24 Oct 2012
تفسير قول الله تعالى: {من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس}
عناصر الدرس:
بيان معنى الوسواس والخناس والحكمة من اقترانهما
المراد بالوسواس الخناس
سبب خنوس الوسواس
كيف يوسوس الوَسواس؟
تفسير قول الله تعالى: {الذي يوسوس في صدور الناس}
تفسير قول الله تعالى: {من الجنة والناس}
اشتمال السورة على الاستعاذة من وسوسة شياطين الإنس والجن إلينا وعنّا، ووسوسة نفوسنها لنا ولغيرنا
درجات كيد الشيطان
- الدرجة الأولى: الوسوسة
- الدرجة الثانية: التسلط الناقص وهو على أنواع
- الدرجة الثالثة: التسلط التام
بيان معنى النزغ والهمز والنفخ والنفث
- خطر اتباع خطوات الشيطان
أصول مهمّة في دفع كيد الشيطان
- أن الشيطان عدّو مبين، وتعرف عداوته بمقاصد ما يوسوس به
- أنه يجب علينا أن نتّخذ الشيطان عدواً
- أن الله أمر في مواضع من كتابه الكريم بأن لا نتبع خطوات الشيطان.
- لا ضمان للعبد ولا أمان له إلا باتباع هدى الله تعالى.
- اتباع هدى الله يفضي بصاحبه إلى العاقبة الحسنة.
- الشيطان يحضر ابن آدم عند كلّ شيء من شأنه
- لا عذر للعبد إذا نزغه الشيطان فأطاعه
- للشيطان مداخل يتسلّط بها على الإنسان ويشتدّ فيها كيده
بيان معنى الوسواس والخناس والحكمة من اقترانهما
التعريف في {الوسواس} للجنس على الراجح من أقوال المفسرين؛ فيشمل كل وسواس. تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت ..... كما استعان بريح عشرقٌ زجِل
و{الخناس}:
صفة مبالغة من الخنوس، وهو الاختفاء، وهذا يعني أنه كثير الخنوس أو شديد
الخنوس، لأن المبالغة هنا تكون لأحد هذين المعنيين، الكثرة والشدة ، والله
تعالى أعلم.
وكذلك الوسوسة تتفاوت كثرة وشدة.
واقتران الصفتين ببعضهما دليل على تلازمها ، وهذا التلازم فيه شر إضافي.
ففي وسوسته شر ، وفي خنوسه شر، وفي كثرة وقوع الوسوسة والخنوس وتتابعهما شر عظيم يستوجب الاستعاذة بالله تعالى من شره.
والأمر بالاستعاذة من شره دليل على أن العبد لا يستطيع بنفسه أن يعصم نفسَه من كيد الشيطان ، وكل موسوس خناس.
وإنما يحتاج إلى الاستعاذة بمن يعصمه منه، وهو الله جل وعلا وحده.
وإذا أحسنَ العبدُ الاستعاذةَ بالله تعالى بالقلب والقول والعمل -كما تقدم بيانه- لم يضرَّه كيد الوسواس الخناس.
والوَسواس بالفتح هو اسم للموسوس.
والوِسواس بالكسر مصدر؛ تقول: وسوس وِسواساً فهو وَسواس، وهو مشتق من الوسوسة ، وهي التحديث بصوت خفيّ.
قال الأعشى:
قال ابن القيم: (ولما
كانت الوسوسة كلاماً يكرره الموسوس ويؤكده عند من يلقيه إليه كرروا لفظها
بإزاء تكرير معناها؛ فقالوا : وسوس وسوسة؛ فراعَوا تكرير اللفظ ليُفهم
منه تكرير مسمّاه) ا.هـ.
والخناس: فعَّال من الخنوس وهو الاختفاء ، وقيل: الاختفاء بعد الظهور؛ وهو اختفاء فيه معنى الانقباض والتواري والرجوع.
المراد بالوسواس الخناس
في هذه المسألة قولان:
القول الأول: المراد به الشيطان ؛ وهو المشهور عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن البصري، وقال به جمهور المفسرين.
القول الثاني: كل موسوس من شياطين الإنس، وشياطين الجن ووسوسة النفس الأمارة بالسوء.
قال ابن الجوزي في تفسير قول الله تعالى: {من الجنة والناس}: (قوله تعالى: {من الجِنَّة والناس} الجِنَّة: الجن.
وفي معنى الآية قولان:
- أحدهما: يوسوس في صدور الناس جِنَّتهم وناسهم، فسمَّى الجنَّ هاهنا ناساً ، كما سمَّاهم رجالاً في قوله تعالى: {يعوذُون برجال من الجن}، وسماهم نفراً بقوله تعالى: {استَمَعَ نفر من الجن} هذا قول الفراء .
وعلى هذا القول يكون الوسواس موسوساً للجن، كما يوسوس للإنس.
- والثاني: أن الوسواس: الذي يوسوس في صدور الناس ، هو من الجِنَّة ، وهم من الجن .
والمعنى: من شر الوسواس الذي هو من الجن. ثم عطف قوله تعالى: {والناس} على {الوسواس}، والمعنى: من شر الوسواس ، ومن شر الناس ، كأنه أمر أن يستعيذ من الجن والإنس ، هذا قول الزجاج) ا.هـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-: (ولم يذكر ابن الجوزي إلا قولين، ولم يذكر الثالث وهو الصحيح، وهو أن قوله: {من الجنة والناس}
لبيان الوَسواس أي: الذي يوسوس من الجنة ومن الناس في صدور الناس؛ فإن
الله تعالى قد أخبر أنه جعل لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم
إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا، وإيحاؤهم هو وسوستهم، وليس من شرط الموسوس أن
يكون مستترًا عن البصر؛ بل قد يُشاهد، قال تعالى: {فوسوس
لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما
عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني
لكما لمن الناصحين} وهذا كلام من يُعرف قائله ليس شيئًا يلقى في القلب لا يدري ممن هو)ا.هـ.
والخلاصة أن الوسواس قد يكون من الجِنَّة، وقد يكون من الناس، ونحن نستعيذ بالله من كل ما يوسوس من الجنة ومن الناس.
ونفس الإنسان توسوس؛ كما في قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}.
والنفس الإنسانية فيها شرّ
وفيها قوّة أمَّارة، وإذا هويت ما حرم الله سوَّلت لصاحبها ارتكاب تعدّي
حدود الله وارتكاب محارمه ما حرم الله وزينته له المعصية، فإذا نهى النفس
عن الهوى كان موعوداً بالثواب العظيمة، وإذا أطاعها في اتباع الهوى كان
متوعداً بالعذاب على ذلك.
كما قال الله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}.
قال ابن تيمية: (فالذي
يوسوس في صدور الناس: نفوسهم وشياطين الجنّ وشياطين الإنس، و"الوسواس
الخناس" يتناول وسوسة الجنة ووسوسة الإنس ، وإلا أي معنى للاستعاذة من
وسوسة الجنّ فقط مع أن وسوسةَ نفسه وشياطين الإنس هي مما تضره، وقد تكون
أضر عليه من وسوسة الجن).ا.هـ.
وهذا القول أطال شيخ
الإسلام في تقريره في رسالته في تفسير المعوذتين التي كتبها وهو في سجن
القلعة في آخر حياته رحمه الله، وقد أحسن في هذا التقرير جداً، وتكلم بما
لا تكاد تجده في كتب التفسير.
سبب خنوس الوسواس
• ما سبب خنوس الوسواس؟
المشهور من كلام المفسرين أنه إذا ذكر الله خنس .
ورُوي عن ابن عباس من طريق محمد بن سعد عن آبائه: (أن الشيطان يوسوس للعبد فإذا أطيع خنس)، لكن هذا الإسناد ضعيف لا يصح من حيث الرواية، وأما من حيث المعنى فهو محتمَل.
فيكون لخنوسه سببان:
السبب الأول: ذكر الله عز وجل، وهذا قال به جمهور المفسرين وممن نص على ذلك: ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وقتادة.
والسبب الثاني: طاعته والاستجابة إليه، ولذلك يرتاح بعض الناس إلى المعصية.
ويكون هذا في كل شأن من الشؤون ؛ يوسوس الشيطان للعبد ثم يخنس إذا ذكر الله وإذا أطيع.
قال ابن جرير: (والصواب من
القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله -تعالى ذِكره- أَمَرَ نبيه -صلى الله
عليه وسلم- أن يستعيذ به من شر شيطان يوسوس مرة ويخنس أخرى، ولم يخصَّ
وسوسته على نوع من أنواعها، ولا خنوسه على وجه دون وجه، وقد يوسوس بالدعاء
إلى معصية الله؛ فإذا أطيع فيها خنس، وقد يوسوس للنهي عن طاعة الله ؛ فإذا ذكر العبد أمر ربه فأطاعه فيه وعصى الشيطانَ خنس؛ فهو في كلتا حالتيه وسواس خناس، وهذه الصفة صفته) ا.هـ.
كيف يوسوس الوَسواس؟
روى ابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الشيطان جاثم على قلب ابن آدم؛ فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس).
وروى ابن جرير نحو ذلك عن مجاهد بن جبر.
وأصح ما روي في ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن صفية بنت حيي قالت: (كان
رسول الله صلى الله عليه و سلم معتكفا ، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم
قمت فانقلبت ،فقام معي ليقلبني ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمر
رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه و سلم أسرعا ، فقال النبي
صلى الله عليه و سلم: ((على رسلكما ، إنها صفية بنت حيي)) .
فقالا: (سبحان الله يا رسول الله).
قال: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا)) -أو قال- ((شيئا)).
وفي رواية عند البخاري: ((إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا)).
فهو يقذف في القلب، وهذا
دليل على وجود اتصال له بقلب الآدمي ليقذف فيه، وأن القلب محلٌّ قابل
لتلقّي ما يقذف به الشيطان وعَقْلِه وإدراكه، وإذا لم يعصم اللهُ العبدَ من
شر ما يلقيه الشيطان ضل وشقي.
وقد روى أبو يعلى والثعلبي
والبيهقي في شعب الإيمان وغيرها نحوه من حديث أنس مرفوعاً: (إن الشيطان
واضع خَطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس وإن نسي التقم قلبه، فذلك
الوسواس الخناس).
لكنه ضعيف الإسناد، وقد ضعفه ابن حجر في الفتح.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: (يقال: الخناس له خرطوم، كخرطوم الكلب يوسوس في صدور الناس، فإذا ذكر العبد ربه خنس).
قال ابن حجر: (وقد ورد في خبر مقطوع أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان ، فرأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه الأيسر حذاء قلبه له خرطوم كالبعوضة. أخرجه ابن عبد البر بسند قوي إلى ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز فذكره.
وذكره أيضا صاحب الفائق في مصنفه في (مهى) ، وله شاهد مرفوع عن أنس عند أبي يعلى وابن عدي ولفظه: أن الشيطان واضع خطمه على قلب بن آدم، الحديث.
وأورد بن أبي داود في كتاب الشريعة من طريق عروة بن رويم أن
عيسى عليه السلام سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم قال: فإذا
برأسه مثل الحية واضع رأسه على ثمرة القلب فإذا ذكر العبد ربه خنس وإذا غفل
وسوس) ا.هـ.
وقال ابن حجر أيضاً: (قال
السهيلي: وضع خاتم النبوة عند نغض كتفه صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم من
وسوسة الشيطان وذلك الموضع يدخل منه الشيطان)ا.هـ.
وقال ابن قتيبة في "غريب الحديث": (في حديث عمر بن عبد العزيز أَنه قال: (إن
رجلاً سأَل ربَّه سنَة أَنْ يُرِيَه موقع الشيَطان من قَلْب ابن آدم
فرأَى فيما يرى النائم جَسَد رجُلٍ مُمَهّى يُرى داخله من خارجه ورأَى
الشيطان في صُورة ضِفْدع له خرطوم كخرطوم البَعَوضة قد أَدخله من منكِبه
الأَيسر الى قلبه يُوسْوَس اِليه فاِذا ذَكر الله خَنَّسَهُ) ) ا.هـ.
وعن عروة بن رويم اللخمي (أن عيسى
عليه السلام دعا ربه تبارك وتعالى أن يريه موضع إبليس من بني آدم، فتجلى
له إبليس، فإذا رأسه مثل رأس الحية، واضعاً رأسه على ثمرة القلب، فإذا ذكر
العبد ربه عز وجل، خنس إبليس برأسه، وإذا ترك الذكر، مناه وحدثه). رواه آدم بن أبي إياس في تفسير مجاهد، ورواه أيضاً سعيد بن منصور وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في الدر المنثور للسيوطي.
اشتمال السورة على الاستعاذة من وسوسة شياطين الإنس والجن إلينا وعنّا، ووسوسة نفوسنا لنا ولغيرنا
فشملت السورة الاستعاذة من:
1: وسوسة شياطين الإنس والجنّ إلينا وعنَّا.
2: ووسوسة نفوسنا لنا ولغيرنا.
وهذه الوسوسة يكون فيها من
الشر العظيم بتزيين المعاصي والتصديق بالباطل، والصد عن فعل الطاعات
والتصديق بالحق ما يقترف به العباد من السيئات ويحرم بسببه من الخيرات
والحسنات، ويحل عليه العقوبات ويعرّضه للفتن، وهذه شرور عظيمة لمن تأملها.
درجات كيد الشيطان
كيد الشيطان للإنسان على درجات: ألَمْ تَرَنِي عاهدْتُ ربي وإِنني ... لَبَيْنَ رِتَاجٍ قائمٌ ومَقامِ
على حَلْفَةٍ لا أشتُمُ الدَّهْرَ مُسْلِماً ... ولا خارِجاً مِن فِيَّ زُورُ كَلامِ
وإن ابنَ إِبليسٍ وإِبليسَ أَلْبَنا ... لهم بعَذابِ النَاسِ كل غلامِ
هُما نَفَثا فِي فِيَّ من فمَوَيْهِما ... على النابح العاوي أشد رِجامِ
أطعتكَ يا إبليس سبعين حجةً... فلما انتهى شيبي وتمَّ تمامي
فررت إلى ربي وأيقنت أنني... ملاقٍ لأيام المنون حمامي
وكَمْ مِن قُرُونٍ قد أَطاعُوكَ أَصْبَحُوا ... أَحادِيثَ كانُوا في ظِلالِ غَمامِ الرتاج المراد به باب الكعبة، والمقام مقام إبراهيم.
الدرجة الأولى: الوسوسة وهي أول كيده وأصله، فإذا كفي العبد شرّها فقد سلم من بلاء وفتنة يُبتلى بها من يُبتلى.
فالسعيد من وُقي شرّ وسوسة
الشيطان، وأما الوسوسة نفسها فلا يسلم منها تقيّ ولا غيره؛ فإن هذا هو
أصل الابتلاء في هذه الحياة الدنيا؛ أيطيع الإنسان ربه أم يطيع الشيطان؟
فالشيطان يوسوس للناس كلهم، بل جاء في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه)).
فتأمّل هذا الحديث العظيم ؛ الذي يدلّ على أمر جليل من أمور الغيب، وله أثر بالغ على الناس كلهم.
فالشيطان يحضرُ ابنَ آدم
عند أكله وشربه ونومه ويقظته ودخوله وخروجه وعباداته ومعاملاته؛ وله في كل
ذلك وساوس يوسوس بها ثم يخنس، فهو كالمحارب يكر ثم يفر ثم يكر ثم يفر ،
ينتظر تأثر عدوه بضرباته وسقوطه صريعاً في أسره حتى ينقاد له فيقتاده
ويورده المهالك، والعياذ بالله.
فأما إذا اتبع العبد هدى
الله تعالى في شأنه كله؛ فإنه يُعصم من كيد الشيطان، وهذا يدلك على أن حاجة
الإنسان إلى اتباع هدى الله حاجة عظيمة متصلة دائمة ما دام حياً.
وهو هدى ميسّر لم يجعل
الله فيه علينا مشقة ولا حرجاً، فكلمة (بسم الله) عند الدخول وعند الخروج
وعند الأكل وعند الشرب وعند الجماع ونحو ذلك مما ورد من مواضع التسمية،
وكثرة ذكر الله عز وجل كل ذلك مما يعصم الله به العبد من كيد الشيطان.
وينبغي للعبد أن يحرص في
شؤونه كلها على اتباع هدى الله جل وعلا، في عباداته ومعاملاته ؛ وفي حبه
وبغضه، وفي عطائه ومنعه، وفي سائر ما يعرض له من الحوادث والأحوال يحرص
فيها على أن يتبع هدى الله لأن هذا هو الضمان الوحيد الذي يُعصم به العبد
من كيد الشيطان، فلا يجد الشيطان عليه مدخلاً ليتسلط به عليه.
والإفاضة في هذا المعنى يطول جداً، ويكفينا هنا التنبيه عليه.
وهذه الدرجة الأولى وهي درجة الوسوسة هي ميدان الصراع والتمانع بين المؤمن المتقي والشيطان.
الدرجة الثانية: التسلط الناقص، وهذا يحصل لطائفتين:
الطائفة الأولى:
عصاة المسملين؛ الذين يتبعون خطوات الشيطان حتى يستزلهم بارتكاب ما حرم
الله أو ترك ما أوجب الله؛ فيحصل للشيطان بذلك نوع تسلط على العبد قد يحرمه
من خير كثير ويعرضه لفتنة وعذاب أليم ، كما قال الله تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} .
فانظر كيف كانت الذنوب السابقة سبباً تسلط به الشيطان عليهم حتى ارتكبوا كبيرة من الكبائر.
ولولا عفو الله عنهم
لهلكوا بسبب ذلك، لكن الله تعالى من رحمته أن فتح لعباده بابَ التوبة وجعل
للعباد ما يجبرون به تقصيرهم، ويكفرون به من سيئاتهم، ويعودون إلى حماية
الله وحفظه.
قال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ
يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
والمقصود أن الذي استزلّه الشيطان إنما كان سبب ذلك مخالفته لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
فمن عقوبة العاصي العاجلة
أنه يُعرّض بسبب معصيته لفتنة قد لا يوفّق فيها لاتباع هدى الله فيضل بذلك
ضلالاً أعظم من ضلاله الأول، ويعصي معصية أعظم من معصيته الأولى؛ فيعاقب
على ذلك عقوبة أشدّ من العقوبة الأولى؛ وهذا من الاستدراج، والعياذ بالله.
ولولا عفو الله تعالى ولطفه وكثرة ما يتجاوز به عنا ولا يؤاخذنا به؛ لحُرمنا من خير عظيم ولما تزكّت نفوسنا ولا تطهرت مما بها.
ومع هذا يجب على العبد أن
يكون شديد الحذر مما يعرضه لسخط الله تعالى، وأن يعظم خشية الله في قلبه،
ويتبع هداه؛ فيكون في أمان الله وضمانه؛ {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}.
والخلاصة أن هذه الطائفة
في هذه الدرجة وهي التسلط الناقص، على درجات متفاوتة لا يحصيهم إلا من
خلقهم؛ فمنهم من يعظم تسلط الشيطان عليه حتى يرهقه جداً، ومنهم من يصيبه من
ذلك تسلط وبلاء يذوق به عاقبة ما قصّر فيه من طاعة الله عز وجل وتجرأ على
غشيان ما حرم الله.
وأصحاب هذه الطائفة هم
عصاة المسلمين؛ فلا يتسلط الشيطان عليهم تسلطاً تاماً، ولا يسلمون منه
سلامة تامة؛ بل هم وإياه في تصارع وجهاد ؛ يقوى تسلطه عليهم ويضعف بقدر ما
فرّطوا فيه من اتباع هدى الله جل وعلا.
فما معهم من التوحيد والإسلام يمنعه من التسلط التام عليهم، وما في قلوبهم من حظ الشيطان باتباع خطواته سَببٌ لتسلط الشيطان عليهم.
الطائفة الثانية:
أهل البلاء من المؤمنين المتقين، وهؤلاء لا يتسلط عليهم الشيطان تسلطاً
تاماً، لأنهم أولياء الله تعالى، والله معهم يؤيدهم وينصرهم ما داموا على
ما يحب من الإيمان والتقوى، لكنهم قد يُبتلون ابتلاءً بأذية الشياطين
وكيدهم لينظر الله كيف يعملون، وهذا الإيذاء قد تقصر مدته وهو الغالب، وقد
تطول ، ويكون طوله إذا طال مع ملازمة الصبر والتقوى من علامات بلوغ أهله
مرتبة الإحسان.
والفرق بين هذه الطائفة والطائفة التي قبلها، أن تلك الطائفة يقع التسلط عليهم عقوبة لهم على تفريطهم في اتباع هدى الله.
وأما هذه الطائفة فيقع عليهم شيء من التسلط والأذى ابتلاء من الله عز وجل.
وإذا أردت التفصيل في ذلك فيقال: هذا الأذى الشيطاني على المؤمنين له أنواع، ولكل نوع أمثلته وأدلته وأحواله، وحسبنا في هذا المقام التعريف الموجز بذلك، وفهم يسير بإذن الله تعالى لظهور أدلته:
النوع الأول:
إيذاء بالفزع والتخويف ومحاولة الإضرار، يجعل الله لعباده المؤمنين معه
سبباً يعتصمون به من ذلك فلا يصيبهم منه ضرر، وإنما قد ينالهم شيء من الأذى
الذي يُحتمل ويذهب أثره من الخوف أو الفزع أو الرهبة التي تقتضيها بغتة
الموقف؛ ثم يزول ذلك.
ومن ذلك ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن كما
في مسند الإمام أحمد ومصنف ابن أبي شيبة وغيرهما من حديث أبي التياح قال:
سأل رجل عبد الرحمن بن خنبش رضي الله عنه وكان شيخاً كبيراً قد أدرك
النبي صلى الله عليه وسلم: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين
كادته الشياطين؟
قال: (جاءت
الشياطين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية، وتحدرت عليه من
الجبال، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم).
قال: (فرعب؛ جعل يتأخر).
قال: (وجاء جبريل عليه السلام؛ فقال: يا محمد قل).
قال: ((ما أقول؟)).
قال: (قل: ((أعوذ بكلمات
الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن
شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن
شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً
يطرق بخير يا رحمن)) ؛ فطفئت نار الشياطين وهزمهم الله عز و جل).
فهذه التعويذة نافعة لمن وجد شيئاً من أذى الشياطين وتبدّيهم له وتفلتهم عليه.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ عفريتاً من الجن تفلّت البارحة))، وفي رواية ((جاء يفتك بي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم ؛ فذكرت قول أخي سليمان: {رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي}؛ فرددته خاسئاً)).
وفي الباب أحاديث أخرى.
النوع الثاني:
أن يجد المسلم شيئاً من أذية الشياطين وتسلطهم عليه، وفي هذا الباب حديث
لعثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، وحديث لخالد بن الوليد أنه كان يفزع في منامه فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن عفريتاً من الجنّ يكيدك))؛ ثم علّمه تعويذة نحو تعويذة جبريل المذكورة في حديث أبي التياح.
وحديث خالد رجاله ثقات لكن فيه انقطاع يسير في أصل الإسناد.
ومثل هذا النوع يعرض لبعض أهل العلم وفي ذلك أخبار وآثار.
النوع الثالث: النزغات والهمزات والنفخات والنفثات التي تكون من الشياطين ويكون لها شرور وآثار تستوجب الاستعاذة بالله تعالى منها.
كما قال الله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}.
وقال: {وَقُلْ
لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ
بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}.
فالنزغ يستعاذ بالله من
شره، وقد هَدى الله عباده لأن يقولوا التي هي أحسن؛ فإن ذلك يذهب عنهم شراً
كثيراً من كيد الشيطان في النزغ بينهم.
وقال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون}
قال الإمام الشنقيطي:
(الهَمَزَات: جمع هَمْزَة وهي المرة من فعل الهمز، وهو في اللغة: النخس
والدفع، وهمزات الشياطين: نخساتهم لبني آدم ليحثّوهم ويحضوهم على المعاصي).
وفي مسند الإمام أحمد من حديث نافع بن جبير بن مطعمٍ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلاً. اللهم إنى أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)).
قال: قلت: (يا رسول الله ما هَمْزُه؟).
قال: ذكر كهيئة المُوتة ، يعنى يصرع.
قلت: (فما نفخه؟) قال: ((الكِبْر)).
قلت: (فما نفثه؟) قال: ((الشِّعْر)).
وروى الأمام أحمد أيضاً بإسناده إلى يحيى بن أبي كثير أنه قال: قال أبو سلمة [بن عبد الرحمن]: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: ((اللهم إنى أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه)) ).
قال: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)) ).
قالوا: (يا رسول الله! وما همزه ونفخه ونفثه؟).
قال: ((أما همزه فهذه الموتة التى تأخذ بنى آدم، وأما نفخه فالكبر، وأما نفثه فالشعر)).
جاء تفسير الهمز مسنداً ومرسلاً ، وموقوفاً على أبي سلمة بن عبد الرحمن وعمرو بن مرة وغيرهما بأنه المُوتة التي تأخذ بني آدم.
قال الزبيدي: (المُوتَةُ بالضَّمِّ: الغَشْىُ ، وفُتُورٌ في العَقْل ، والجُنُونُ؛ لأَنّه يَحْدُث عنه سُكونٌ كالمَوْتِ).
وقال أبو منصور الأزهري:
(قال أبو عبيد: المُوتَةُ : الجنون، سُمِّي هَمْزا لأنه جعله من النخسُ
والهمز والغمز، وكل شيء دَفَعته؛ فقد همزته.
وقال ابن شميل: المُوتة : الذي يُصرعُ من الجنون أو غيره ثم يفيقُ.
وقال اللحياني: المُوتَةُ شِبْه الغشية).
والخلاصة أن المُوتة لفظ
يقع على أشياء متعددة، وتكون الموتة في الجسد وفي الروح؛ فالموتة التي تأخذ
الروح يكون بسببها الغَشْي والجنون والصرع، والموتة التي تكون في الجسد
يكون بسببها فتور الجسد وخموله ووهنه.
ومن أسباب ذلك همز الشيطان، والعياذ بالله من همزه.
وأما النفخ فتفسيره بالكبر للتمثيل، وكل ما كان بسببه كبر أو عُجب أو فخرٌ أو نحوهما فهو من نفخ الشيطان.
ويكون له نفخ غير ذلك ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قينة غنَّت: ((لقد نفخ الشيطان في مِنَخريها)). رواه أحمد.
والقينة: هي الأَمَة المملوكة التي تُتَّخذ للتزيّن والغناء غالباً.
قال أَبو منصور الأزهري: (إِنما قيل للمُغنّية قَيْنةٌ إِذا كان الغناءُ صناعةً لها، وذلك من عمل الإِماء دون الحرائر).
وقال ابن مسعود: (إن
الشيطان ليطيف بالرجل في صلاته ليقطع عليه صلاته فإذا أعياه نفخ في دبره
فإذا أحس أحدكم من ذلك شيئا فلا ينصرفن حتى يجد ريحا أو يسمع صوتا). رواه عبد الرزاق والطبراني.
وروى ابن أبي شيبة نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما النفث فيكون بسببه
قول الشِّعْر الذي فيه إغواء للناس كما قال الله تعالى: {والشعراء يتَّبعهم
الغاوون} ، فما يلقيه الشيطان على قلوب بعض الشعراء وألسنتهم فيتكلمون به
ويعبّرون عنه هو من معاني نفث الشيطان، وقد نطق بذلك بعض الشعراء كما قال
الفرزدق في توبته المشهورة:
فالشعر السَّيِّء من نفث الشيطان، ولنفث الشيطان معانٍ أخرى وردت في النصوص وسبق بيان بعضها.
النوع الرابع: التسلط الذي قد يَعْظُمُ أثره ويطول أَمَدُه ويقصر بحسب ما يقدره الله عز وجل من ذلك، كما قال الله تعالى: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنُصْب وعذاب}. وقرأ يعقوب: {بنَصَب}.
وقال الفراء بأن النُّصْبَ والنَّصَب بمعنى واحد كالرُّشْد والرَّشَد، والمراد به: ما أصابه من العناء والضرر.
ومن هذا النوع ما يحصل
لبعض الصالحين من الابتلاء بالسحر والعين وتسلط الشياطين، وما يحصل لهم من
الآفات التي تُضعف أبدانهم ويتسلط عليهم الشيطان بأنواع من الأذى.
فهؤلاء إن قاموا بما أوجب
الله تعالى من الصبر والتقوى كان ذلك رفعة لهم واجتباء، ولم يضرهم كيد
عدوهم شيئاً، وإنما هو أذى يتأذون به، ويصاحبه من لطف الله عز وجل بهم،
وتيسيره ما يخفف عنهم البلاء، ثم تكون عاقبتهم حسنةً بإذن الله تعالى.
قال الله تعالى: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فجعل الإحسان يُنال بالصبر والتقوى.
والصبر الجميل هو الذي لا تسخط معه.
وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً}.
ومن كان سائرا في بلائه على هدى من الله ؛ فهو في أمان الله تعالى وضمانه حتى تحصل له العاقبة الحسنة، وقد قال الله تعالى: {فاصبر إن العاقبة للمتقين} وقال: {والعاقبة للتقوى}.
وهؤلاء لا يتمكن الشيطان
منهم تمكناً تاماً ما بقي معهم الإيمان بالله جل وعلا والعمل الصالح، ومهما
بلغ بهم الأذى فإن الله يجعل لهم مخرجاً وفرجاً، والله تعالى لا يديم
البلاء على عبده.
الدرجة الثالثة:
التسلط التام، والاستحواذ التام؛ وهذا هو تسلط الشيطان على أوليائه الذين
اتخذوه وليّا من دون الله جل وعلا، لأنهم اتبعوه وتولوه وأعرضوا عن ذكر
الله جل وعلا واتباع هداه حتى خرجوا من النور إلى الظلمات ، ومن ولاية الله
إلى ولاية الشيطان، ومن حزب الله إلى حزب الشيطان.
فكانوا بذلك من الخاسرين والعياذ بالله.
قال الله تعالى: {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبينا * يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}.
وقال تعالى: {قُلْ
أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ
إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}
فجعل سبب ضلالتهم أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله.
وهذا يبيّن لك خطورة اتباع خطوات الشيطان؛
لأنها قد تفضي بالعبد إلى أن يتولّى الشيطان فإذا تولّى الشيطان استحوذ
الشيطان عليه فصار وليّا من أولياء الشيطان، والعياذ بالله يصدّ عن سبيل
الله، ويعادي أولياء الله، ويؤذيهم ويبسط لسانه ويده في أهل الحق بالسوء؛
ويدعو إلى الباطل بقوله وعمله، ويسكت عن بيان الحق، فهو بهذه الأعمال
القبيحة قد صار ولياً للشيطان ومناصراً له، يحب ما يحبه الشيطان، ويبغض ما
يبغضه الشيطان، وإن لم يصرح بأنه يحب الشيطان بل ربما لعنه في الظاهر،
وأما في حقيقة الحال فمقاصده وأعماله هي مقاصد الشيطان وأعماله، وغايتهم
واحده إخراج الناس من النور إلى الظلمات، وصدهم عن سبيل الله عز وجل، وإن
كانوا يحسبون أنهم مهتدون.
فهذا بيان درجات تسلط الشيطان على الإنسان، وقد ثبت في النصوص أن الشيطان يوسوس وينزغ ويهمز وينفخ وينفث ويحضر العبد في شأنه كله.
وقد أمر الله بالاستعاذة من شر الشيطان وشركه.
وبهذا تعلم أن هذا الأذى كثير متعدد متنوع، وأنه لا يُعصم منه إلا من عصمه الله، وأنه لا أمان للعبد إلا بالإيمان والتوكل على الله جل وعلا.
وقد قال الله تعالى: {فإذا
قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على
الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم
به مشركون}.
فالمؤمنون المتوكلون على
ربهم لا تتسلط عليهم الشياطين بل هم في حفظ الله ورعايته، والله معهم
يؤيدهم ويهديهم وينصرهم حتى تكون لهم العاقبة الحسنة.
وبحسب ما يكون مع العبد من
تحقيق للإخلاص يعظم إيمانه ويعظم توكله على الله جل وعلا حتى يكون من
عباد الله المخلَصين وينال بذلك أعظم تحصين من كيد الشيطان الرجيم.
كما قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً}.
وقال في قسم الشيطان لربه لما أبى السجود لآدم: {قَالَ
رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْغَاوِينَ}
بل ربما بلغ العبد في كمال
الإيمان وصدق التوكل والقوة في الحق مبلغاً عظيماً حتى يفرّ منه الشيطان،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: ((والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قطّ سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك)). متفق عليه.
الفج: الطريق الواسع.
أصول في دفع كيد الشيطان
ويحسن بنا أن نذكّر بأصول عظيمة في هذا الباب
ينبغي للمؤمن أن يعتني بها ، ويفقهها حق الفقه، وهي مقررة في القرآن
العظيم أحسن تقرير وأبينه، فإياك ثم إياك أن تستهين بها؛ فإن الاستهانة بها قد توقع العبد في أنواع من العذاب الأليم والشقاء العظيم.
الأصل الأول: أن الشيطان عدو مبين؛ فهو بيّن العداوة كما قال تعالى: {إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبينا}،
وتعرف عداوة الشيطان للإنسان بما يأمر به ويزينه وبما يحاول أن يصد عنه؛
فإن العاقل يعرف الأمور بمقاصدها، كما نبه الله تعالى إلى ذلك بقوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، وقال: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم}، وقال: {إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}.
فكل ما يوسوس لك به الشيطان فغايته أن يأمرك بما فيه هلاكك وشقاؤك.
الأصل الثاني: أنه يجب علينا أن نتخذه عدواً كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}
فمن الناس من يعلم أن
الشيطان عدو لكنه لا يتخذه عدواً، بل ربما أنس لوساوسه وتزيينه الباطل
والمعاصي وصدق ما يغره به من زخرف القول؛ ومن الناس من يلقّنه الشيطان دعوى
التوبة بعد أن يقضي نهمته من شهواته، وهي شهوات تتزايد وتتوالد ولا يزال
العبد يتبع فيها خطوات الشيطان ويعرض عن ذكر الله حتى يضلّ ضلالا بعيداً
إلا أن يتداركه الله برحمة من عنده.
ولو تأملت أصل البلاء وجدته الاستهانة باتخاذ الشيطان عدواً.
الأصل الثالث: أن الله قد حرّم اتباع خطوات الشيطان كما قال تعالى في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر}.
وقال الله تعالى: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم}.
الأصل الرابع:
أنه لا ضمان للعبد ولا أمان له إلا أن يتبع هدى الله جل وعلا، كما قال
الله تعالى لما أهبط أبوينا وأهبط إبليس إلى الأرض عند بدء هذه الحياة
الدنيا: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}.
قال ابن جرير: (يقول: أنتما عدوّ إبليس وذرّيته، وإبليس عدوّكما وعدوّ ذرّيتكما).
الأصل الخامس:
أن اتباع هدى الله يفضي إلى العاقبة الحسنة، ومهما يكن على العبد من كيد
الشيطان ووسوسته وأذيته فإن العبد المؤمن يعان على ذلك ما دام متبعاً لهدى
الله جل وعلا على ما يستطيع {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، كما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}
، وهذا يدلك على يسر الشريعة وسماحتها، فلا يكن في صدر المبتلى حرج من
فوات بعض الأمور عليه، أو تعسر بعض الطاعات عليه؛ فإن ذلك إذا كان عن غير
تفريط ولا تقصير فإن نيته تبلغ ، وأجره يكتب له كأنه عمله، ولا يؤاخذ العبد
بما لا يطيق، وإن أطاقه غيره ممن هو في عافية من البلاء الذي هو فيه.
الأصل السادس:
أن الشيطان يحضر ابن آدم عند كل شيء من شأنه ؛ فله وسوسة في الشؤون كلها،
وقد ثبت في النصوص أن الشيطان يوسوس وينزغ ويهمز وينفخ وينفث، ويخوّف،
ويعد ويمنّي ويزيّن الشهوات المحرمة، ويثير الشبهات المحيرة، بل له تصرفات
في بعض أجساد الناس؛ كما صح أن التثاؤب من الشيطان، والحلم من الشيطان،
والاستحاضة من الشيطان، وصراخ الطفل إذا استهل من الشيطان، والغضب من
الشيطان، والعجلة من الشيطان، والالتفات في الصلاة اختلاس يختلسه الشيطان
من صلاة العبد، وأن الشيطان يوهم بعض الناس أنه خرج منه ريح وهو لم يخرج،
كما في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا كان في الصلاة جاءه
الشيطان فأبسّ به ، كما يبس الرجل بدابته ، فإذا سكن له أضرط بين إليتيه
ليفتنه عن صلاته ، فإذا وجد أحدكم شيئا من ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو
يجد ريحا لا يشك فيه)).
وورد أنه يبيت على خياشيم بني آدم، ويبول في آذان بعضهم إلى غير ذلك مما ورد من تصرفات الشيطان وما أقدره الله عليه.
بل قد يكون له تأثير على
الناس في تصرفاتهم، في منازلهم وسفرهم وذهابهم وإيابهم بسبب وسوسته ، كما
في سنن أبي داوود والنسائي من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: (كان الناس إذا نزلوا تفرقوا في الشعاب والأودية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن تفرقكم في الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان))؛ فلم ينزلوا بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض).
فالتصرفات التي تكون أقرب
إلى تحقيق مقاصد الشيطان من التفرق والتنازع والتنافر وإيذاء بعض الناس
لبعض؛ سببه نزغ الشيطان ووسوسته وتزيينه.
وقد ورد في النصوص أيضاً
بيان ما لا يقدر عليه الشيطان: فهو لا يفتح باباً مغلقاً، ولا يحلّ وكاءً،
ولا يكشف إناء، ولا يرى من يسمي إذا دخل الخلاء، ولا يأكل مع من يسمي عند
أكله، ولا يدخل مع من يسمي عند دخوله، ولا يشارك الرجل في أهله إذا سمى
عند الجماع.
ولا يتمثل في صورة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
الأصل السابع:
أن العبد لا يُعذر في مخالفته هدى الله جل وعلا فيما ينزغ له به الشيطان
فيطيعه على ذلك؛ كما في الصحيحين من حديث همام عن أبي هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار)).
وهذا دليل على أن نزغ
الشيطان لو كان عذراً للعبد لما أوجب له هذا العذاب؛ فمن خالف هدي النبي
صلى الله عليه وسلم ورفع السلاح على أخيه ولو مازحاً فنزغه الشيطان فأصاب
أخاه المسلم فلا ينفعه أن يقول: نزغني الشيطان.
وهكذا في سائر المسائل، لا يُعذر العبد بترك فريضة واجبة أو عمل محرم بحجة نزغ الشيطان له، ما دام العبد حاضر العقل مختاراً.
أما ما يفعله العبد في حال
رفع القلم عنه بذهاب العقل أو النوم أو كان مكرهاً أو معذوراً أو بنسيان
أو خطأ أو جهل يعذر في مثله فإن المؤاخذة ترتفع عنه إذا كان غير مفرط ولا
متعدّ.
الأصل الثامن:
أن الشيطان له مداخل للتسلط على الإنسان ينبغي للمؤمن أن يحترز منها:
كالغَضَبِ الشديدِ، والفَرَحِ الشَّديدِ، والانْكِبابِ على الشَّهواتِ،
والشُّذُوذِ عن الجماعةِ، والوَحْدةِ، ولا سِيَّما في السَّفَرِ، ونَقْلِ
الحديثِ بينَ الناسِ، وخَلْوةِ الرجُلِ بالمرأةِ، والظنِّ السَّيِّئِ،
وغِشْيانِ مَواضِعِ الرِّيَبِ.
وقد شُرِعت التسميةُ في
كلِّ شأنٍ من شُئونِ الإنسانِ لحُصولِ البَرَكةِ والحِفْظِ من كيدِ
الشيطانِ، فيُسَمِّي العبدُ إذا أكَلَ، وإذا شَرِبَ، وإذا دخَلَ
المَنْزِلَ، وإذا خَرَجَ منه، وإذا أَصْبَحَ، وإذا أمْسَى، وإذا رَكِبَ،
وإذا جَامَعَ، وإذا دخَلَ الخَلاءَ، وإذا أرادَ النَّوْمَ.
وفي صَحيحِ مُسلمٍ من حديثِ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضِي اللهُ عنه أن النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قال: ((إذا تَثَاءَبَ أحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ ما اسْتَطَاعَ؛ فإنَّ الشَّيْطانَ يَدْخُلُ في فِيهِ)).
وفي رِوَايةٍ لأحْمَدَ وعبدِ الرَّزَّاقِ: ((إذا تَثَاوَبَ أحَدُكم فَلْيَضَعْ يَدَهُ على فِيهِ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مع التَّثَاوُبِ)).
وقد سمعت بعض من تاب من
السحرة يخبر عن كيفية دخول الشيطان في جسد الإنسان؛ فقال: إنه يدخل مع
الشهيق السريع القوي، ولعله أخذ هذا عن بعض من كان يتعامل معهم من
الشياطين، وهو موافق لما في الحديث.
هذا، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله من الخطأ والتقصير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
تفسير قول الله تعالى: {الذي يوسوس في صدور الناس}
هذا فيه بيان محلّ الوسوسة ، والصدور محل القلوب التي هي أصل صلاح الجوارح وفسادها.
أي أن هذه الوسوسة محلها في الصدور، أو منتهاها إلى ما في الصدور.
قوله تعالى: {من الجنة والناس}
(من) بيانية ؛ لبيان أن الوسواس يكون من الجنة ويكون من الناس.
وهذا يبيّن أن الاستعاذة هنا تشمل الاستعاذة من كل وسواس خناس من الجنة ومن الناس .
وأن الوسوسة محلها في صدور الناس .
فهل تشمل وسوسة النفس ووسوسة شياطين الجن ووسوسة شياطين الإنس.
وتشمل أيضاً ما يوسوس به
الإنسان لغيره فإن العبد قد يوسوس لغيره فيأمره بمعصية الله فيجر بذلك على
نفسه وعلى أخيه المسلم شراً عظيماً يكون عليه وزره وتبعاته، وقد يتسلسل
هذا الوزر وتعظم تلك التبعات فربّما ترتّب على الوسوسة في الأمر الواحد
شروراً عظيمة.
فهي تشمل الاستعاذة من شر وسوسة غيره له ، وتشمل الاستعاذة من وسوسته لغيره.
وتشمل أيضاً الاستعاذة مما
يُوسوسُ به عنه؛ فإن العبد قد يوسوس عنه بأمور يكون بسببها ما يكون من
الشر أو حجب الخير فيؤثر ذلك عليه، ومبدأ ذلك وسوسة من الشياطين لغيره عنه.