29 Aug 2018
سِيَر أعلام المفسّرين
من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين
تمهيد:
الحمد لله
الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء، وأقامهم على معالم دينه أدلاء، فبين بهم
السبيل، وهدى بهم السائرين، وأقام بهم الحجة، وجعلهم أئمة يهدون بأمره لما
صبروا وكانوا بآياته يوقنون، فقضوا حياتهم في صبر ويقين ، وتعلم وتعليم ،
وجهاد لإعلاء الدين، بذلوا لله حياتهم ؛ فهاجرت إليه قلوبهم، وساروا في
الطريق مشمرين، عاقدين العزم على بلوغ الغاية، وإن بعدت الشقة، وعظمت
المشقة، وجرت عليهم محن وابتلاءات فيها للسائلين عبر وآيات، أبانت عن ثبات
ويقين، وإيمان وتسليم، واتباع للهدى المستقيم، فشكر الله سعيهم، ورفع
ذكرهم، وأودع محبتهم في قلوب أوليائه، يحبونهم ويدعون لهم بخير، ما تطاول
بهم الزمان، وتناءى عنهم المكان، فآثارهم مذكورة ، وآلاؤهم مشكورة، وسيرهم
نبراس للمؤتسين، ولا تزال سنة الله ماضية، والأحداث متشابهة ، ولهم علينا
فضل السبق والفوز، ونحن -طلاب العلم- لا نزال في دار الابتلاء ولا ندري ما
يختم لنا به، وما سبق علينا به الكتاب، نسأل الله تعالى أن نكون ممن سبقت
لهم منه الحسنى ، وأن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وألا يكلنا إلى
أنفسنا طرفة عين ، فلا يكاد يبتلى أحدنا بأمر إلا وقد ابتلي بأعظم منه بعض
الصالحين قبلنا، فكيف صنعوا حتى نجوا ؟! ، وكيف أبقى الله لنا أخبارهم عبرة
وذكرى، وتثبيتاً وسلوى ؟!
حتى إن أحدنا ليشتد به الأمر حتى تضيق نفسه وتضيق به أرضه، فما هو إلا أن
يقرأ سيرة علم من الأعلام فإذا به قد تعرض لبلاء أشد من بلائه، فصبر فيه
صبراً أعظم من صبره، وظفر من خير الدنيا والآخرة بثواب لا يحد، وفضل لا
يستقصى {إن هذا لهو الفضل المبين}
فتصحو نفسه من سكرتها، وتثوب من غفلتها، وتعلم أن السنة ماضية، والأمر جد،
وسوق الوعد والوعيد قائم، ورياح التوفيق والخذلان تتناوشه من حيث يدري ولا
يدري، {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}.
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: (سبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على
الكتب التي تخلفت من المصنفات فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم
وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة،
وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا ترى فيهم ذا همة عالية فيقتدي
به المبتدئ ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد، فالله الله، وعليكم بملاحظة
سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، والاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية
لهم)
وروى البيهقي في شعب الإيمان عن أحمد بن سعيد الدارمي قال: سمعت من علي بن
المديني كلمة أعجبتني، قرأ علينا حديث الغار ثم قال: (إنما نقلت إلينا هذه
الأحاديث لنستعملها لا لنتعجب منها).
وروى البيهقي أيضاً في شعب الإيمان عن عبد الله بن محمد بن منازل قال: سئل حمدون القصار: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟!
قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضى الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفس وطلب الدنيا وقبول الخلق.
وقال حمدون القصار أيضاً فيما نقله الشاطبي في الاعتصام: (من نظر في سير السلف عرف تقصيره ، وتخلفه عن درجات الرجال).
فقراءة سير السلف الصالح من العلماء وأئمة الدين تثبت السائرين، وتشحذ
عزائم المتهاونين، وتبصر الإنسان بمعرفة قدر نفسه، فتعينه على مداواة ما في
نفسه من آفات لو استمرت به لأضرته وربما أردته من العجب والغرور والوهن
والفتور، واستصعاب معالي الأمور، وكم من سيرة استنزلت عَبرة، وأورثت عِبرة،
وتسلى بها محزون، وتبصر بها غافل فتذكّر وانتفع.
وإن من مهمّ ما يحتاجه طالب كلّ علم أن يتعرّف سير أعلامه من العلماء
الأجلاء الذين قام بهم عموده، واستنار بهم سبيله، تعلّموه فأحسنوا تعلّمه،
ورعوه حقّ رعايته، وأدّوا أمانة تبليغه؛ فرفع الله درجتهم، وشرّف منزلتهم،
فمن رام أن يُعدّ منهم وأن يُحشر في زمرتهم؛ فليسلك سبيلهم، وليتدرّج
مدارجهم، وليتعرّف سيرهم وأخبارهم، فإذا عرفهم حقّ المعرفة، وتبصّر بهديهم
وآثارهم أحبّهم حبّ الغريب المشتاق لأهله، وارتبط بهم ارتباط الفرع بأصله،
ومتى صحّت المحبّة قويت العزيمة، وهانت الصعاب، وشمّر المحبّ عن ساعد
الجدّ، فسار على دربهم، واهتدى بهديهم، والتحق بزمرتهم.
وقد عقدت لطلاب برنامج
إعداد المفسّر دورة مطوّلة في تدارس سير أعلام المفسّرين من الصحابة
والتابعين وتابعي التابعين؛ كان غرضها الأكبر تعرّف طرائقهم في تعلّم
التفسير وتعليمه، وأسباب رفعتهم وبركة علمهم، وأن نعرف من أخبارهم وآثارهم
ما يبصّرنا في أمور ديننا، ويعرّفنا بسبيل النجاة فيما يعترضنا من الفتن،
ويثبّت محبّتهم في قلوبنا رجاء أن يشملنا قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(المرء مع من أحبّ).
ثمّ رأيت مراجعتها
وتهذيبها وتتميمها لتخرج في كتاب كبير يكون مرجعاً شاملاً لسير هؤلاء
الأعلام، والعزيمة معقودة بإذن الله تعالى على عمل مختصر له يتمكن الطالب
من دراسته في مدّة وجيزة.
والله المستعان وبه التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا به.
مقاصد دراسة سير أعلام المفسرين :
من مقاصد دراسة سير أعلام المفسرين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين أن يتبصّر طالب علم التفسير بأحوال الطبقة العليا من أئمة المفسرين، وأن يعرف قدراً صالحاً من سيرهم وأخبارهم وآثارهم وطرقهم في تعلّم التفسير وتعليمه، وحرصهم على الاهتداء بهدى القرآن، وأخذه بقوّة، وحسن التذكير بالقرآن، وإفادة طلاب العلم والعامّة بما فقهوه من معاني كلام الله تعالى.
وأن يتبيّن الآثار السلوكية لما تعلّمه الصحابة رضي الله عنهم من معاني القرآن، وكيف كان هذا العلم حياة لقلوبهم ونوراً لدروبهم، وعُدّة لهم في الفتن والمحن، وميراثاً نافعاً خلّفوه لمن بعدهم.
وقد حمل علمَ التفسير بعد الصحابة رضي الله عنهم أئمة من التابعين؛ فكانوا خير قرن حمل هذا العلم بعد الصحابة؛ وأقربهم منهم فقهاً وعلماً وهدياً وسمتاً، وتجلّى للمتوسّمين في سيرهم وأخبارهم ما ينبغي أن يكون عليه حامل القرآن والعالم بمعانيه؛ وما يجب أن تثمر فيه تلك المعارف من السّمت والثبات والسلوك بتوفيق الله تعالى.
وانظر كيف أعلى الله درجاتهم، ورفع ذكرهم، فمضت مئات السنين، والناس ينتفعون بعلمهم، ويذكرون فضلهم، ويثنون عليهم، ويدعون لهم بخير، وما نالوا ذلك إلا بإحسانهم اتّباع الصحابة رضي الله عنهم؛ واجتنابهم ما يخالف هديهم، وهكذا ينبغي أن نكون في هذا القرن؛ فالسعيد الموفّق من أحسن اتّباعهم، والشقي المفتون من اتّبع غير سبيلهم.
وانظر بعد ذلك إلى أحوال قومٍ يدّعون أنّهم يأتون في تفسير القرآن بما لم يعرفه الصحابة رضي الله عنهم ولا من بعدهم من التابعين، وليس هو من طريقتهم، ولا يرجع إلى شيء من أصولهم، كالذين يتكلفون تفسير القرآن بمناهج خاطئة، وطرق واهية، يكون في بعض ما يذكرون ما يفتن الناس من حق قليل مغمور في باطل كثير، لا يفيد يقينا ولا يهدي سبيلاً، وغاية ما يريدون أن يصلوا إليه الإبهارُ والإدهاش بما عرفوه من دقائق المسائل التي تدلّ بزعمهم على إعجاز القرآن، ويغفلون عن مقاصده العظمى، وإذا فُتّش كثير مما ذكروه وُجد فيه خطأ كثير؛ فأشغلوا الناس بطرقهم ومناهجهم وأوجه عنايتهم عن ورود المنهل الصافي العذب الذي يفيد اليقين، ويهدي إلى الحق، ويجد المؤمن فيه من دلائل الإصابة والتوفيق، وحسن الأثر على قلبه ونفسه ما يتبيّن به أنه هو المنهج الحقّ في تعلّم تفسير كتاب الله تعالى.
وكلّ علم يُؤخذ عن أئمّته، ولا ينبغي أن يكون لدى طالب علم التفسير أدنى تردد في اعتقاد أن هؤلاء الأعلام من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأرضاهم هم الطبقة العليا من أئمة المفسّرين، وأنّ من اتّبع سبيلهم، وسار على منهاجهم، واهتدى بهديهم أصاب الطريق الصحيح الموصل إلى العاقبة الحسنة والفوز العظيم.
وأن من اتّبع غير سبيلهم واهتدى بغير هديهم ضلّ وفُتن، ولو وجد مما يغرّه ويظنّه صواباً أموراً مبهرة ومدهشة؛ فليس العبرة في العلم بالإبهار والإدهاش، فإن المسيح الدجال يأتي بأشدّ ما يبهر الناس ويدهشهم، وإنما العبرة بإصابة الحق الذي أراده الله، واتّباع الهدى الذي أمر الله به.
فمن عرف المقصد الأعظم من إنزال القرآن الكريم تبيّن له أنّ الصحابة رضي الله عنهم خير من أدرك هذا المقصد، وخير من اعتنى به وسعى لتحقيقه.
فوائد دراسة سير أعلام المفسّرين:
لدراسة سير أعلام المفسرين في القرون الفاضلة فوائد جليلة سبقت الإشارة إلى بعضها وهذا تلخيصها:
1: أنها تعرّف بفضل أولئك الأعلام الأجلاء؛ فيعرف الطالب قدرهم، ومنزلتهم، وسابقتهم في الدين، وإمامتهم في التفسير؛ فإذا بلغه بعد ذلك تفسيرهم من طريق صحيح عرف قدره وأحسن تلقّيه.
2: أنها تبصّره بما لاقوه في سبيل تحصيل ما حصّلوه من العلم، وما امتازوا به من خصال كانت سبباً في رفعتهم وحسن تحصيلهم.
3: أنها تُبيّن لطالب العلم أن الصحابة قد تبوؤوا المنزلة العليا في فهم القرآن وتفسيره ؛ فلا يُدرك شأوهم، ولا سبيل لفهم القرآن غير سبيلهم، لما خصّهم الله به من صحبة نبيّه وشرف التلقّي منه وإدراك عصر لغة القرآن، ومعرفة وقائع التنزيل، وأحوال المخاطبين ودلائل الخطاب.
4: أنّها تبيّن للطالب شيئاً من مناهج الصحابة والتابعين وهديهم في تعلّم التفسير وتعليمه، وشيئا من معالم أصول التفسير.
5: أنها تجلّي له عنايتهم بالتفسير رواية ودراية ورعاية.
6: يدرك الطالب بها خطر الدعاوي التي يراد منها الإعراض عن تفسير الصحابة والتابعين، وما يعبّر عنه بعض المحْدَثين بالمطالبة بإعادة قراءة التفسير، ويريدون بذلك إعادة النظر في تفسير القرآن لينطلق في تفسيره من منطلقات منطقية أو فلسفية مقطوعة الصلة عن الصحابة الذين نزل الوحي بلسانهم وبما يعهدون من فنون الخطاب، وعاصروا التنزيل، وتلقّوا معاني القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم كما تلقّوا ألفاظه مع زكاة نفوسهم، وجودة قرائحهم، ورضى الله تعالى عنهم؛ فمن له بفهمٍ أحسن من فهمهم؟! وتوفيق أقرب من توفيقهم؟!