8 Jul 2019
عناصر الدرس:
· تمهيد
· بيان أنواع القلوب
· حياة القلوب وموتها
· صحة القلوب ومرضها
· استنارة القلوب وظلمتها
· لين القلوب وقسوتها
· صلاح القلوب وفسادها
· زكاة القلوب وطهارتها وطمأنينتها
· تقلّب القلوب وتصرّفها
تمهيد: للقلوب شأن عظيم، وأحوال عجيبة،
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أنها تحيا وتموت، وتستنير وتُظلم، وتصحّ
وتمرض، وتلين وتقسو، وتصلح وتفسد، وتفقه وتَعمى، وتعقل وتغفل، وتوقن
وترتاب، وتُنيب وتنصرف، وتهتدي وتزيغ، ولها علل وأدواء، ولهذه الأدواء
والعلل شفاء. وتحلّ ببعض القلوب عقوبات عظيمة الأثر من المرض والزيغ، والصرف والإغفال، والطبع والختم، والشدّ والرَّين، وغيرها. وللقلوب أحوال أخرى من الطمأنينة والسكينة، والطهارة والزكاة، والخشية والخشوع، والوجل والإخبات، والتقلب والتصرّف، وغيرها. وفقه
هذه الأحوال ومعرفة أسبابها وأحكامها وآثارها يعين على فقه أعمال القلوب،
والبصيرة بالمخارج منها، والشفاء من أمراضها، والسلامة من تقلبها
وأخطارها. والقلب يُطلق على أمرين: الأمر الأول: ذلك العضو المعروف في الجسد الذي ينبعث منه الدم إلى سائر الأعضاء، وبموته ينقطع الدم فيموت الإنسان. والأمر الثاني: ما يُقابله من الرّوح، وهو خلقٌ لطيف يُرى بالبصائر لا بالأبصار، وله أحوال غيبية دلّت عليها النصوص، وهو
متعلّق الحبّ والبغض، والعَقْل والإدراك، ومصدر الإرادة، وبه تأتمر سائر
الأعضاء؛ ولكل عضو من الجسد تعلّق بالروح، فإذا توقّف مدده من القلب مات
العضو. والإنسان
متركّب من جسد وروح، فكما أنّ القلب الجسدي هو أصل بقاء حياة سائر
الأعضاء؛ فكذلك القلب الروحي أصل لحياة سائر الأعضاء؛ كما دلّ عليه قول
الله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فدلّت الآية على مكان القلب الذي يعمى ويفقه، وأنّه مختص بالقلب الذي في الصدر، وقال عن الكفار: {لهم قلوب لا يفقهون بها}. -قال ابن القيم رحمه الله: (يطلق القلب على معنيين: أحدهما: أمر حسي وهو العضو اللحمي الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وفي باطنه تجويف وفي التجويف دم أسود، وهو منبع الروح. والثاني: أمر معنوي وهو لطيفة ربانية رحمانية روحانية، لها بهذا العضو تعلق واختصاص، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسانية)ا.هـ. وقد
عُني جماعة من أهل العلم ببيان أحوال القلوب وأمراضها وشفائها فيما كتبوا
من التفاسير وشروح الأحاديث والوصايا والسير، ومنهم من أفردها بالتصنيف
كما فعل الخرائطي في كتابه "اعتلال القلوب"، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله رسالتان نفيستان في "أمراض القلوب وشفائها"، وله كتاب "التحفة
العراقية في الأعمال القلبية"، ولابن القيم رحمه الله كلام متفرق في كتبه
في أحوال القلوب، لابن رجب رسالة في "ذمّ قسوة القلب"، وله أيضاً كلام حسن
متفرّق في كتبه. وسأحاول في هذا الدرس تلخيص المهمّ من ذلك،
وشرح هذه المباحث المتعلقة بأحوال القلوب ببيان مقتضب أرجو أن يفي بالغرض
في هذا المقام، وأسأل الله التوفيق والسداد.
بيان أنواع القلوب
خلق الله الخلق لعبادته، وفطر قلوبهم على محبته
وتوحيده، فإذا تركت القلوب على فطرتها بلا فساد يطرأ عليها نشأت عارفة
بالله محبة له متجهة إليه.
وفساد الفطرة يكون بسببه مرض القلب أو موته،
ثمّ قد يعود القلب إلى فطرته إذا وفّق الله عبده وهداه لما يعيد قلبه إلى
فطرته بالإنابة إليه وتوحيده جلّ وعلا.
والقلوب على أنواع:
1. فمنها قلب حيّ صحيح، وهو قلب المؤمن؛ وهو أقرب القلوب لاستماع الذكر والانتفاع به والاستجابة لله تعالى: كما قال تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} ، قال قتادة: (يعني بذلك القلب: القلب الحيّ). رواه ابن جرير، وقال تعالى: {لينذر من كان حياً} قال قتادة أيضاً: (حيّ القلب حيّ البصر). رواه ابن جرير.
2. ومنها قلب مريض،
وهو قلب الفاسق والمنافق نفاقاً أصغر، وفيه مادّة خير ومادّة شرّ، وهو
الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فإن غلب خيره وإيمانه كان إلى أهل
الخير والإيمان أقرب، وهو على خطر من التمادي في الفسق والفجور فيؤدي به
الفجور إلى موت القلب وإظلامه ببعض أعمال الكفر والنفاق الأكبر، ولذلك قال
أهل العلم: المعاصي بريد الكفر.
3. ومنها قلب ميّت،
وهو قلب الكافر والمنافق نفاقاً أكبر، وهو الذي انتفى عنه الإيمان، وحبط
عمله، وضلّ سعيه بما ارتكب من الكفر المخرج عن الملة، والعياذ بالله.
وموت القلوب وحياتها ومرضها وشفاؤها أعظم شأناً من حياة الأبدان وموتها ومرضها وشفائها.
ثم إنّ القلوب الحية والمريضة والميتة تتنوّع إلى أنواع أخرى بحسب ما يغلب عليها من أوصاف ذلك النوع.
- فالقلوب الحية: ذاكرة، ومنيبة، وخاشعة، ومخبتة، وتفقه، وتعقل، وتهتدي.
- والقلوب المريضة:
فيها حياة وفيها موات، ويشتدّ مرضها باشتداد أسبابه من الافتتان بالشهوة
المحرمة والشبهة المشككة، والتعلق بغير الله، والغلّ والحسد، والكِبر
والبَطَر، والغفلة والقسوة.
- والقلوب الميّتة
تختلف باختلاف أسباب موتها من الشرك، والنفاق، والكفر، والإلحاد، وبما
تُعاقب به من الزيغ والصرف، والإغفال والقفل، والطبع والختم، والشدّ
والرين، وهذه العقوبات بعضها أشدّ من بعض.
- قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدا يقول: (الرين أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
والقلوب تكون في أصل أمرها على الفطرة ثمّ تُعرض عليها الفتن فتختلف باختلاف أحوالها مع تلك الفتن.
- قال حذيفة بن اليمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تُعرض
الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّ قلب أُشربها نُكتَ فيه نكتة
سوداء، وأي قلب أَنكرَها نكتَ فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على
أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود
مربادّا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أُشرب من
هواه» رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده من طريق أبي مالك سعد بن طارق الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة.
والأربد والمربادّ في اللغة هو الأسود الذي خالط سواده بياض أو غُبرة فكلاهما أربد، ولعل الثاني أقرب لمعنى الحديث.
والمجخّي: المنكوس.
- وقال محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب
صقلت، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي ذكر الله {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}). رواه الترمذي في جامعه والنسائي في السنن الكبرى، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك.
- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
(الإيمان يبدأ لمظة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت بياضا حتى
يبيضّ القلب كله، وإن النفاق يبدأ لمظة سوداء في القلب فكلما ازداد النفاق
ازدادت حتى يسودّ القلب كله). رواه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان، والبيهقي في شعب الإيمان.
واللمظة هي كالنقطة الصغيرة.
- وقال عبد الله بن مسعود: «إن الرجل ليذنب الذنب فينكت في قلبه نكتة سوداء، ثم يذنب الذنب فتنكت أخرى حتى يصير لون قلبه لون الشاة الربداء» رواه ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان، من طرق عن الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن ابن مسعود.
- وقال أبو البختري الطائي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (القلوب
أربعة: قلبٌ مصفَّح فذاك قلب المنافق، وقلبٌ أغلف فذاك قلب الكافر، وقلب
أجْرَد كأن فيه سراجاً يُزهر؛ فذاك قلب المؤمن، وقلب فيه نفاق وإيمان؛
فمثله كمثل قرحة يَمُدُّها قيحٌ ودم، ومثله كمثل شجرة يسقيها ماء خبيث
وماء طيب فأيّ ماء غلب عليها غلب). رواه ابن أبي شيبة في المصنف
وفي كتاب الإيمان من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي
البختري، وهذا إسناد رجاله ثقات، لكنّه أعلّ بالانقطاع بين أبي البختري
وحذيفة.
وقد رواه ليث بن أبي سليم عن عمرو بن مرة عن
أبي البختري عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً بنحوه إلا أنه جعل القلب المنكوس
للمنافق، والقلب المصفّح لمن فيه إيمان ونفاق، كما في مسند الإمام أحمد
والمعجم الصغير للطبراني، وليث ضعيف.
- وقال إبراهيم بن بشار: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: (قلب
المؤمن أبيض نقي مجليٌ محلّى مثل المرآة، فلا يأتيه الشيطان من ناحية من
النواحي بشيء من المعاصي إلا نظر إليه كما ينظر إلى وجهه في المرآة، فإذا
أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب من ذنبه محيت النكتة من قلبه
وانجلى، وإن لم يتب وعاود أيضا، وتتابعت الذنوب، ذنب بعد ذنب، نكت في قلبه
نكتة نكتة حتى يسود القلب، وهو قول الله عز وجل: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}).
قال: (الذنب بعد الذنب
حتى يسودّ القلب في إبطاء، ما نجع في هذا القلب المواعظ، فإن تاب إلى الله
قبله الله وانجلى عن قلبه كجلي المرآة). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
حياة القلوب وموتها:
يحيا القلب بالعلم والإيمان، ويموت بالجهل
المطلق، وبكثرة العلل والأمراض وفقدان الغذاء وأسباب الشفاء فتستحكم
الغفلة، ويستحكم الجهل المطلق؛ فيموت القلب، وإن كان البدن حيّاً، لأنَّ
القلبَ قد حيلَ بينه وبين أسباب حياته الحقيقية التي ينتفع بها، كما قال
الله تعالى عن الكفار: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ}
فذكروا الموانع على القلوب والأسماع والأبصار، وأبدانهم حيّة تسمع
الأصوات وتبصر الأشخاص وتفهم الخطاب، لكنّها حياة بَدَنٍ لا حياة قلب.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا
وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}.
ولذلك فإنّ القلب الميّت لا يستجيب لما يحييه؛
فلا يسمع سمعاً ينفعه، ولا يتكلّم بما ينفعه، ولا يبصر ما ينفعه، كما قال
الله تعالى في الكفار: {صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون}، فنزّل الذي لا ينتفع بالجارحة منزلة فاقدها.
وإذا مات القلب لم ينفذ إليه الهدى ولو كان الذي يعظه ويُرشده أبلغ الخلق وأحسنهم بيانا، كما قال الله تعالى: {فإنّك لا تسمع الموتى} أي:
موتى القلوب على الصحيح من أقوال المفسرين، وذهب بعض المفسّرين إلى أنّه
تشبيه ضمني، أي: هم كالأموات في عدم سماعهم واستجابتهم، وفي كلا التفسرين
حجة، والأول أصحّ.
-
و قال ابن القيّم رحمه الله: (شبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب
القبور، وهذا من أحسن التشبيه، فإن أبدانهم قبور لقلوبهم؛ فقد ماتت قلوبهم ،
وقُبرت فى أبدانهم؛ فقال الله تعالى: {إنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ}، ولقد أحسن القائل:
وفى الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم فى وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور)ا.هـ.
وقال تعالى: {وَإِنْ
كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ
نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ
بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا
تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذلَّ إدمانُها
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)}.
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ
كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ
أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)}
فهؤلاء قد خُتم على قلوبهم فلا ينفذ إليهم الهدى بسماع ولا بصر {وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها}
وأعظم أسباب موت القلب هو الشرك، وهو الظلم الأعظم الذي لا تبقى معه للقلب زكاة، كما قال الله تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة}.
والمعاصي
تُضعف حياة القلب، وتُدخل الموات فيه حتى إذا رانت على القلب أماتته، كما
قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}
- قال عاصم الأحول: سمعت الحسن [البصري] يقول في قول الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}: «تدرون ما الإرانة؟ الذنب بعد الذنب، والذنب بعد الذنب، حتى يموت القلب» رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة.
- وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادةَ في تفسير هذه الآية: (أعمالَ الْسَّوْءِ، إِي وَاللّهِ؛ ذَنبٌ عَلَى ذَنبٍ، وذنبٌ عَلَى ذَنبٍ، حتَى ماتَ قَلْبُهُ واسودَّ).
- وقال عبد الله بن المبارك:
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها
وصاحب
القلب الميّت تتسلّط عليه الشياطين بسبب إعراضه عن ذكر الله فتضلّه
وتغويه حتى يظنّ أنه مهتدٍ وهو في ضلال مبين، ويرى أعماله السيئة حسنة،
كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ
الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ (37)} وقال تعالى: { أَفَمَنْ
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
وإذا استحكم موت القلب استحوذ عليه الشيطان
فنفَر صاحبُه من الحق نفوراً شديداً، وأصبح لا يطيق سماع الحق، ولا رؤية
آياته من شدّة إعراضه عنه، ولا تزيده المواعظ إلا نفوراً، كما قال الله
تعالى: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) }
وقال الله تعالى: {
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا
هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}
وقال الله تعالى:
{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}
وقال الله تعالى: {
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا
يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)}
وقال تعالى: {
يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا
كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي
الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)}.
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)}
وهذه الآيات الواردة في ذمّ القلوب
الميّتة والمريضة وإن كانت نازلة في الكفار إلا أنها تتناول بالتنبيه مَن
في قلبه شعبة من شعب النفاق أو الكفر الأصغر، لئلا يُصاب بعقاب من جنس
عقابهم وإن لم يكن في درجته وشدته.
السبيل إلى حياة القلب:
ولا
سبيل إلى حياة للقلب إلا بتوحيد الله تعالى والاستجابة له ولرسوله صلى
الله عليه وسلم؛ فالتوحيد يزيل إلهية ما سوى الحقّ من القلب، والاستجابة
لله تعصمه من الهوى واتّباع الشيطان.
- ودليل الأول قوله تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناه} أي: بتوحيد الله الذي يخرج به العبد من الظلمات إلى النور، ولذلك سمّى القرآن روحاً لأنه متى باشر القلب حيي به كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}.
- ودليل الثاني قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.
- قال
ابن القيّم رحمه الله: (فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هى بما يدعونا
إليه الله والرسول من العلم والإيمان؛ فعلم أن موت القلب وهلاكه بفقد
ذلك).
ومن
صدق في طلب حياة قلبه صدقه الله وأحيا قلبه مهما بلغ موت قلبه كما قال موسى
عليه السلام لفرعون وهو من أقسى الخلق قلباً: {وأهديك إلى ربك فتخشى}
وعدّيت الهداية بـ"إلى" لتضمينها معنى الإنابة، أي: أدلّك وأرشدك فتنيب إلى
ربّك وتعرفه المعرفة الصحيحة التي تنير البصيرة وتحملك على خشية الله
تعالى؛ فمن عرف اللهَ خَشِيَه.
وكلما
كان العبد أحسن استجابة لله كانت حياة قلبه أحسن وأتم، كما قال تعالى:
{للذين استجابوا لربّهم الحسنى} حسن الحال وحسن المآل، وتقديم الجار
والمجرور لإفادة الحصر فهو امتياز لأهل الاستجابة، والاستجابة والحُسن
أمران متفاضلان؛ فأسعد الناس بحسن الحال وحسن المآل أحسنهم استجابة لربّه
جلّ وعلا.
علامات حياة القلب:
ولحياة القلب علامات:
منها:
الانتفاع بالذكرى، كما قال تعالى: {لينذر من كان حيا}، أي: حيّ القلب، وقال
تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} أي: قلب حي
ومنها: أن يسرّ بالحسنات ويستاء للسيئات، وفي الحديث الصحيح: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن).
ومنها: أن يكون حبه لله وبغضه لله وعطاؤه لله ومنعه لله، وهذه أعلى درجات
حياة القلب ومن بلغها فقد استكمل الإيمان، كما ثبت في الحديث الصحيح.
وإذا
حسنت حياة القلب أحسّ صاحبه بما يضرّه ويؤذيه؛ فيجد ألماً للذنب وإن صغر،
ووحشة من الغفلة وإن خفّت، فيمتنع مما يؤذيه ويضرّه، ويسعى إلى تطهير قلبه
وتغذيته، ويبادر إلى ما يُزيد قلبه حياةً ونوراً، كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داوود وغيرهم من طرق عن ثابت البناني عن أبي بردة عن الأغر المزني رضي الله عنه.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والغين حجاب رقيق أرق من الغيم، فأخبر أنه يستغفر الله استغفارا يزيلُ الغينَ عن القلب فلا يصير نكتة سوداء).
- وقال ابن القيم: (الغين ألطف شيء وأرقّه). أي مما يغشى القلب.
والمقصود أنَّ صاحب القلب الحيّ يشعر بما يؤذي
حياةَ قلبه، ويميّز ما يكدّر عليه صفوه واستنارته، وما يُضعف قوته ويؤثر
في صحّته، ويزداد تمييزه بازدياد نصيبه من حياة القلب وبصيرته التي عمادها
الإيمان والتقوى، كما قال الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
وقال تعالى: {
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا
تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)}
والقلب
الحيّ يجعل الله فيه نوراً يمشي به صاحبه، وفرقاناً يفرّق به بين الحقّ
والباطل، وكلما كانت حياة القلب أتمّ كان نوره أعظم، وفرقانه أظهر، حتى
يتبيّن له الحقّ من الباطل، والهدى من الضلال، والغيّ من الرشاد، فلا
تلتبس عليه الأمور {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (22)}.
ومن
سمات القلب الحيّ أنه ينجذب إلى ما يزيده حياةً ونوراً وزكاةً وطمأنينة؛
فيألف الطاعات ويحبّها ويأنس بها ويشتاق إليها، وينفر من المعاصي والغفلات
ويستوحش منها، ولذلك فإنّ صاحب القلب الحيّ هو الذي يسوغ له أن يستفتي
قلبه، لأن قلبه صحيح الإدراك، حسن التمييز بين الحقّ والباطل، لطيف الشعور
بآثار البرّ والإثم، قد ارتاضت نفسه لأعمال البرّ وعرفتها، ووجدت آثارها
المباركة، فما أدخل عليها أثراً ينكره توقف فيه، وعلم أنّ له علّة توجب
تجنّبه.
وهذا
مسلك لا يصحّ إلا لمن كان حسن التسليم والانقياد لله ولرسوله صلى الله عليه
وسلم، معظّماً لنصوص الكتاب والسنة، حسن العمل بالمُحكم من النصوص؛ فإذا
ورد عليه ما يشتبه عليه ردّه إلى ما عرفه من المحكم وما وجده من آثار
اتباعه للمحكم، فما وافقه عرف أنه حق، وما خالفه عرف أنه باطل.
وهذا
أصل مهم للتمييز بين من يستفتي قلبه وهمّته إلى معرفة الحقّ الذي يريده
الله ويقبله ويثيب عليه، وبين من يستفي قلبه وهمّته إلى ما تهواه نفسه
وتخلد إليه.
وهذا
الأصل مما يُفسّر به الحديث الذي رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد
الملك بن سعيد بن سويد، عن أبي حميد وأبي أسيد أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: ((إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين
له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم
الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد
فأنا أبعدكم منه)). رواه أحمد وابن سعد وابن وهب وابن حبان وغيرهم، وصححه الألباني وقال: (هو خاص بطبقة معينة من أهل العلم).
وهم الذين لديهم من الفرقان ما يميّزون به ما
صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يصحّ، ولذلك كان جماعة من الأئمة
النقّاد ربما سُئلوا عن حديثٍ فينكرونه ويرون أنه باطل لا يصحّ عن النبي
صلى الله عليه وسلم، فيُفتّش بعض أهل العلم في إسناده وأحوال رجاله فتتبيّن
له علّته، وأنه كما ذكروا.
وهذا الحديث الذي رواه ربيعة أصحّ من الحديث
الذي رواه أبو عبد السلام البصري عن أيوب بن عبد الله بن مكرز الفهري، عن
وابصة بن معبد الأسدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوابصة: «جئتَ تسأل عن البر والإثم؟»
قال: قلت: نعم.
قال: فجمع أصابعه فضرب بها صدره، وقال:«استفت نفسك، استفت قلبك يا وابصة - ثلاثا - البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك»
رواه أحمد والدارمي وابن ابي شيبة، وقد أُعلّ بالانقطاع، فلم يسمعه أبو
عبد السلام من أيوب، كما نصّ على ذلك الإمام أحمد في روايته في المسند، وفي
جوابه لمن سأله عن هذا الحديث، وحسّنه بعض أهل العلم، ولبعضه شواهد.
- قال معاوية بن صالح: حدثني عبد الرحمن بن
جبير بن نفير الحضرمي، عن أبيه، عن النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه
قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن البر والإثم فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس» وهذاحديث صحيح رواه مسلم في صحيحه، والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي في جامعه وغيرهم.
وهذا الحديث وما في معناه إنما هو لأهل القلوب الحية، وأمّا أصحاب القلوب المريضة والميّته فهم عن هذا بمعزل:
- فأما أصحاب القلوب الميتة فإنهم يتناولون ما يضرّ قلوبهم وهم لا يشعرون بضررها؛ بل ربما وجدوا في ما يضرّهم لذة ومتعة كما يلتذ الجاهل بتناول ما يضر بجسده، ولذلك قد يأتون
المعاصي ويجاهرون بها ويفاخرون ولا يجدون في صدورهم حرجاً منها، ولا في
أنفسهم كراهية لاطلاع الناس عليها إلا حين يخشون من اطّلاعهم ضرراً
دنيوياً.
- وأما أصحاب القلوب المريضة
فلديهم نوع تمييز لكنه ضعيف، فقد يتناولون ما فيه ضرر شديد ويحسبونه
هيّناً، ثم لا يزال يضعف تمييزهم حتى تموت قلوبهم إلا من تاب منهم وأناب.
صحة القلوب ومرضها:
صحّة القلب هي سلامته
من الآفات والعلل، وارتواؤه بما يغذّيه ويقوّيه ويشفيه من العلل والأمراض،
ويقيه من الفتن؛ فيكون قلباً صحيحاً قوياً، وإذا كان القلب صحيحاً كان
أقوى على دفع كثير من العوارض التي يُفتن بها مريض القلب.
ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل لبعض الناس: (لو صححتَ لم تخف أحداً).
- قال ابن تيمية: (أي خوفك من المخلوق هو من مرض فيك كمرض الشرك والذنوب).
وصحّة القلوب تتفاضل
كما تتفاضل صحّة الأبدان؛ فبعضها أصحّ من بعض وأقوى، وأكثر منعة من الآفات
والأعراض، وتفاضلها يتفاضل أسباب الصحة والقوة وتعددها، وبتفاضل سلامتها
من الأمراض والعلل.
وعماد صحّة القلب وقوّته على ثلاثة أمور:
الأول: البصيرة التي تحصل بها صحّة العلم، وتفضي بصاحبها إلى اليقين.
والثاني: الرشاد الذي يكون بسبب صحّة الإرادة، وينتج عنه صلاح العمل، ويفضي بصاحبه إلى الاستقامة.
والثالث: العافية، التي يسلم بها من الآفات التي تمرض القلب وتضعفه.
ولا تُنال هذه الأمور
إلا بتوفيق من الله تعالى وعون منه، ولذلك كثر في النصوص الأمر بسؤال الله
تعالى هذه الأمور وما في معناها، وقد تضمنها الدعاء المبارك في سورة
الفاتحة فقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} مشتمل على سؤال البصيرة والرشاد، لأنه الهداية قوامها على صحة العلم وصلاح العمل.
وقوله: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} سؤال للعافية من الآفات التي ابتلي بها المغضوب عليهم والضالون، ومن عوفي من أسباب الغضب والضلال فقد عوفي.
وأما مرض القلب فهو نوع فسادٍ في تصوّره وإرادته.
أ: ففساد التصوّر يحصل به الافتتان بالشبهات.
ب: وفساد الإرادة يحصل به الافتتان بالشهوات.
والأمراض القلبية تُضعف
القلب وتُنهكه حتى قد يصل به الحال إلى سرعة التأثر بالعوارض اليسيرة،
والافتتان بأدنى فتنة، وهذا بخلاف القلب الصحيح القوي.
وفساد التصوّر أن
يتصوّر الأمور على غير حقيقتها، فقد لا يبصر الحقّ ويحصل له بذلك تحيّر
وتردد واشتباه، وقد يرى الحقّ باطلاً والباطل حقّا، وقد يُلبَّس عليه الحق
ببعض الباطل، فيخلط تصوّراً صحيحاً وآخر فاسداً.
والقلب يمرض بالآفة
المُمرضة من الشهوة والشبهة وبالغفلة عن غذائه وأسباب قوّته وطهارته؛ فرجعت
أمراض القلوب إلى أنواع من الجهل وظلم النفس كما قال الله تعالى في شأن
الإنسان: {إنه كان ظلوماً جهولا}
والآفات الممرضة قد يكون في القلب بسببها شُعبة من شعب الفسق أو الكفر أو النفاق.
وتزداد أمراض القلب بتعدد الآفات، وقوتها، وتزايد آثارها؛ فهي كالبلاء الذي يستشري في الجسد إن لم يجد ما يوقفه ويطهّر الجسد منه.
وقد يصل الحال بصاحب القلب المريض إلى أن يشابه المنافقين في بعض أعمالهم فيقرن معهم كما في قول الله تعالى: {لَئِنْ
لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا
ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)}
ومرضى القلوب لم تمت
قلوبهم كموت قلوب الكفار والمنافقين، وليست صحيحة كصالح قلوب المؤمنين، بل
فيها أمراض شبهات وشهوات؛ فإذا تطهّرت منها رجعت كصالح قلوب المؤمنين،
وإذا تمادت في غفلتها خُشي عليها أن تموت كما ماتت قلوب الكفار
والمنافقين.
وما يحلّ في القلوب من أمراض على نوعين:
1: أمراض سببها ذنوب وغفلة مذمومة من العبد.
2: وأمراض هي عقوبة من الله تعالى للقلب المريض الزائغ؛ كما قال تعالى: {في
قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً} وقال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}
ولذلك يجب الحذر من إهمال مرض القلب.
وقول الله تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض}
دليل على أنّ صحيح القلب لو تعرّضت له المرأة لم يلتفت إليها، بخلاف
القلب المريض بالشهوة؛ فإذا خضعت المرأة بالقول حرّكت شهوته ففتنت قلبه.
ومن خطر مرض القلب أن الفتنة إذا وردت على قلب مريض كان
أثرها أسرع وأشدّ؛ كما قال الله تعالى: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين
في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم}، وقال تعالى: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك
له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم}.
استنارة القلوب وظلمتها:
القلوب تستنير وتُظلم:
- فالقلوب الحيّة مستنيرة.
- والقلوب الميتة مظلمة.
- والقلوب المريضة فيها نور وظلمة بحسب ما يغلب عليها من الصحة والمرض.
وأصل النور مركوز في كلّ قلب وهو نور الفطرة؛ ثمّ قد
يزداد المرء بالعلم والإيمان، وقد يطمس هذا النور حتى يظلم قلبه كلّه، وقد
يبقى في القلب نور وظلمة.
قال الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}
فدلّت
الآية على أنّ الكفار يخرجون من نور الفطرة التي فطرهم الله عليها إلى
ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، وأنّ المؤمنين يخرجون من ظلمات الجهل
والمعاصي والغفلات إلى نور العلم والإيمان والذكر، وفي الحديث القدسي: (إني
خلقت عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت
عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا).
رواه مسلم من حديث قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار
المجاشعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه جلّ وعلا.
وعماد نور القلب على أمور:
1: الفطرة الصحيحة، وضدّها فساد الفطرة.
2: والعلم الذي تحصل به البصيرة في الدين، ويرتقي به المؤمن إلى مرتبة اليقين.
3: واتباع الهدى، وبه تحصل الاستقامة، وتتحقق التقوى، ويرتقي به المؤمن إلى مرتبة الإحسان.
4: والذكر، وهو مَدد القلب من النور، وبالغفلة يضعف نور القلب.
ونور القلوب يتفاضل كما
أن ظلمتها تتفاوت، وهو نور معنوي، له أثر عظيم في إبصار الحقّ ومعرفته،
والاستقامة على طريق الهدى، وكشف زيف الشهوات المحرمة وإبصار حقيقتها
وعاقبتها، وكشف الشبهات المضلة وإبصار ضلالها وغلطها.
وكلما عظم النور في القلب ازداد حياة وقوّة.
والقلوب المنوّرة بنور الله تسمع فتنتفع بما تسمع، وتبصر الحق وآياته فتزداد به بصيرة، وتفقه وتعقل؛ فتتّبع الهدى، وتجتنب الزلل.
والقلوب الميتة على الضدّ من ذلك، لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل {صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون}
كما قال الله تعالى، وقال: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم}
وهذا إسماعٌ للقلب، وأما الإسماع الذي تقوم به الحجة فقد بلغهم وعرفوا
المعنى وفهموا الخطاب، لكنّ قلوبهم في نفور شديد عن سماع الحق والتفكّر
فيه والانتفاع به.
وقال تعالى: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فنسبة عمى الأبصار إلى عمى القلوب نسبة ضئيلة لا يُعدّ معها عمى الأبصار شيئاً ذا بال.
وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها}.
وإذا استنار القلب اهتدت الجوارح واستنارت بما فيه من النور، وإذا أظلم القلب أظلمت الجوارح وتخبّطت في الظلمات.
-قال ابن القيّم رحمه الله: (إنما
الجوارح أتباع للقلب يستخدمها استخدام الملوك للعبيد والراعي للرعية،
والذي يسري إلى الجوارح من الطاعات والمعاصي إنما هي آثاره؛ فإن أظلم
أظلمت الجوارح، وإن استنار استنارت، ومع هذا فهو بين إصبعين من أصابع
الرحمن عز وجل)ا.ه.
وهذا النور يتمثّل لأصحابه يوم القيامة نوراً حقيقياً يسعى بين أيديهم في ظلمات ذلك اليوم، كما قال الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً
نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا
يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (8)}.
وقال تعالى: {
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ
لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا
وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ
بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ
(13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ
الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (15)}
وظلمة القلوب تكون
بفساد الاعتقاد والتصوّر وفساد الإرادة والعمل، وما يتبعهما من الأعمال
المترتبة عليهما، وكلما عظم الفساد ازدادت الظلمة؛ حتى يحتجب عن القلب
إبصار الحق وإرادته.
والمؤمن المتّقي كلما
عرض له شيء من أنواع الفساد في الاعتقاد والتصوّر أو الفساد في الإرادة
والعمل بادر إلى تطهير قلبه لتعود إليه بصيرته، كما قال الله تعالى: {إن الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون}.
ومن البصيرة أن يدرك
المؤمن عاقبة المعصية وقبحها وسوء أثرها ويبصر البرهان على ذلك بقلبه
فيزدجر عن المعصية، كما قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام: {ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}.
-قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هو برهان الإيمان الذي حصل في قلبه فصرف الله به ما كان هم به وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب عليه خطيئة إذ فعل خيرا ولم يفعل سيئة).
وما يهمّ به القلب على
نوعين: همّ خطرات، وهمّ إصرار، وما همّ به يوسف عليه السلام هو من النوع
الأول، وهمّ الخطرات يكون من حديث النفس ومن وسوسة الشيطان شيطان الجنّ أو
شيطان الإنس، فمن دافع الخطرات وتذكّر فأبصر الحق واتّبعه كان من عباد
الله المتقين، كما قال الله تعالى: { إن الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون}.
والظلم من أسباب ظلمة القلب، وهو على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الشرك وهو الظلم العظيم.
والنوع الثاني: ظلم الخلق.
والنوع الثالث: ظلم النفس.
وكل معصية هي من ظلم
المرء لنفسه، لأنه لم يعدل في حقها عليه بإلزامها طاعة الله؛ فظَلمها إذ
عرّضها لسخط الله وعقابه، وحرمها فضله وثوابه.
والقلب يظلم وينير بحسب ما فيه من الإيمان والنفاق، وإنارته: إبصاره للحق، وإظلامه: عمايته عنه.
واستحكام ظلمة القلب إنما يكون للكفّار والمنافقين، وهم على صنفين:
1- صنف زُيّن لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنة؛ فهم أصحاب جهل مركّب، ممعنون في الغواية والضلال.
2- وصنف أصحاب جهل بسيط يتخبّطون في الظلمات؛ من حيرتهم وتردّدهم.
وقد ضرب الله تعالى مثلين لهذين الصنفين في قوله تعالى:
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ
اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ
مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا
أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ
نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}.
لين القلوب وقسوتها:
القلوب تلين وتقسو،
ولقسوتها ولينها أسباب وعلامات، والقلب الليّن أقرب إلى رحمة الله، وأحرى
بالانتفاع بالذكرى، بخلاف القلب القاسي الذي استغلظ واشتدّ يُبْسه بسبب
استفحال أمراضه، وقحطه مما يغذّيه ويليّنه من العلم النافع والمواعظ الحسنة
والأعمال الصالحة.
والقلب القاسي كالأرض
الجرداء المقحطة، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فلا ينتفع صاحبه بالمواعظ
والتذكير، بل قد يصل القلب من شدّة قسوته إلى أن يكون الحجارة أو أشدّ قسوة
كما قال الله تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة}، فكما أنّ الحجارة صلبة لا ينفذها الماء فكذلك القلب القاسي لا تنفذ إليه الموعظة ولا ينتفع بالذكر.
وقسوة القلب أخطر من
ضعفه لأنها تورث صاحبها فساد التصوّر، والجسارة على الباطل، والإمعان في
الغواية، وإذا ذكّر بآيات الله ازداد نفوراً وإعراضاً وقسوة قلب، وتلك
علامة بيّنة على ضلال العبد كما قال الله تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين}
وقال تعالى: {
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا
وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ
إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}
وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
- قال مالك بن دينار: «ما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب» رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد، وابن أبي الدنيا في العقوبات.
- وقال يوسف بن أسباط: قال لي حذيفة المرعشي: «ما أصيب أحد بمصيبة أعظم من قساوة قلبه» رواه أبو نعيم في الحلية.
- وقال يحيى بن معاذ: (ما جَفَّت الدموع إلا لقساوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب، وما كثرت الذنوب إلا من كثرة العيوب). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
- وقال ابن القيم: (ما
ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله ، وخلقت النار لإذابة
القلوب القاسية، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، وإذا قسي القلب قحطت
العين).
- وقال أيضاً: (متى
أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أنَّ قحطها من قسوة
القلب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، ومتى رأيت نفسك تهرب من الأنس
به إلى الأنس بالخلق، ومن الخلوة مع الله إلى الخلوة مع الأغيار؛ فاعلم أنك
لا تصلح له.
ومتى رأيته يستزيد غيرك
وأنت لا تُطلب، ويستدني سواك وأنت لا تُقرَّب؛ فإن تحركت لك قَدَمٌ في
الزيادَة تخلّف قلبك في المنزل؛ فاعلم أنه الحجاب والعذاب).
ولين القلوب يكون بأسباب:
1. أجلها ذكر الله تعالى،
وأنفع الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان، وهو أصل أسباب لين القلوب كما
قال الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب} والطمأنينة لا تكون إلا من
لين القلب فهو لين قلب وزيادة، وقال تعالى: {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
(23)}
ولذلك كان الذكر من أسباب لين القلب، ومن علاماته.
وقال تعالى: {ألم
يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا
كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم}
2. وطهارة القلب مما يرين على القلب ويقسّيه من الذنوب والمعاصي، والظلم والعدوان.
3. وتلين أيضاً بأعمال البرّ والإحسان كبرّ الوالدين، وصلة الرحم، والصدقة على المحتاج، ورعاية اليتيم ومسح رأسه، وعيادة المريض، وإغاثة الملهوف، وتفريج كربة المكروب.
4. وتلين القلوب بما تستجلب به خشية الله تعالى ورقة القلب، من تذكّر الموت، وزيارة القبور، والتفكّر في عواقب المعاصي، وأهوال القبور، وأحوال يوم القيامة.
5. وتحري الكسب الطيب، وتوقي الشبهات والمكاسب المحرمة.
6. وصحبة الصالحين.
7.
والتضرّع إلى الله، والاستكانة له، والالتجاء إليه، بخلاف أصحاب القلوب
القاسية الذين لا يستكينون لربهم ولا يتضرعون كما قال الله تعالى: {وَلَوْ
رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ
فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا
فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ (77)}.
وقال تعالى: {
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً
فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)}.
8. والاقتصاد في المأكل والمشرب والنوم والمخالطة.
ومن علامات لين القلب:
تيسّر الذكر ولينه على اللسان، وانتفاعه بالمواعظ والتذكير، واستجابته
لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم رغبة ورهبة، والذكر اسم
جامع لكلّ ما يُذكر الله به، من تلاوة القرآن والتهليل والتكبير والتسبيح
والحمد وسائر الأذكار، والصلاة والتفكّر والتذكّر النافع وسائر الطاعات.
- وأما الحديث الذي اشتهر عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد» . قيل: يا رسول الله، فما جلاؤها؟ قال: «تلاوة القرآن» فهو
حديث لا يصحّ، رواه الخرائطي في اعتلال القلوب، والبيهقي في شعب الإيمان،
وأبو نعيم في الحلية، وغيرهم من طريق عبد الرحمن بن هارون الغساني عن ابن
أبي رواد به، والغساني متروك الحديث، وقد تابعه عبد الله بن عبد العزيز
بن أبي رواد عن أبيه بنحوه وزاد: "كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن"، وعبد الله متروك الحديث أيضاً.
- وروى حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني، عن أبي هريرة، أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال: (امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين). أخرجه الإمام أحمد وغيره، ورجاله ثقات لكنّه أُعلَّ بالانقطاع.
- ويشهد له ما رواه
حماد بن سلمة أيضاً، عن محمد بن واسع، أن أبا الدرداء رضي الله عنه كتب إلى
سلمان: أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه؛ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أردت أن يلين قلبُك فامسح رأس اليتيم وأطعمه). رواه البيهقي في السنن الكبرى وهو منقطع أيضا، وله طرق أخرى لا تخلو من ضعف.
- وفي مسند الإمام أحمد
ومسند أبي يعلى من طريق ابن إسحاق قال: حدثني يحيى بن الحارث الجابر، عن
عبد الوارث، مولى أنس بن مالك، وعمرو بن عامر، عن أنس بن مالك، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني قد كنت نهيتكم عن ثلاث)) فذكرها ومنها: ((نهيتكم عن زيارة القبور، ثم بدا لي أنها ترقّ القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، فزوروها ولا تقولوا هجرا)).
وللحديث طرق أخرى، وفي هذا الإسناد مقال، لكن ثبت في صحيح مسلم ومسند
الإمام أحمد وسنن النسائي الكبرى وغيرها من حديث يزيد بن كيسان عن أبي
حازم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((زوروا القبور فإنها تذكّر الموت)).
وقد دلّت الآثار المروية عن السلف في هذا الباب على أنّ
أسباب لين القلوب متعددة، ولذلك اختلفت وصاياهم لمن سأل عن دواء ما يحسّ
من قسوة قلبه، ولعلّ الأمر راجع في كلّ وصية إلى اعتبار الأنسب لحال
السائل، وما وجد المسؤول نفعه، وهي لا تكاد تخرج عن الأسباب التي تقدّم
ذكرها:
- قال ابن رجب: (ذكر
ابن أبي الدنيا بإسناده عن منصور بن عبد الرحمن، عن صفية أنَّ امرأة أتت
عائشة لتشكو إليها القسوة؛ فقالت: "أكثري ذكر الموت يرقّ قلبك وتقدرين
على حاجتك". قالت: ففَعَلَتْ، فآنسَت من قلبها رشدا، فجاءت تشكر لعائشة
رضي الله عنها).
وكتاب "ذكر الموت" لابن أبي الدنيا مفقود.
- وقال المعلى بن زياد: قال رجل للحسن [البصري]: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي! قال: (أَدْنِهْ من الذكر). رواه ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء والخرائطي في اعتلال القلوب.
- وقال عون بن عبد الله: أتى أمَّ الدرداء رجلٌ فقال: إن بي داء من أعظم الداء، فهل عندك له دواء؟
قالت: وما ذاك؟
قال: إني أجد قسوة في القلب.
فقالت: (أعظم الداء داؤك، عُدِ المرضى، واتبع الجنائز، واطلع في القبور، لعل الله أن يلين قلبك).
قال: (ففعل الرجل، فكأنه أحسّ من نفسه رقة، فجاء إلى أم الدرداء يشكر لها). رواه أبو داوود في الزهد.
- وقال وهيب بن الورد: «نظرنا في هذا الحديث فلم نجد شيئا أرقَّ لهذه القلوب ولا أشدَّ استجلابا للحقّ من قراءة القرآن لمن تدبّره» رواه أبو نعيم في الحلية.
- وقال أبو إسحاق إبراهيم بن فراس: سمعت إبراهيم بن أحمد الخواص يقول: (لا يُطمع في لين القلب مع فضول الكلام). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
- وقال إبراهيم الخواص أيضاً: (دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين). رواه أبو نعيم في الحلية.
- ورُوي نحوه عن يحيى بن معاذ.
- وقال مالك بن مغول: قيل للربيع بن أبي راشد: ألا تجلس فتحدث، قال: «إنَّ ذكر الموت إذا فارق قلبي ساعة فسد عليَّ قلبي»
قال مالك: «ولم أر رجلا أظهر حزنا منه» رواه ابن المبارك في الزهد، وروى نحوه ابن أبي الدنيا في العزلة والانفراد وأبو نعيم في الحلية.
- وقال شعيب بن حرب: حدثنا سفيان [الثوري] عن رجل، عن سعيد بن جبير قال: «لو فارق ذكر الموت قلبي خشيت أن يفسد علي قلبي» رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد"، والرجل مجهول.
- ونقل أبو طالب صاحب الإمام أحمد أنَّ رجلا سأل الإمام أحمد: كيف يرق قلبي؟ قال: (ادخل المقبرة، امسح رأس يتيم) ذكره ابن مفلح في "الفروع" وابن رجب في "ذمّ قسوة القلب"
- وقال ابن مفلح:
(سُئل الإمام أحمد ما يلين القلب؟ فقال: "أكل الحلال"، فسأل السائلُ بشرَ
بنَ الحارث وعبد الوهاب الوراق رحمهما الله؛ فقالا: يذكر الله، فذُكر
لهما أحمد؛ فقالا: جاء بالأصل).
وتقسو القلوب بأسباب منها :
1. الغفلة وطول الأمد عن ذكر الله كما قال الله تعالى: {
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}
2. ونقض العهد، كما قال الله تعالى: {فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ...} الآية.
قال ابن عقيل يوما في وعظه: (يا من يجد من قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهدا؛ فإن الله يقول: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية }). ذكره ابن رجب في "ذمّ قسوة القلب" وفي ذيل طبقات الحنابلة.
وقال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ
مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ
نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا
اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) }
3. وسوء الظنّ بالله، وقد قال الله تعالى في السبب الجامع لخسران أعداء الله: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}، وهي صفة جامعة للكفار والمنافقين كما قال الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)}
ولذلك فإنّ من شابههم
في هذه الخصلة فهو على خطر من أن يعاقب بعقاب من جنس عقابهم فيغضب الله
عليه ويقسو قلبه لحرمانه التوفيق لما يحبّه الله ويرضاه.
4. واتباع الشهوات وإضاعة الصلوات.
5. وما تكسب القلوب من السيئات التي ترين على القلب، وتزداد بها النكت السود في القلب، ولا سيما ذنوب الخلوات.
6. ومنع الحقّ الواجب للخلق،
وظلمهم والتعدي عليهم، فيعقّ الوالد، أو يقطع الرحم، أو يسيء إلى جاره،
أو ينتهب حقّ مسلم، أو يقذف المحصنة، أو يمنع الماعون، وغير ذلك من الذنوب
التي لا تكاد تصدر إلا من قلب فيه قسوة.
7: وأكل المال الحرام.
8. وغلبة حبّ الدنيا على القلب، وكراهية ذكر الموت.
9. ومخالطة أهل الغفلة والعصيان.
10. وكثرة الضحك، وفضول الأكل والشرب والنوم والنكاح ومخالطة الناس،
وهو سبب ذكره بعض أهل العلم، وذلك والله أعلم لأنها من أسباب الغفلة عن
ذكر الله، وإيثار الدنيا واتّباع الشهوات والتفريط في الصلوات.
- وقال عبد الحميد بن جعفر، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب» رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن ماجه في سننه، وصححه الألباني.
- وقال جعفر بن سليمان الضبعي عن أبي طارق السعدي عن الحسن البصري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ مني خمس خصال فيعمل بهن، أو يعلّمهن من يعمل بهن؟»
قال: قلت أنا يا رسول الله.
قال: فأخذ بيدي فعدّهن فيها ثم قال «اتق
المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى
جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك، فإن
كثرة الضحك تميت القلب» رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى الموصلي، وأبو طارق مجهول، ورواية الحسن عن أبي هريرة مختلف فيها، وللحديث شواهد يتقوّى بها.
- وقال بشر بن الحارث: قال الفضيل بن عياض: (خصلتان تقسيان القلب: كثرة النوم، وكثرة الأكل). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
- وقال ابن القيم:
(قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام
والمخالطة كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكذلك القلب
إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ ومن أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على
شهوته القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها).
صلاح القلوب وفسادها:
-قال ابن مفلح: (صلاح القلوب رأس كل خير، وفسادها رأس كل شرّ).
والعبد مأمور بالسعي في إصلاح قلبه، ولا تصلح القلوب إلا بصحّة العلم، وصلاح العمل.
وصلاح القلب يتفاضل
فيه الصالحون تفاضلاً عظيماً، ولهم في هذا الصلاح مقامات، فمنهم من يُفتح
له في باب من أبواب صلاح القلوب ما لا يُفتح له في غيره.
ومن العلامات الجامعة
لصلاح القلب: تحقيق التوحيد لله تعالى، والقيام بأمر الله، وصحّة الولاء
والبراء، والحياء من الله، واستقامة اللسان، وكثرة ذكر الله عزّ وجل بالقلب
واللسان.
ومن سرته حسنته وساءته سيّئته فهو مؤمن، وذلك لأجل صحة التصوّر وصلاح الإرادة.
وأسباب صلاح القلوب قد
تقدّم ذكر بعضها في أسباب لين القلوب، ويجمعها: تحقيق التوحيد، وكثرة
الذكر، وتصحيح الولاء والبراء، والقيام بالفرائض، والكفّ عن المحرمات،
وتلاوة القرآن، والتوبة والاستغفار، والصبر والشكر، والتفكّر في آيات الله،
والدعاء، والصدقة، والتعويذات الشرعية، وأعمال البرّ والإحسان.
وشرح أثر هذه الأعمال على القلوب يطول به المقام.
وفساد القلوب يكون باستفحال أمراضها، وهي على أنواع: أمراض شكّ وريبة، وأمراض ضعف ووهن، وأمراض غلظ وقسوة.
وكل نوع من هذه الأنواع يؤدّي بصاحبه إلى فساد قلبه إذا استفحل المرض ولم يُقابل بما يشفي منه ويطهّر القلبَ ويُصلحه.
والساعي لإصلاح قلبه يحتاج إلى
صيانته من مصادر الأدواء التي إذا انفتحت عليه من غير مراقبة ولا تهذيب
عاثت فيه فساداً، وقد أحسن ابن القيّم رحمه الله تعالى العبارة عنها فقال
في كتابه "التبيان": (جماع
الطرق والأبواب التي يُصان منها القلب وجنوده أربعة؛ فمن ضبطها وعدّلها
وأصلح مجاريها وصرفها في محالها اللائقة بها استفاد منها قلبه وجوارحه، ولم
يشمت به عدوه، وهي: الحرص والشهوة والغضب والحسد؛ فهذه الأربعة هي أصول
مجامع طرق الشر والخير، وكما هي طرق إلى العذاب السرمدي؛ فهي طرق إلى
النعيم الأبدي).
زكاة القلوب وطهارتها وطمأنينتها:
زكاة القلوب والنفوس من فضل الله تعالى ورحمته، كما قال الله تعالى: {وَلَوْلَا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (21)}
والزكاة سبب الفلاح، وقد قال الله تعالى: {قد أفلح من تزكّى}
وتحصل زكاة القلوب بثلاثة أمور:
الأول: شفاء القلب من أمراضه وعلله، وطهارته من آثار الذنوب والمعاصي.
والثاني: تغذية القلب بما يقوّيه؛ وأعظم غذاء للقلب: تحقيق التوحيد، وازدياد اليقين، وفعل الطاعات.
والثالث: صيانة القلب باجتناب الفواحش الظاهرة والباطنة؛ فالفواحش أخلاط رديئة تضعف الروح، وتوهن النفس، وتفسد القلب.
وأسباب زكاة القلوب ترجع إلى الإيمان والعمل الصالح كما قال الله تعالى: {وَمَنْ
يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ
الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) }
وورد في النصوص ذكر بعض الأعمال التي لها أثر في التزكية، ومنها:
1: اتّباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: {
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ
آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}، وقال: {لَقَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (164)}، وقال: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا
مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (2)}
2: الصدقة، كما قال الله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ، وقال: { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)} ، وسمّيت الزكاة زكاة لأنّ فيها تزكية لصاحبها.
3: صيانة القلب بحفظ الجوارح، ومن ذلك غضّ البصر كما قال الله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون}.
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}
4: نشر العلم النافع وتعليمه ، وهو من أعظم
أسباب زكاة القلوب، لأنّه من زكاة العلم، والعلم النافع تحيا به قلوب
الناس، فيزداد المنفقُ زكاةً وعلماً ،
وقد ورد الوعيد الشديد لمن كتم العلم النافع، واشترى به ثمناً قليلاً، ومن عقوبة من فعل ذلك أن لا يزكّيه الله كما قال الله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}
5: والوفاء بالعهود، وحفظ الأيمان، وأعظمها
العهود العهد الذي بين العبد وربّه بالتوحيد، ولذلك كان من عقوبة نقض هذا
العهد وإضاعة الأيمان الحرمان من الزكاة كما قال الله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا
أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ
وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) }
وطهارة القلوب نقاؤها من أوضار الشبهات والشهوات،
والقلب إذا تطهّر اندفعت عنه دواعي الفسق والفجور، فعصم منها ولم يَصْبُ
إليها، وفي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني من حديث حريز بن عثمان عن سليم
بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه في شأن الشابّ الذي أتى النبي صلى الله
عليه وسلم يستأذنه في الزنا فحاجّه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبصر
الحقّ ثم وضع يده عليه ، وقال: (( اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه ))
قال أبو أمامة: (فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء).
فإذا طهّر الله قلب رجل صرف عنه فتن الشبهات والشهوات، كما قال الله تعالى في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا}
والله تعالى يريد أن يطهّر قلوب عباده ويتوب
عليهم لكن من أعرض منهم عن ذكره واتّبع الشهوات ومال إليها ونبذ العلم وراء
ظهره، واستحكم النفاق في قلوبه حلّ بقلبه من الرجس ما يظلم به ويفسد ويقسو
حتى يكون من أبعد القلوب عن الله، وصار فيه شبه باليهود المغضوب عليهم
الذين علموا ولم يعملوا، ففتنوا عن الصراط المستقيم وكانوا مستبصرين، كما
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا
آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ
أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ
يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(41) }
ولابن القيّم رحمه الله في مدارج السالكين
كلام عظيم القدر في أهمية طهارة الباطن، خلاصته أنّ العبد لا يدخل الجنّة
ولا يرى ربّه إلا وهو طاهر مطهَّر، فكذلك ينبغي له أن يطهّر باطنه إذا وقف
بين يديه في الصلاة.
قال: (كما أنه لم يؤذن
له في دار التكليف بالدخول عليه للصلاة بغير طهارة، وهذا يذكر العباد
بالتطهر للموافاة والقدوم عليه، والدخول وقت اللقاء لمن عقل عن الله، وفهم
أسرار العبادات؛ فإذا كان العبد لا يدخل عليه حتى يستقبل بيته المحرم
بوجهه، ويستر عورته، ويطهر بدنه وثيابه، وموضع مقامه بين يديه، ثم يخلص له
النية؛ فهكذا الدخول عليه وقت اللقاء، لا يحصل إلا بأن يستقبل ربه بقلبه
كله، ويستر عوراته الباطنة بلباس التقوى، ويطهر قلبه وروحه وجوارحه من
أدناسها الظاهرة والباطنة، ويتطهر لله طهرا كاملا، ويتأهب للدخول أكمل
تأهب، وأوقات الصلاة نظير وقت الموافاة)ا.هـ.
وأما طمأنينة القلب
فهي سكينته واستقراره وأنسه بالله، فيسكن جأشه، ويذهب قلقه ، ويندفع جزعه،
ولا تحصل طمأنينة القلب إلا بذكر الله تعالى، كما قال الله: { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}
وتقديم الجارّ والمجرور لإفادة الحصر، لكن
الذكر هنا عامّ في كلّ ما يحصل به ذكر الله، ولذلك فسّر بالقرآن، وفسّر
بذكر الله في النفس، وبذكر الله باللسان، وغير ذلك من أنواع الذكر، وكلها
معانٍ صحيحة.
تقلّب القلوب وتصرّفها:
قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يقلّبها كيف يشاء، ويصرّفها كيف يشاء؛ فإذا
شاء أن يقيم قلب عبد من عباده أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، فَمِنَ
الله تعالى مبدأ استقامة القلوب وزيغها، وثباتها وتقلّبها، ولا ثبات للقلب
إلا بتثبيت الله تعالى الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، ولولا تثبيت
الله للقلوب ما ثبت منها قلبٌ واحد؛ فإذا كان خير القلوب وهو قلب النبي صلى
الله عليه وسلم قال الله تعالى فيه: {وَلَوْلَا
أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا
(74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا
تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} فما الظنّ بقلوب غيره ؟!!
ولذلك كان من أعظم دعوات المؤمنين قولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}
وكان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (( يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك))
وفي هذه المعاني المتقدّمة أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم:
1. قال عبد الله بن عمر بن الخطاب: أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: «لا ومقلب القلوب»
رواه البخاري في صحيحه وأبو داوود والترمذي والنسائي من طريق موسى بن
عقبة عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وله طرق أخرى وفي بعضها "ومصرف
القلوب".
2. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك»
رواه مسلم وأحمد والنسائي في الكبرى وغيرهم من طريق حيوة بن شريح قال:
أخبرني أبو هانئ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبُلّي أنه سمع عبد الله بن
عمرو بن العاص فذكره.
3. وقال شهر بن حوشب: قلت لأمّ سلمة: يا أمَّ المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟
قالت: كان أكثر دعائه: (( يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك))
قالت: فقلت: يا رسول الله ما لأكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟
قال: (( يا أمَّ سلمة إنه ليس آدميٌّ إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ)). رواه أحمد والترمذي والطبراني من طريق أبي كعب عبد ربه صاحب الحرير، عن شهر به، وله طرق أخرى.
4. وقال أنس بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (( يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك))
قال: فقلنا يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟
قال: فقال: ((نعم، إنَّ القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل يقلّبها كيف يشاء)). رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى والحاكم من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن أنس.
5. وقال النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع رب العالمين، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه))
وكان يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه)). رواه أحمد والنسائي في الكبرى وابن حبان والحاكم من طريق بسر بن عبيد الله الحضرمي عن أبي إدريس الخولاني عن النواس.
6. وقال المقداد بن الأسود رضي الله عنه: ما آمن على أحد بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا» رواه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني في مسند الشاميين، والبغوي في شرح السنة من طريق عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، عن المقداد، وحسّنه الحافظ العراقي وصححه الألباني، وروي نحوه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن أنس.
7. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة يقلّبها الريح ظهرا لبطن» رواه ابن أبي عاصم في السنة والبزّار في مسنده من طريق يزيد بن هارون: أنبأنا الجريري، عن غنيم بن قيس، عن أبي موسى.
8. وقال أبو كبشة السدوسي: خطبنا أبو موسى [ الأشعري] فقال: (ألا
وإنما سمي القلب من تقلبه، وإن مثل القلب كمثل ريشة بأرض فضاء تطير بها
الريح ظهرا لبطن ألا وإن من ورائكم فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها
مؤمنا ويمسي كافرا، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي،
والماشي خير من الراكب).
قالوا: فما تأمرنا؟
قال: (كونوا أحلاس البيوت). رواه هنّاد بن السري في الزهد.
وأبو كبشة قال عنه الذهبي: لا يُعرف، وقال ابن حجر في التقريب: مقبول.
9. وذكر بلال بن سعد بن تميم السكوني عن أبي الدرداء قال: كان ابن رواحة يأخذ بيدي ويقول: «تعال نؤمن ساعة، إن القلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا»رواه ابن المبارك في الزهد.
وبلال
بن سعد من خيار التابعين بالشام، كان إمام الجامع بدمشق في زمانه، ولأبيه
صحبة، وكان من العلماء العبّاد الصالحين الثقات، قال أبو زرعة الدمشقي: (كان بالشام مثل الحسن البصري بالعراق).
وأبو الدرداء هو أخو عبد الله بن رواحة لأمّه.
والمقصود أن حاجة
المرء إلى سؤال الله تعالى تثبيت قلبه وهدايته حاجةٌ دائمة متجددة، وقد
ذكر بعض أهل العلم من حِكَم الأمر بالدعاء في كلّ ركعة بقولنا: {اهدنا الصراط المستقيم} الإعانة على تثبيت القلوب على الهداية والازدياد منها، وأنّ الحاجة إلى ذلك متكررة متّصلة بالمرء ما اتّصلت به الحياة، وذلك أنّ المؤمن يحتاج إلى البصيرة والإعانة على الطاعة في كلّ أمر من أموره؛ وبهما تحصل الهداية وتكمل.
وأصل الهداية هو دخول
المرء في الإسلام، لكنّه يحتاج بعد ذلك إلى هدايات كثيرة متنوّعة، وتعترضه
في يومه وليلة فتن كثيرة متنوّعة، ومن لم يهده الله ضلّ بها، ومن لمّ
يثبّته الله لم يثبت.
فإنّ مجرّد العلم بالحقّ لا يحصل به الاهتداء إن لم يتبعه التوفيق للعمل.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في "أمراض القلوب وشفائها": (الذين
هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم
أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم
إلى الله دائما في أن يهديهم الصراط المستقيم؛ فبدوام هذا الدعاء
والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين)ا.هـ.
فحاجة المؤمن إلى هذا الدعاء أشدّ الحاجات، والله
تعالى يحبّ من عباده أن يدعوه بهذا الدعاء، ولذلك فرضه عليهم فرضاً متكررا
دائماً، وأحبّ الأعمال إلى الله ما افترضه على عباده.
والهداية للصراط
المستقيم شاملة لكلّ مراتب الهداية من الإرشاد والتوفيق، والعلم والعمل،
وإذا حصلت الهداية حصل ما يترتب عليها من النصر والرزق والتوفيق وأنواع
الفضائل والبركات، وما تطلبه النفس من أحوال السعادة.
وهذه الهداية المتّصلة
وما يترتّب عليها من التثبيت على الإيمان والقول الثابت منّةٌ من الله
تعالى، لا يبلغها العبد بمجرّد كسبه وذكائه ومعرفته لولا توفيق الله تعالى
وتثبيته، كما قال الله تعالى: {يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} ، وقال: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه} فأسند هذه الأفعال إليه سبحانه.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل": (قد
يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظراً ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد
يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظراً ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه،
فلا حول ولا قوة إلا به؛ فمن اتكل على نظره واستدلاله، أو عقله ومعرفته
خُذل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيراً ما
يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ويقول في يمينه: «لا ومقلب القلوب»)ا.ه.
وهذا التثبيت له أسباب من أهمّها سؤال الله تعالى التثبيت كما في قول الله تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} وكما
تقدّم في الأحاديث التي فيها سؤال التثبيت، وفعل الأسباب التي يثبّت الله
بها قلوب عباده المؤمنين، ومن أهمّها اتّباع ما وعظ الله به عباده كما
قال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا
يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا
لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ
صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
عَلِيمًا (70)}
والحذر
من زيغ القلوب وتقلّبها يعلّق قلب المؤمن بالله تعالى؛ فيبقى متوكلاً
عليه في تثبيت قلبه وأن لا يزيغه، ومن توكّل على الله كفاه.
اللهمّ يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهاب.