24 Aug 2015
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) }
تفسير
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ
كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي
إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا
الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا
أيّها الّذين آمنوا كونوا أنصار اللّه كما قال عيسى ابن مريم للحواريّين
من أنصاري إلى اللّه قال الحواريّون نحن أنصار اللّه فآمنت طائفةٌ من بني
إسرائيل وكفرت طائفةٌ فأيّدنا الّذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين (14)
}
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار اللّه في جميع أحوالهم،
بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا للّه ولرسوله، كما
استجاب الحواريّون لعيسى حين قال: {من أنصاري إلى اللّه}؟ أي: معيني في الدّعوة إلى اللّه عزّ وجلّ؟ {قال الحواريّون} -وهم أتباع عيسى عليه السّلام-: {نحن أنصار اللّه}
أي: نحن أنصارك على ما أرسلت به وموازروك على ذلك؛ ولهذا بعثهم دعاةً إلى
النّاس في بلاد الشّام في الإسرائيليّين واليونانيّين. وهكذا كان رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول في أيّام الحجّ: "من رجلٌ يؤويني حتّى
أبلّغ رسالة ربّي، فإنّ قريشًا قد منعوني أن أبلّغ رسالة ربّي" حتّى قيّض
اللّه عزّ وجلّ له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه، وشارطوه
أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلمّا هاجر إليهم بمن معه
من أصحابه وفوا له بما عاهدوا اللّه عليه؛ ولهذا سمّاهم اللّه ورسوله:
الأنصار، وصار ذلك علمًا عليهم، رضي اللّه عنهم، وأرضاهم. وقوله: {فآمنت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرت طائفةٌ}
أي: لمّا بلّغ عيسى ابن مريم عليه السّلام رسالة ربّه إلى قومه، ووازره من
وازره من الحواريّين، اهتدت طائفةٌ من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلّت
طائفةٌ فخرجت عمّا جاءهم به، وجحدوا نبوّته، ورموه وأمّه بالعظائم، وهم
اليهود -عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة-وغلت فيه طائفةٌ ممّن
اتّبعه، حتّى رفعوه فوق ما أعطاه اللّه من النّبوّة، وافترقوا فرقا وشيعا،
فمن قائلٍ منهم: إنّه ابن اللّه. وقائلٍ: إنّه ثالث ثلاثةٍ: الأب، والابن،
وروح القدس. ومن قائلٍ: إنّه اللّه. وكلّ هذه الأقوال مفصّلةٌ في سورة
النّساء.
وقوله: {فأيّدنا الّذين آمنوا على عدوّهم} أي: نصرناهم على من عاداهم من فرق النّصارى، {فأصبحوا ظاهرين} أي: عليهم، وذلك ببعثة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، كما قال الإمام أبو جعفر بن جريرٍ رحمه اللّه.
حدّثني أبو السّائب، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال -يعني ابن
عمرٍو-عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: لمّا أراد
اللّه عزّ وجلّ أن يرفع عيسى إلى السّماء، خرج إلى أصحابه وهم في بيتٍ اثنا
عشر رجلًا من عينٍ في البيت، ورأسه يقطر ماءً، فقال: إنّ منكم من يكفر بي
اثنتي عشر مرّةً بعد أن آمن بي. قال: ثمّ قال: أيّكم يلقى عليه شبهي فيقتل
مكاني، ويكون معي في درجتي؟ قال: فقام شابٌّ من أحدثهم سنًّا فقال: أنا.
قال: فقال له: اجلس. ثمّ أعاد عليهم، فقام الشّابّ فقال: أنا. فقال له:
اجلس. ثمّ عاد عليهم فقام الشّابّ، فقال: أنا. فقال: نعم، أنت ذاك. قال:
فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى عليه السّلام من روزنة في البيت إلى
السّماء، قال: وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا شبهه فقتلوه وصلبوه، وكفر به
بعضهم اثنتي عشرة مرّةً بعد أن آمن به، فتفرّقوا فيه ثلاث فرقٍ. فقالت
فرقةٌ: كان اللّه فينا ما شاء، ثمّ صعد إلى السّماء. وهؤلاء اليعقوبية.
وقالت فرقةٌ: كان فينا ابن اللّه ما شاء، ثمّ رفعه إليه وهؤلاء
النّسطوريّة، وقالت فرقةٌ كان فينا عبد اللّه ورسوله ما شاء اللّه ثمّ رفعه
إليه، وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل
الإسلام طامسًا حتّى بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم، {فآمنت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرت طائفةٌ} يعني: الطّائفة الّتي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطّائفة الّتي آمنت في زمن عيسى، {فأيّدنا الّذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين} بإظهار محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم دينهم على دين الكفّار {فأصبحوا ظاهرين}
هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة. وهكذا رواه النّسائيّ عند
تفسير هذه الآية من سننه، عن أبي كريب عن محمّد بن العلاء، عن أبي معاوية،
بمثله سواءً.
فأمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم لا يزالون ظاهرين على الحقّ، حتّى يأتي
أمر اللّه وهم كذلك، وحتّى يقاتل آخرهم الدّجّال مع المسيح عيسى ابن مريم
عليه السّلام، كما وردت [بذلك] الأحاديث الصّحاح، واللّه أعلم).[تفسير القرآن العظيم: 8/113-114]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (14) ثم قالَ تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ}؛
أيْ: بالأقوالِ والأفعالِ، وذلكَ بالقيامِ بدِينِ اللَّهِ، والحِرْصِ على
تَنفيذِه على الغَيْرِ، وجِهادِ مَن عانَدَه ونابَذَه بالأبدانِ والأموالِ،
ومَن نَصَرَ الباطلَ بما يَزْعُمُه مِن العلْمِ، ورَدَّ الحقَّ بدَحْضِ
حُجَّتِه، وإقامةِ الْحُجَّةِ عليه والتحذيرِ منه.
ومِن نَصْرِ دِينِ اللَّهِ تَعَلُّمُ كتابِ
اللَّهِ وسُنَّةِ رَسولِه، وتَعليمُه والحثُّ على ذلك، والأمرُ بالمعروفِ
والنَّهْيُ عن الْمُنْكَرِ.
ثم هَيَّجَ اللَّهُ المؤمنِينَ بالاقتداءِ بِمَن قَبْلَهم مِن الصالحِينَ بقولِه: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إلى اللَّهِ}؛ أيْ: قالَ لهم مُنَبِّهاً: مَن يُعَاوِنُني ويَقومُ معي في نَصْرِ دِينِ اللَّهِ، ويَدخُلُ مَدْخَلِي ويَخرُجُ مَخرَجِي؟
فابْتَدَرَ الْحَوارِيُّونَ فقالوا: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}، فمَضَى عِيسَى عليه السلامُ على أمْرِ اللَّهِ ونَصْرِ دِينِ اللَّهِ هو ومَن معَه مِن الْحَوارِيِّينَ.
{فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ بسَبَبِ دَعْوةِ عِيسَى والْحَوارِيِّينَ.
{وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} منهم، فلم يَنْقَادُوا لدَعوتِهم، فجَاهَدَ المؤمنونَ الكافرِينَ؛ {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ}؛ أيْ: قَوَّيْنَاهُم ونَصَرْناهم عليهم، {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} عليهم قاهِرِينَ لهم.
فأنتم يا أُمَّةَ محمَّدٍ, كونوا أَنصارَ
اللَّهِ ودُعاةَ دِينِه؛ يَنْصُرْكم اللَّهُ كما نَصَرَ مَن قَبْلَكم،
ويُظْهِرْكم على عَدُوِّكُم.
تَمَّ تَفسيرُها، والحمدُ لِلَّهِ ربِّ العالَمِينَ). [تيسير الكريم الرحمن: 861-862]
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (14- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} أيْ: دُومُوا على ما أنتم عليه مِن نُصرةِ الدِّينِ.
{كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي: انْصُرُوا دِينَ اللهِ مِثلَ نُصرةِ الْحَوَارِيِّينَ لَمَّا قالَ لهم عيسى: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ} فقالوا: {نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ} والمعنى:
مَن مِنكم يَتَوَلَّى نَصْرِي وإعانتِي فيما يُقَرِّبُ إلى اللهِ.
والحوارِيُّون هم أنصارُ المسيحِ وخُلَّصُ أصحابِه، وأوَّلُ مَن آمَنَ به
وكانوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً.
{فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ} بعيسى.
{وَكَفَرَتْ} به {طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} أيْ: قَوَّيْنَا الْمُحِقِّينَ منهم على الْمُبْطِلِينَ.
{فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أيْ:" عالينَ غالبينَ.
وأخْرَجَ عبدُ الرزَّاقِ وعبدُ بنُ حُميدٍ عن قَتادةَ في قولِه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} قالَ: قد كان ذلك بحَمْدِ اللهِ: جاءَه سبعونَ رَجُلاً فبَايَعُوه عندَ العقَبَةِ، وآوَوْهُ ونَصَرُوه حتى أَظهَرَ اللهُ دِينَه.
وأَخْرَجَ ابنُ إسحاقَ وابنُ سَعْدٍ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للنفَرِ الذينَ لَقُوهُ بالعَقَبَةِ: ((أَخْرِجُوا
إِلَيَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنكُمْ يَكُونُونَ كُفَلاَءَ عَلَى قَوْمِهِمْ،
كَمَا كَفَلَتِ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)). ثم قالَ رسولُ اللهِ للنُّقَبَاءِ: ((إِنَّكُمْ كُفَلاَءُ عَلَى قَوْمِكُمْ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلُ قَوْمِي)). قالوا: نعم). [زبدة التفسير: 552-553]
* للاستزادة ينظر: هنا