13 Jul 2019
الدرس السابع: الصدق والإخلاص
عناصر الدرس:
• تمهيد
• الصدق
- معنى الصدق
- فضل الصدق
- بم يُنال الصدق؟
- تفسير قول الله تعالى: {فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم}
- أحوال الصادقين
- صفات الصادقين وهديهم وسمتهم
- ما لا يقدح في الصدق
• الإخلاص
- معنى الإخلاص
- تفاضل المخلصين في إخلاصهم
- فضائل الإخلاص
- الأسباب المعينة على تحقيق الإخلاص
- عاقبة الإخلاص
تمهيد:
الصدق والإخلاص عملان
جليلان من أعمال القلوب، بل لا تصح أعمال القلوب إلا بهما، إذ هما الفرقان
بين النفاق والإيمان، وحد الامتياز بين الفائزين والخاسرين، وعليهما مدار
الدين، وبهما يُنال رضوان ربّ العالمين.
وبين الصدق والإخلاص تناسب
بديع ، وتلازم عجيب، فهما أخوان لا يفترقان، وخليلان لصاحبهما ونعم
الخليلان، ينقلانه من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومن الشقاء
إلى السعادة، ويطهّرانه من أوضار المعاصي ورجز الشيطان، ويسموان به عن
دنوّ الهمة ولؤم الطباع ، وينزلانه منزلة أولي الزلفى والولاية؛ فيكون
محبوباً مقرباً عند الله، وكان قبلهما على غير شيء؛ فأصبح بصحبتهما عظيماً
في ملكوت السماء، ذا قلب سليم، وشأن عظيم، ودعاء مستجاب، ونور وفرقان،
وعهود ووعود، وأعمال تجري، ودرجات ترتفع، وبركات تتوالى.
فطوبى لمن قرَّت عينه بصحبتهما، والخيبة والخسران لمن طردهما وأعرض عنهما.
فالإخلاص أن لا تشرك بالله شيئاً، وأن لا تريد بعملك إلا وجه الله.
والصدق أن تجمع همتك على إحسان العمل؛ فتكون صادق القول والعمل.
فصحة الإخلاص تستلزم وجود الصدق، والصدق يقتضي الإخلاص.
وقد عبَّر ابن القيم رحم الله عن التناسب بينهما بعبارة حسنة فقال: وقال أيضا: (إن
للعبد مطلوباً وطلباً؛ فالإخلاص توحيد مطلوبه، والصدق توحيد طلبه؛
فالإخلاص أن لا يكون المطلوب منقسماً، والصدق أن لا يكون الطلب منقسما؛
فالصدق بذل الجهد، والإخلاص إفراد المطلوب).
وقال أيضاً: (الإخلاص:
توحيد المطلوب، وحقيقة الصدق: توحيد الطلب والإرادة، ولا يثمران إلا
بالاستسلام المحض للمتابعة؛ فهذه الأركان الثلاثة: هي أركان السير وأصول
الطريق التي من لم يَبْنِ عليها سلوكه وسيره فهو مقطوع وإن ظن أنه سائر؛
فسيره إما إلى عكس جهة مقصوده، وإما سير المقعَد والمقيَّد، وإما سير صاحب
الدابة الجموح كلما مشت خطوة إلى قُدَّام رجعت عشرة إلى خلف.
فإنْ عدم الإخلاص والمتابعة انعكس سيره إلى خلف، وإن لم يبذل جهده ويوحّد طلبه سار سير المقيد.
وإن اجتمعت له الثلاثةُ فذلك الذي لا يجاري في مضمارِ سيرِه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).ا.هـ.
ومن جمع الصدق والإخلاص فقد نصح لله ورسوله، وبذلك يكون من المحسنين، وهذه غاية مطالب السالكين.
تفكروا في قول الله تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم}
وانظروا كيف بلغت النصيحة لله ورسوله بهؤلاء
الصادقين المخلصين مرتبةَ المحسنين على ضعفهم ومرضهم وفقرهم، بل الله كتب
لهم بهذه النصيحة أجر المجاهدين كما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أنس
بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رجع من غزوة
تبوك، ودنا من المدينة قال: (( إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم )).
قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟!!
قال: (( وهم بالمدينة، حبسهم العذر)).
فالمراد بالمحسنين في هذه الآية الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون بشرط أن يكونوا ناصحين لله ولرسوله.
ويخطئ من يظنُّ أن المراد بالمحسنين في هذا
الموضع الأغنياء، بل الأغنياء الذين يتخلفون عن مواضع وجوب الإنفاق مسيئون
غير محسنين كما قال الله تعالى: {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء}
وقد شاع في كتب فقهاء المذاهب الاستدلال
بهذه الآية على عدم الإلزام بالعقود التي يُرتَفق بها كعقد الكفالة والضمان
والقرض فيقال لمن أبى: لا إلزام عليه لقول الله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل}، وفي هذا الاستدلال نظر كبير.
وأقبح منه أن يستدل به المرء لنفسه على ترك
قربة قد تكون فرض كفاية فيمتنع عنها ويستدل بهذه الآية وهو قادر لا يحول
بينه وبينها إلا آفات النفس وعللها من الشح وغيره؛ فهذا مع ما فيه من
تزكيته لنفسه بوصف الإحسان وهو ممتنع عنه ففيه تحريف لمعنى الآية عما أنزلت
فيه.
وأحسن أحواله أن لا يكون مؤاخذاً بامتناعه
لقيام الفرض بغيره ممن وفقهم الله له لما قعد عنه، أما أن يستدل بالآيات
على قعوده عن الإحسان فاستدلال خاطئ.
ولو كان المرء ناصحاً لله لما تأخر عن قربة
يسر الله له السبيل إليها؛ إلا أن يمنعه عنها الانصراف إلى خير منها فحينئذ
يشمله معنى الإحسان ويصح له الاستدلال بهذه الآية باعتبار ما في قلبه من
النصيحة لله ورسوله.
فالنصيحة شأنها عظيم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة).
قال محمد بن نصر المروزي في آية التوبة: (فسماهم
محسنين بنصيحتهم لله بقلوبهم لما منعوا من الجهاد بأنفسهم، وقد تُرفع
الأعمال كلها عن العبد في بعض الحالات، ولا يرفع عنه النصح لله ولو كان من
المرض بحال لا يمكنه عملٌ بشيء من جوارحه بلسان ولا غيره غيرَ أن عقله ثابت
لم يسقط عنه النصح لله بقلبه)اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(يكثر في كلام مشايخ الدين وأئمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولون: قل لمن
لا يصدق لا يتعنَّ ، ويقولون: الصدق سيف الله في الأرض ما وضع على شيء إلا
قطعه، ويقول يوسف بن أسباط وغيره: ما صدق اللهَ عبدٌ إلا صنع له، وأمثال
هذا كثير).
وقال أيضاً: (والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب كما يقرن بين الصدق والإخلاص).
وقال في موضع آخر: (المشايخ العارفين اتفقوا على ان أساس الطريق إلى الله هو الصدق والاخلاص كما جمع الله بينهما في قوله {واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به} ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة دال على ذلك في مواضع).
وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً}: (فحنيفا هو حال مقررة لمضمون قوله: {فأقم وجهك للدين}ولهذا
فسرت مخلصاً، فتكون الآية قد تضمنت الصدق والإخلاص؛ فإنَّ إقامة الوجه
للدين هو إفراد طلبه بحيث لا يبقى في القلب إرادة لغيره، والحنيف المفرِد
لا يريد غيرَه؛ فالصدق أن لا ينقسم طلبك، والإفراد أن لا ينقسم مطلوبك،
الأول: توحيد الطلب، والثاني: توحيد المطلوب) اهـ.
وقد ذُكِرَ للإمام أحمد الصدق والإخلاص فقال: (بهذا ارتفع القوم). أورده أبو يعلى في طبقات الحنابلة وابن مفلح في الآداب الشرعية.
الصدق
معنى الصدق بل من لعذَّالة خذَّالة أشِب .....حرَّق باللوم جلدي أي تحراق وفتيان صدق لا ضغائن بينهم .....إذا أرملوا لم يولَعوا بالتلاوم إذا كذب البرق اللموع لشائم.....فبرقُ حسامي صادق غير كاذب ألا أبلغ بني جشم بن بكر..... وتغلب كلَّها نبأً جُلالا أخي ثقة لا ينثني عن ضريبة..... إذا قيل مهلا قال حاجزه قدِ فأدارها أُصُلاً وكلف نفسه..... تقريب صادقة النَّجاء نوار
الصدق نقيض الكذب، ويكون في القول والعمل والحال.
- فصدق القول مطابقته لحقيقة المخبر عنه.
- وصدق العمل مطابقة أدائه لما عُزِم عليه وأريد منه؛ وهذا يستلزم صحة العزيمة واتباع الهدى.
- وصدق الحال مطابقته للهَدْي الصحيح.
فلفظ الصدق يوصف به الحديث، ويوصف به العمل، ويوصف به الحال.
وأصل هذا في اللغة ظاهر وشواهده كثيرة، بل
إن الصدق يوصف به السبب الذي لا يكاد يتخلف تأثيره، والأداة التي يطابق
عملها ما صنعت له؛ فيقولون: سيفُ صدقٍ، ورمح صدق، وقوس صدق، وثوب صدق، ونحو
ذلك إذا كانت جيدة حسنة تؤدي ما صنعت له.
ويقولون: رجلُ صدقٍ، وامرأةُ صدقٍ، وفتيان صدق، وقوم صدق على صفة المدح وهو نقيض قولهم: رجل سوء، وامرأة سوء، ونظائرها.
ويقولون: حملنا عليهم حملة صادقة، وصدقناهم القتال، وضربناهم ضربَ صدق، إذا طابق العمل العزيمة السابقة.
والشواهد على ذلك من كلام العرب وأشعارهم كثيرة جداً، وأذكر منها على سبيل التمثيل والاجتزاء:
قول تأبط شراً:
يقول أهلكتَ مالاً لو قنعت به .....من ثوبِ صدق ومن بزّ وأعلاق
بأن الماجد البطل ابنَ عمرو .....غداة نَطَاعِ قد صدق القتالا
وبالصدق تحصل الثقة والطمأنينة كما قال طرفة بن العبد في مدح سيفه:
ومنه قول المخبل السعدي:
ويقال: صدقت الرؤيا إذا وقع تأويلها، وصدَّق فلان الرؤيا إذا فَعَلَ ما تَصْدُقُ به الرؤيا ، ومنه قوله تعالى: {وناديناه أن يا إبراهيم(104) قد صدَّقت الرؤيا(105)}الصافات؛ أي فعلت ما صَدَقَتْ به الرؤيا.
لأنه رأى في المنام أنه يفعل فعلَ الذبح فصدَّق الرؤيا بفعله.
وفي كتاب الله تعالى: قدم صدق، ومقعد صدق، ومدخل صدق، ومخرج صدق، ولسان صدق، ومبوَّأ صدق.
فالقدم الصدق هو ما قدَّموه من الأعمال الصالحة؛ فهي عند الله يدخرها لهم وسيجدون ثوابها حقاً وصدقاً، وهو ثواب كريم لا لغو فيه ولا تأثيم.
والمقعد الصدق هو المقعد الكريم الذي وعدهم به فسيجدونه حقاً وصدقاً وهو مقعد كريم لا يسوؤهم فيه شيء.
والمدخل الصدق والمخرج الصدق المذكوران في قوله تعالى: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً}
أي اجعل دخولي في كل ما أدخل فيه دخولاً كريماً لا سوء فيه ولا مذمَّة،
واجعل مخرجي من كل ما أخرج منه مخرجاً كريماً لا سوء فيه ولا مذمة، فيكون
دخوله بالله وخروجه بالله، يصدقه الله فيه ما وعده به في دخوله وخروجه؛
فيكون العبد فيما يأتي ويذر ضامناً على الله دخوله وخروجه بالعهد الذي بينه
وبين ربه؛ فإن من كان دخوله لله صَدَقَهُ الله فأدخله مدخل صدق، ومن كان
خروجه لله صدقه الله فأخرجه مخرج صدق؛ فهذه الآية تشمل جميع أحوال العبد.
وما يذكره المفسرون في تفسير هذه الآية من أنواع معيَّنة من المداخل والمخارج إنما هو على سبيل التمثيل.
والخلاصة أن الصدق يكون في حديث المرء، وفي عزيمته وعمله، وفي حاله مع الله؛ فإذا كان العبد صادقاً في هذه الثلاثة كان من الصادقين.
وأما من يقول قول الحق ويعمل بالباطل فهو كاذب منافق كما بيَّن الله حال المنافقين بقوله: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}
والمنافقون على صنفين:
فصنفٌ: منافقون أصليون لم يدخلوا في الإسلام حقيقة وإنما أظهروه ليكيدوا لأهل الإسلام وليأمنوا على أنفسهم.
وصنف: منافقون مرتدون مترددون لم يصدق إيمانهم ولم يثبت قدمهم في الإسلام {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} كلما
ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ونكصوا على أعقابهم بما يأتونه مما يخرجون
به من الملة، وفي هذا الصنف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة))رواه مسلم في صحيحه وأحمد في المسند من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما.
فهؤلاء المنافقون من الصنفين كاذبون فهم بين
قائل بلسانه ما ليس في قلبه، وبين متردد متذبذب يمرق من الدين إذا ابتلي
بفتنة؛ إذ كانت عزيمتهم في الإيمان غير صادقة.
والفرقان بين هؤلاء المنافقين وبين المؤمنين: الصدق.
ومما يزيد هذا الأمر بياناً ووضوحاً قوله تعالى: {قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)}
وهذه الآية للسلف في تفسيرها قولان مشهوران:
القول الأول: أن الإسلام المثبَت لهم هو مرتبة الإسلام ، وأنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان.
القول الثاني: أن
الإسلام المثبَت لهم هو الإسلام الظاهر الذي لا يقتضي أن يكون صاحبه
مسلماً حقاً في الباطن ، وذلك كما يحكم لأهل النفاق بالإسلام الظاهر ، وإن
كانوا كفاراً في الباطن؛ لأن التعامل مع الناس إنما هو على ما يظهر منهم ؛
فمن أظهر الإسلام قبلنا منه ظاهره ووكلنا سريرته إلى الله ، فيعامل
معاملة المسلمين ما لم يتبين لنا بحجة قاطعة ارتداده عن دين الإسلام.
القول الأول: قول الزهري وإبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل واختاره ابن جرير وابن تيمية وابن كثير وابن رجب.
والقول الثاني: قول مجاهد والشافعي والبخاري ومحمد بن نصر المروزي وأبي المظفر السمعاني والبغوي والشنقيطي واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}قالوا:
فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم بنص القرآن ، ومن لم يدخل الإيمان في
قلبه فليس بمسلم على الحقيقة، وإنما إسلامه بلسانه دون قلبه.
وأصحاب القول الأول يقولون إن الإيمان
المنفي عنهم هو ما تقتضيه مرتبة الإيمان ، فهم لم يعرفوا حقيقة الإيمان
وإنما أسلموا على جهل فيثبت لهم حكم الإسلام.
{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}أي لم تباشر حقيقة الإيمان قلوبكم.
وابن القيم رحمه الله قال بالقول الأول في بدائع الفوائد، وقال بالقول الثاني في إعلام الموقعين.
والتحقيق أن دلالة الآية تَسَعُ القولين، فإذا أريد بنفي الإيمان في قوله تعالى: {لَمْ تُؤْمِنُوا}نفي
أصل الإيمان الذي يَثبت به حكم الإسلام ؛ فهؤلاء كفار في الباطن ، مسلمون
في الظاهر، فيكون حكمهم حكم المنافقين، وقد يتوب الله على من يشاء منهم
ويهديه للإيمان.
وإذا أريد بنفي الإيمان نفي القدر الواجب من
الإيمان الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به مؤمنين؛ فهذا لا يستلزم نفي
أصل الإيمان والخروج من دين الإسلام، فيثبت لهم حكم الإسلام، وينفى عنهم
وصف الإيمان الذي يطلق على من أتى بالقدر الواجب منه.
وهذا كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن))
قيل: من يا رسول الله؟
قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)).
فهذا نفى عنه حقيقة الإيمان والقدر الواجب
منه الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به، ولا يقتضي أن من فعل ذلك فهو
خارج عن دين الإسلام.
والذي يوضح هذا الأمر أن قول: {أَسْلَمْنَا} قد يقوله الصادق والكاذب؛ فإذا قاله الكاذب فهو منافق مدَّعٍ للإسلام مخادع للذين آمنوا، يُظهر الإسلام ويبطن الكفر.
وإذا قاله الصادق فهو مسلم ظاهراً وباطناً، ومعه أصل الإيمان.
ولهذا قال الله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
فعلَّق وصف الإيمان بالصدق؛ فمن صدق منهم
فهو من أهل الصنف الأول، ومن لم يصدق منهم فهو من أهل الصنف الثاني، وهذا
يبيّن أنه قد يكون فيمن نزلت فيهم هذه الآيات من هو من أصحاب الصنف والأول،
ومنهم من هو من أصحاب الصنف الثاني، وشملت هذه الآيات الصنفين كليهما.
وهذا مثال بديع لحسن بيان القرآن الكريم، ودلالته على المعاني العظيمة بألفاظ وجيزة.
والمقصود أن الصدق هو الفارق بين أهل النفاق وأهل الإيمان كما دل عليه جعل الإيمان مشروطاً بوجود الصدق {إن كنتم صادقين}.
وقد قسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق فقال تعالى: {ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم}.
فضل الصدق
- قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم
بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل
يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً، وإياكم والكذب فإنَّ
الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب
ويتحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)). رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم من طرق عن أبي وائل عن ابن مسعود.
وهذا الحديث الجليل أصل في فضل الصدق وجلالة
قدره، وهو من جوامع الكلم ، فإنه اختصر من المعاني الجليلة العظيمة ما
يطول شرحه، ففيه بيان فضيلة الصدق، وأنه أصل البرّ والدليل إليه، ومن أراد
أن يكون بَرَّا فعليه بالصدق في قوله وعمله وحاله.
وفيه: أن البرَّ ثمرة الصدق وعلامة عليه فإن من صدقَ برَّ، ويدل لهذا قول الله تعالى: {لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى
حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
فهذه الأعمال الجليلة علامة بيّنة على الصدق؛ فمن أدَّاها فهو من الصادقين، وقال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}؛ فالإنفاق من المال على حبه ابتغاءَ مرضاة الله دليل على صدق العزيمة ، ولذلك تسمى صدقة، فهي مشتقة من الصدق.
وحيث وجدتَ البرَّ وثوابَه والثناءَ على
أهله وبيانَ خصاله فاعلم أنه من ثمرات الصدق، وأن خصاله علامات على الصدق،
وأن أهله أهل الصدق.
فسرّح نظرك في القرآن الكريم متدبراً طالباً
الهدى ، وتعرَّف على أهل الصدق ، وأعمال الصدق عسى أن تكون من الصادقين،
وتحبّ الصادقين؛ فتحشر مع الصادقين.
ومن فوائد هذا الحديث الجليل: أن
الصدق مفتاح الاستقامة والهداية، وبه يستفتح الفلاح والنجاح ، ومن صدق
اللهَ صدقه الله، وأثابه على صدقه بالتوفيق لصدق آخر؛ ولا يزال العبد يصدُق
ويتحرَّى الصدقَ، ويَكثُرُ منه ذلك حتى يكون صديقاً ، ويكتب عند الله
صديقاً، والصديقية أعلى مراتب الدين ليس فوقها إلا مرتبة النبوّة.
وقد استنبط شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه من هذا الحديث أن الصديقين كثيرون.
والصدق معنى عام وأفراده كثيرة ودرجاته
كثيرة، ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومَن جمع بين الصدق والشكر فقد
استفتح من أبواب الزيادات والبركات والفضائل ما لا تقوم له العبارة بشرح.
ومن فوائد الحديث:
أن الكذب في القول والعمل والحال يفضي بصاحبه إلى الفجور؛ فالكَذْبَةُ
تهدي إلى فَجْرَةِ، والفجرة تدعو إلى أختها؛ فإن من عقوبة السيئةِ السيئةَ
بعدها؛ ولا يزال العبد يستكثر من الكذبات والفجرات حتى يكون من أهل الكذب
والفجور ويكتب عند الله كذاباً.
وحيثما وجدت عملاً من أعمال الفجور؛ فاعلم
أنَّ سببه كذب وقع فيه صاحبه في قوله أو عمله أو حاله؛ فأصل الفجور الكذب،
وهو علامة بيّنة عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الشرك
وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا فإنَّ كلَّ من كان عن
التوحيد والسنة أبعد كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب، كالرافضة
الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء وأعظمهم شركاً؛ فلا يوجد في أهل الأهواء
أكذب منهم ولا أبعد عن التوحيد).اهـ.
ومن فوائد هذا الحديث: أن كل ما توعَّد الله عليه بالنار فهو من أعمال الفجور، وأنَّ سببها الكذب.
ومن فوائده: أنه بيَّن
أصلا من أصول الفراسة الإيمانية عند المؤمنين فإنهم ينظرون بنور الله،
ويفقهون ما ذكره الله من الأسباب والعلامات والدلائل، وما بيَّنه من جزاء
الخير وجزاء الشر في الدنيا والآخرة، ويفقهون أثر ذلك على السالكين، وهذا
باب لا يتسع المقام لشرحه.
ولابن القيم كلام جليل جامع في فضل الصدق ذكره زاد المعاد في فوائد قصة
غزوة تبوك وكيف نجَّى الله الثلاثة الذين خلفوا بالصدق؛ فقال في فوائدها: (ومنها:
عِظَم مقدارِ الصِّدق، وتعليقُ سعادة الدنيا والآخرة، والنجاة مِن شرهما
به، فما أنجى الله مَن أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك مَن أهلَكه إلا بالكذب،
وقد أمر اللهُ سبحانه عِباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، فقال: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ َآمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}
وقد قسم سبحانه
الخلق إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فجعل السعداء هم أهلَ الصدق والتصديق،
والأشقياء هم أهلَ الكذب والتكذيب، وهو تقسيمٌ حاصِرٌ مطَّردٌ منعكِس؛
فالسعادةُ دائرة مع الصدق والتصديقِ، والشقاوةُ دائرة مع الكذب والتكذيب.
وأخبر سبحانه وتعالى:
أنه لا ينفعُ العبادَ يومَ القيامة إلا صدقهم، وجعل عَلَم المنَافقين الذى
تميزوا به هو الكذبَ في أقوالهم وأفعالهم، فجميعُ ما نعاه عليهم أصلُه
الكذبُ في القول والفعل، فالصدق بريدُ الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه،
وقائده، وحِليته، ولباسُه، بل هو لبُّه وروحه.
والكذب بريدُ الكفر والنفاق، ودليلهُ، ومركبه، وسائقه، وقائدُه، وحليته،
ولباسه، ولبُّه، فمضادة الكذبِ للإيمان كمضادة الشِّرك للتوحيد، فلا يجتمعُ
الكذب والإيمان إلا ويطرُد أحدهما صاحبه، ويستقِرُّ موضعه، والله سبحانه
أنجى الثلاثَةَ بصدقهم، وأهلكَ غيرَهم من المخلَّفين بكذبهم، فما أنعم
اللهُ على عبدٍ بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذى هو غِذاء الإسلام
وحياتُه، ولا ابتلاه ببلية أعظمَ من الكذب الذى هو مرضُ الإسلام وفساده.
والله المستعان) اهـ.
بم يُنال الصدق؟
فإن قيل: فبأي شأي ينال العبد الصدق؟ وما الذي يعينه عليه؟
قيل: أما السبب الحامل على الصدق فهو اليقين، وإذا حلَّ اليقين في القلب
قاد إلى الصدق في القول والعمل والحال، ولذلك كان أعظم نعمة يُنعم بها على
العبد: اليقين، بل هي أعظم من نعمة العافية؛ لأن اليقين مفتاح الصدق،
والصدق دليل البر.
وقد روى جماعة من أهل الحديث منهم الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد
وابن أبي شيبة والنسائي والترمذي وغيرهم من طرق أن أبا بكر الصديق رضي الله
عنه قام خطيباً على المنبر بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسَنة؛
فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عامَ الأوَّل ثم بكى أبو
بكر.
ثم قال: (سلوا
الله العفو والعافية؛ فإنَّ الناس لم يعطوا بعد اليقين شيئاً خيراً من
العافية، وعليكم بالصدق فإنه مع البرّ، وهما في الجنة، وإيَّاكم والكذب؛
فإنه مع الفجور، وهما في النار، ولا تقاطعوا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا،
ولا تدابروا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله عزَّ وجلَّ).
وبيان ذلك أن اليقين يثمر في قلبِ الموقِن قوَّة العلمِ حتى يكاد يستوي
عنده الغيب والشهادة من قوة التصديق ، التصديق بالثواب ، والتصديق بالعقاب،
فيكون في القلب من الرغبة والرهبة والخشية والإنابة ما يجعل القلب يعبد
الله كأنّه يراه؛ فيصلح القلب بإذن الله تعالى،وتصلح الجوارح كلها، ويصلح
العمل كله.
ومما يبيّن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين: ((أثقلُ صلاة على المنافقين: صلاةُ العِشاء ، وصلاةُ الفجرِ ، ولو يعْلَمُونَ ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوا)) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فلمَّا غاب عنهم اليقين بالثواب والعقاب هان عليهم ترك الصلاة، ولو كان هذا العلم يقينا في قلوبهم لأتوهما ولو حبواً.
ومما يعين على اكتساب اليقين إقبال القلب على الله وطلب الهدى منه جل وعلا،
وكثرة الذكر والتذكر ، ومعاودة التفكر والتدبر ؛ حتى يكون العلم يقيناً
يقرّ في القلب فيحيا به صاحبه، ويبصر به، ويمشي به، ويتكلم به، ويقوم به {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.
فالعلم المراد هنا هو علم اليقين؛ وهو مستمد من التصديق الذي هو حقيقة الإيمان.
تفسير قول الله تعالى: {فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم}
من أعظم اليقين وأنفعه: اليقين بأن الصدق مع الله
خير للعبد في جميع أحواله ؛ فإن هذا هو مفتاح الفوز والفلاح والخيرية كما
قال الله تعالى: {فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم}
قال مجاهد: ({عزم الأمر}: جدَّ الأمر).
أي إذا كانوا في أمر قد عزم الله عليهم امتثاله، والمراد به في هذا الموضع القتال في سبيل الله، وهو مثال على عزائم الأمور.
وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين كرهوا
القتال في سبيل الله، وكان الله قد افترض عليهم السمع والطاعة، فأظهروا
الإسلام وكان منهم طائفة أسلموا على دغل؛ فكان في قلوبهم نفاق وإيمان، وقد
جعل الله الفتن تمحيصاً لما في الصدور، وتمييزا للطيب من الخبيث.
فلو أنهم صدقوا الله في إيمانهم فامتثلوا ما أمر الله به لكان خيراً لهم.
وفي كونه خيراً معانٍ جليلة يحسن الوقوف
عليها لما يُستفاد بها من اليقين بأنَّ صدق العبد مع ربه خير كله، وأن الشر
والعذاب في مخالفة أمر الله عز وجل حالاً ومآلاً، يبصر ذلك من بصَّره الله، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن
الصدق مع الله يُدخِل العبد في حزب الله وجنده؛ فإن الله أمرنا أن نكون مع
الصادقين؛ فإذا دخل العبد في حزب الصادقين كان مع الحزب الذين يحبهم الله
وينصرهم ويؤيدهم فيفوز المؤمن بذلك فوزاً عظيماً، ويكون ما يصيبه خيرٌ له
كائنا ما كان.
وأما الكذب وما يتبعه من الخيانة ونقض العهد
وإخلاف الوعد فإنه يفضي بالعبد إلى الخروج من هذا الحزب الكريم والدخول في
حزب المنافقين ؛ فيحيط الخسران بالعبد من كل جانب.
الوجه الثاني: أن الله يحب الصادقين ويبغض الكاذبين وهذا الحب والبغض له آثاره العظيمة.
الوجه الثالث: أن من صدق اللهَ كان له عهد من الله بأن يصدقه الله، ((إن تصدق الله يصدقك)){ومن أوفى بعهده من الله}وهذا
العهد العظيم يجعل العبدَ يُقْدِمُ على الصدقِ ويقدّمه، ويؤثره ولا يؤثر
عليه، لأن ضامن على الله عاقبة صدقه، ولا يؤتى العبدُ من قِبَل ربّه، وإنما
الخوف عليه أن يؤتى من قبل نفسه.
الوجه الرابع: أن
ثواب الصدق مع الله أعظم الثواب وأحسنه وأكرمه، وفيه من الشرف للمؤمن
والعزة له والزلفى بسببه ما يجعله حريّا بأن يكون أحرص شيء عليه.
ومن الغبن العظيم أن يُستبدل به لذة عابرة،
أو متعة زائفة، أو سلامة على جبن وخوف لا تدوم طويلاً، فكل ذلك ثمن قليل،
وقد قال الله تعالى: {ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً}.
الوجه الخامس: أن
عقوبة ترك الصدق مع الله وما يكون بسببه من العذاب الأليم في الدنيا
والآخرة أعظم مما يفرّ منه العبد؛ ويصيبه ما يصيبه من العذاب وهو على حال
مذمومة يصاحبها الخذلان والتخلي والنسيان، ويحرم صاحبها من التوفيق
والتأييد والسكينة ما يخفف عنه أو يسليه، قال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
ومن العذاب الأليم المعجّل لمن ترك الجهاد ما هو أشدّ ألماً وعذاباً مما كان يخافه من ألم القتال.
الوجه السادس: أن
ما يحول بين العبد وبين الصدق إنما هي صفات مهينة ذميمة ، مستقبحة في
العقول والفطر السليمة من الخوف والجبن والشحّ والجهل وإيثار الحياة الدنيا
على الآخرة وكل ذلك مما يبغضه الله عز وجل، ولا يليق بالمؤمن أن يكون
متصفاً بشيء من ذلك؛ فإذا أيقن العبد بأن هذه الصفات صفات شر وشؤم، ونقيصة
ولؤم، وخزي عظيم للعبد في الدنيا والآخرة حرص على البراءة منها.
الوجه السابع: أن
الله لا يكلف عبده ما لا يطيق ، بل إذا صدق العبد في عزيمة الامتثال هوَّن
الله عليه أداء ما أمره به، وإن كان ظاهر الأمر فيما يراه العبد ويعرفه
الناس صعباً شاقّا شديداً، فإنَّ الله تعالى إذا يسَّر أمراً لعبده تيسَّر،
وإذا أيد الله عبدَه بروح منه وسدده وثبَّته فقد أعانه أيما إعانة، وأحسن
إليه أيما إحسان؛ فتيسر له ما كان عسيراً، وذلَّ له ما كان صعباً، وقرب له
ما كان بعيداً عزيز المنال ؛ ويكون الصادق بما وفقه الله له من القيام
بأمره موعوداً بحسن الثواب في الدنيا والآخرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومن ألطف ذلك وأعجبه ما ينزله الله على
عباده الصادقين من السكينة التي تحصل بها طمأنينة القلب وانشراح الصدر،
والثبات في الأمر ، وتتطهر بها النفس من دغلها وعللها، ويذهب عنها رجز
الشيطان، وهو في حال القتال الشديد ومواجهة العدو حين البأس ، فيكون للمؤمن
المجاهد بذلك قوة نفسية عظيمة تثبّت قدمه وتدفعه للإقدام على الأهوال وهو
يرجو الشهادة في سبيل الله ؛ فيصيب العدوَّ من هذه البسالة والجراءة على
الإقدام رعب شديد ووهن كبير.
وبذلك تعلم أن ظواهر الأمور غير بواطنها، وأن لطائف الله التي يمنحها لعباده الصادقين لا يكاد ينقضي منها العجب.
ومن ذلك أيضاً: أن الله يصرف عن عبده ما لا
يطيقه، وذلك بسبب ثباته وصدقه مع الله ، فإن الله لا يريد إعنات عباده ولا
التعسير عليهم، ولا يريد أن يُحرجَهم، وإنما يريد أن يَصْدقُوه، وأن تتطهّر
له قلوبهم، فيكون حبهم له وإيثارهم لما يحبه أعظم في قلوبهم من كل شيء،
كما قال الله تعالى: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} وقال تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم}.
ومن ذلك: أن الله يوهن كيد أعدائه كما قال تعالى: {ذلك وأن الله موهن كيد الكافرين}؛
فيمكر الله بأعدائه حتى المغترّين بقوتهم وما هم عليه من العلوّ في الأرض
حتى إذا ظنوا أنهم قادرون على هزيمة أولياء الله؛ أتاهم الله من حيث لا
يشعرون؛ فارتد تدبيرهم تدميراً عليهم، وجعل الله الدائرة لأوليائه واصطفى
منهم شهداء، وجعل النصر لمن بقي منهم لتبقى كلمةُ الله هي العليا.
ومن ذلك: أن الله يهوّن على عبده ما يلقاه في سبيله حتى ألم القتل في سبيله
يجعله هينا عليه ؛ كما روى الدارمي والترمذي والنسائي وابن حبان كلهم من
طريق ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يجد الشهيد من ألم القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القَرْصة)). وصححه الألباني.
بل إن منهم من يجعل الله له من خوارق العادات وأنواع الكرامات ما يثبت به
فؤاده ويستبشر به ويمضي للقتل في سبيل الله بإقدام عجيب ، كما صح عن جماعة
من السلف أن منهم من أخبر عن نفسه قبيل قتله أنه يجد ريح الجنة ، ومنهم من
يرى رؤيا صالحة، ومنهم من يجد أنواعاً أخرى من الكرامات ، وأخبار السلف في
ذلك كثيرة مشتهرة، وأصل ذلك أن يصدق العبد مع الله فإذا علم الله من قلب
عبده الصدق أحاطه بأنواع اللطف والكرامات: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}
ومن ذلك: أن الله يهيئ لأوليائه أسباب اتباع رضوانه حتى يكونوا محسنين في
جهادهم ويصرف ذلك عن المنافقين الذين لم يصدقوا الله ولم ينصحوا له، فيكون
أداء هذه الفرائض العظيمة ميسَّراً لعباده المؤمنين، وهذا من معاني معية
الله تعالى الخاصة لهم:
تأملوا هذه الآيات:
-{وأن الله مع المؤمنين}
-{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} .
-{وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين}
-{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ
الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ (123)}
-{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)}
لتجدوا أن معية الله تعالى لعباده لا بد أن يكون لها آثارها المباركة ؛ فهي
تعينهم على أداء ما افترضه عليه، وتصرف عنهم كيد الشيطان ورجزه وتثبيطه
وتخويفه بأوليائه، وتطهرهم من علل النفس وأدوائها، وتهديهم لبلوغ مرتبة
الإحسان في الجهاد في سبيل الله.
{من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}
؛ فالصدق هنا هو الثبات على ما يحبه الله من التزام عهده والوفاء به،
وأداء ما أمر الله به حين يعزم الأمر ويجدّ الجدّ؛ فإن الدعاوى في حال
السعة والدعة سهلة لكن إذا جدّ الجدُّ تميَّز الصادقون، وخُذِل المنافقون
الذين يدَّعون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وأعظم الخطر على من يكون في قلبه
نفاق خفي، يغفل عنه وهو يزداد في قلبه حتى يتمكن منه؛ فإذا عزم الأمر لم
يجد من نفسه صدقاً لله ولا عزيمة على الوفاء بعهده، والعياذ بالله.
أحوال الصادقين
للصادق أحوال يُبتلى بها وأحوال يَستأنس بها:
فمن الأحوال التي يبتلى بها: أن من تجرد للصدق وجد وحشة في أوّل الطريق
لقلة السالكين؛ فإن أكثر الناس يجرون وراء حظوظهم وحظوظ معظَّميهم، وغالب
الذين يعبدون الله يعبدونه بما يحبون من الأحوال التي استأنسوا بها ووجدوا
عليها معظَّميهم لغلبة الأنس بالخلق عندهم على الأنس بالحق؛ فيكون الصادق
بينهم كالغريب؛ لا يعنيه ما يركضون وراءه، ولا يشجيه ما يأسفون عليه، وما
يعنيه لا يعنيهم، وما يشجيه لا يشجيهم؛ فحاله أشبه شيء بالغريب وعابر
السبيل.
لكن عزاؤه أحسن العزاء وأفضله وأكرمه فإنه لا يشقى مع الله أحد من
الصادقين؛ ذلك أن الله تعالى قد ضمن لمن اتبع هداه الله أن لا يضلَّ ولا
يشقى، وأن لا يخاف ولا يحزن.
ومن صدق الله صدقه الله، ومن صدق الله كان صدقه خيراً له؛ فما يجعله الله
للصادق من الهداية للبر والطمأنينة بالحق، والبصيرة في الدين ، والتصديق
بوعد الله ما هو أحسن العوض عن ذلك كله، ثم إن نصيب الصادق من الرفقة
الصالحة خير من نصيب غيره لمن أبصر الحقائق ولم تغرَّه الظواهر؛ فإنه وإن
كان من يصاحبهم ويعرف صدقهم في حياته قلَّة؛ فإنه داخل في زمرة الصادقين
الذين جعل الله بعضهم أولياء بعض؛ ففي شعوره بالانتماء لجماعة الصادقين
الذين أمره الله أن يكون معهم {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}
ما يذهب عنه وحشة الغربة، فهو معهم بروحه وقلبه ، وهو معهم بصدقه في قوله
وعمله وحاله، وهم بسبب صدقهم يتوافقون في المبادئ والمواقف وتأتلف قلوبهم
وإن كانوا متفرقين، وكلما كان العبد أحسن صدقاً كان أقرب لإصابة الحق
وموافقة أهله.
ثم ما يشمله من دعواتهم واستغفارهم وإن تباعدوا وجهل بعضهم حال بعض ما هو
أعظم من نفع أصحاب الدنيا بعضهم لبعض؛ فإن ثمرة الصداقة والصحبة على
الحقيقة إنما هي في المنفعة التي تعود بها على صاحبها؛ وقد جعل الله للمؤمن
الصادق من ذلك أعظم النفع في الدنيا من الحقوق الواجبة التي أوجبها له ،
ويؤديها له إخوانه بإحسان وطيب نفس يتقربون بذلك إلى الله تعالى، وكذلك
النفع المتعدي المتسلسل من ثواب الدلالة على الخير والتواصي بالحق والتواصي
بالصبر وبركات ذلك كله، ودعوات المؤمنين واستغفارهم ونصحهم.
وأما في الآخرة فما ذكره الله من ألفتهم واجتماعهم واستبشار بعضهم ببعض
وتقابلهم في النعيم المقيم وهم في غاية الغبطة والابتهاج والأنس والسرور
بهذا الاجتماع؛ وفي هذا تنبيه على تعويضهم عما يفوتهم لمَّا تركوا موافقة
الناس على باطلهم، والاستئناس بهم في الباطل.
والإفاضة في ذكر هذه المعاني العظيمة واللطائف الكريمة وبيانها ووصف
أحوالها يطول جداً وحسبك الاكتفاء هنا بالتنبيه، وأَعْمِل فكرك فيما وراء
ذلك ترى عجباً.
صفات الصادقين وهديهم وسمتهم
أَمْرُ الله تعالى إيَّانا أن نكون مع الصادقين يقتضي منا معرفة أمرين:
الأمر الأول: معرفة الصدق ما هو؟ وبم ينال؟
والأمر الآخر: أن نعرف صفات الصادقين وأعمالهم
وهديهم وسمتهم ؛ فإن من أحب قوماً وطمع أن يكون منهم اتَّسى بهم، وحرص على
أن يتبعهم في هديهم وسمتهم وصفاتهم وأعمالهم ليكون معهم ويعدَّ منهم ويحشر
في زمرتهم.
فأمَّا الأمر الأول فقد تقدم بيانه.
وأما الأمر الآخر؛ فمنه ما سبق ذكره وهو ما دلَّت عليه آية البقرة {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب...}إلى قوله تعالى: {أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}
وينبغي لطالب العلم أن يعتني بتفسير هذه الآية عناية بالغة؛ فإنها جمعت
أصول أعمال الصدق، وأشرف خصاله وأجمعها؛ فمن حقّقها فقد حقق الصدق.
وكل أعمال البر التي أمر الله بها وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي من أعمال الصدق ودلائله.
وقال تعالى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ
يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}
والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس لا يخلو حال العبد من القيام به أو العزيمة عليه والإعانة عليه، وعماد ذلك النصيحة لله ورسوله.
وأما صفات الصادقين وسمتهم فيُعرف باستقراء سير أئمة الصادقين ، وملاحظة
هدي الأحياء منهم وسمتهم ، ولا يخلو عصر من صادقين قائمين بأمر الله كما
يحب الله.
ومعرفة سمت هؤلاء الصادقين وهديهم والاتساء بهم هو من تحرّي الصدق وطلب اكتسابه.
وهذا مبحث يطول الحديث فيه ، لكن تلخيصه وذكر أهم مسائله مهم لطالب العلم.
فمن أظهر صفاتهم:
الجِدّ؛ فإنهم قد أبصروا الهدف، وعرفوا الطريق ، وتبيَّنوا ما يراد منهم؛
وعلموا أنه لا يمكنهم السبق إلا بالصدق؛ فجدّوا في عملهم واجتهدوا.
قال ابن القيم رحمه الله في شرح قول صاحب المنازل عن صاحب الصدق: (ولا يقعد عن الجد بحال) قال: (قوله:
ولا يقعد عن الجد بحال يعني أنه لما كان صادقا في طلبه مستجمع القوة: لم
يقعد به عزمه عن الجد في جميع أحواله فلا تراه إلا جادا وأمره كله جد).
فالجد أخو الصدق، ولا يزال الصادق جادَّا
يعرف منه الجد في قوله وعمله وحاله، وأما كاذب العزيمة فذو هزل وبطالة،
وأسوأ منه صاحب الجدّ في الفجور.
ومن صفات الصادقين:
أنهم أصحاب همَّةٍ وعَمَل ، وإعراضٍ عن اللغو والهزل، وبعدٍ عن التكلف،
وتركٍ لما لا يعنيهم، وإقبال على شؤونهم وما ينفعهم عند الله، وتقديمهم من
كلّ شيء لبَّه؛ فإذا قصدوا عملاً جعلوا همتهم لحقيقته ولبّه الذي هو
المقصود بالأصل، وإذا استمعوا إلى قول اتّبعوا أحسنه، ولم ينشغلوا بالظواهر
عن الحقائق.
ومن صفاتهم: حسن معرفتهم بأنفسهم واتهامهم لها ورؤيتهم لتقصيرها وعدم مداهنتها؛ قال سهل بن عبد الله التستري: (لا يشمّ طريق الصدق عبدٌ داهَنَ نفسَه وداهن غيره). رواه البيهقي في الشعب.
والذي يداهن نفسه ويسوّغ أخطاءها ويتحيّل لاتباع أهوائها إنما يمكر بنفسه
ويخادعها؛ لأن العبرة بالعاقبة، وعاقبة المداهنة عذاب ووبال وخسران عظيم.
ومن قام على نفسه قيام الوليّ المصلح فإنه حريّ أن يقوّمها وينجو بها.
والمقصود أن معرفة الصادقين بالمطلوب تورثهم رؤية التقصير، والجدَّ والتشمير، وتذهب عنهم العجب والغرور، قال الشافعي رحمه الله: (إذا خفتَ على عملك العُجب، فاذكر رضى مَن تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب؛ فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله).
وقد قال ابن الوردي: فمن يعرف المطلوب يحقر ما بذل.
ومن شأن الصادقين: إخفاء العمل والحال إلا لمصلحة شرعية تقتضي الإعلان بقَدَرٍ مع أمن الفتنة والاحتراز من أسبابها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكم من صاحب
قلبٍ وجمعيةٍ وحالٍ مع الله تعالى قد تحدَّث بها وأخبر بها؛ فسلبه إياها
الأغيارُ؛ ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله تعالى، ولا يطلع
عليه أحدٌ، والقوم أعظم شيءٍ كتمانًا لأحوالهم مع الله عز وجل وما وهب الله
من محبته والأنس به وجمعية القلب، ولا سيما فعله للمهتدي السالك فإذا تمكن
أحدهم وقوي وثبَّت أصول تلك الشجرة الطيبة - التي أصلها ثابتٌ وفرعها في
السماء - في قلبه، بحيث لا يخشى عليه من العواصف فإنه إذا أبدى حاله مع
الله تعالى ليُقتدَى به ويؤتم به لم يبال، وهذا بابٌ عظيم النفع إنما
يعرفه أهله) اهـ.
ما لا يقدح في الصدق
لا يقدح في صدق العبد
أخذه بالرخص الصحيحة، وتركه تكلف ما لا يطيق، وإجمامه النفس بشيء من اللهو
المباح، والملاطفة والمزاح ونحو ذلك مما تستريح به النفس حتى تقوى على
معاودة العمل ، بل المأثور عن السلف الاحتساب في إجمام النفس وإراحتها
بقَدَرٍ حتى يكون ذلك أقوى لها على العمل وأنشط، قال معاذ بن جبل: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا)). متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي صحيح البخاري عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)).
وقد روي من حديث عائشة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة الله؛ فإن المنبتَّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى)).
وطرقه لا تخلو من ضعف، ومعناه صحيح، ويشهد له حديث أبي هريرة المتقدم.
ومن أمثال العرب: (المنبت لا أظهراً أبقى ولا أرضاً قطع).
والمقصود أن الصدق لا
يقتضي التجهم والتزمت والغلظة والفظاظة والشدة على النفس وعلى الناس؛ بل
هذا أقرب إلى الغلو والتنطع المفضيان إلى الهلكة.
بل إن من صدق العبد
صدقه النصيحة للناس بالتلطف لهم وإرادة الخير لهم بكل حال، ومقابلة إساءتهم
بالإحسان، وحفظ حرماتهم وأداء حقوقهم، والسرور بما يسرهم، والحزن لما
يسوؤهم، وأن يأتي إليهم ما يحب أن يأتوا إليه.
معنى الإخلاص
الإخلاص في اللغة: التصفية والتنقية، وهو مصدر أخلص يُخلص إخلاصاً.
-قال أبو منصور الأزهري: (وخَلَصَ الشَّيْءُ يخلُصُ خُلُوصاً وخلاصا، وخَلَّصْتُه أَنا تخليصاً إِذا صفيته من كدر أَو درن).
ومعناه شرعاً: تخليص الأعمال من الشرك بالله جل وعلا، وإفراد الله تعالى وحده بالعبادة لا شريك له.
-قال الخليل بن أحمد: (الإخلاصُ: التوحيد لله خالصاً، ولذلك قيل لسورة {قل هو الله أحد}: سورة الإخلاص، وأخْلصتُ لله ديني: أمحضتُه وخَلَص له ديني).
فمن لم يعبد إلا الله فقد أخلص العبادة لله جل وعلا، وصفَّاها ونقَّاها من عبادة غيره جل وعلا، وهذا هو التوحيد المأمور به.
وحقيقة الإسلام هي الانقياد لله وحده لا شريك له، فيكون قلب العبد سليماً من الشرك، وعمله خالصاً لله جل وعلا؛ والقلب السليم هو الذي سَلِمَ من الشرك وإرادة غير وجه الله تعالى. والله تعالى لا يقبل من العمل إلا بما أريد به وجهه، وهذا هو الدين القيّم الذي أمر الله به.
قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}.
وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ
أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}.
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ
لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}
تفاضل المخلصين في إخلاصهم
الإخلاص عبادة قلبية فلذلك يتفاضل المخلصون في قوّة الإخلاص.
ويزداد الإخلاص بأمرين:
أحدهما: إحسان الإخلاص بقوّة الاحتساب وتصفية العمل من شوائب ما يقدح فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) فيتفاضل العمل بتفاضل النية، وهذا من معاني الحديث.
-وقد ذكر ابن رجب عن عبد الله بن المبارك أنه قال: (رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ، وربَّ عمل كبيرٍ تُصَغِّره النيَّةُ).
ولذلك قد يعمل رجل عملاً يسيراً فيما يرى
الناس ويثيبه الله تعالى عليه ثواباً عظيماً، بل قد يدخله به الجنة، وقد
يعمل آخر عملاً عظيماً فيما يرى الناس ولا يكون له ذلك الوزن في ميزان
حسناته.
والأمر الآخر: الاستكثار من العبادات؛ لأن كلَّ عبادة يؤديها العبد خالصة لله يزداد بها إخلاصاً.
فبازدياد العبد من الأعمال الخالصة وازدياد قوة الإخلاص تزداد محبة الله تعالى له كما في حديث الولي المشهور.
وقد تقدَّم في الدرس الثاني ذِكْرُ درجات تحقيق العبودية لله جل وعلابما يغني عن الإعادة، وهي درجات تحقيق الإخلاص، ولكل درجة أحكامها وفضائلها في الدنيا والآخرة.
لكن أنبه إلى مسألة مهمة ، وهي أن تحقيق
الإخلاص يلزم منه تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيث ذكر
الإخلاص ممدوحاً فهو الإخلاص المقرون بالمتابعة ؛ لأن من خلص قصده لله ، لم
يرد إلا ما أراده الله، ومن تبيَّن له هدي النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض
عنه؛ لم يكن مخلصاً لله جل وعلا في حقيقة الأمر، وإنما هو متبع لهواه، ومن أحسن الاتباع فقد أخلص لله جل وعلا.
ثمّ إنّ العبادة
التي يؤدّيها المخلص لا بدّ فيها من كيفية تؤدَّى بها، ولا تُقبل عبادة من
العبادات على غير ما شرعه الله تعالى بما أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم
؛ فالإخلاص والمتابعة متلازمان.
•فضائل الإخلاص
إخلاص العبادة لله هو
حقيقة الدين الذي لا يقبل الله سواه، وهو معنى الإسلام الذي بعث الله به
المرسلين، فإن الدين السليم والقلب السليم هو الذي خلص من الشرك.
وإخلاص العمل لله هو لب ما يراد من العبد ، وما خلق لأجله، قال الله تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}
وفي مسند الإمام أحمد وغيره من حديث أنس بن مالك وزيد بن ثابت وجبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم أبدا: إخلاص العمل لله ، و مناصحة ولاة الأمر ، و لزوم الجماعة ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)).
-قال سهل التستري: (الدنيا كلها جهل موات إلا العلم منها، والعلم كله حجة على الخلق إلا العمل به، والعمل كله هباء إلا الإخلاص منه). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
وللإخلاص فضائل عظيمة
بحسب درجات تحقيقه ؛ فأما الذين انتفى عنهم الإخلاص مطلقاً فهم الكفار
والمنافقون ، وأهم أصحاب النار الذين يخلدون فيها أبداً والعياذ بالله.
وأما أهل الإسلام فهم أهل الإخلاص ، ولكل مسلم نصيبه من الإخلاص وفضائله وبركاته .
فأما أصحاب الدرجة الأولى
الذين أتوا بأصل الإخلاص، وهو الكفر بالطاغوت وعبادة الله وحده لا شريك
له، لكنهم اقترفوا من الكبائر كالشرك الأصغر من الرياء والسمعة في بعض
الأعمال وغيرها من الكبائر ؛ فهم من أهل الوعيد من المسلمين:
فما معهم من أصل
الإخلاص يمنعهم من الخلود في النار، ويدخلون به الجنة بإذن الله تعالى،
وتنفعهم بإذن الله دعوات الداعين لهم وما يأذن الله به لهم من شفاعات
الشافعين.
وما معهم من الكبائر
يستحقون عليه العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فمنهم من يعذب في الدنيا ،
ومنهم من يعذب في قبره، ومنهم من يعذب في النار حتى لا يدخل الجنة إلا نفس
طيبة قد ذهب خبثها.
وأما نفس الكافر والمنافق فهي كنجاسة العين لا يذهب خبثها.
ومن تأمل نصوص الوعيد
الواردة في أصحاب الكبائر من المسلمين علم أنه لا طاقة له بهذا العذاب
الأليم، وأن السلامة لا يعدلها شيء، وأن الخوف على العبد أن يموت وهو مصرّ
على كبيرة من الكبائر، لأن ما سوى الكبائر معفوّ عنه كما قال الله تعالى:{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريماً}
ولذلك كان الإكثار من الاستغفار والتوبة إلى الله من كل ذنب، والصدق في ذلك، من شأن المؤمنين الأتقياء.
وأما أصحاب الدرجة الثانية
من الإخلاص وهم المتقون الذين اجتنبوا الشرك الأكبر والأصغر كالرياء
والسمعة وطلب الدنيا بعمل الآخرة فهؤلاء نصيبه من فضائل الإخلاص أعظم من
أصحاب الدرجة الأولى ، وأعظم منهم أصحاب الدرجة الثالثة وهم المحسنون وهم
الذين استكملوا الإيمان لما استكملوا الإخلاص إذا كان حبهم لله وبغضهم لله
وعطاؤهم لله ومنعهم لله
كما في سنن أبي داوود وغيره من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من أحب لله وأبغض لله و أعطى لله و منع لله فقد استكمل الإيمان)).
والحديث عن فضائل الإخلاص يطول ، ونصيب كل مسلم منه بحسب ما يكون معه من الإخلاص ؛ فإن تفاضل المسلمين في تحقيقه كبير.
فمن فضائله: أنه سبب النجاة من عذاب القبر وعذاب النار.
ومن فضائله: أنه سبب دخول الجنة.
ومن فضائله: أنه شرط لقبول العمل.
ومن فضائله: أنه سبب التخلص من تسلط الشيطان وإغوائه وكيده، فبقدر ما يخلص العبد لله يتخلص من كيد عدوه. قال أبو سليمان الداراني: (إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء).
ومن فضائله: أنه
السبب الأعظم لمحبَّة الله عز وجل للعبد، وما يتبعها من بركات عظيمة منها:
مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب، ومضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات، والحفظ من
الشرور والآفات، ودر كيد الأعداء، وزوال الهموم والغموم، وحصول النعم
والبركات، واندفاع النقم والعقوبات، والتوفيق للطاعات والقربات.
ومن فضائله: أن صاحب الإخلاص لا يكون مذموماً ولا مخذولاً ، كما قال الله تعالى: {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموماً مخذولاً}؛
فلما جعل الله الذم والخذلان على أهل الشرك علمنا أن أهل الإخلاص لا
يكونون مذمومين ولا مخذولين، وبحسب ما يبلغ العبد من الإخلاص يكون نصيبه من
النجاة من الذم والخذلان.
ونظير هذا الاستدلال الاستدلال بقول الله تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)}
على أنّ من حقق الإخلاص لا يكون من المعذبين.
ومن فضائله: أن المخلص موعود بكفاية الله تعالى له، كما قال الله تعالى: {أليس الله بكافٍ عبده} ،
فالعبادة المعتبرة شرعاً هي عبادة المخلص لله، وأما المشرك فعباداته لا
وزن لها ، بل يجعلها الله هباء منثوراً، كما قال الله تعالى: {وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباء منثورا}
-قال سفيان الثوري: (عمدنا إلى ما عملوا من عمل من خير فلم نقبل منهم).
ومن فضائله: أن عمل المخلص ولو كان قليلاً فإنه لا يضيع عند الله، بل يقبله الله منه ويضاعف له المثوبة عليه، قال الله تعالى:{كل شيء هالك إلا وجهه} قال أبو العالية: إلا ما أريد به وجهه.
وهو أحد المعنيين المأثورين عن السلف في تفسير هذه الآية، وهو معنى صحيح، فعمل المخلص لا يهلك على صاحبه ولا يضيع.
قال الله تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}(عملا) نكرة في سياق النفي تعم كل عمل مهما قل.
وأصل إحسان العمل إخلاصه لله تعالى.
ومن فضائله: ما
يجده المؤمن المخلص من الحياة الطيبة التي هي أعظم نعيم الدنيا من سكينة
النفس، وطمأنينة القلب، وعزة الطاعة، وحلاوة الإيمان، وبرد اليقين، ونور
العلم، ولذة المناجاة والشوق إلى الله، ولا ينال العبد هذه النعم العظيمة
التي لا تقوم لها الدنيا وما فيها إلا بالإخلاص.
- قال عامر الشعبي: كتب عمر إلى أبي موسى: «من
خلصت نيته كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بغير ما يعلم
الله من قلبه شانه الله، فما ظنك في ثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته،
والسلام» رواه هناد في الزهد، وهو جزء من رسالة عمر لأبي موسى
المشهورة في القضاء، وقد أخرجها بطولها عمر بن شبة في تاريخ المدينة،
والدارقطني في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى وابن عساكر في تاريخه
وغيرهم.
وقد بقيت هذه الرسالة عند حفيد أبي موسى سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري حتى أُخرجت لسفيان بن عيينة فقرأها.
• الأسباب المعينة على تحقيق الإخلاص
الأسباب المعينة على تحقيق الإخلاص يجمعها أمران: اليقين والصبر.
فيكون لدى العبد يقين بربّه جلَّ وعلا، وحسن معرفة بما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وما يجب له من إخلاص العمل والقصد .
ويكون لديه معرفة بقَدْرِ نفسه، وأنه لو وكله الله إلى نفسه وكله إلى عجز
ومضيعة، وأن اتباعه لهوى النفس في معصية الله باب إلى الخسران العظيم؛ وأن
ما فاته من درجات الفضل والخير والرفعة والزلفى لدى الله عز وجل إنما هو
بسبب نفسه، وتفريطها في جنب الله، وإذا حصل اليقين بذلك في قلب العبد عدَّ
ما يفوته من الفضائل مصائب وما يتعرض له من سخط الله بسبب معاصيه وتفريطه
في القيام بما افترضه الله عليه مصائب أعظم، وشهود هذا وذاك يحملانه على
الفرار إلى الله من شر النفس وسيئات أعمالها، ويذهبان من قلبه العجب
والغرور وشهود العمل والمنة به على الله، فيؤتي ما يؤتي وقلبه وجلٌ من الله
؛ يخشى أن لا يقبل منه، وهذا حال المؤمن الصادق المخلص.
والعلم بذلك لا يكفي وحده ، بل يحتاج العبد في ذلك إلى صبر ومصابرة، وإلزام
للنفس على سلوك طريق الهدى؛ وحسن استعانة بالله وتوكل عليه ؛ فإن الآفات
والفتن التي تعرض للقلب إذا لم يحسن العبد ردها والاستعاذة منها قد تحجب
عنه حقيقة العلم وتطمس البصيرة فيقسو القلب ويغلظ، فيكون الزيغ بعد الرشاد،
والضلال بعد الهدى ، والحور بعد الكور، والعياذ بالله.
ومن العبَّاد من يؤثر الخلوة ليستعين بها على تحقيق الإخلاص ، كما قال ذو النون المصري: (لم
أر شيئاً أبعث لطلب الإخلاص من الوحدة؛ لأنه إذا خلا لم ير غير الله، وإذا
لم ير غير الله لم يحركه إلا حكم الله، ومن أحب الخلوة فقد تعلَّق بعمود
الإخلاص، واستمسك بركن كبير من أركان الصدق)ا.هـ.
وهذه المسألة فيها تفصيل، والخلاصة فيها أنه ينبغي للعبد أن يكون له ساعات
من يومه يخلو فيها بنفسه وربه فذلك أدعى لتحقيق الإخلاص ومحاسبة النفس وحسن
التعبد بعبادات السر.
وأما إدامة الخلوة والإكثار منها ففيها آفات مضرة بالسالك ولا يستطيعها على
الإحسان فيها كل أحد، فمن السالكين من أرادها فتحولت خلوته إلى بطالة.
عاقبة الإخلاص
-قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين في شرح كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه:( قوله: (فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله)
هذا شقيق
كلام النبوة وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدث الملهم، وهاتان الكلمتان من
كنوز العلم، ومَنْ أَحسَنَ الإنفاقَ منهما نفع غيره وانتفع غاية الانتفاع؛
فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله، والثانية أصل الشر وفصله.
فإن العبد
إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمه وعلمه لوجهه سبحانه كان الله معه
فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ورأس التقوى والإحسان خلوص
النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له فمن كان معه فمن ذا الذي
يغلبه أو يناله بسوء فإن كان الله مع العبد فمن يخاف وإن لم يكن معه فمن
يرجو وبمن يثق ومن ينصره من بعده فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه
أولا وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ولو كادته السماوات والأرض
والجبال لكفاه الله مؤنتها وجعل له فرجا مخرجا وإنما يؤتى العبد من تفريطه
وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة أو في اثنين منها أو في واحد فمن كان قيامه
في باطل لم ينصر وإن نصر نصرا عارضا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول وإن قام
في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق
أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولا والقيام في الحق وسيلة إليه
فهذا لم تضمن له النصرة فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله وقاتل
لتكون كلمة الله هي العليا لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه فإنه ليس من
المتقين ولا من المحسنين وإن نصر فبحسب ما معه من الحق؛ فإن الله لا ينصر
إلا الحق، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر
منصور أبداً:
-فإن كان صاحبه محقًّا كان منصوراً له العاقبة.
-وإن كان مبطلاً لم يكن له عاقبة.
-وإذا
قام العبد في الحق لله، ولكن قام بنفسه وقوته، ولم يقم بالله مستعيناً به
متوكلاً عليه مفوضاً إليه بريًّا من الحول والقوة إلا به؛ فله من الخذلان
وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك.
ونكتة المسألة أن تجريد التوحيدين في أمر الله لا يقوم له شيء البتة وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زُمَرُ الأعداء)اهـ.
وخلاصة بيان الأمور الثلاثة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله أن يكون العبد قائماً بالحق، وقائماً لله وبالله.
فأما قيامه بالحق فيكون بمعرفة الحق ، وذلك يدرك بالعلم النافع.
وأما قيامه لله؛ فيكون بالصدق والإخلاص.
وأما قيامه بالله؛ فيكون بتحقيق التوكل والاستعانة، وهو موضوع الدرس القادم بإذن الله.
اللهم أسلم قلوبنا لك ووجوهنا
إليك يا حي يا قيوم، واجعلنا من أهل الصدق والإخلاص، واكتب الإيمان في
قلوبنا وأيدنا بروح منك، اللهم اجعلنا قوامين لك وبك، اللهم برحمتك نستغيث
فأصلح لنا شؤننا كلها ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة أعين، وهيء لنا من أمرنا
رشداً، واجعلنا للمتقين إمامًا.