19 Jan 2015
تفسير
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ
ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ
مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا
تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (20)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال: {إنّ ربّك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي اللّيل ونصفه وثلثه وطائفةٌ
من الّذين معك} أي: تارةً هكذا، وتارةً هكذا، وذلك كلّه من غير قصدٍ منكم،
ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام اللّيل؛ لأنّه يشقّ
عليكم؛ ولهذا قال: {واللّه يقدّر اللّيل والنّهار} أي: تارةً يعتدلان،
وتارةً يأخذ هذا من هذا، أو هذا من هذا، {علم أن لن تحصوه} أي: الفرض الّذي
أوجبه عليكم {فاقرءوا ما تيسّر من القرآن} أي: من غير تحديدٍ بوقتٍ، أي:
ولكن قوموا من اللّيل ما تيسّر. وعبّر عن الصّلاة بالقراءة، كما قال في
سورة سبحان: {ولا تجهر بصلاتك} أي: بقراءتك، {ولا تخافت بها}
وقد استدلّ أصحاب الإمام أبي حنيفة، رحمه اللّه، بهذه الآية، وهي قوله:
{فاقرءوا ما تيسّر من القرآن} على أنّه لا يتعيّن قراءة الفاتحة في
الصّلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآيةٍ، أجزأه؛ واعتضدوا
بحديث المسيء صلاته الّذي في الصّحيحين: "ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من
القرآن".
وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصّامت، وهو في الصّحيحين أيضًا: أنّ
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة
الكتاب" وفي صحيح مسلمٌ، عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم قال: "كلّ صلاةٍ لا يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهي خداج، فهي خداج، فهي
خداج، غير تمامٍ". وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تجزئ صلاة
من لم يقرأ بأمّ القرآن".
وقوله: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل
اللّه وآخرون يقاتلون في سبيل اللّه} أي: علم أن سيكون من هذه الأمّة ذوو
أعذارٍ في ترك قيام اللّيل، من مرضى لا يستطيعون ذلك، ومسافرين في الأرض
يبتغون من فضل اللّه في المكاسب والمتاجر، وآخرين مشغولين بما هو الأهمّ في
حقّهم من الغزو في سبيل اللّه وهذه الآية -بل السّورة كلّها-مكّيّةٌ، ولم
يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النّبوّة، لأنّه من باب الإخبار
بالمغيّبات المستقبلة. ولهذا قال: {فاقرءوا ما تيسّر منه} أي: قوموا بما
تيسّر عليكم منه. قال
ابن جريرٍ: حدّثنا يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، عن أبي رجاءٍ محمّدٍ، قال:
قلت للحسن: يا أبا سعيدٍ، ما تقول في رجلٍ قد استظهر القرآن كلّه عن ظهر
قلبه، ولا يقوم به، إنّما يصلّي المكتوبة؟ قال: يتوسّد القرآن، لعن اللّه
ذاك، قال اللّه تعالى للعبد الصّالح: {وإنّه لذو علمٍ لما علّمناه} [يوسف:
68]
{وعلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} قلت: يا أبا سعيدٍ، قال اللّه: {فاقرءوا ما تيسّر من القرآن}؟ قال: نعم، ولو خمس آياتٍ.
وهذا ظاهرٌ من مذهب الحسن البصريّ: أنّه كان يرى حقًّا واجبًا على حملة
القرآن أن يقوموا ولو بشيءٍ منه في اللّيل؛ ولهذا جاء في الحديث: أنّ رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن رجلٍ نام حتّى أصبح، فقال: "ذاك رجلٌ
بال الشّيطان في أذنه". فقيل معناه: نام عن المكتوبة. وقيل: عن قيام
اللّيل. وفي السّنن: "أوتروا يا أهل القرآن." وفي الحديث الآخر: "من لم
يوتر فليس منّا".
وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكرٍ عبد العزيز، من الحنابلة، من إيجابه قيام شهر رمضان، فاللّه أعلم.
وقال الطّبرانيّ: حدّثنا أحمد بن سعيد بن فرقدٍ الجدّي، حدّثنا أبو [حمة]
محمّد بن يوسف الزّبيديّ، حدّثنا عبد الرّحمن، [عن محمّد بن عبد اللّه] بن
طاوسٍ -من ولد طاوسٍ-عن أبيه، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى
اللّه عليه وسلّم: {فاقرءوا ما تيسّر منه} قال: "مائة آيةٍ".
وهذا حديثٌ غريبٌ جدًّا لم أره إلّا في معجم الطّبرانيّ، رحمه اللّه.
وقوله: {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة} أي: أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم،
وآتوا الزّكاة المفروضة. وهذا يدلّ لمن قال: إنّ فرض الزّكاة نزل بمكّة،
لكنّ مقادير النّصب والمخرج لم تبين إلّا بالمدينة. واللّه أعلم.
وقد قال ابن عبّاسٍ، وعكرمة، ومجاهدٌ، والحسن، وقتادة، وغير واحدٍ من
السّلف: إنّ هذه الآية نسخت الّذي كان اللّه قد أوجبه على المسلمين أوّلًا
من قيام اللّيل. واختلفوا في المدّة الّتي بينهما على أقوالٍ كما تقدّم.
وقد ثبت في الصّحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لذلك
الرّجل: "خمس صلواتٍ في اليوم واللّيلة". قال: هل عليّ غيرها؟ قال: "لا
إلّا أنّ تطوّع".
وقوله تعالى: {وأقرضوا اللّه قرضًا حسنًا} يعني: من الصّدقات، فإنّ اللّه
يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره، كما قال: {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضًا
حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً} [البقرة: 245].
وقوله: {وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه هو خيرًا وأعظم
أجرًا} أي: جميع ما تقدّموه بين أيديكم فهو [خيرٌ] لكم حاصلٌ، وهو خيرٌ
ممّا أبقيتموه لأنفسكم في الدّنيا.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصليّ: حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا جريرٌ، عن
الأعمش، عن إبراهيم، عن الحارث بن سويد قال: قال عبد اللّه: قال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: "أيّكم ماله أحبّ إليه من مال وارثه؟ ". قالوا: يا
رسول اللّه، ما منّا من أحدٌ إلّا ماله أحبّ إليه من مال وارثه. قال:
"اعلموا ما تقولون". قالوا: ما نعلم إلّا ذلك يا رسول اللّه؟ قال: "إنّما
مال أحدكم ما قدّم ومال وارثه ما أخّر".
ورواه البخاريّ من حديث حفص بن غياثٍ، والنّسائيّ من حديث أبي معاوية، كلاهما عن الأعمش، به.
ثمّ قال تعالى: {واستغفروا اللّه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} أي: أكثروا من
ذكره واستغفاره في أموركم كلّها؛ فإنّه غفورٌ رحيمٌ لمن استغفره). [تفسير القرآن العظيم: 8/258-260] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (20) {إِنَّ
رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ
يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ
سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً
وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ}.
ذَكَرَ اللَّهُ في أوَّلِ هذه السورةِ أنَّه أَمَرَ رَسولَه بقِيامِ نصْفِ
الليلِ أو ثُلُثِه أو ثُلُثَيْهِ، والأصْلُ أنَّ أُمَّتَه أُسوةٌ له في
الأحكامِ، وذَكَرَ في هذا الْمَوْضِعِ أنه امْتَثَلَ ذلك هو وطائفةٌ معَه
مِن المُؤمنِينَ.
ولَمَّا كانَ تَحريرُ الوَقْتِ المأمورِ بهِ مَشَقَّةً على الناسِ، أَخْبَرَ أنَّه سَهَّلَ عليهم في ذلك غايةَ التسهيلِ فقالَ: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}؛ أي: يَعْلَمُ مَقادِيرَهما وما يَمْضِي منهما ويَبْقَى.
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ}؛
أي: لَنْ تَعرِفُوا مِقدارَه مِن غيرِ زِيادةٍ ولا نقْصٍ؛ لِكَوْنِ ذلكَ
يَسْتَدْعِي انتباهاً وعَناءً زائداً؛ أي: فخَفَّفَ عنكم وأَمَرَكم بما
تَيَسَّرَ عليكم، سواءٌ زَادَ على الْمُقَدَّرِ أو نَقَصَ.
{فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}؛ أي: مِمَّا تَعْرِفُونَ، وممَّا لا يَشُقُّ عليكم.
ولهذا كانَ الْمُصَلِّي بالليلِ مَأْموراً
بالصلاةِ ما دامَ نَشِيطاً، فإذا فَتَرَ أو كَسِلَ أو نَعَسَ
فلْيَسْتَرِحْ؛ ليَأْتِيَ الصلاةَ بطُمَأْنِينَةٍ ورَاحةٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ بعضَ الأسبابِ الْمُناسِبَةِ للتخفيفِ فقالَ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}
يَشُقُّ عليهم صلاةُ ثُلُثَيِ الليلِ أو نِصْفِه أو ثُلُثِه، فلْيُصَلِّ
المريضُ الْمُتَسَهَّلَ عليه, ولا يكونُ أيضاً مَأموراً بالصلاةِ قائماً
عندَ مَشَقَّةِ ذلك، بل لو شَقَّتْ عليه الصلاةُ النافلةُ فله تَرْكُها،
وله أَجْرُ ما كانَ يَعْمَلُ صَحيحاً.
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ}؛
أي: وعَلِمَ أنَّ مِنكم مُسافِرِينَ يُسافِرونَ للتجارةِ، ليَسْتَغْنُوا
عن الخَلْقِ ويَتَكَفَّفُوا عن الناسِ؛ أي: فالمُسافِرُ حالُه تُناسِبُ
التخفيفَ؛ ولهذا خُفِّفَ عنه في صلاةِ الفَرْضِ، فأُبِيحَ له جَمْعُ
الصلاتَيْنِ في وَقْتٍ واحدٍ، وقَصْرُ الصلاةِ الرُّباعيَّةِ.
وكذلك {آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فذكَرَ تعالى تَخفيفيْنِ:
تَخفيفاً للصحيحِ الْمُقيمِ يُراعِي فيه
نَشاطَه، مِن غيرِ أنْ يُكَلَّفَ عليه تحريرُ الوقْتِ، بل يَتَحَرَّى
الصلاةَ الفاضلةَ، وهي ثُلُثُ الليلِ بعدَ نصْفِه الأوَّلِ.
وتَخفيفاً للمريضِ أو المسافِرِ، سواءٌ كانَ سَفَرُه للتجارةِ أو لعِبادةٍ مِن قِتالٍ أو جِهادٍ، أو حَجٍّ أو عُمْرةٍ ونحوِ ذلك.
فإنَّه أيضاً يُرَاعِي ما لا يُكَلَّفُه،
فلِلَّهِ الحمْدُ والثَّناءُ الذي ما جَعَلَ على الأُمَّةِ في الدِّينِ مِن
حَرَجٍ، بل سَهَّلَ شَرْعَه ورَاعَى أحوالَ عِبادِه ومَصَالِحَ دِينِهم
وأَبدانِه ودنياهم.
ثُمَّ أَمَرَ العِبادَ بعِبادتيْنِ هما أُمُّ
العِباداتِ وعِمادُها: إقامةِ الصلاةِ التي لا يَسْتَقِيمُ الدِّينُ إلاَّ
بها، وإيتاءِ الزكاةِ التي هي بُرهانُ الإيمانِ، وبها تَحْصُلُ الْمُواساةُ
للفقراءِ والمساكينِ.
ولهذا قالَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} بأَرْكَانِها وشُروطِها ومُكَمِّلاتِها، {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}؛
أي: خالِصاً لوجْهِ اللَّهِ، مِن نِيَّةٍ صادِقَةٍ، وتَثْبِيتاً مِن
النفْسِ ومالٍ طَيِّبٍ، ويَدخُلُ في هذا الصدَقَةُ الواجبةُ
والمُستحَبَّةُ.
ثم حَثَّ على عُمومِ الخيرِ وأفعالِه فقالَ: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً}
الحسنةُ بعَشْرِ أمثالِها إلى سبعِمائةِ ضِعْفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ,
ولِيُعْلَمَ أنَّ مِثقالَ ذَرَّةٍ مِن الخيرِ في هذه الدارِ يُقابِلُه
أضعافُ أضعافِ الدنيا وما عليها في دارِ النَّعيمِ الْمُقيمِ مِن
اللَّذَّاتِ والشَّهَوَاتِ، وأنَّ الخيرَ والْبِرَّ في هذه الدنيا مادَّةُ
الخيرِ والْبِرِّ في دارِ القَرارِ، وبَذْرُهُ وأَصْلُه وأساسُه.
فَوَاأَسَفَاهُ على أوقاتٍ مَضَتْ في
الغَفَلاَتِ،، ووَاحَسْرَتاهُ على أزمانٍ تَقَضَّتْ بغيرِ الأعمالِ
الصالحاتِ، ووَاغَوْثَاهُ مِن قلوبٍ لم يُؤَثِّرْ فيها وَعْظُ بَارِئِها
ولم يَنْجَعْ فيها تَشويقُ مَن هو أَرْحَمُ بها منها!
فلكَ اللَّهُمَّ الحمْدُ وإليكَ المُشْتَكَى، وبِكَ الْمُسْتَغَاثُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ.
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وفي الأمْرِ بالاستغفارِ بعدَ الْحَثِّ على أفعالِ الطاعةِ والخيرِ فائدةٌ
كبيرةٌ؛ وذلك أنَّ العبدَ ما يَخْلُو مِن التقصيرِ فيما أُمِرَ به، إمَّا
أنْ لا يَفعَلَه أصْلاً أو يَفْعَلَه على وجْهٍ ناقِصٍ، فأُمِرَ بتَرقيعِ
ذلك بالاستغفارِ؛ فإنَّ العبْدَ يُذْنِبُ آناءَ الليلِ والنهارِ، فمتى لم
يَتَغَمَّدْهُ اللَّهُ برَحْمَتِه ومَغْفِرَتِه فإنه هالِكٌ). [تيسير الكريم الرحمن: 894-895] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (20-{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ}
المعنى: أنَّ اللهَ يَعلمُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
يَقومُ أقَلَّ مِن ثُلُثَيِ الليلِ أَحياناً, ويَقومُ نِصفَه, ويَقومُ
ثُلثَه.
{وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} أيْ: وتَقومُ ذلك القدْرَ معك طائفةٌ مِن أصحابِكَ.
{وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أيْ: يَعلَمُ مَقاديرَ الليلِ والنهارِ على حقائقِها، فيَعلمُ القدْرَ الذي تَقُومُونَه مِن الليلِ.
{عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أنْ لن تُطِيقُوا علْمَ مَقادِيرِ الليلِ والنهارِ على الحقيقةِ. وقيلَ: المعنى: عَلِمَ اللهُ أنكم لن تُطِيقُوا قِيامَ الليلِ.
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ}
أيْ: فعادَ عليكم بالعَفْوِ، ورَخَّصَ لكم في ترْكِ القِيامِ إذ
عَجَزْتُم, فرَجَعَ بكم مِن التثقيلِ إلى التخفيفِ, ومِن العُسْرِ إلى
اليُسْرِ.
{فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أيْ: فاقْرَؤُوا في الصلاةِ بالليلِ, أو في غيرِ الصلاةِ, ما خَفَّ عليكم وتَيَسَّرَ لكم منه مِن غيرِ أنْ تَرْقُبُوا وَقتاً.
وهذه الآيةُ نَسختْ قِيامَ الليلِ، والأحاديثُ الصحيحةُ الْمُصَرِّحَةُ بقولِ السائلِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:هل علَيَّ غيرُها؟ يَعنِي الصلواتِ الخمسَ، فقالَ:((لاَ, إِلاَّ أَن تَطَّوَّعَ)) تَدُلُّ على عدَمِ وُجوبِ غيرِها، فارْتَفَعَ بهذا وُجوبُ قِيامِ الليلِ وصلاتِه عن الأُمَّةِ.
{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى} فلا يُطيقونَ قِيامَ الليلِ.
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} أيْ: يُسافرون فيها للتجارةِ والأرباحِ يَطلبونَ مِن رِزْقِ اللهِ ما يَحتاجونَ إليه في مَعاشِهم، فلا يُطيقونَ قِيامَ الليلِ.
{وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
يَعْنِي المجاهدينَ لا يُطيقونَ قِيامَ الليلِ، ذكَرَ سُبحانَه ههنا
ثلاثةَ أسبابٍ مُقتضيةٍ للترخيصِ، فرَفَعَه عن جميعِ الأُمَّةِ لأجْلِ هذه
الأعذارِ التي تَنوبُ بعضَهم.
{فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} يَعنِي المفروضةَ.
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} يعني الواجبةَ في الأموالِ. وقيلَ: كلَّ أفعالِ الخيرِ.
{وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أيْ: أَنْفِقُوا في سبيلِ الخيرِ مِن أموالِكم إنفاقاً حَسَناً, بالنفَقَةِ على الأهلِ وفي الجهادِ والزكاةِ المفتَرَضَةِ.
{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} أيَّ خيرٍ كان، مما ذُكِرَ ومما لم يُذْكَرْ.
{تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}
مما تُؤَخِّرُونَه إلى عندَ الموتِ، أو تُوصُونَ به ليُخْرَجَ بعدَ
مَوْتِكم، ويَحْتَمِلُ أنَّ المرادَ: خيرٌ مما تُنْفِقُونَه في حياتِكم أو
يَبْقَى تَرِكَةً بعدَ وَفاتِكم.
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} لذُنُوبِكم, فإنكم لا تَخْلُونَ مِن ذُنوبٍ تَقتَرِفُونَها، {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أيْ: كثيرُ المغْفِرَةِ لِمَن استَغْفَرَه, كثيرُ الرحمةِ لِمَن استَرْحَمَه). [زبدة التفسير: 574-575]
تفسير
قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ
ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ
مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا
تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (20) )
* للاستزادة ينظر: هنا