواصل، وهذا حاصل جواب ابن عاشور، وهو قريب من الوجه السابق.

والسادس: لأن الغضب يقابل الإنعام، فتقديم ذكر المغضوب عليهم أحسن مقابلة من تقديم ذكر الضالين، وهذا خلاصة جواب أبي حيان الأندلسي في البحر المحيط، وذكر ابن القيّم أنّه أحسن الوجوه: قال: (فقولك: الناس منعم عليه ومغضوب عليه؛ فكن من المنعم عليهم أحسن من قولك: منعم عليه وضال)ا.هـ.

وهو وجه حسن، وأعمّ منه أن يقال: إن تقديم المغضوب عليهم على الضالين فيه تحقيق المقابلتين: المقابلة الخاصة والمقابلة العامة:

- فالخاصة بين العمل وتركه.

- والعامة بين العلم وعدمه.

وتوضيح ذلك أنَّ الهداية لا تتحقّق إلا بعلم وعمل، والعلم متقدّم على العمل فكانت دائرته مع ما يقابله أعمّ، والعمل بالعلم دائرته مع ما يقابله أخصّ؛ فتحقيق المقابلة الخاصة مقدّم على تحقيق المقابلة العامّة؛ لتتمّ المقابلة الخاصّة أولاً ثم تتمّ بعدها المقابلة العامّة لأنّها أشمل.

والجواب السابع: لأنَّ أوّل ذنب عصي الله به هو من جنس ذنوب المغضوب عليهم؛ لأنَّه عصيان عن علم ومعرفة، وهو إباء إبليس السجود لآدم؛ فناسب تقديم المغضوب عليهم، وهذا الوجه زاده د.فاضل السامرائي على الوجوه المتقدّمة.


الحكمة من إبهام ذكر الغاضب في قوله: {غير المغضوب عليهم}

في قول الله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} أسند الفعل إليه جلّ وعلا، وقال هنا: {غير المغضوب عليهم} ولم يقل: ( الذين غضبت عليهم).

وهذا السؤال تكلّم في جوابه جماعة من المفسّرين وذكروا في أجوبتهم وجوها عديدة، والأظهر أنَّ ذلك لإفادة عظم شأن غضب الله عليهم، وأنه غضب الملك الجبّار الذي يغضب لغضبه جنوده في السماوات وفي الأرض، فيجد آثار ذلك الغضب في كلّ حال من أحواله.

وهذا نظير بغض الله تعالى لمن يبغض من عباده، كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض).

وكما في صحيح ابن حبان من حديث عثمان بن واقد العمري، عن أبيه، عن محمد بن المنكدر، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس».

والمقصود أنَّ إبهام ذكر الغاضب هنا من فوائده عموم الغاضبين وكثرتهم.

والتعبير بالاسم دون الفعل لما في الاسم من الدلالة على تمكّن الوصف منهم، وأنَّه ملازم لهم، ففيه من المعنى ما لا يفيده قول: (غضبت عليهم) لأنه قد يدلّ على وقوع الغضب مرّة واحدة.

وذكر ابن القيّم رحمه الله تعالى وجهين بديعين آخرين:

أحدهما: أنَّ ذلك جارٍ على الطريقة المعهودة في القرآن من أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله تعالى، وأفعال العدل والجزاء والعقوبة يُحذف ذكر الفاعل فيها أو يسند الفعل إلى من كان له سبب فيه؛ تأدّباً مع الله جلّ وعلا، ولئلا يقع في بعض النفوس ما لا يصحّ من المعاني التي يُنزّه الله عنها، كما في قول الله تعالى فيما حكاه عن الجنّ {وأنا لا ندري أشرّ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربّهم رشداً}

وقول إبراهيم الخليل: {الذي خلقني فهو يهدين . والذي هو يطعمني ويسقين . وإذا مرضت فهو يشفين}.

فمن ذلك قوله تعالى: {الذين أنعمت عليهم} فأسند الضمير إليه جلَّ وعلا، وقوله: {المغضوب عليهم} حذف ذكر الفاعل، وقوله: {الضالين} أسند الفعل إلى من قام به، ولم يقل (الذين أضللتهم) لئلا يُفهم من ذلك نوع عذر لهم، مع أنّ ضلالهم بقضاء الله وقدره.

والآخر: أنّ ذلك أبلغ في تبكيتهم والإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم؛ بخلاف المنعم عليهم ففي إسناد فعل الإنعام إلى الله تعالى في قوله {أنعمت عليهم} ما يفيد عنايته بهم وتشريفهم وتكريمهم.


معنى "لا" في قوله تعالى: {ولا الضالين}:

لو قيل: (غير المغضوب عليهم والضالين) لأوهم ذلك أن الوصفين لطائفة واحدة؛ فأتي بحرف "لا" للتأكيد على أنه المراد بالضالين طائفة غير الطائفة المعطوفة عليها، وهذا أحسن ما قيل في هذه المسألة، وهو أحد الأوجه التي ذكرها ابن القيّم رحمه الله في بدائع الفوائد.

وقد اختلف أهل اللغة في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: هي زائدة ، وهو قول معمر بن المثنى ، وردّه الفراء وابن جرير.

والقول الثاني: بمعنى "غير" ، والإتيان بها هنا للتنويع بين الحروف، وهذا معنى قول الفراء.

وتشهد له قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {غير المغضوب عليهم . وغير الضالين} وهي قراءة صحيحة الإسناد عنه، لكن أجمع القراء على تركها لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك القراءة بما خالف المصحف الإمام.

والقول الثالث: لئلا يتوّهم أن "الضالين عطف على الذين" وهذا القول ذكره ابن فارس في «الصاحبي» وقال به مكي بن أبي طالب في «الهداية» والواحدي في «البسيط».

قال ابن فارس تعقيباً على كلام لأبي عبيدة: (أما قوله إنّ «لا» في {وَلا الضَّالِّينَ} زائدة؛ فقد قيل فيه: إن «لا» إنما دخلت ها هنا مُزِيلةً لتوهُم متوهم أن الضّالين هم المغضوب عليهم، والعرب تنعت بالواو، يقولون: مررت بالظريف والعاقل فدخلت «لا» مُزِيلةً لهذا التوهم ومُعلمة أن الضّالين هم غير المغضوب عليه).

وقال الواحدي: (لو لم تدخل (لا) لاحتمل أن يكون قوله: (والضالين) منسوقا على قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم والضالين)، فلما احتمل ذلك أدخل فيه (لا) ليحسم هذا الوهم)ا.هـ

والقول الرابع: هي مؤكدة للنفي الذي تضمنه معنى "غير"، وهذا القول ذكره مكي بن أبي طالب وابن القيّم.

والقول الخامس: لإفادة المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كلّ نوع بمفرده، أي لئلا يفهم أنّ الصراط الآخر مشترك بين النوعين الآخرين، فدخلت "لا" للتصريح بأنّ المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء، وهذا القول ذكره ابن القيّم رحمه الله وجهاً.


تمّ هذا الدرس، والله تعالى أعلم بمراده، وأستغفر الله تعالى من الخطأ والزلل وأتوب إليه


وصلى الله وسلم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.


عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

24 Nov 2017

فائدة:
قال ابن فارس في كتابه "الصاحبي" تعقيباً على كلام لأبي عبيدة: (أما قوله إنّ "لا" في {وَلا الضَّالِّينَ} زائدة؛ فقد قيل فيه: إن "لا" إنما دخلت ها هنا مُزِيلةً لتوهُم متوهم أن الضّالين هم المغضوب عليهم، والعرب تنعت بالواو، يقولون: مررت بالظريف والعاقل فدخلت "لا" مُزِيلةً لهذا التوهم ومُعلمة أن الضّالين هم غير المغضوب عليه).