13 Jul 2017
التحذير من القول في القرآن بغير علم
خطر القول في القرآن بغير علم
يجب
على المسلمين عامة وعلى طلاب علم التفسير خاصّة أن يحذروا أشدّ الحذر من
القول في القرآن بغير علم، فإنّ المتكلم في معاني القرآن إنما يتكلم في
بيان مراد الله تعالى بكلامه؛ فإن تكلّم في التفسير بما لا علم له به؛ فقد
كذب على الله، وقال عليه ما لا يعلم، وقفا ما ليس له به علم؛ وهذه ذنوب
عظيمة، وآثام كبيرة يجرّها على نفسه، ويضلّ بها الناس عن هدى الله؛ فيحمل
من أوزار الذين يضلّهم بغير علم إلى وزره، وقد اشتدّ الوعيد على من فعل ذلك
في نصوص الكتاب والسنّة: فقال الله تعالى: {قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ
مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (33)} فقرن القول عليه بغير علم بالشرك والبغي والفواحش. وقال تعالى: {فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ
بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) }
واللام في {ليضل}
فُسّرت بالتعليل وبالعاقبة، فالمتكلّم في التفسير بغير علم واقع في
المحذور حقيقة أو حكماً؛ لأن ما يقوله من القول الباطل على الله يصدّ عن
مراد الله ويضلّ الناس عن الهدى، وهو بهذا العمل القبيح ظالم لهم وظالم
لنفسه، وهو أشدّ ظلماً وأشنع جرماً ممن يضلّ الأعمى عن الطريق؛ لإنّ إضلال
الأعمى عن الطريق إنما قصاراه أن يهلك به الأعمى في الدنيا أو تصيبه آفة في
جسده وأمّا الذي يضلّ بسبب القائل في كتاب الله ودينه بغير علم فمصيبته في
دينه، وهي أعظم المصائب؛ لأنها قد تدخله النار أو تكون سبباً في عذاب أليم
يصيبه في الدنيا أو باباً لشرّ أعظم وفتنة أشدّ؛ وكم من مفتون بفهم خاطئ
ارتكب بسبب فهمه جريمة وهو يظنّ أنه يتقرّب بها إلى الله. وقال تعالى: {
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ
يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
(18)}. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)}. وقال تعالى: {
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}. تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من القول في القرآن بغير علم
والمتكلمون
في القرآن بغير علم لا بدّ أن يقع في كلامهم اختلاف وتناقض بسبب مجانبتهم
للحق قولاً وعملاً، والأهواء تولع بأصحابها وتحملهم على المراء والخصام،
والتفرّق والاختلاف، وسلوك سبل الهلاك، وقد اشتدّ تحذير النبي صلى الله
عليه وسلم من كلّ ذلك، ونهى عنه أشدّ النهي، وكان يرى عليه الغضب إذا رأى
شيئاً من الاختلاف في القرآن، والقول فيه بغير علم، وقد صح عنه صلى الله
عليه وسلم في هذا الباب أحاديث عدة.
1.
فقال أبو عمران الجوني: كتب إليَّ عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله
بن عمرو بن العاص، قال: هَجَّرْت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما،
قال: فسمع أصواتَ رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يُعْرَفُ في وجهه الغضب، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» رواه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والنسائي في السنن الكبرى، وغيرهم.
- وفي
رواية في مسند الإمام أحمد أيضاً من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم
يقل الله كذا وكذا؟! وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟!
فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال: ((بهذا
أُمرتم - أو بهذا بعثتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم
قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء انظروا الذي أُمرتم به
فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا)).
-
وفي رواية في فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام من طريقين عن عبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: صلينا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم الغداة، فتنحَّى ناس من أصحابه في بعض حُجَر أزواجه يقرأون
القرآن؛ فتنازعوا في شيء منه، وأنا منتبذ عنهم؛ فخرج عليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم مُغضباً؛ فقال: « إن القرآن يصدّق بعضه بعضا؛ فلا تكذبوا بعضه ببعض، ما علمتم منه فاقبلوه، وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه»
قال عبد الله بن عمرو: (فما اغتبطت نفسي بشيء اغتباطي بانتباذي عنهم إذ لم تصبني عُتبى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
2.
وقال محمد بن بشر: حدثنا حجاج بن دينار الواسطي، عن أبي غالب البصري، عن
أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم
يتنازعون في القرآن؛ فغضب غضباً شديداً حتى كأنما صب على وجهه الخلّ، ثم
قال صلى الله عليه وسلم:(( لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؛ فإنَّه ما ضلَّ قوم قطّ [بعد هدى كانوا عليه] إلا أوتوا الجدل))، ثم تلا: {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون}.
رواه ابن جرير في تفسيره بهذا السياق، وقد رواه ابن ماجة من هذا الطريق
مقتصراً على المرفوع وما بين المعكوفين منه، ورواه كذلك الإمام أحمد
والترمذي والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان كلهم من طرق عن حجاج بن دينار
به من غير ذكر سبب الحديث.
قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح إنما نعرفه من حديث حجاج بن دينار وحجاج ثقة مقارب الحديث، وأبو غالب اسمه: حَزَوَّر)ا.هـ.
ورواه
ابن جرير أيضاً والآجري في الشريعة من طريقين عن القاسم بن عبد الرحمن
الشامي، عن أبي أمامة قال: بينما نحن نتذاكر عند باب رسول الله صلى الله
عليه وسلم القرآن، ينزع هذا بآية وهذا بآية؛ فخرج علينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكأنما صُبَّ على وجهه الخل، فقال: «يا هؤلاء، لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه لم تضل أمة إلا أوتوا الجدل»
والقاسم بن عبد الرحمن الشامي يُضعَّف في الحديث.
3. وقال
بسر بن سعيد مولى ابن الحضرمي: حدثني أبو جهيم الأنصاري رضي الله عنه أن
رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسألا
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((القرآن يقرأ على سبعة أحرف؛ فلا تماروا في القرآن، فإن مراء في القرآن كفر)). رواه أحمد وأبو عبيد في فضائل القرآن والطحاوي في شرح مشكل الآثار والبغوي في شرح السنة وغيرهم.
وقد
روي في التحذير من المراء في القرآن أحاديث عن جماعة من الصحابة رضي الله
عنهم، منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن ثابت، وأبو هريرة رضي الله
عنهم أجمعين.
4. وقال عبد الله بن أبي مليكة: حدثني القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هو
الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما
الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله،
وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند
ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم.
ورواه ابن ماجه من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يا عائشة! إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فَهُم الذين عناهم الله؛ فاحذروهم ».
قال الترمذي: (وقد سمع [ابن أبي مليكة] من عائشة أيضاً).
5. وقال ابن جريج: أخبرني ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصِم ». رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم.
تنبيه:
وقد اشتهر في هذا الباب حديثان فيهما مقال من جهة الإسناد، ومن أهل العلم من حسّنهما واحتجّ بهما:
أحدهما:حديث عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من قال في القرآن بغير علمٍ فليتبوّأ مقعده من النّار» رواه أحمد والترمذي والنسائي في السنن الكبرى وابن جرير وغيرهم،
ومداره على عبد الأعلى الثعلبي، وهو غير متّهم بالكذب، لكنّه مُضَعَّف عند
أهل الحديث، ضعَّفه عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي.
قال أبو زرعة: ( ربما رفع الحديث وربما وقفه)، وقال النسائي: (ليس بالقوي، ويكتب حديثه).
وهذا الحديث لا يُعرف إلا من طريقه، وقد اختلفت ألفاظه، ولعله حدث به مراراً.
وهذا الحديث صححه الترمذي، واحتجّ به إسحاق بن راهوية، وجماعة من أهل العلم.
ورواه ابن أبي شيبة من طريق وكيع عن عبد الأعلى موقوفاً على ابن عباس.
ورواه
أبو يعلى من طريق أبي عوانة، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار، ومن قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار ».
وقد صححه ابن حجر في المطالب العالية، وعلته باقية، وهي تفرّد عبد الأعلى الثعلبي به.
والآخر: حديث
يعقوب بن إسحاق الحضرمي المقرئ قال: حدثنا سهيل بن مهران أخي حَزْم
القطعي، حدثنا أبو عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ». رواه الترمذي والنسائي في الكبرى والبيهقي في شعب الإيمان.
وهذا الحديث مداره على سهيل بن مهران، وقد قال فيه يحيى بن معين: صالح، وقال البخاري: (لا يتابع في حديثه، يتكلمون فيه) وقال أبو حاتم الرازي: (ليس بالقوي، يكتب حديثه).
وقد
تكلّم جماعة من أهل العلم في معنى هذا الحديث بما يتّبيّن به أنّ المراد
ذمّ القول بالرأي المجرّد من غير دليل ولا وجه في الاستدلال يصحّ الاجتهاد
فيه.
- فقال أبو عيسى الترمذي: (رُوي
عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في
هذا في أن يفسر القرآن بغير علم، وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما
من أهل العلم أنهم فسروا القرآن؛ فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو
فسروه بغير علم أو من قِبَل أنفسهم، وقد رُوي عنهم ما يدلّ على ما قلنا،
أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم)ا.هـ.
- وقال البيهقي في شعب الإيمان: (إنما
أراد - و الله أعلم - الرأي الذي يغلب على القلب من غير دليل قام عليه؛
فمثل هذا الرأي لا يجوز الحكم به في النوازل؛ فكذلك لا يجوز تفسير القرآن
به، وأما الرأي الذي يسنده برهان؛ فالحكم به في النوازل جائز وكذلك تفسير
القرآن به جائز)ا.ه.
- وقال ابن الأنباري: (حمل
بعض أهل العلم هذا الحديث على أن الرأي معني به الهوى، من قال في القرآن
قولا يوافق هواه، لم يأخذه عن أئمة السلف؛ فأصاب فقد أخطأ، لحكمه على
القرآن بما لا يعرف أصله، ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه). ذكره الخطيب البغدادي في كتاب "الفقيه والمتفقه".
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فمن
قال في القرآن برأيه؛ فقد تكلَّف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمر به؛
فلو أنَّه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من
بابه كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس
الأمر؛ لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ والله أعلم).ا.هـ.
- وقال ابن القيّم: (الرأي نوعان:
أحدهما: رأي مجرد لا دليل عليه، بل هو خرص وتخمين...
والثاني: رأي مستند إلى استدلال واستنباط من النص وحده أو من نص آخر معه، فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه)ا.هـ مختصراً.
تحذير الصحابة رضي الله عنهم من القول في القرآن بغير علم
وقد
عقلَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الوصايا النبوية الجليلة؛
فكانوا أشدّ الناس تعظيماً لكلام الله جلّ وعلا؛ وأحسنهم اتّباعاً لهداه،
وأشدّهم حذراً من المراء في القرآن، والقول فيه بغير علم، وأبعدهم عن
الاعتماد في فهمه وتفسيره على الرأي المجرّد والهوى، وأبصرهم بعاقبة
المخالفين للهدي النبوي في هذا الأمر العظيم، وأعظمهم نصحاً للأمة في
التحذير مما حُذّروا منه، وقد روي عنهم من الآثار في هذا الباب ما يدلّ
دلالة بيّنة على ذلك، ومن تلك الآثار:
1. ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم من طرق متعددة يشدّ بعضها بعضاً أنّه سُئل عن آية من كتاب الله عز وجل فقال: « أيَّة أرض تقلني، أو أيَّة سماء تظلني، أو أين أذهب، وكيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله بها؟! ».
رواه سعيد بن منصور في سننه من طريق ابن أبي مليكة عن أبي بكر، وهو وإن
لم يلقه إلا أنّ هذه المقولة قد رويت عن أبي بكر من طرق أخرى:
- فقال الشعبي: كان أبو بكرٍ يقول: «أي سماءٍ تظلني، وأي أرضٍ تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم » رواه ابن أبي شيبة.
- وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: قال أبو بكر الصديق: « أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت على الله ما لا أعلم » رواه مالك في الموطأ.
- ورواه أيضا ابن جرير الطبري من طريق إبراهيم النخعي عن أبي معمر الأزدي - وهو تابعي ثقة - عن أبي بكر.
فهذا الأثر رواه جماعة من ثقات التابعين عن أبي بكر رضي الله عنه.
2. وقال الزهري: حدثني أنس بن مالك، قال: قرأ عمر بن الخطاب: {فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا} فقال: كل هذا قد علمنا به فما الأب؟ ثم قال: هذا لعمر الله التكلف، اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه). رواه الطبراني في مسند الشاميين بهذا اللفظ، وأصله في صحيح البخاري.
3.
وقال العوام بن حوشب: حدثنا إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التميمي
قال: خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟
فأرسل إلى ابن عباس فقال: «كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؛ وقبلتها واحدة؟»
فقال ابن عباس: «يا
أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل، وإنه
سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي،
فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا».
قال: فزبره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال فعرفه، فأرسل إليه، فقال: «أعد علي ما قلت»
فأعاده
عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وسعيد بن
منصور في سننه، والبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب البغدادي في الجامع
لأخلاق الراوي وآداب السامع، ورجاله ثقات إلا أنّه أعلّ بالانقطاع بين
إبراهيم وعمر، ولعلّه سمعه من ابن عباس.
وقد
روى عبد الرزاق في مصنفه نحو هذا الخبر من طريق علي بن بَذِيمة الجزري، عن
يزيد بن الأصم العامري، عن ابن عباس، قال: قدم على عمر رجل، فجعل عمر
يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ منهم القرآن كذا وكذا،
فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه
المسارعة!
قال: فزبرني عمر ثم قال: «مه»
قال: فانطلقت إلى أهلي مكتئبا حزينا، فقلت: قد كنت نزلت من هذا الرجل منزلة، فلا أراني إلا قد سقطت من نفسه.
قال: فرجعت إلى منزلي، فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، وما هو إلا الذي تقبَّلني به عمر!
قال: فبينا أنا على ذلك أتاني رجل فقال: أجب أمير المؤمنين.
قال: خرجت فإذا هو قائم ينتظرني.
قال: فأخذ بيدي ثم خلا بي، فقال: «ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفا؟»
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت، فإني أستغفر الله وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت.
قال: «لتحدّثني بالذي كرهت مما قال الرجل»
فقلت:
يا أمير المؤمنين متى ما تسارعوا هذه المسارعة يحيفوا، ومتى ما يحيفوا
يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا.
فقال عمر: «لله أبوك، لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها»
وقد علّقه الإمام أحمد في رسالته إلى المتوكّل.
وهذا الخبر رجاله ثقات، وإسناده متّصل، ويزيد بن الأصمّ هو ابن خالة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
4. وروى مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (القرآن كلام الله؛ فمن قال فليعلم ما يقول؛ فإنما يقول على الله عزَّ وجلَّ). رواه البيهقي في شعب الإيمان، وفي رواية أخرجها في كتاب الأسماء والصفات له: «إن القرآن كلام الله تعالى؛ فمن كذب على القرآن فإنما يكذب على الله عز وجل ».
5. وروى إسماعيل بن أبي خالد، عن زبيد اليامي قال: قال عبد الله بن مسعود: « إن للقرآن منارا كمنار الطريق؛ فما عرفتم منه فتمسكوا به، وما شُبّه عليكم فكلوه إلى عالمه » رواه أبو عبيد والمستغفري في فضائل القرآن.
6. وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن معاذ بن جبل أنه قال: (إن للقرآن منارا كمنار الطريق لا يكاد يخفى على أحد، فما عرفتم فتمسّكوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه). رواه وكيع في الزهد، وأبو داوود في الزهد، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
7. وروى إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر الأحمسي، قال: قال حذيفة: « إن أقرأ الناس المنافق الذي لا يدع واوا ، ولا ألفاً، يلفت كما تلفت البقر ألسنتها، لا يجاوز ترقوته » رواه ابن شيبة في مصنفه، والفريابي في "صفة النفاق"، ولفظه: « إن من أقرأ الناس المنافق الذي لا يترك واوا ولا ألفا يلفته كما تلفت البقرةُ الخلا بلسانها ».
8. وقال يعقوب بن إبراهيم: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكَة؛ أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها). رواه ابن جرير.
9. وقال
ابن جريج: أخبرنا عبد الله ابن أبي مليكة قال: دخلت أنا وعبد الله بن
فيروز مولى عثمان بن عفان على عبد الله بن عباس ؛ فقال له ابن فيروز: يا
ابن عباس ، قول الله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة} الآية.
فقال ابن عباس: من أنت؟
قال: أنا عبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان.
فقال ابن عباس: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون}.
فقال له ابن فيروز: أسألك يا ابن عباس.
فقال ابن عباس: «أياماً سماها الله تعالى لا أدري ما هي، أكره أن أقول فيها ما لا أعلم»
قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتى دخلتُ على سعيد بن المسيب فسُئل عنها فلم يدر ما يقول فيها.
قال: فقلت له: ألا أخبرك ما حضرتُ من ابن عباس؟ فأخبرته؛ فقال ابن المسيب للسائل: (هذا ابن عباس قد اتَّقى أن يقول فيها وهو أعلم مني). رواه عبد الرزاق في تفسيره، ورواه أبو عبيد في فضائل القرآن من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة بلفظ مقارب.
10. وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: « لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم ». رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وابن أبي شيبة في مصنفه من طريقين عنه.
تحرّج السلف رضي الله عنهم من القول في القرآن بغير علم
وقد
سلك سلفنا الصالح سبيل الصحابة رضي الله عنهم في الحذر من القول في القرآن
بغير علم، وعقلوا عنهم ما وصَّوهم، فظهر ذلك في سمتهم وأقوالهم ووصاياهم:
1. قال هشيم بن بشير: حدثنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن مسروق، قال: ( اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله) رواه أبو عبيد.
2. وروى الأعمش عن أبي وائل أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن، قال: (قد أصاب الله ما أراد). رواه ابن أبي شيبة.
3. قال أبو خلف مروان بن خاقان الأصفر: كنت عند سعيد بن جبير جالساً فسأله رجل عن آية من كتاب الله؛ فقال سعيد: (الله أعلم).
فقال الرجل: قل فيها أصلحك الله برأيك!
فقال: أقول في كتاب الله برأيي!! فردد مرتين أو ثلاثا ولم يجبه بشيء. رواه البيهقي في شعب الإيمان.
4. وقال ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد، قال: (كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع). رواه ابن جرير.
5. وقال عبد الله بن أبي السفر: قال الشعبي: (والله ما من آية إلا قد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله). رواه ابن جرير.
6. وقال إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا جرير [بن عبد الحميد] عن بيان [بن بشر] عن عامر بن شراحيل الشعبي أنه قال: « من كذب على القرآن فقد كذب على الله » رواه أبو نعيم في الحلية.
7. وروى مالك بن مغول عن ابن حصين ، عن الشعبي أنه قال: « القرآن لا أفسّره؛ فإن الكاذب فيه لا ينتهي كذبه عن الله تعالى » رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
8. وقال إبراهيم النخعي: « كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه ». رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" والبيهقي في شعب الإيمان بمعناه.
9. وقال الحسن البصري: «من فسّر آيةً من القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وإن أخطأ محي نور تلك الآية من قلبه» رواه ابن بطة العكبري.
10. وقال حماد بن زيد: حدثنا عبيد الله بن عمر العُمَري قال: (لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليغلّظون القول في التفسير منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع). رواه الإمام أحمد في العلل، وابن جرير في تفسيره.
11. وروى ابن عون، عن عبد الله بن مسلم بن يسار، عن أبيه مسلم قال: (إذا حدثت عن الله حديثا فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده). رواه أبو عبيد.
12. وقال يحيى بن سليمان بن فضلة: سمعت مالك بن أنس يقول : (لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر إلا جعلته نكالا) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
الفرق بين القول في القرآن بغير علم وبين الاجتهاد في التفسير
ينبغي أن يفرّق بين
القول في القرآن بغير علم وبين الاجتهاد المشروع في التفسير؛ فالاجتهاد
القائم على أصول صحيحة وفي موارده الصحيحة لا حرج فيه؛ بل قد يجب في بعض
الأحوال على بعض أهل العلم لاقتضاء الحال جواباً لا بدّ من الاجتهاد فيه.
وإنما المراد بالقول في القرآن بغير علم ما كان عن تخرّص أو تكلّف أو مخالفة للسنة الصحيحة أو الإجماع.
ولذلك فإنّ من
اعتمد في تفسيره على مجرّد الرأي فهو مخطئ وإن أصاب القول الصحيح مصادفة،
لأنه أخطأ في سلوك السبيل الصحيح إليه، ومن اجتهد اجتهاداً مشروعاً فهو
مأجور وإن أخطأ؛ وخطؤه مغفور، لأنه سلك سبيل الاجتهاد الصحيح.
فالعالم بالتفسير إذا سُئل كان بين أربع حالات:
- إما أن يخبر بما يعلمه، وهذا هو الواجب في حقّه.
- وإما أن يكتم ما يعلمه، وهذه كبيرة من الكبائر.
- وإما أن يقول في القرآن بغير علم وهذه كبيرة أيضاً.
- وإما أن يكون لا علم له بما سُئل عنه فالواجب عليه الإمساك عن الجواب حتى يعلم ما يقول.
وقد روى الطبراني
في الكبير من طريق جويبر عن الضحاك بن مزاحم الهلالي قال: خرج نافع بن
الأزرق و ونجدة بن عويمر في نفر من رؤوس الخوارج لينقرون عن العلم ويطلبونه
حتى قدموا مكة فإذا هم بعبد الله بن عباس قاعدا قريبا من زمزم وعليه رداء
أحمر وقميص وإذا ناس قيام يسألونه عن التفسير، يقولون : يا ابن عباس ما
تقول في كذا وكذا؟ فيقول: هو كذا وكذا.
فقال له نافع بن الأزرق: ما أجرأك يا ابن عباس على ما تجريه منذ اليوم!!
فقال له ابن عباس: ثكلتك أمك يا نافع و عدمتك ألا أخبرك من هو أجرأ مني؟
قال: من هو يا ابن عباس؟
قال: رجل تكلم بما ليس له به علم ورجل كتم علما عنده.
قال: صدقت يا ابن عباس أتيتك لأسألك).
جويبر ضعيف الحديث، والضحاك لم يلق ابن عباس، وإنما أخذ عن بعض أصحابه.
وهذه العبارة صحيحة سديدة، لأنّ الذي يسأل عن علم فيكتمه أجرأ على ارتكاب الإثم ممن يُسأل فيجيب بما يعلم.
وقريب من جواب ابن
عباس جواب حذيفة بن اليمان رضي الله عنه؛ لما قال عمر للصحابة رضي الله
عنهم في مجلسه في الحجّ: يا أصحاب محمد أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه و
سلم يذكر الفتنة ؟ فقال حذيفة : أنا فقال عمر : إنك لجريء قال : (أجرأ مني من كتم علما). رواه الطبراني بهذا اللفظ، وأصل الخبر في الصحيحين.
قال شيخ الإسلام
ابن تيمية بعد أن ذكر جملة من الآثار في تحرج السلف من القول في القرآن
بغير علم: (فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على
تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به. فأما من تكلم بما يعلم من
ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه؛ ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير،
ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على
كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل
عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}، ولما جاء في الحديث المروي من طرق: " من سئل عن علم فكَتَمَه أَُلْجِم يوم القيامة بلجام من نار)ا.هـ.
أصناف القائلين في القرآن بغير علم:
القائلون في القرآن بغير علم على أصناف:
الصنف الأول:
الذين لا يؤمنون بالقرآن أصلاً من كفرة أهل الكتاب والمشركين فهؤلاء إنما
يقولون فيه ما يقولون ليصدّوا عنه، وليحاولوا مغالبته، وإيجاد شيء من
الاختلاف فيه، والقدح في صحته ودلالته على الهدى، وقد أنزل الله في أهل هذا
الصنف آيات بينات تدلّ على عظيم جرمهم، وشدة العذاب الذي تُوعّدوا به.
- قال الله تعالى: {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا
فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا
دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)}
- وقال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ
يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ
خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}.
- وقال تعالى: {وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)}.
- وقال تعالى في كفرة أهل الكتاب: {وَلَوْلَا
أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا
رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ
وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ
عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ
يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا
وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ
بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (50)}.
على أحد القولين في تفسير هذه الآيات وسبب نزولها.
الصنف الثاني:
المنافقون الذين يظهرون الإيمان بالقرآن، ويسعون في إثارة الشبهات، ولَبْس
الحقّ بالباطل، والمجادلة بالمتشابه منه لإبطال دلالة المحكم، وصدّ الناس
عن الهدى بعد إذ جاءهم.
وقد ورد في التحذير من مجادلة المنافقين بالقرآن أحاديث وآثار صحيحة مضى ذكر بعضها، ومنها:
- ما رواه عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النوّاس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا
تجادلُوا بالقُرْآن، ولا تكذِّبُوا كتابَ اللهِ بعضَه ببعْضٍ؛ فو الله!
إنّ المؤمنَ لَيجادلُ بالقرآن فيُغلَبُ وإنّ المنافقَ لَيجادلُ بالقرآن
فيَغلِبُ) رواه الطبراني في مسند الشاميين، وصححه الألباني.
- وقال درّاج أبو السمح: حدثني أبو قبيل المعافري أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « أتخوف على أمتي ثنتين يتبعون الشهوات ويؤخرون الصلوات، والقرآن يتعلمه المنافقون يجادلون به الذين آمنوا» رواه الإمام أحمد، والبخاري في خلق أفعال العباد والطبراني في الكبير.
دراج متكلّم فيه لكن تابعه الليث بن سعد عند ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وابن لهيعة عند أبي يعلى الموصلي في مسنده.
-
وقال حبيب بن صالح: سمعت ثابت بن أبي ثابت، يحدث عن عبد الله بن معانق
الأشعري، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي عامر الأشعري، رضي الله عنه عن نبي
الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر لهم المال فيتشاحّوا ويقتتلوا، ويفتح لهم القرآن فيقرأه البر والفاجر والمنافق فيجادل المؤمن {ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به}،والناس
في القرآن ثلاثة فرجل يقرأه بلسانه ولا يصوغ إلى الحنجرة فهو له إصر وعذاب
وعقاب، ورجل يقرأه فخرا ورياء ليأكل به في دنياه فليس له يوم القيامة شيء،
ورجل يأخذه بالسكينة فهو حجة يوم يلقى ربه عز وجل » رواه ابن أبي عاصم.
- قال زياد بن حُدَير الأسدي: قال لي عمر: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟»
قال: قلت: لا.
قال: «يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين» رواه ابن المبارك في الزهد، والدارمي في مسنده، وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء.
وفي رواية عند ابن بطة العكبري في الإبانة قال عمر: (إن
أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: جدال المنافق بالقرآن لا يخطئ واوا ولا ألفا
يجادل الناس أنه أجدل منهم ليضلهم عن الهدى، وزلة عالم، وأئمة المضلين).
- وقال إياس بن عامر: أخذ علي بن أبي طالب بيدي، ثم قال: (إنك إن بقيت سَيَقرأ القرآن ثلاثةُ أصناف: فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدنيا، ومن طلب به أدرك). رواه الدارمي.
- وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سَلِمة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: (كيف أنتم عند ثلاث: دنيا تقطع رقابكم، وزلة عالم، وجدال منافق بالقرآن؟)
فسكتوا؛ فقال معاذ بن جبل: (أما
دنيا تقطع رقابكم، فمن جعل الله غناه في قلبه فقد هُدي، ومن لا فليس
بنافعته دنياه، وأما زلة عالم؛ فإن اهتدى فلا تقلّدوه دينكم، وإن فتن فلا
تقطعوا منه أناتكم، فإن المؤمن يفتن ثم يفتن ثم يتوب، وأما جدال منافق
بالقرآن، فإن للقرآن منارا كمنار الطريق لا يكاد يخفى على أحد، فما عرفتم
فتمسّكوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه). رواه وكيع في الزهد، وأبو داوود في الزهد، والطبراني في الأوسط، أبو نعيم في الحلية، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
- وروى جعفر بن حيان، عن الحسن قال: قال أبو الدرداء: «إن مما أخشى عليكم زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منار كأعلام الطريق» رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
- وروي نحو ذلك عن ابن مسعود وسلمان الفارسي وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين.
الصنف الثالث:أهل
البدع الذين يتّبعون أهواءهم، ويعرضون عن السنة واتّباع سبيل المؤمنين من
الصحابة والذين اتّبعوهم بإحسان، ويتبعون المتشابه، ويخوضون في آيات الله
بغير علم ولا هدى.
وقد صحّ في التحذير منهم أحاديث وآثار.
- منها حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» متفق عليه، وقد مضى قريباً.
-
وقال عبد الرّحمن ابن أبي الزّناد: سمعت هشامًا، يحدّث عن عبد اللّه بن
الزّبير، قال: لقيني ناسٌ من أهل العراق فخاصموني في القرآن فواللّه ما
استطعت بعض الرّدّ عليهم، وهبت المراجعة في القرآن، فشكوت ذلك إلى أبي
الزّبير، فقال الزّبير: « إنّ القرآن قد قرأه كلّ
قومٍ فتأوّلوه على أهوائهم، وأخطأوا مواضعه، فإن رجعوا إليك، فخاصمهم بسنن
أبي بكرٍ وعمر رحمهما اللّه، فإنّهم لا يجحدون أنّهما أعلم بالقرآن منهم،
فلمّا رجعوا، فخاصمتهم بسنن أبي بكرٍ وعمر فواللّه ما قاموا معي ولا
قعدوا». رواه ابن بطة في الإبانة.
- وقد مضى ذكر وصية علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهم لما بعثه لمناظرة الخوارج.
- وقال محمّد بن عليٍّ ابن الحنفيّة: «لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنّهم الّذين يخوضون في آيات اللّه»رواه ابن بطة في الإبانة.
- وقال محمد بن سيرين: (إنّ أسرع النّاس ردّةً أهل الأهواء، وكان يرى أنّ هذه الآية نزلت فيهم: {وإذا رأيت الّذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره}) رواه ابن بطة.
- وقال الفضيل بن عياضٍ: «لا تجادلوا أهل الخصومات فإنّهم يخوضون في آيات اللّه» رواه اللالكائي.
- وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي رحمه الله مرة أخرى سئل عن القرآن، فقال: (كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، ولا تخاصموا، ولا تجالسوا من يخاصم).
- وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: (باب من في تأول القرآن، أو تدبره، وهو جاهل بالسنة:
أهل
البدع أجمع أضربوا عن السنن وتأولوا الكتاب على غير ما بينت السنة، فضلوا
وأضلوا، نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة برحمته)ا.هـ.
الصنف الرابع:
المتكلّفون الذين يقفون ما ليس لهم به علم، ويقولون في تفسير كلام الله بما
لا دليل عليه، ولا حاجة تستدعي الاجتهاد فيه، وإنما يتكلّفون تقحّم تلك
المسائل من غير حاجة ولا حُجَّة، ولا يستفيدون بتكلفهم علماً صحيحاً، ولا
عملا صالحاً. وقد قال الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)}
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (لا أسألكم على القرآن أجرا تعطوني شيئا، وما أنا من المتكلفين أتخرص وأتكلف ما لم يأمرني الله به). رواه ابن جرير.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كنا عند عمر فقال: (نُهينا عن التكلف) رواه البخاري.
وروي نحوه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه.
وقال مسروق بن الأجدع: دخلنا على عبد الله بن مسعود
فقال: (يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم
فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله عز وجل لنبيه صلى
الله عليه وسلم { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}). رواه البخاري.
وسبب قوله هذا أنه بلغه قول في مسألة في التفسير؛ فأرشد من بلغه علم صحيح أن يقول به، ومن لم يبلغه علم فلا يتكلّف ما لا علم له به.
ومن التكلف في التفسير أن يقول المرء فيه ما لا مدخل
للاجتهاد فيه، ولا دليل عليه، وما هو خلاف مقصود إنزال القرآن، وقد تكلّف
متكلفون في مسائل التفسير وعلوم القرآن الكريم؛ فكان ما أثاروه من مسائل
تكلفوا فيها من أسباب شيوع بعض الأقوال الخاطئة في التفسير، والافتتان بعض
الأهواء.
وقد نبّه جماعة من أئمة المفسرين على تكلّف بعض المتكلفين في التفسير، وبيّنوا أخطاءهم.
وقد قيل: لو سكت من لا يعلم لقلّ الخلاف.
والتكلف مذموم، لأنّ المتكلف يضع نفسه في موضع لم
يُكلّف به، وإنما تكلّفه هو من تلقاء نفسه، وقد نُهي عن التكلّف، فيخذل
ويوكل إلى نفسه، فيعرّضها للقول في القرآن بغير علم، وإثارة الشُّبه
واللغط، فيأثم من حيث كان يحتسب الأجر، ويخفض نفسه من حيث أراد رفعتها،
وإنما أعنت نفسه في غير منفعة ولا أجر.
ولذلك اشتدّ حذر السلف الصالح من التكلّف في التفسير، وسلكوا في التفسير سبيل العلم المنقول الصحيح، أو الاجتهاد في موارده الصحيحة.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والعلم إما نقل مصدَّق عن
معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا؛ فإما مزيف مردود، وإما
موقوف لا يُعلم أنه بهرج ولا منقود)ا.هـ.
الصنف الخامس: المتعالمون المتشبّعون بما لم يُعطوا
والمتعالمون خطرهم على الأمّة عظيم، وضررهم كبير، لأنّهم يُظهرون أنفسهم في
مظهر العلماء، ويتكلمون بلسانهم، ويستعملون شيئاً من أدواتهم، ويتكلّمون
بالغرائب وما يدهش الناس ويبهرهم لفتا لأنظارهم وجذباً لاهتمامهم، حتى
يصدّروا أنفسهم ويصدّرهم من يغترّ بهم؛ فيظنّهم العامّة علماء؛ فتروج
أقاويلهم وأكاذيبهم .
ومن المتعالمين من يؤتى جدلاً وذكاء وتصرفاً في الكلام، وربما كان واعظاً
ومتحدّثا بارعاً؛ لكنَّ وعظَه وعظٌ على جهل وخطأ، فلا يميّز فيه بين صحيح
وضعيف، ولا بين موافق للمقاصد الشرعية ولا مخالف لها، ولا يتورّع عن القول
في القرآن وتفسيره بغير علم ولا تثبّت ولا سؤال لأهل العلم.
والمتعالمون في التفسير كثير، وبليّة الأمّة بهم عظيمة، لأنّهم يصرفون من
يصدّقهم عن اتباع الهدى الذي جاءت به الآيات إلى غرائب ومناكير وربما بدع
وضلالات، لا تدلّ عليها الآيات التي يفسّرها، ويغيب عنه وعن من يصدّقه
مخالفة تلك الغرائب للأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، ولقواعد الشريعة
العامة، ولمنهج أهل العلم في التلقي والاستدلال.
ومن الغرائب الحديثة في هذا الزمن دعوى أحد المتعالمين في التفسير ممن لا
يبالي بالسنة ولا أقوال العلماء، وإنما يفسّر القرآن برأيه المجرد وما
يتّفق له من التلفيقات التي يغرّ بها العامّة ومن لا معرفة له بالتفسير.
فدعا في بعض غرائبه إلى التعبّد بالصمت ثلاثة أيام لاكتساب "طاقة الصمت" ،
وزعم أنّ هذه الطاقة لها أثر مجرّب على كثيرين، واستدلّ بقصة صمت زكريا
عليه السلام المذكور في قول الله تعالى: {قال آيتك ألا تكلّم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} !!
والتعبد بالصمت بدعة، وقد نهى عنه النبي ﷺ، ففي سنن أبي داوود ومعجم
الطبراني وسنن البيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حفظت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يُتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل ».
وروى عبد الرزاق نحوه عن جابر مرفوعاً.
قال أبو سليمان الخطابي: (كان أهل الجاهلية من نسكهم
الصمات ، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت ولا ينطق فنهوا عن
ذلك وأمروا بالذكر والنطق بالخير)ا.هـ.
وصمت زكريا عليه السلام لم يكن اختيارياً ولم يكن عن مطلق الكلام ، وإنما
كان عن مخاطبة الناس، وهي آية جُعلت له بأنه لا يستطيع أن يكلّم الناس
ثلاثة أيام وهو سوي صحيح من غير آفة تصيبه كما قال الله تعالى: {آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا}.
قال مجاهد: (صحيحا لا يمنعك من الكلام مرض).
وقال عبد الرحمن بن زيد: (حبس لسانه، فكان لا يستطيع أن يكلم أحدا، وهو في ذلك يسبح، ويقرأ التوراة ويقرأ الإنجيل، فإذا أراد كلام الناس لم يستطع أن يكلمهم)ا.هـ.
و(لا) في (ألا تكلم) نافية، وليست ناهية.
وقد ذكر ابن تيمية في مواضع من كتبه أن من طرق الصوفية وبدعهم في رياضة النفوس الصمتُ أياماً.
فانظروا كيف أدّى قول هذا المتعالم في القرآن بغير علم إلى تلبيس اغترّ به
كثيرون، وسعوا في نشر قوله معجبين به، ومنهم من تعبّد بهذه البدعة اتباعا
لقوله وتصديقاً له، حتى رأيت بعض من تخرّج في كليات شرعية معجباً بقوله
هذا، مشاركاً في نشره، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.
ثم فسّر في مجلسه ذلك قول الله تعالى: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام}
بأنه إرشاد لمن خرج من بيته أو أي مكان أن يلتفت إلى القبلة التفاتة يسيرة
ثم يذهب لشأنه، وزعم أن هذه الالتفاتة تكسبه طاقة هائلة وسعادة غامرة، وأن
الآية أرشدت إليها!!
وهذا القول المبتدع في تفسيرالآية قد يغرّ من لا يعرف تفسيرها؛ فيقع في البدع والضلالات، وسوء فهم معنى الآية.
والعجيب أنه يذكر في المجلس الواحد عدداً من الأقوال الخاطئة المبتدعة
والاستدلالات الغريبة المستنكرة وهو مسترسل كأنما يقرأ من ورقة؛ فقد يغترّ
بأقواله من لا معرفة له بالتفسير من براعته في الحديث واسترساله وتلبيسه.
والمتعالم متكلّف لكن التفريق بين الصنفين تفريق أنواع، لأنّ التكلّف قد
يقع من بعض المعروفين بالعلم في بعض المسائل، وهو خطأ مذموم.
الصنف السادس: الجُهَّال الذين لا يتورّعون عن القول في القرآن وتفسيره بغير علم تخرّصا منهم وتعجلاً وجهلاً.
وهذا أمر ملاحظ على بعض العامّة هداهم الله؛ يُسأل أحدهم عن معنى الآية؛
فيستنكف أن يقول: لا أدري، ويقول في الآية بما يتفق له، ومنهم من يجرّه
الحديث إلى آية فيتكلّم في تفسيرها بظنّه وتخرصه، وقد يكون رجلاً له قدره
عند أهل ذلك المجلس فيعتقدون صحّة قوله.
وقد حدثنا شيخنا ابن عثيمين رحمه الله أنّ رجلا سمّى ابنه "نكتل"، وزعم أنّه اسم مذكور في القرآن؛ واستدل لذلك بقول الله تعالى: {قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)}.
وينبغي
لطالب العلم أن ينكر القول في القرآن بغير علم، وإذا رأى من أحد جسارة
على القول في القرآن بغير علم أن يعظه، ويذكّره بالله، وبخطر الجراءة على
تفسير كلامه، وإذا تبيّن له أنّه جاهل إنما أخطأ عن جهل لا تعصّب لباطل ولا
اتّباع لهوى؛ فليتلطّف له في البيان، ويبصّره بخطئه، ويرشده إلى الصواب.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، وتجاوز عنا ما كان من خطأ وزلل، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.