21 Jul 2019
الدرس العاشر: الزهد والورع
• تمهيد
- الفرق بين الزهد والورع
• الزهد
- معنى الزهد
- حقيقة الزهد
- هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزهد
- عناية السلف الصالح بالزهد
- فضائل الزهد
- درجات الزهد
- هل يسمّى ترك الحرام زُهدا؟
- مذاهب العلماء في الزهد
- التحذير من الزهد الفاسد وبيان علل الزهد
- الأسباب المعينة على الزهد
• الورع
- معنى الورع
- هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الورع
- عناية السلف رضي الله عنهم بالورع
- فضائل الورع
- درجات الورع
- فقه الورع
- مذاهب العلماء في الورع
- علل الورع
- الأسباب المعينة على تحصيل الورع
تمهيد
الزهد والورع عملان جليلان من أعمال القلوب، وعلامتان
على صلاح القلب وحياته واستنارته إذا صحّا ولزم صاحبهما القصد باتباع السنة
واجتناب الغلوّ والتفريط.
وبين الزهد والورع تناسب، وكلّ واحد منهما معين على الآخر ومقتضٍ له،
فالزهد أن لا ترغب فيما لا ينفع في الآخرة، والورع أن تترك ما تخشى ضرره في
الآخرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الزهد
المشروع هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح
التي لا يستعان بها على طاعة الله، كما أنّ الورَع المشروع هو ترك ما قد
يضر في الدار الآخرة، وهو ترك المحرمات والشبهات التي لا يستلزم تركها ترك
ما فعله أرجح منها كالواجبات).
فالزهد والورع يجمعهما جامع الترك فكل منهما يترك صاحبُه أمراً، لكن الدافع في التركين مختلف:
- فالترك الذي يحمل عليه الزهد هو لأجل أنه لا ينفع في الآخرة، فكل ما لا ينفع في الآخرة فتركه من الزهد، وسببه إيثار الآخرة على الدنيا.
- والترك الذي يحمل عليه الورَع هو خشية العذاب بعدم الترك، فسببه التقوى وطلب السلامة من الإثم والتبعة.
وأكثر ما يطلق الورع على ما ترك المشتبهات، فيتركها الورِعُ احتياطاً
لدينه، وخشية أن يكون فيها ما يأثم بسببه فيعذب عليه؛ وأما ترك فضول
المباحات فهو من الزهد لأنها لا تنفع في الآخرة، وليس من الورع لأنه ليس
فيها ما يخشى من ضرره في الآخرة.
والورع أصل الزهد، والزهد معين على الورع، ويدخلهما التفاضل.
- قال يحيى بن معاذ: (كيف يكون زاهدًا من لا ورع له؟!! تورّع عمّا ليس لك، ثمّ ازهد فيما لك). رواه البيهقي في الزهد الكبير.
- وقال أبو الحسن المزيّن - وهو من أصحاب الجنيد-: «
لا يصل العبد إلى العلم إلّا بالطّلب، ولا يتّصل بالتّقى إلّا بالعلم، ولا
يتّصل بالزّهد إلّا بالورع، ولا يتّصل بالصّبر إلّا بالزّهد، ولا يتّصل
بالشّكر إلّا بالصّبر، ولا يتّصل بالرّضا إلّا بالشّكر، ولا يتّصل باللّه
إلّا بالرّضا « رواه البيهقي في الزهد الكبير.
- وقال شيخ الإسلام ابن
تيمية: (كل ما يصلح فيه الورع يصلح فيه الزهد من غير عكس، وهذا بيّن؛
فإنَّ ما صلح أن يُكره ويُنفر عنه صلح أن لا يراد ولا يرغب فيه، فإنَّ عدم
الارادة أولى من وجود الكراهة، ووجود الكراهة مستلزم عدم الارادة من غير
عكس.
وليس كل ما صلح أن لا
يراد يصلح أن يُكره، بل قد يعرض من الأمور ما لا تصلح إرادته ولا كراهته،
ولا حبه ولا بغضه، ولا الأمر به ولا النهي عنه، وبهذا يتبين أن الواجبات
والمستحبات لا يصلح فيها زهد ولا ورع، وأما المحرمات المكروهات فيصلح فيها
الزهد والورع، وأما المباحات فيصلح فيها الزهد دون الورع، وهذا القدر ظاهر
تعرفه بأدنى تأمل).
الزهد
معنى الزهد
الزهد في الشيء استصغار شأنه وعدم الرغبة فيه أو ضعفها لانصرافها إلى غيره، قال الله تعالى في خبر إخوة يوسف: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)}.
وحقيقة الزهد المشروع هو استصغار شأن الدنيا في القلب، وترك ما لا ينفع
في الأخرة من متاعها، لاشتغال القلب بالإعداد للدار الآخرة.
فهو عمل قلبي سببه إيثار الدار الآخرة على الدنيا.
- قال الفضيل بن عياضٍ: (رهبة العبد من اللّه على قدر علمه باللّه، وزهده في الدّنيا على قدر رغبته في الآخرة). رواه البيهقي في الزهد.
- وقال ابن القيم رحمه الله: (والذي أجمع عليه العارفون أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة).
فهذه هي الحقيقة الحاملة على الزهد، ومتى قامت بالقلب انصرفت الرغبة إلى
الدار الآخرة مع الأخذ من الدنيا بما يستعين به على العمل للآخرة.
والزهد في كلام أهل العلم يتعلّق بالزهد في الدنيا ومتاعها من المال، والجاه، وسائر ما تشتهيه النفس من متاع الحياة الدنيا.
- قال ابن القيم رحمه الله: (ومتعلَّقه ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي: المال، والصور، والرياسة، والناس، والنفس، وكل ما دون الله).
فذكر أهمّ ما تتعلق به شهوات النفس، وشمل بقوله "كل ما دون الله" ما سوى
هذه الأنواع التي نصّ عليها، لأن حصر ما تتعلّق به رغبة النفس متعذّر،
ويجمعه وصف متاع الحياة الدنيا، وهو اللفظ المستعمل في القرآن كما قال الله
تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، وقال تعالى: {زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}
ولذلك إذا ذُكر الزهد في الدنيا شمل الزهد في كلّ متاعها الفاني.
وليس المراد بالزهد في الدنيا أن ينسلخ المرء من دنياه، فيحرم نفسه ما
أحلّه الله له، أو يضيّع ما أنعم الله به عليه من المال فيفسده بترك رعايته
وتنميته، أو أن يترك التكسّب المشروع أو الواجب عليه لإعفاف نفسه ومن يعول
عن المسألة.
إنما المراد زهد القلب فيها بأن لا يجاوز بها قدرَها؛ فلا تلهيه عن ذكر الله، ولا تشغله عن الآخرة.
ولذلك يقع الزهد من الغنيّ ومن الفقير:
فأمّا الزهد في حال الفقر أو الحرمان: فهو أن لا يأسى على ما فاته.
وأمّا الزهد في حال الغني أو العطاء فهو أن لا
يفرح بما أوتي، والمراد بالفرح هنا الفرح المذموم الذي تكون فيه غفلة عن
المنعم، وعن مقاصد الإنعام، وما يقتضيه من الشكر.
- قال أبو مسلمٍ الخولانيّ: (ليس الزّهادة في
الدّنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، إنّما الزّهادة في الدّنيا أن
تكون بما في يدي اللّه أوثق ممّا في يديك، وإذا أصبت بمصيبةٍ كنت أشدّ
رجاءً لأجرها وذخرها من أنّها لو بقيت لك). رواه أحمد في الزهد، وقد روي مرفوعاً من حديث أبي ذرّ ولا يصحّ رفعه.
- وقال أبو حفص بن الجلّاء: سمعت بشر بن الحارث يقول: (ليس
الزّهد في الدّنيا ترك الدّنيا، إنّما الزّهد أن يزهد في كلّ ما سوى
اللّه، هذا داود وسليمان -عليهما السّلام- قد ملكا الدّنيا وكانا عند اللّه
من الزّاهدين). رواه البيهقي في الزهد.
- وقال سعيد بن الجهم الجيزي: جمع عبد الرحمن بن
شريح، وعمرو بن الحارث الصف في المسجد فلما سلم الإمام، قال ابن شريح لعمرو
بن الحارث: يا أبا أمية! ما تقول في رجل ورث مالاً حلالاً فأراد أن يخرج
من جميعه إلى الله زهداً في الدنيا ورغبةً فيما عنده؟
قال: «لا تفعل»
قال ابن شريح: فقلت لعمرو: (سبحان الله! لا يفعل!! لا يزهد في الدنيا؟!!).
قال عمرو بن الحارث: (ما أدَّب الله عز وجل به نبيه أفضل من ذلك قال الله تبارك وتعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} ولكن يقدم بعضا ويمسك بعضا). رواه ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله.
- وقال ابن القيم:
(وليس المراد رفضها من الملك، فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد
أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء ما لهما، وكان نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم من أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي
طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان - رضي الله عنهم - من الزهاد، مع
ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي رضي الله عنه من الزهاد، مع أنه
كان من أكثر الأمّة محبة للنساء ونكاحاً لهن، وأغناهم، وكان عبد الله بن
المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير، وكذلك الليث بن سعد من أئمة الزهاد، وكان له رأس مال يقول: "لولا هو لتمندل بنا هؤلاء".
ومن أحسن ما قيل في الزهد، كلام الحسن أو غيره: «ليس
الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد
الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة - إذا أصبت بها - أرغب
منك فيها لو لم تصبك» فهذا من أجمع كلام في الزهد وأحسنه، وقد روي مرفوعاً)ا.هـ.
قلت: هو كلام أبي مسلم الخولاني كما تقدّم، وهو من أئمة التابعين في الزهد.
حقيقة الزهد:
الزهد الصحيح أن يزهد قلبك فيما زهَّد الله فيه، لينصرف إلى الرغبة فيما
رغَّب الله فيه، فلا بدّ في الزهد الصحيح من ترك وانصراف إلى ما هو أولى،
فينصرف عمّا زهّد الله فيه ليُقبل على ما رغّب الله فيه.
وقد اختلف العلماء في بيان حقيقة الزهد التي من بلغها
عُدّ زاهداً على أقوال كثيرة وفي بعضها تقارب، وأجمعوا على أنّ الزهد
الصحيح ليس مشابهة المعروفين من الزهّاد في لباسهم وهيئتهم الظاهرة لسببين:
أحدهما: أنّ الزهد عمل قلبي.
والآخر: أن الزهّاد تختلف مذاهبهم في الزهد مع
إصابتهم حقيقته، ولذلك ليس لهم هيئة واحدة في اللباس والمعاش، وقد يشتبه
حال الغنيّ الزاهد بحال الفقير العاجز فيما يرى الناس.
- قال أيّوب بن حسّان الواسطي، عن سفيان بن عيينة قال: سمعت الزّهريّ وقد سأله رجلٌ فقال: يا أبا بكرٍ من الزّاهد؟ قال: «الّذي لا يغلب الحرام صبره، ولا يمنع الحلال شكره».
وقال أيّوب بن حسّان: سمعت ابن عيينة يقول: (ما سمعت في الزّهد قطّ شيئًا أحسن من هذا). رواه البيهقي في الزهد الكبير، ورواه يعقوب بن سفيان في المعرفة مختصراً.
وهذا الزهد من قام به فهو من المتقين، لما في
قلبه من الصبر عن الحرام فلا يأخذه، ومن الشكر على الحلال فيؤدّي حقّه
بالزكاة والنفقة والمواساة ولا يشحّ به.
- وقال أحمد بن أبي الحواريّ: حدّثنا عليّ بن المدينيّ قال: قيل لسفيان بن عيينة: ما حدّ الزّهد؟
قال: (أن يكون شاكرًا في الرّضا، صابرًا في البلاء، فإذا كان كذلك فهو زاهدٌ).
قيل لسفيان: ما الشّكر؟
قال: «أن يجتنب ما نهى اللّه عنه» رواه البيهقي في الزهد الكبير.
- وقال سفيان الثوري: (الزّهد في الدّنيا قصر الأمل، وليس بلبس الصّوف). رواه ابن أبي شيبة.
وهذا تنبيه على السبب الحامل على الزهد وهو قصر
الأمل لاشتغال القلب بالآخرة ومعرفة حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها؛ فمن قام
في قلبه اليقين بذلك حمله على الزهد في الدنيا.
- وقال الأوزاعي: (الزّهد في الدّنيا ترك المحمدة).
رواه ابن أبي شيبة، أي: تعمل العمل لا تريد أن يحمدك النّاس عليه، وهو من
باب التنبيه على أمر قد يُغفل عنه، وهو مما يقدح في الإخلاص ، فذكر نوعاً
رفيعاً من الزهد وهو الزهد فيما يفتن القلوب عن الإخلاص فإذا صحّ الإخلاص
استقام الزهد.
- وقال أحمد بن أبي الحواريّ: قلت لأبي موسى الدّيبليّ: ما الزّهد في الدّنيا؟
قال: «لا تأيس على ما فاتك منها، ولا تفرح بما أتاك منها» رواه البيهقي في الزهد الكبير.
- وقال أبو سليمان الداراني: «الزّاهد حقًّا لا يذمّ الدّنيا، ولا يمدحها، ولا ينظر إليها، ولا يفرح بها إذا أقبلت، ولا يحزن عليها إذا أدبرت». رواه البيهقي في الزهد الكبير.
- وقال ذو النّون المصري: «أرغب النّاس في الدّنيا، وأحفاهم لها طلبًا أكثرهم لها ذمًّا عند طلّابها، ولا سيّما إذا كان ذمّه للدّنيا حرقةً بها». رواه البيهقي في الزهد الكبير.
- وقال إبراهيم بن فاتكٍ: سئل الجنيد عن الزّهد، فقال: «خلوّ الأيدي من الأموال، والقلب من التّتبّع»
قال: وسمعت الجنيد، وسأله رويم عن الزّهد، فقال: «استصغار الدّنيا ومحو آثارها من القلب» رواهما البيهقي في الزهد الكبير.
- قال ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: "الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة. والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة".
وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها).
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزهد
هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أقوم الهدي في الزهد وغيره، وقد صحّ عن
النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من أصحابه رضي الله عنهم أنه قال: (خير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها)، وفي لفظ: (أحسن الهدي)، وصحّ كذلك موقوفاً عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
ولم يزل أهل العلم يعرضون الأمور على هذا الميزان الأعظم، كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال:
«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، فعليه تعرض الأشياء،
على خلقه وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل» رواه الخطيب البغدادي في الجامع.
فالنبي صلى الله عليه وسلم إمام الزاهدين، ولا يصحّ أن يأتي أحد من هذه
الأمة أو غيرها بهدي في الزهد أحسن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛
فبهديه يُميّز الزهد الصحيح من الزهد الفاسد.
وزهد النبي صلى الله عليه وسلم وسط بين الغلوّ والجفاء، وفيه تحقيق
للمقاصد الشرعية في حقّ الفرد وفي حقّ الأمة؛ فتقوم مصالح المسلمين على
أساس متين من التناصح والقصد وأداء الحقوق في غير تشاحٍّ ولا تشاحن؛ ففيه
جمع بين إصلاح القلب، وإصلاح المجتمع المسلم.
ومن تأمّل الأحاديث المرويّة عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الزهد
وجدها منادية بهذا المنهج القويم والهدى المستقيم الذي لا وكس فيه ولا شطط.
1. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا.
وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: «أنتم
الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم
وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من طرق عن أنس رضي الله عنه.
2. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: زوَّجني أبي امرأةً من قريش،
فلما دخلتْ عليَّ جعلتُ لا أنحاش لها، مما بي من القوة على العبادة، من
الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته، حتى دخل عليها، فقال لها: كيف
وجدت بعلك؟
قالت: خير الرجال أو كخير البعولة من رجل لم يفتش لنا كنفا، ولم يعرف لنا فراشا
فأقبل علي، فعذَمني، وعضَّني بلسانه، فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات
حسب، فعضلتها، وفعلت، وفعلت ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني،
فأرسل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته، فقال لي: «أتصوم النهار؟»
قلت: نعم.
قال: «وتقوم الليل؟»
قلت: نعم
قال: «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني». رواه أحمد والنسائي في الكبرى من حديث حصين بن عبد الرحمن عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
3. وقالت عائشة رضي الله عنها: دخلت علي خويلة
بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية، وكانت عند عثمان بن مظعون
قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها، فقال لي: (( يا عائشة، ما أبذّ هيئة خويلة؟))
قالت: فقلت: يا رسول الله، امرأة لا زوج لها، يصوم النهار، ويقوم الليل؛ فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها.
قالت: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن مظعون فجاءه، فقال: ((يا عثمان، أرغبةً عن سنتي؟!" فقال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنَّتك أطلب.
قال: ((فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح
النساء، فاتق الله يا عثمان، فإنَّ لأهلك عليك حقاً، وإنَّ لضيفك عليك
حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم)). رواه أحمد وأبو داوود والنسائي من حديث ابن إسحاق قال: حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
4. قال موسى بن علي بن رباح وكان أمير مصر زمن أبي جعفر المنصور: سمعت أبي يقول: سمعت عمرو بن العاص يخطب الناس بمصر يقول: (ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا، وأما أنتم فأرغب الناس فيها). رواه أحمد وابن حبان والحاكم.
5. وفي
الصحيحين من حديث عبيد عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خبر
طويل وفيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير ما بينه وبينه
شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظا مضبورا، وعند
رأسه أُهُباً معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فبكيت؛ فقال: «ما يبكيك؟»
فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون لهما الدنيا، ولك الآخرة».
6. وقال عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر الحصير
بجلده، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، وأقول: يا رسول الله، ألا آذنتني قبل أن
تنام على هذا الحصير فأبسط لك عليه شيئا يقيك منه، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا! وما للدنيا ولي! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل في فيء، أو ظل شجرة ثم راح وتركها» رواه
ابن المبارك في الزهد وأحمد وابن أبي شيبة والترمذي والحاكم وغيرهم من
طريق المسعودي قال: حدثنا عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود،
وله شاهد من حديث عكرمة عن ابن عباس عن عمر عند أحمد والطبراني وغيرهما.
أحاديث لا تصح في الزهد
روي في شأن الزهد أحاديث لا تصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسأذكر بعض المشتهر منها للتعريف بحالها:
-
قال خالد بن عمرو القرشي: حدثنا سفيان الثوري، عن أبي حازم عن سهل بن سعد
الساعدي، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله!
دلَّني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبّك الناس)). رواه ابن ماجه والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان.
وخالد بن عمرو القرشي متروك الحديث.
ورواه البيهقي أيضاً في شعب الإيمان والبغوي في
شرح السنة من طريق محمد بن أحمد بن الوليد بن برد الأنطاكي عن محمد بن
كثير عن الثوري، وقال البيهقي: (هذا الحديث عن الثوري منكر). وذكر تفرّد الأنطاكي به.
- وقال يحيى بن سعيد بن أبان القرشيّ، عن أبي فروة، عن أبي خلّادٍ - وكانت له صحبةٌ - قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الرّجل المؤمن قد أعطي زهدًا في الدّنيا، وقلّة منطقٍ فاقتربوا منه، فإنّه يلقَّى الحكمة). رواه ابن المبارك في الزهد، وابن ماجه في سننه، والبيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في معجمه الكبير.
- وقال عبد الله بن يزيد الدمشقي: حدثني ربيعة بن
يزيد، وعطية بن قيس عن عطية السعدي، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس)). رواه ابن ماجه.
عناية السلف الصالح بالزهد
كان السلف الصالح على عناية حسنة بالزهد في أحوالهم ومعاشهم وإقبالهم على
الآخرة مع أخذهم بأسباب القوّة في دينهم ودنياهم فجمعوا بين إصلاح القلوب،
وإصلاح البلاد؛ ففتحوا الأمصار، وشيّدوا المدن والقرى، وعلّموا العلم،
وأقاموا العدل، وكانوا أئمة يُقتدى بهم في أحوالهم وأعمالهم، ودخل الناس في
الإسلام أفواجاً حتّى اتّسعت رقعة دولة الإسلام في القرون المفضلة
اتّساعاً ظاهراً من أقصى المغرب إلى ما وراء النهرين شرقاً، ومن بلاد الترك
إلى اليمن وعمان.
وكان الصحابة رضي الله عنهم خير هذه الأمة وأحسنهم هدياً في الزهد وغيره
من أعمال القلوب والجوارح، لما علّمهم النبي صلى الله عليه وسلم وأدّبهم
به، ولما وقر في قلوبهم من اليقين والإيمان الذي زكّاهم الله به وجعله
علامة على الهداية كما قال الله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} وقال:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ} ؛ فلم يجعل لمن بعدهم طريقاً للهداية إلا باتّباعهم بإحسان.
وكلّ من اتّخذ سبيلاً غير سبيلهم في التعبّد لله تعالى واتّباع رسوله صلى الله عليه وسلم كان ذلك علامة بيّنة على ضلاله.
- وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص: قالت حفصة لعمر: (ألا تلبس ثوبا ألين من ثوبك، وتأكل طعاما أطيب من طعامك! فقد فتح الله عليك الأرض، ووسع عليك الرزق)
فقال: «سأخاصمك إلى نفسك»، فجعل يذكّرها ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت فيه من الجهد حتى أبكاها، فقال:
"قد قلت لك: إنه كان لي صاحبان سلكا طريقا، وإني إن سلكت غير طريقهما، سلك
بي غير طريقهما، وإني والله لأشاركنهما في مثل عيشهما، لعلي أن أدرك معهما
عيشهما الرخي"). رواه عبد الله بن المبارك في الزهد، وإسحاق بن
راهويه في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنفه، والنسائي في السنن الكبرى،
والحاكم في المستدرك، وفي سماع مصعب من حفصة خلاف.
- قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لبعض التابعين: (أنتم أطول اجتهادًا، وأطول صلاة، - أو أكثر صلاة - من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خيرا منكم)
فقيل: لم؟
قال: (كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة منكم). رواه ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة في مصنفه وأبو داوود في الزهد من طريق عبد الرحمن بن يزيد النخعي، عن ابن مسعود.
فضائل الزهد
الزهد عمل جليل من أعمال القلب، وله فضائل كثيرة:
منها: أنه سبب لمحبّة الله عزّ وجلّ؛ فإنّ
السبب الجامع لبغض الله تعالى لمن أبغضه من الكفار والمنافقين والعصاة هو
إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وهو نقيض الزهد، قال الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ...} الآية، وقال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}، وقال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}.
ومنها: أنّه دواء ناجع وحصن حصين من كثير من أدواء القلوب وآفات الأعمال التي إذا سرت إليها أفسدتها أو أضعفتها.
ومنها: أنّه من علامات إرادة الله الخير بعبده.
- قال موسى بن عبيدة الربذي، عن محمد بن كعب القرظي قال: (إذا أراد الله بعبد خيرا زهَّده في الدنيا، وفقَّهه في الدين، وبصَّره عيوبه، ومن أوتيهن أوتي خير الدنيا والآخرة). رواه ابن المبارك في الزهد، ووكيع في الزهد واللفظ له، وابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر في تاريخه.
ومنها: أنّه من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة.
- قال محمد بن النضر الحارثي: كان محمد بن كعب يقول: (الدنيا
دار فناء، ومنزل بلغة، رغبت عنها السعداء، وانتزعت من أيدي الأشقياء؛
فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها، وأزهد الناس فيها أسعد الناس بها، هي
المعذّبة لمن أطاعها، المهلكة لمن اتبعها، الخائنة لمن انقاد لها، علمها
جهل، وغناها فقر، وزيادتها نقصان، وأيامها دُوَل). رواه ابن أبي
الدنيا في ذمّ الدنيا، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخ دمشق من
طريق عباءة بن كليب الليثي عن محمد بن النضر، وقد تصحّف في بعض المصادر اسم
عباءة إلى عبّاد بن كليب، وعبّاد متروك الحديث، وأما عباءة فصدوق له
أوهام، ذكره البخاري في الضعفاء وقال أبو حاتم: يحوَّل منه.
ومحمد بن النضر عابد زاهد، قال فيه عبد الرحمن بن مهدي: ما رأيت مثله في الصلاح.
ومنها: أنه نجاة للعبد من الذلّ الحاصل بالطمع في الدينا ومتاعها وتعلّق القلب بها.
- وقال سفيان الثّوريّ: (من زهد في الدّنيا ملكها، ومن رغب فيها عبدها، فمن شاء فليعش فيها ملكًا، ومن شاء فليعش فيها عبدًا). رواه الخطيب البغدادي في الزهد.
ومنها: أنه
يفتح للعبد عين البصيرة لإقباله على الآخرة وإنابته إلى ربّه ومحاسبته
لنفسه واستعداده للموت قبل نزوله، فيبصر بهذا الإقبال والنظر وتلك العناية
بالآخرة والاستعداد لها بالأعمال الصالحة ما لا يبصره من اشتغل قلبه
بالدنيا.
- وقال ابن القيم: (مفتاح الرغبة في الآخرة الزهد في الدنيا).
درجات الزهد
ذكر أبو القاسم القشيري(ت:465هـ) عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: (الزهد على ثلاثة أوجه:
- الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام.
- والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.
- والثالث: ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى، وهو زهد العارفين).
وهذا الكلام وإن كان حسناً إلا أنه لا يثبت عن الإمام أحمد رحمه الله،
وقد ذكره أبو القاسم القشيري (ت:465هـ) في الرسالة القشيرية من غير إسناد،
وذكره ابن القيم في مدارج السالكين، وابن مفلح في الآداب الشرعية.
- قال ابن مفلح: (قال القاضي أبو يعلى وذكر أبو القاسم القشيري في كتاب الرسالة إلى الصوفية: وقال أحمد بن حنبل .... ) فذكره.
قلت: القاضي أبو يعلى الفراء(ت:458هـ) وإن كان مات قبل أبي القاسم
القشيري إلا أنّ أبا القاسم أسنّ منه بأربع سنين؛ فهما متعاصران، والرسالة
القشيرية مطبوعة.
- وقال ابن القيم: (وهذا
الكلام من الإمام أحمد يأتي على جميع ما تقدم من كلام المشايخ، مع زيادة
تفصيله وتبيين درجاته، وهو من أجمع الكلام، وهو يدل على أنه رضى الله عنه
من هذا العلم بالمحل الأعلى، وقد شهد الشافعي رحمه الله بإمامته في ثمانية
أشياء أحدها الزهد)ا.هـ.
وعلى كلّ حال فالزهد منه ما هو مشروع، ومنه ما هو غير مشروع:
فأمّا الزهد المشروع فهو على درجتين من حيث حكمه:
الدرجة الأولى: الزهد الواجب، وهو الزهد فيما حرّم الله، وفيما يُشغل عمّا أوجب الله.
والدرجة الثانية: الزهد المستحبّ، وهو الزهد في المكروهات وفضول المباحات، وفيما يُشغل عن المستحبّات.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الزهد الواجب هو ترك
ما يشغل عن الواجب من إرادة الله والدار الآخرة، والزهد المستحب هو ترك ما
يشغل عن المستحب من أعمال المقربين والصديقين).
فصاحب الدرجة الأولى لديه أصل الزهد، وهو
وإن لم يكن يُطلق عليه وصف الزاهد غالباً إلا أن هذه الدرجة هي الأساس لما
بعدها في الزهد، فمن لم يأت بها لا يسمّى زاهداً ولو ترك كثيراً من فضول
المباحات، ولو شابه كثيراً من أئمة الزهد في لباسهم ومعاشهم، لأنّ من أخذ
ما ليس له أو منع ما وجب عليه بذلك فليس بزاهد.
والمخالف في هذه الدرجة آثم مستحقّ للعقوبة.
وصاحب الدرجة الثانية يصحّ أن يوصف بالزهد إذا كان الحامل على ذلك اشتغال القلب بالآخرة.
- قال أحمد بن أبي الحواريّ: سمعت أبا سليمان [الداراني] يقول: (أهل الزّهد في الدّنيا على طبقتين:
فمنهم من
يزهد في الدّنيا ولا يفتح له في روح الآخرة، فهو في الدّنيا مقلٌّ قد يئست
نفسه من شهوات الدّنيا، ولم يفتح له في رَوح الآخرة، فليس شيءٌ أحبّ إليه
من الموت لما يرجو من رَوح الآخرة.
ومنهم من يزهد في الدّنيا ويفتح له في الآخرة، فليس شيءٌ أحبّ إليه من البقاء للتّمتّع بذكر اللّه عزّ وجلّ {ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب} ورغبةٍ في أن يذكر اللّه فيذكره؛ لأنّ الميّت ينقطع عمله، وقد قال تعالى: {فاذكروني أذكركم} فقال: معناه: اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي وثوابي"). رواه البيهقي في الزهد.
والزهد يتفاضل فيه الزاهدون على مراتب كثيرة، وأعلاه زهد أهل الإحسان،
وهو الزهد فيما يشغل عن عبادة الله كأنّك تراه، وغايته بذل النفس وما تملك
في سبيل الله على فقه وبصيرة؛ فيحتمل ما يلقى من الأذى في القيام بأمر الله
من الاستقامة والدعوة والجهاد وإنكار المنكر، وتهون عليه نفسه في ذات
الله، ولو أدّى ذلك إلى أخذ ماله وإراقة دمه؛ فإنّه مع الاقتصاد في المعيشة
ولزوم السنة؛ يبلغ الذروة في الزهد، ولو كان من الأغنياء، بل هو أعظم
زهداً ممن اعتزل الناس وقنع باليسير من المعاش واللباس، ولم يقم بأمر الله
في هذه الأبواب العظيمة.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الجهاد أعظم مشقة
من هذا كله، فإنه بذل النفس، وتعريضها للموت، ففيه غاية الزهد المتضمن لترك
الدنيا كلها، وفيه جهاد النفس في الباطن، وجهاد العدو في الظاهر).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي زنت ثمّ تابت توبة
حسنة، وزهدت في الدنيا كلّها، وطلبت إقامة الحدّ عليها، فأمر بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فشُكَّت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرُجمت، ثم صلى
عليها.
فقال عمر: يا رسول الله أتصلي عليها وقد زنت؟!!
قال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدتَ أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟!!» رواه أحمد والدارمي ومسلم من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنها.
فهذه المرأة تابت توبة حسنة متقبّلة كان يكفيها منها جزء من سبعين جزءا،
ثمّ زهدت في نفسها وولدها وفي الدنيا كلها، وجادت بنفسها لله تعالى، وأعظم
الزهد الزهد في النفس.
- وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيام العشر.
قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)). رواه ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري وغيرهم.
فلم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال العاملين من الزهّاد
وغيرهم في عشر ذي الحجة إلا من بلغ غاية الزهد بأن جاد بماله ونفسه في سبيل
الله؛ فهذا عمله أفضل وأحبّ إلى الله من أعمال العاملين في عشر ذي الحجة.
- وقال ابن القيم رحمه الله: (المحبّون ثلاثة أقسام:
- منهم من يريد من المحبوب.
- ومنهم من يريد المحبوب.
- ومنهم من
يريد مراد المحبوب مع إرادته للمحبوب، وهذا أعلى أقسام المحبين، وزهد هذا
أعلى أنواع الزهد؛ فإنه قد زهد في كل إرادة تخالف مراد محبوبه، وبين هذا
وبين الزهد في الدنيا أعظم مما بين السماء والأرض، فالزهد
خمسة أقسام: زهد في الدنيا، وزهد في النفس، وزهد في الجاه والرئاسة، وزهد
فيما سوى المحبوب، وزهد في كل إرادة تخالف مراد المحبوب، وهذا إنما يحصل
بكمال المتابعة لرسول الحبيب، قال الله تعالى {قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
فجعل سبحانه متابعة رسوله سببا لمحبته لهم، وكون العبد محبوباً لله أعلى
من كونه محباً لله؛ فليس الشأن أن تحِب الله ولكن الشأن أن يحبك الله؛
فالطاعة للمحبوب عنوان محبته كما قيل:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع)ا.هـ.
وهو كلام حسن، ويمكن أن يُستدلّ له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان»
رواه ابن أبي شيبة وأبو داوود والطبراني في الكبير من حديث القاسم بن عد
الرحمن الشامي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وله شاهد من حديث معاذ
بن أنس الجهني رضي الله عنه.
ومن قام بهذه الخصال فهو مريد لما يريده الله فاستكمل الإيمان.
والزهد منه ما يكون في مقام الطلب، ومنه ما يكون في مقام البذل، ومنه ما يكون في مقام الترك.
- فالزهد في مقام الطلب بأن لا يطلب ما لا يصلح له من المحرمات والمكروهات وفضول المباحات.
- والزهد في مقام البذل بأن لا يمنع ما يصلح له بذله وجوباً أو استحباباً؛ فيبذله بطيب نفس متقرباً إلى الله تعالى.
- والزهد في مقام الترك بأن يترك ما لا يعنيه، مما لا يتعلق به طلب ولا بذل.
هل يسمَّى ترك الحرام زُهدا؟
هذه المسألة سبقت الإشارة إليها، والعلماء مختلفون فيها على قولين:
القول الأول: ترك الحرام من الزهد، بل هو أصل الزهد، وهو قول إبراهيم بن أدهم، والزهري ، وابن عيينة، وذُكر عن أحمد كما تقدم.
- قال المتوكّل بن الحسين العابد: قال إبراهيم بن أدهم: (الزّهد
ثلاثة أصنافٍ: فزهد فرضٍ، وزهد فضلٍ، وزهد سلامةٍ، فالزّهد الفرض: الزّهد
في الحرام، والزّهد الفضل: الزّهد في الحلال، والزّهد السّلامة: الزّهد في
الشّبهات). رواه البيهقي في كتاب الزهد.
والقول الثاني: لا يعدّ من الزهد لأنّه فرض واجب، والزهد وصف مدح لما هو فوق ترك الحرام، وهو قول يحيى بن معاذ الرازي، ويوسف بن أسباط.
- قال أحمد بن عيسى الكلابي: سمعت يحيى بن معاذ يقول: «كيف يكون زاهدًا من لا ورع له؟!! تورّع عمّا ليس لك، ثمّ ازهد فيما لك«. رواه البيهقي في الزهد الكبير.
- وقال أحمد بن أبي الحواريّ: حدّثنا المسيّب قال: (سألت يوسف بن أسباطٍ، عن الزّهد، ما هو؟
قال: "أن تزهد، فيما أحلّ اللّه، فأمّا ما حرّم اللّه فإن ارتكبته عذّبك اللّه"؛ يعني أنّ تركه فرضٌ). رواه البيهقي في الزهد.
مذاهب العلماء في الزهد
مما ينبغي التنبه له أن
للعلماء الزهاد مذاهب في الزهد يختلفون فيها بما يوافق أحوالهم وما
يطوَّقونه من الاحتمال في غير تكلّف، بل على بصيرة وحسن معرفة بالسنة
وبأحوال القلب وما يُصلحه؛ فهم على مذهبين:
المذهب الأول: مذهب
المتقللين، وهم الذين يتقللون من اللباس والمعاش وسائر متع الدنيا، فيكتفون
منها بما يتقوّون به على أمور دينهم والتبلّغ في دنياهم، ويكفّون النفس عن
طلب ما وراء ذلك.
والمذهب الثاني: مذهب
المقتصدين في المعيشة، وهم الذين يكون لهم متاع حسن ظاهر، فيتجمّلون في
لباسهم ومعاشهم من غير إسراف، ويظهر عليهم أثر النعمة، ويغلب عليهم الجود
والعطاء فيتصدقون، ويُكرمون الضيف، ويصلون الرحم، ويواسون الصديق، وهم على
ذلك من الزهّاد.
واختلافهم في الزهد بين التقلّل والاقتصاد نظير
اختلاف اختياراتهم في قيام الليل بين التطويل والتخفيف، واختلافهم في
العزلة والخلطة، وفي تغليب الرجاء أو الخوف، وغيرها من أبواب السلوك؛ فكلّ
يأخذ بما هو أصلح لقلبه، وأوفق لحاله، وأقرب إلى السلامة من الفتن
والتبعات.
- قال ابن عقيل: حدثنا يزيد [يعني ابن عبد الله بن الشخير] أن رجلاً أتى تميما ًالداري فقال: كيف صلاتك بالليل؟
فغضب غضبا شديدا؛ فقال: (والله لركعة أصليها في جوف الليل في السرّ أحبّ إليَّ من أن أصلي الليل كله ثم أقصّه على الناس).
فغضب السائل عند ذلك فقال: يا أصحاب رسول الله! الله أعلم بكم، إن سألناكم عنّفتمونا، وإن لم نسألكم جفوتمونا؟
فأقبل تميم عند ذلك على الرجل فقال: (أرأيت إن
كنتَ مؤمناً قوياً وأنا مؤمن ضعيف؛ أكنتَ ساطيا عليَّ بقوتك فتقطعني؟
أرأيتَ إن كنتَ مؤمناً ضعيفاً وأنا مؤمنٌ قويٌّ أكنتُ ساطياً عليك بقوّتي
فأقطعك؟ ولكن خذ من نفسك لدينك، ومن دينك لنفسك، حتى تستقيم لك على عبادة
ترضاها). رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد، وإبراهيم الحربي في غريب
الحديث، وهو عنده "أشاطّ أنت عليَّ بقوتك فتقطعني" بدل ساطياً، وهو من
الشطط، وهو ما صححه أبو عبيد في غريب الحديث، قال: (قَوْله: "إِنَّك لشاطِّي" أَي إِنَّك لجائرٌ عليّ حِين تحمل قوتك على ضعْفي وهُوَ من الشطط والْجور فِي الحُكم).
وكان تميم الداري قد أوتي قوّة على قيام الليل حتى همّ جماعة من
العُبّاد من أبناء الصحابة أن ينافسوه في العبادة فما قدروا على ذلك.
- قال جعفر بن عمرو بن أمية الضمري: كنا فئةً من
أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: إنَّ آباءَنا قد سبقونا
بالهجرة وصحبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهلموا نجتهد في العبادة لعلنا
ندرك فضائلهم، منهم - أو كما قال- عبد الله بن الزبير، ومحمد بن أبي حذيفة،
ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن طلحة، ومحمد بن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد
يغوث، قال: (فاجتهدنا في العبادة بالليل والنهار، وأدركنا تميماً الداري شيخاً؛ فما قمنا له ولا قعدنا في طول الصلاة). رواه الإمام أحمد في الزهد.
- وقال عبد الله بن وهب: أخبرني أفلح بن حميد الأنصاري، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: (لقد نفع الله الناس باختلاف أصحاب النبي عليه السلام، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه سعة، ورأى أن خيرا منه قد عمله). رواه ابن أبي خيثمة.
-وقال قبيصة بن عقبة: حدثنا أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد قال: (كان اختلاف أصحاب رسول الله رحمة للناس). رواه ابن سعد.
ومن
ذلك اختلافهم في الزهد ففيه رحمة للسالكين، لأنَّ من الناس من لا يصلح له
مذهب التقلّل ولا يصبر عليه، بل يفتنه ويحرجه، ومنهم من لا يرتاح قلبه إلا
بالتقلل، فإذا كثر ما لديه أهمّه واشتغل قلبه به؛ فيرى الراحة في الإقلال،
ويخشى افتتان نفسه بالدنيا إذا استرسل في متاعها، وهو على ذلك يُحرز قوت
نفسه ومن يعول، ويصبر على ما يصيبه من الفاقة أحياناً. - وقال ابن وهب: حين التقى القاسم [بن محمد] وعمر [بن عبد العزيز]، وكان عمر يومئذ على المدينة؛ فقال عمر للقاسم: (إن معنا فُضولاً من طعام ومتاع فخذ ذلك). وقد روى ابن
عساكر خبر لقيّهما وأنّ عمر بن عبد العزيز كان قافلاً من العمرة أو الحج،
والقاسم كان خارجاً يريد العمرة؛ فعرض عليه عمر فضولاً من الظهر والطعام
يستعين بها في سفره فاعتذر له من قبولها.
وخير التابعين أويس القرني وكان متقللاً من الدنيا، ويحبّ التخفّي ويتجنّب الشهرة، وابتلي بالفقر فصبر، ولو قبل الأعطيات لأثرى.
وخير التابعين في المدينة على
قول جماعة من أهل العلم سعيد بن المسيّب، وكان صاحب مالٍ وتجمّلٍ في لباسه،
وهو من أزهد الناس في الدنيا.
- قال سلام بن مسكين: (ما سمعت بأحد من الناس كان أزهد في الدنيا، ولا أحسن تجملاً منه). رواه أبو داوود في الزهد.
وقد كان القاسم بن محمد بن أبي
بكر وسالم بن عبد الله بن عمر صديقين متآخيين، وعالمين جليلين من علماء
التابعين، وكانا من شدّة تآخيهما يجلسان للفتيا في مجلس واحد في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكانا على مذهبين مختلفين في الزهد:
فكان القاسم يحبّ التجمّل في اللباس والتأنّق فيه، وكان ذا هيئة حسنة في لبسه ومعيشته.
وكان سالم يلبس اللباس الغليظ الزهيد ولا يزرّ قميصه، ولا يحفل بهيئته، وهو موسر، يعمل بيديه ويتكسّب ويتصدّق بالصدقات الكثيرة.
- قال عبد الله بن عمران بن أبي فروة:
(رأيت القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم يتجالسان، على القاسم جبة خز ومطرف خز وعمامة خز، وعلى سالم حنيف
وبركان وعمامة شقائق، لا يعيب هذا على هذا لبسته، ولا هذا على هذا لبسته). رواه ابن عساكر.
وكان محمد بن سيرين يقتدي بالقاسم بن محمد وهو من أورع التابعين وأشدّهم.
وكان القاسم وسالم بن عبد الله لا يقبلان عطاء السلطان حتى جهد هشام بن عبد الملك وهو خليفة أن يقبل منه سالمٌ عطاءً فلم يقدر.
- قال الحميدي: سمعت سفيان بن
عيينة يقول: دخل هشام بن عبد الملك الكعبةَ فإذا هو بسالم بن عبد الله بن
عمر بن الخطاب فقال له: يا سالم سلني حاجة.
فقال: إنني أستحيي من الله تبارك وتعالى أن أسأل في بيت الله غيرَ الله.
فلما خرجَ خرجَ في إثره فقال له: الآن قد خرجت؛ فسلني حاجة.
فقال له سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟
فقال: من حوائج الدنيا.
قال له سالم: (أما والله ما سألت الدنيا من يملكها؛ فكيف أسأل من لا يملكها). رواه ابن عساكر.
وللعلماء الزهّاد مذهبان في أعطيات الحكَّام:
المذهب الأول:
ردّها والامتناع عنها، وهو مذهب حكيم بن حزام رضي الله عنه، وسعيد بن
المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وطاووس بن كيسان،
ومحمد بن سيرين، وسفيان الثوري، وعبد الله بن إدريس الأودي، وأحمد بن حنبل
وغيرهم، وكان منهم من يشدّد في ذلك، ومنهم من لا يعيب على من أخذ وأمّا هو
فيمتنع عن الأخذ.
وحكيم بن حزام أخذ بوصية النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد حلف له على ذلك.
- روى الزهري عن سعيد بن المسيب
وعروة بن الزبير عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال: «يا
حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه
بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من
اليد السفلى».
قال حكيم: فقلت: يا رسول الله،
والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر
رضي الله عنه، يدعو حكيماً إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي
الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر
المسلمين على حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم
يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي).
رواه البخاري في صحيحه، وروى مسلم إلى تمام المرفوع منه.
فقال القاسم: (إني لا أرزأ أحداً شيئاً).
فقلت لمالك: أكان عمر يومئذ أميرا؟
قال: نعم). رواه يعقوب بن سفيان.
- وقال سفيان بن عيينة: كان عمر بن عبد العزيز يقول لطاووس: هات أرفع حاجتك إلى أمير المؤمنين؛ فيقول: (مالي إليه حاجة). رواه الإمام أحمد في الزهد وابن أبي خيثمة في تاريخه.
- وقال
عبد الرزاق قال: سمعت النعمان بن الزبير يحدث أن محمد بن يوسف أو أيوب بن
يحي [ وكانا أميرين على اليمن] بعث إلى طاوس بخمسمائة دينار وقال للرسول:
إنْ أخذها منك فإن الأمير سيكسوك ويحسن إليك؛ فخرج بها حتى قدم على طاوس
الجنَد؛ فقال: يا أبا عبد الرحمن نفقة بعث بها إليك الأمير.
قال: (ما لي بها حاجة).
قال: فأراده على قبضها فأبى،
فغفل طاووس فرمى بها في كوة البيت ثم ذهب، فقال لهم: أخذها، فلبثوا حينا،
ثم بلغهم عن طاووس شيء كرهوه، قال: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا؛ فجاءه
الرسول؛ فقال: المال الذي بعث به إليك الأمير.
قال: (ما قبضت منه شيئاً).
فرجع الرسول فأخبرهم، فعرفوا أنه صادق.
فقيل: انظروا الرجل الذي ذهب بها فابعثوه إليه؛ فجاءه؛ فقال: المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن؟
قال: هل قبضت منك شيئا؟
قال: لا.
قال: (فهل تدري أين وضعته؟)
قال: نعم في تلك الكوَّة.
قال: فأبصره حيث وضعته.
قال: فمدَّ يده فإذا هو بالصرَّة قد نبت عليها العنكبوت
قال: فأخذها فذهب بها إليهم) رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، وأبو نعيم في الحلية.
- وقال يحيى بن سليم الطائفي: حدثنا سفيان بن عيينة أن
محمد بن إبراهيم - يعني الهاشمي الذي كان على مكة - بعث إلى سفيان الثوري
بمائتي دينار فأبى أن يقبلها.قلت له: يا أبا عبد الله كأنك لا تراها حلالاً؟
قال: (بلى، ولكن أكره أن أذلّ). رواه ابن أبي حاتم.
وأخبارهم في ذلك كثيرة.
والمذهب الثاني: قبول
عطايا السلطان إذا جاءتهم من غير سؤال ولا إشراف نفس، وأَمِنوا جانب
الحاكم وأنه لا يريد بذلك استمالتهم لما يهوى، وهو مذهب عبد الله بن عمر،
والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، ومالك بن أنس.
وعبد الله بن عمر بنى مذهبه في ذلك على وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه عمر.
- قال عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما: سمعت عمر، يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء،
فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: «خذه إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك» رواه البخاري من حديث الزهري عن سالم عن أبيه.
- وروى ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم أن عبد العزيز بن مروان كتب إلى عبد الله بن عمر أن ارفع إليَّ حاجتك.
قال: فكتب إليه عبد الله: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)) وإني لأحسب اليد العليا المعطية، والسفلى السائلة، وإني غير سائلك شيئاً، ولا رادّ رزقاً ساقه الله إليَّ منك). رواه أحمد وابن سعد وأبو يعلى من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم.
- وقال حسين بن عروة: قدم المهدي
المدينة فبعث إلى مالك بألفي دينار أو بثلاثة آلاف ثم أتاه الربيعُ
[البرمكي] بعد ذلك فقال له: أمير المؤمنين يحبّ أن تعادله إلى مدينة
السلام.
فقال له مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، والمال عندي على حاله). رواه أبو بشر الدولابي كما في الانتقاء لابن عبد البر.
يريد أنه إن كان عطاؤه لأجل أن يقبل بالذهاب معه إلى مدينة السلام وهي بغداد فالمال عنده لا حاله لم يأخذ منه شيئاً.
وأخبارهم في ذلك يطول ذكرها.
والمقصود
التنبيه على أنّ أئمّة الزهّاد من السلف الصالح كانوا على مذاهب في التقلل
من الدنيا على اختلاف أحوالهم في الفقر والغنى، فكانوا على أصناف:
الصنف الأول:
من كان يتقلّل وهو فقير، فيصبر على الفقر والحاجة، ومنهم كثير من فقراء
المهاجرين والأنصار، صبروا على ما بهم من فاقة، ومنهم من كان يؤثر على نفسه
ولو كان به خصاصة.
ولما فتح الله على المسلمين
ودرّت الأرزاق بقي من هؤلاء من قنع بحاله، وصبر على فقره ولو شاء لتكسّب
وأثرى، ومن هؤلاء: أبو ذر الغفاري، وعمير بن سعد الأوسي، وأويس القرني
وغيرهم.
والصنف الثاني:
من كان يتقلل وهو غنيّ: ومنهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وسلمان
الفارسي، وعبد الله بن عمر، وابنه سالم بن عبد الله بن عمر، وطاووس بن
كيسان، وغيرهم.
- قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع). رواه ابن المبارك في الزهد، وابن أبي شيبة في مصنفه، وابن أبي الدنيا في إصلاح المال من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس.
- وقال
عيسى بن سالم: أخبرنا أبو المليح عن ميمون بن مهران قال: دخلت على ابن عمر
فقوَّمتُ كلَّ شيءٍ في بيته؛ فما وجدته يسوى مائة درهم، قال: ثم دخلت مرة
أخرى فما وجدت ما سوى ثمن طيلسان.
قال: (ودخلت على سالم من بعده فوجدته على مثل حاله). رواه ابن عساكر.
-وقال عبد الله بن المبارك: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، قال: «رأيت سالم بن عبد الله عليه إزار ثمن أربعة، وقميص ثمن خمسة، وهو موسر» رواه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال".
- وقال رمان المرادي: قيل لطاووس: إنَّ منزلك قد استرمّ قال : (قد أمسينا) رواه ابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" والبيهقي في شعب الإيمان.
يريد أنه لم يبق من الدنيا إلا قليل.
وهؤلاء كانوا مع تقللهم
واختيارهم اليسير من اللباس والمعاش على عناية حسنة بالطهارة فهو زُهد
بتطهّر، وقد رأى طاووس بن كيسان رجلاً مسكيناً، في عينيه غمص، وفي ثوبه
وسخ، فقال له: (عدّ أن الفقر من الله، فأين أنت عن الماء؟!).
وإنما نبّهت على ذلك لئلا يُظنّ في الأئمة الزهّاد ما لا يليق بهم من التقذّر.
والصنف الثالث: من
كان يتجمّل في لباسه ويتخيّر الجيّد من الطعام في غير إسراف، ومنهم: تميم
الداري، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين،
وأبو قلابة الجرمي، ومالك بن أنس، وغيرهم كثير.
- قال محمد بن سيرين: (اشترى تميم الداري حُلَّة بألف، كان يصلي فيها). رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه.
- وقال ابن عون: « ما أتينا محمد بن سيرين في يوم قط إلا أطعمنا خبيصاً أو فالوذجاً». رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق.
- وقال أيوب السختياني: رآني أبو قلابة وأنا أشتري تمراً رديئاً؛ فقال: «قد كنت أظنّ أنَّ الله تعالى قد نفعك بمجالستنا، أما علمت أن الله تعالى قد نزع من كل رديء بركته؟» رواه أبو نعيم.
- وقال مطرف بن عبد الله اليساري: (كان مالك بن أنس طويلا عظيم الهامة، أصلع، أبيض الرأس واللحية، أبيض شديد البياض إلى الشقرة، وكان لباسه الثياب العدنية الجياد). رواه ابن سعد.
-وقال
مصعب بن عبد الله الزبيري: كان مالك يلبس الثياب العدنية الجياد،
والخراسانية والمصرية المرتفعة البِيض، ويتطيب بطيب جيد، ويقول: (ما أحب لأحد أنعم الله عليه إلا ويرى أثر نعمته عليه، وخاصة أهل العلم)
وكان يقول: (أحبّ للقارئ أن يكون أبيض الثياب). ذكره القاضي عياض.
التحذير من الزهد الفاسد وبيان علل الزهد
من سلك سبيل الزهد فعليه أن يحذر من العلل التي يتحوّل بها زهدُه إلى زهد فاسدٍ غير صحيح، ومن تلك العلل:
1: مخالفة السنّة في الزهد،
وهو الزهد البدعي، وهو زهد فاسد لأنه على خلاف هدي النبي صلى الله عليه
وسلم وسنّته، وكلّ عبادة ليست على سنّة النبي صلى الله عليه وسلم فهي عبادة
فاسدة مردودة، وقد تقدّم بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزهد،
وبيان حقيقة الزهد المشروع.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأفضل الجهاد
والعمل الصالح ما كان أطوع للرب وأنفع للعبد؛ فإذا كان يضرّه ويمنعه مما هو
أنفع منه لم يكن ذلك صالحاً وقد ثبت في الصحيح أن رجالا قال أحدهم: أما
أنا فأصوم لا أفطر وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر: أما أنا
فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء فقال صلى الله عليه
وسلم: ((ما بال رجال يقول أحدهم كيت وكيت لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني))
فبين صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا الزهد الفاسد والعبادة الفاسدة ليست
من سنته؛ فمن رغب فيها عن سنته فرآها خيرا من سنته فليس منه.
وقد قال أبي بن كعب: (عليكم بالسبيل والسنة؛ فإنه
ما من عبدٍ على السبيل والسنة ذكر الله خالياً فاقشعرَّ جلده من خشية الله
إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحاتّ الورق اليابس عن الشجر، وما من عبد على
السبيل والسنة ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار
أبدا، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة؛ فاحرصوا
أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادا أو اقتصادا على منهاج الأنبياء وسنتهم).
وكذلك قال عبد الله بن مسعود: (اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة) )ا.هـ.
- وقال أيضاً: (حقيقة المشروع منه: أن يكون بغضه
وحبه وزهده فيه أو عنه تابعا لحب الله وكراهته، فيحب ما أحبه الله، ويبغض
ما أبغضه الله، ويرضى ما يرضاه، ويسخط ما يسخطه، بحيث لا يكون تابعا لهواه؛
بل لأمر مولاه؛ فإن َّكثيرا من الزهاد في الدنيا أعرضوا عن فضولها، ولم
يقبلوا على ما يحبه الله ورسوله، وليس هذا الزهد هو الذي أمر الله به؛
ولهذا كان في المشركين زهاد، وفي أهل الكتاب زهاد، وفي أهل البدع زهاد)ا.هـ.
2: اشتغال القلب بحظوظ النفس الدنيوية من الزهد، فيتزهّد ليُعظّم شأنه، وتُصرف الوجوه إليه، فيتزهد في اللباس والمعاش، ويحرص على الجاه والشرف، وهذا زهد فاسد.
- قال عارم بن الفضل: حدثنا حماد بن زيد قال: قال أيوب: (لأن يستر الرجل زهده خير له من أن يظهره). رواه ابن سعد.
- وقال ابن القيم: (أفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ).
3: رؤية زهد النفس والعجب بها، وازدراء من لم يزهد، وهو داء دويّ.
- قال يزيد بن عوانة: حدثني أبو شداد - شيخ من بني مجاشع أحسن عليه الثناء - قال: سمعت الحسن، وذُكر عنده الذين يلبسون الصوف، فقال: (ما
لهم تفاقدوا - ثلاثا - أكنّوا الكبرَ في قلوبهم، وأظهروا التواضع في
لباسهم، والله لأحدهم أشدُّ عجباً بكسائه من صاحب المطرف بمطرفه). رواه ابن سعد.
والمِطْرَف كِسَاء فاخرٌ له أعلام تزيّنه.
4: تسمية العجز والكسل والبطالة زهداً،
وذلك أن ترك الدنيا إنما يُحمد إذا كان الحامل عليه الرغبة في الآخرة
والعمل لها، مع القيام بما يجب على المرء من النفقة الواجبة عليه لنفسه ومن
يعول بما يستطيع.
- قال أحمد بن أبي الحواريّ: سمعت أبا سليمان الدّارانيّ يقول: «ليس الزّاهد من ألقى غمّ الدّنيا واستراح منها، وإنّما تلك راحةٌ، وإنّما الزّاهد من ألقى غمّها وتعب فيها لآخرته» رواه البيهقي في الزهد الكبير.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كثيرا ما يشتبه
الزهد بالكسل والعجز والبطالة عن الأوامر الشرعية، وكثيرا ما تشتبه الرغبة
الشرعية بالحرص والطمع والعمل الذي ضلَّ سعي صاحبه).
5: الزهد البارد، وهو الزهد في بعض ما ينفع في الآخرة مع تيسّره، وهذا سببه الجهل.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الزهد هو عما لا
ينفع إما لانتفاء نفعه أو لكونه مرجوحاً لأنه مفوّت لما هو أنفع منه، أو
محصّل لما يربو ضرره على نفعه، وأما المنافع الخالصة أو الراجحة فالزهد
فيها حُمْق).
6: اعتقاد التلازم بين الزهد والفقر، وهو خطأ شائع؛ فالزهد عمل قلبي يشترك فيه الغنيّ والفقير، بل قد يكون الغنيّ الزاهد أعظم أجراً من الفقير الزاهد.
- قال ابن تيمية: (لما كان الفقر مظنة الزهد طوعا
أو كرها؛ إذ من العصمة أن لا تقدر، وصار المتأخرون كثيرا ما يقرنون بالفقر
معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى، وقد يكون مع الفقر؛ ففي الأنبياء
والسابقين الأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير.
و " الزهد " المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة وأما كل ما يستعين
به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع بل ترك الفضول التي
تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع).
7: تسمية اليأس من الدنيا وذمّها زهداً،
فيطلب الدنيا حتى إذا يئس منها ذمّها وعدّ نفسه زاهداً فيها، والزهد
المشروع هو الذي يكون الحامل عليه إرادة الآخرة فيترك من الدنيا ما يشغله
عنها ولا ينفعه فيها.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (المحمود
في الكتاب والسنة إنما هو إرادة الدار الآخرة، والمذموم إنما هو من ترك
إرادة الدار الآخرة، واشتغل بإرادة الدنيا عنها؛ فأما مجرد مدح ترك الدنيا
فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تنظر إلى كثرة ذمّ الناس الدنيا ذمّا
غير ديني؛ فإن أكثر العامّة إنما يذمونها لعدم حصول أغراضهم منها؛ فإنها
لم تصف لأحد قط، ولو نال منها ما عساه أن ينال)ا.هـ.
- وقال أيضاً: (إذا قُدِّرَ
أن شخصين أحدهما يريد الآخرة ويريد الدنيا، والآخر زاهد في الدنيا وفي
الآخرة؛ لكان الأول منهما مؤمناً محموداً، والثاني كافرا ملعوناً، مع أنَّ
الثاني زاهد في الدنيا، والأول طالب لها، لكن امتاز الأوَّل بفعل مأمور مع
ارتكاب محظور، والثاني لم يكن معه ذلك المأمور به؛ فثبت أنَّ فعل المأمور
به من إرادة الآخرة ينفع، والزهد بدون فعل هذا المأمور لا ينفع)ا.هـ.
فهذه سبع علل ينبغي للزاهد أن يحذرها حتى يصحّ له زهده.
- وقال ابن القيم: (النقص في الزهد يكون من أحد وجوه:
أولها: أن يزهد فيما
ينفعه منها، ويكون قوة له على سيره ومعونة له على سفره، فهذا نقص. فإن
حقيقة الزهد هى أَن تزهد فيما لا ينفعك، والورع أن تتجنب ما قد يضرك. فهذا
الفرق بين الأمرين.
الثاني: أن يكون زهده
مشوباً إما بنوع عجز أو ملالة وسآمة وتأَذية بها وبأَهلها، وتعب قلبه بشغله
بها، ونحو هذا من المزهدات فيها، كما قيل لبعضهم: ما الذى أوجب زهدك في
الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها؛ فهذا زهد ناقص، فلو
صَفَتْ للزاهد من تلك العوارض لم يزهد فيها، بخلاف من كان زهده فيها
لامتلاءِ قلبه من الآخرة، ورغبته فى الله وقربه، فهذا لا نقص في زهده ولا
علة من جهة كونه زهداً.
الثالث: أن يشهد زهده
ويلحظه ولا يفنى عنه بما زهد لأجله فهذا نقص أيضاً؛ فالزهد كله أن تزهد فى
رؤية زهدك، وتغيب عنه برؤية الفضل ومطالعة المنة، وأن لا تقف عنده فتنقطع،
بل أعرض عنه جاداً فى سيرك غير ملتفت إليه مستصغراً لحاله بالنسبة إلى
مطلوبك، مع أن هذه العلة مطّردة فى جميع المقامات على ما فيها).
ثمّ قال: (فإن ربط هذا الشأْن بالنصوص النبوية
والعقل الصريح والفطرة الكاملة من أهم الأمور فلا يحسن بالناصح لنفسه أن
يقنع فيه بمجرد تقليد أهله، فما أكثر غلطهم فيها وتحكيمهم مجرد الذوق، وجعل
حكم ذلك الذوق كلياً عاماً، فهذا ونحوه من مثارات الغلط)ا.هـ.
ومما ينبغي التفطّن له ما يقع من بعض الموصوفين
بالزهد من مبالغة في وصف الزهد وحدوده حتى يخرج عن حقيقة الزهد إلى رسوم
ظاهرة تخالف هدي السلف الصالح وسمتهم، والزهد عمل قلبي يقع من الغنيّ
والفقير، وتلك الرسوم الظاهرة وإن كانت قد تقع لبعض الزهاد فليست هي حقيقة
الزهد، ولا يوصف من اتّصف بها بأنه زاهد، ولا من لم يتّصف بها بأنه غير
زاهد، على ما فيها من تعنيت ومشقة وغلو.
ومن ذلك قول بعضهم: (الزاهد من لم يطلب المفقود حتى يفقد الموجود).
وقول أبي بكر الوراق: (الزّهد: ثلاثة أحرفٍ، أمّا الزّاي: فترك الزّينة، وأمّا الهاء: فترك الهوى، وأمّا الدّال: فترك الدّنيا).
وما روي عن يحيى بن معاذ أنه قال: (الزّهد ثلاثة أشياء: القلّة والخلوة والجوع).
الأسباب المعينة على تحقيق الزهد:
من الأسباب المعينة على تحقيق الزهد:
1: العلم الصحيح بحقيقتي الدنيا والآخرة، ومن تدبّر القرآن وعقل ما فيه من الأمثال المضروبة للدنيا والآخرة تبيّن له ما يكفي للترغيب في الزهد.
قال الله تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا
أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا
فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) }
- وقال المستورد بن شداد رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم ترجع؟» رواه أحمد ومسلم وابن أبي شيبة وغيرهم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد.
- وقال أحمد بن أبي الحواريّ: «من عرف الدّنيا زهد فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها، ومن عرف اللّه آثر رضاه» رواه البيهقي في الزهد.
- وقال ابن القيم: (القرآن مملوء من التزهيد في
الدنيا، والإخبار بخستها، وقلتها وانقطاعها، وسرعة فنائها. والترغيب في
الآخرة، والإخبار بشرفها ودوامها. فإذا أراد الله بعبد خيرا أقام في قلبه
شاهدا يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة. ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار).
- وقال أيضاً: (لا تتم الرغبة في الآخرة إلا
بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر
في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة
عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال
والانقطاع، مع ما يعقب من الحسرة والأسف؛ فطالبها لا ينفك من همّ قبل
حصولها، وهمّ حال الظفر بها، وغمّ وحزن بعد فواتها؛ فهذا أحد النظرين.
والنظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها
وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما
هنا؛ فهي كمال الله سبحانه {والآخرة خير وأبقى}؛ فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة.
فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد فيما يقتضي
الزهد فيه فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى
النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل
وقويت رغبته في الأعلى الأفضل؛ فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم
تبين الفضل له وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف
الإيمان وضعف العقل والبصيرة؛ فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها، المؤثر
لها، إما أن يصدّق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وإما أن لا يصدق بذلك كان
عادما للإيمان رأسا، وإن صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار
لنفسه، وهذا تقسيم حاصر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فإيثار
الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما
أكثر ما يكون منهما).
2: قصر الأمل والإكثار من ذكر الموت، وفي مرسل الربيع بن أنس «كفى بالموت مزهداً في الدنيا، ومرغبا في الآخرة» رواه ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان.
3: مجالسة الصالحين، والقراءة في سيرهم وأخبارهم.
4: حبّ المساكين، ومجالسة الفقراء.
- قال سفيان الثوري: كان عون بن عبد الله يقول: «كنت
أجالس الأغنياء، فكنت من أكثر الناس هما، وأكثرهم غما، أرى مركبا خيرا من
مركبي، وثوبا خيرا من ثوبي، فأهتم، فجالست الفقراء فاسترحت» رواه أبو نعيم في حلية الأولياء واللفظ له، وابن أبي حاتم في تفسيره بلفظ مقارب، وعلّقه الترمذي في سننه.
5: قطع نهمة النفس بالمباح من شهواتها؛ فإنّ
النفس إذا تاقت إلى أمر أشغلت القلب به؛ وإذا أخذت النفس نهمتها منه بقدر
خفّ تطلّعها إليه، وهو أسهل من معالجة الحرمان.
6: القناعة باليسير، وترك التكلّف، ويسهّله
اليقين بأنّ زهده فيها لا يمنعه رزقاً كتبه الله له، كما أنّ حرصه عليها لا
يجلب له رزقاً غير مكتوب له.
قال ذو النون المصري: (من لم يقنعه اليسير افتقر في طلب الكثير). رواه البيهقي في الزهد.
قلت: يريد افتقار القلب.
7. التذكّر والتفكّر، وهما وقود القلب؛ فإذا استمدّ منهما أثمرا له الانتفاع بالعلم والحال، وإن تركهما أصابته الغفلة.
- قال ابن القيم رحمه الله: (التذكر والتفكر كل منهما لقاح الآخر إذا اجتمعا أنتجا الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة).
الورع
معنى الورع:
الورع في اللغة شدّة التحرّج والكفّ عن القبيح وما لا ينبغي، يقال منه: رجلٌ وَرِعٌ، وقد وَرِعَ يرِعُ وَرَعاً.
ومنه قولهم: (ورَّعت بين الرجلين) أي: حجزتهما عن التعارك، و(ورَّعْتُ الإبل عن حوض) إذا رددتها فارتدَّت.
قال عمرو بن معد يكرب:
أشاب الرأس أيام طوال ... وهمّ ما تبلَّغه الضلوع
وسوق كتيبة دلفت لأخرى ... كأنّ زهاءها رأسٌ صليع
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضربٌ وجيع
دنت واستأخر الأوغال عنها ... وخُلي بينهم إلا الوَريع
والوريع هو الذي يكفّ الخيل.
والوَرَع في الشرع: كفّ النفس عمّا يُخشى إثمه تحرّجاً.
فيدخل فيه جانبا الترك والفعل؛ فيترك المحرمات والمشتبهات، ويقوم بما أوجب الله.
ولا يستقيم الوَرَع إلا بفقه خير الخيرين وشرّ الشرين؛ ومعرفة ما يجب على
المرء من العلم وطريقه إما بالاجتهاد الصحيح أو سؤال أهل العلم.
وكم من مريد للورع أوقع نفسه في شرّ مما أراد التورّع عنه، بسبب ضعف العلم، وقلّة البصيرة بالأصلح في حقّه.
ولذلك فإنّ الورع لا يصحّ في ترك واجب ولا مستحبّ، ولا فيما كان مصلحته
أعظم من مفسدته، ولا في ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما الورع فإنه
الإمساك عما قد يضر؛ فتدخل فيه المحرمات والشبهات لأنها قد تضرّ فإنّه من
اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام،
كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه، وأما الورع عما لا مضرة فيه أو فيه مضرة
مرجوحة لما تقترن به من جلب منفعة راجحة أو دفع مضرة أخرى راجحة فجهل
وظلم، وذلك يتضمن ثلاثة أقسام لا يُتورَّع عنها: المنافع المكافأة والراجحة
والخالصة كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب فإنَّ الورع عنها ضلالة)ا.هـ.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الورع:
بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم للأمة هدياً في
الورع هو أحسن الهدي وأنفعه، وبه تقوم مصالح الفرد ومصالح الأمة؛ ويسلم به
المؤمن من آفات كثيرة، وإذا فشا في الأمّة تطهّرت وارتفعت، وقلّ التنازع
والاختلاف الذي هو سبب الفشل والانحطاط.
وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الورع وسط بين
الغلوّ والتفريط؛ فمن تعدّاه غلا وتنطّع، ومن قصّر عنه وقع في شيء من
التفريط بحسب تقصيره.
- قال النعمان بن بشير رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن
اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراع يرعى حول
الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه
محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد
الجسد كله، ألا وهي القلب)). رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من طرق عن عامر الشعبي عن النعمان بن بشير.
وفي رواية عند النسائي من طريق ابن عون عن الشعبي به وزاد: (وإن من خالط الريبة يوشك أن يجسر).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس)
فيه أنّ المشبّهات قد يعلمها بعض الناس وخاصّة أهل العلم، فمن تبيّن له
الحلال من الحرام؛ فلا يكون تناولُه ما استبان له حلُّه من خوارم الورع،
ولو أنه لم يستبن لغيره.
- وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطة على فراشي أو في بيتي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها» رواه
مسلم من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة، ورواه البخاري ومسلم من حديث
منصور بن المعتمر عن طلحة بن مصرف عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
- وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تضوَّر ذات ليلة؛ فقيل له ما أسهرك؟
قال: « إني وجدت تمرة ساقطة
فأكلتها، ثم تذكرتُ تمراً كان عندنا من تمر الصدقة؛ فلا أدري أمن ذلك كانت
التمرة أو من تمر أهلي؛ فذلك أسهرني » رواه أحمد والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان من طريق أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب به.
- وقال أبو الحوراء السعدي: قلت للحسن بن علي ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: أذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أخذت تمرة من تمر الصدقة؛ فجعلتها في فيّ.
قال: فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعابها؛ فجعلها في التمر.
فقيل: يا رسول الله ما كان عليك من هذه التمرة لهذا الصبي؟
قال: ((إنا آل محمد لا تحلّ لنا الصدقة)).
قال: وكان يقول: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)).
قال: وكان يعلمنا هذا الدعاء: ((اللهم
اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما
أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت،
تباركت ربنا وتعاليت)).
رواه أحمد وعبد الرزاق والطبراني في
الكبير من حديث بريد بن أبي مريم السلولي عن أبي الحوراء، ورجاله ثقات، وقد
رواه الدارمي والترمذي والنسائي من هذا الطريق مختصراً.
- وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلَحْمٍ، فقيل: إن هذا ما تصدق به على بريرة، فقال: «هو لها صدقة، ولنا هدية».
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا تحلّ له الصدقة،
لكن اللحم الذي تُصدّق به على بريرة لمّا انتقل ملكه إليها صار لها حقّ
التصرّف فيه، ومن التصرّف الجائز أن تهديه، والهديّة حلال للنبي صلى الله
عليه وسلم.
وهذا يبيّن أنّ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في
الورع وسط بين الغلوّ والتفريط، وهو ورع قائم على الفقه، ولا يستقيم الورع
إلا بالفقه.
عناية السلف رضي الله عنهم بالورع:
كان للسلف الصالح عناية ظاهرة بالورع؛ ولهم في ذلك
أخبار وآثار كثيرة جداً تدلّ على ما وراءها من التقوى والعلم والخشية
ومحاسبة النفس.
- قالت عائشة رضي الله عنها في شأن قصّة الإفك: ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: «يا زينب، ما علمت؟ ما رأيت؟»
فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع). رواه أحمد والبخاري ومسلم.
- وقال أبو الدرداء رضي الله عنه:
(تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه في مثقال ذرة، حتى يترك بعض
ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً، يكون حاجزاً بينه وبين الحرام). رواه البيهقي في الزهد الكبير من طريق سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني عبد الله بن الوليد، عن عباس بن خليد الحجري عن أبي الدرداء.
- وعن محمد بن سيرين أنّه سمع شريحاً يقول لرجل: « يا عبد اللّه! دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فو اللّه لا تدع من ذلك شيئًا تحرّجا فتجد فقده». رواه معمر بن رشاد في جامعه، والبيهقي في الزهد الكبير.
- وقال الضحاك بن مزاحم: (لقد رأيتنا وما نتعلم إلا الورع). رواه وكيع في الزهد، وابن أبي شيبةفي مصنفه، وهناد في الزهد.
وفي رواية عند ابن أبي شيبة: (أدركنا أصحابنا وما يتعلمون إلا الورع).
وفي رواية عند ابن المبارك في الزهد عن الضحاك أنه قال: (كان أوَّلوكم يتعلمون الورع، ويأتي عليكم زمان يتعلم فيه الكلام، وكان أوَّلوكم أخوف ما يكونون من الموت أصحَّ ما يكونون).
- وقال أيوب السختياني: (ما رأيت رجلاً أفضل من القاسم، لقد ترك مائة ألف هي له حلال، ورأيت عليه قلنسوة خز) رواه سليمان بن حرب، عن وهيب، سمع أيوب يقول ذلك.
- وقال يونس بن عبيد: عجبت من كلمة حسان بن أبي سنان: (ما شيء أهون عندي من الورع، إذا رابني شيء تركته). رواه البيهقي في كتاب الزهد الكبير، وعلّقه الدرامي عن حسان.
- وقال عبد السّلام بن حربٍ، عن عبد الأعلى، عن الحسن أنّه دخل السّوق، فساوم رجلًا بثوبٍ، فقال:(هو
لك بكذا وكذا، واللّه لو كان غيرك ما أعطيته؛ فقال: فعلتموها؟ فما رئي
بعدها مشتريًا من السّوق، ولا بائعًا حتّى لحق باللّه عزّ وجلّ). رواه الدارمي.
- وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: حدثنا أبو شهاب عن هشام، عن ابن سيرين
أنه اشترى بيعا من منونيا وأشرف فيه على ربح ثمانين ألفا، فعرض في قلبه منه
شيء، فتركه.
قال هشام: (ووالله ما هو بربا) رواه البيهقي في كتاب الزهد الكبير، وابن عساكر في تاريخ دمشق.
قلت: منونيا قرية من قرى العراق من ضواحي بغداد، يُنسب إليها بعض أهل العلم؛ فيقال: "المنوني".
- وقال حماد بن زيد، عن هشام بن حسان، عن بعض أهله قال: (ما رابه شيء إلا تركه منذ نشأ، يعني محمدا). رواه ابن سعد.
- قال ابن عون: بعث ابنُ هبيرة إلى ابن سيرين فقدم عليه فقال: كيف تركت أهل مصرك؟
قال: «تركتهم والظلم فيهم فاشٍ»
قال ابن عون: (كان يرى أنها شهادة يسأل عنها فَكَرِهَ أن يكتمها). رواه أبو نعيم.
قلت: كان ابن هبيرة والياً على العراق، ويريد بمصرِه البصرة؛ فأدّى الشهادة بما يعلم ولم يخش نقمة أمير البصرة.
- وقال جعفر بن مرزوق: بعث ابن هبيرة إلى ابن سيرين والحسن والشعبي، قال:
فدخلوا عليه؛ فقال لابن سيرين: يا أبا بكر ماذا رأيت منذ قربت من بابنا؟
قال: «رأيت ظلما فاشيا»
قال: فغمزه ابن أخيه بمنكبه، فالتفت إليه ابن سيرين؛ فقال: (إنك لستَ تُسأل، إنما أنا أُسأل)
فأرسل إلى الحسن بأربعة آلاف وإلى ابن سيرين بثلاثة آلاف وإلى الشعبي
بألفين، فأما ابن سيرين فلم يأخذها). رواه أبو نعيم في الحلية.
- وقال خالد بن أبي الصلت: قلت لمحمد بن سيرين: ما منعك أن تقبل من ابن هبيرة؟
قال: فقال لي: « يا عبد الله - أو يا هذا - إنما
أعطاني على خير كان يظنه فيَّ؛ فلئن كنت كما ظنَّ فما ينبغي أن أقبل، وإن
لم أكن كما ظنَّ فبالحري أنه لا يجوز لي أن أقبل » رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الورع".
- وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عاصم قال: (لم يكن ابن سيرين يترك أحدا يمشي معه).رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه.
قلت: كان يخشى الشهرة وكثرة الأتباع.
- وقال هشيم: أخبرنا ابن عون قال: (كنت مع ابن سيرين وهو يريد المسجد فلقيه رجل؛ فقال: أين تريد؟) قال: (فما أخبره) رواه أحمد في العلل.
وأخبار السلف في الورع كثيرة جداً.
فضائل الورع:
للورع فضائل جمّة؛ فهو مطهرة للقلب وحصن من كثير من الآفات، وهو قائد إلى
مرتبة الإحسان، يربّي صاحبه على مراقبة الله تعالى في جميع شؤونه؛ حتى
يعبده كأنّه يراه.
ومن تورّع توقّى كثيراً من مخاصمات الناس ومنازعاتهم في أمور الدنيا،
وقام بما يستطيعه من أمور الدين، فكان بذلك من أولياء الله الذين يحبّهم
ويحبّونه.
وقد تقدّم في بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الورع وعناية السلف
الصالح به ما يدلّ على فضل الورع ومكانته في الدين وفي أعمال القلوب.
- وقال إسماعيل بن أبي خالد: حدثني أبو السفر، قال: قالت عائشة: (إن الناس قد ضيعوا أعظم دينهم: الورع). رواه ابن أبي شيبة.
وأبو السفر سعيد بن يحمد الهمداني من ثقات التابعين، سمع ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص.
- وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله: (لفضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وملاك دينكم الورع).
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وأبو جعفر الفريابي في فوائده، والبيهقي في
المدخل إلى السنن وفي شعب الإيمان، وابن عبد البر في جامع بيان العلم
وفضله.
وقد روي مرفوعاً من حديث حذيفة وسعد ابن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عمر بأسانيد فيها مقال، وألفاظ متقاربة "أفضل الدين الورع" و"خير دينكم الورع" وأرسله عمرو بن قيس الملائي وأبو قلابة.
قال الدارقطني: (الصحيح أنَّه من قول مطرف ابن الشخير).
وقال البيهقي: (هذا الحديث يروى مرفوعا بأسانيد ضعيفة وهو صحيح من قول مطرف بن عبد الله بن الشخير).
- وقال الحسن البصري: (إن من أفضل العمل الورع والتفكر). رواه ابن المبارك في الزهد.
- وقال معاوية بن قرة: دخلت على الحسن وهو متكئ على سريره، فقلت يا أبا سعيد أي الأعمال أحب إلى الله؟
قال: «الصلاة في جوف الليل والناس نيام» .
قلت: فأيّ الصوم أفضل؟
قال: «في يوم صائف».
قلت: فأي الرقاب أفضل؟
قال: «أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمنا».
قلت: فما تقول في الورع؟
قال: «ذاك رأس الأمر كله». رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الورع".
- وقال الحسن البصري أيضاً: (كان يقال: ما عمل الناس من عمل أثبت في خيرٍ من صلاةٍ في جوف الليل، وما في الأرض شيء أجهد للناس من قيام الليل والصدقة)
قيل: فأين الورع؟
قال: (ذاك ملاك الأمر). ذكره محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة.
- وقال طاووس بن كيسان: «مثل
الإسلام كمثل شجرة، فأصلها الشهادة، وساقها كذا - شيئا سماه - وثمرها
الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع له». رواه معمر بن راشد في جامعه ومن طريقه ابن أبي الدنيا في الورع.
- وقال الأوزاعي: سمعت يحيى بن أبي كثير، يقول: (أفضل العمل الورع، وخير العبادة التواضع). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
- وقال ابن شوذب: قال محمد بن واسع: (يكفي من الدعاء مع الورع اليسير، كما يكفي القدر من الملح). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
- وقال سليمان بن أبي سلمة الفقيه: سمعت الجنيد بن محمّدٍ الصّوفيّ، وسئل عن القلب ما يفسده؟
قال: «الطّمع»
قيل: ما يصلحه؟
قال: «الورع». رواه البيهقي في الزهد الكبير.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الورع من قواعد الدين).
- وقال ابن القيم: (الورع يطهّر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته، وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة وباطنة، ولذلك تدل ثياب المرء في المنام على قلبه وحاله، ويؤثر كل منهما في الآخر).
درجات الورع:
الورع على درجات:
الدرجة الأولى: أصل الورع، وهو حاصل لكلّ مسلم لاجتماع أصل الإيمان وأصل التقوى في قلبه، بما حمله على ترك ما ينقض الإسلام.
وهذه الدرجة وإن لم يكن يُسمّى صاحبها وَرعاً؛ إلا ّأنه لا ريب أنّ من تركها لا نصيب له في الورع كما أنّه لا حظّ له في الإسلام.
- قال محمد بن نصر المروزي: (إن الله ورسوله وجماعة
المسلمين سموا الأشياء بما غلب عليها من الأسماء فسموا الزاني فاسقا،
والقاذف فاسقا، وشارب الخمر فاسقا، ولم يسموا واحدا من هؤلاء متقيا ولا
ورعا، وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقى والورع، وذلك أنه يتقي أن يكفر
أو يشرك بالله شيئا، وكذلك يتقي الله أن يترك الغسل من الجنابة أو الصلاة،
ويتقي أن يأتي أمه فهو في جميع ذلك متق، وقد أجمع المسلمون من المخالفين
والموافقين أنهم لا يسمونه متقيا ولا ورعا إذا كان يأتي بالفجور)ا.هـ.
الدرجة الثانية: الورع الواجب، وهو تركّ الحرام وأداء الواجب، وهو ورع المتّقين.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما الورع الواجب
فهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق
بينهما فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه؟ وما اشتبه تحريمه أمن المحرم
أم ليس منه؛ فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع وما لا ريب في سقوطه
فليس فعله من الورع)ا.هـ.
والدرجة الثالثة: الورع المستحبّ وهو على مرتبتين:
المرتبة الأولى: ترك الشبهات، والاستبراء منها، وبه يحصل تمام التقوى ويرتقي به العبد إلى مراتب الإحسان.
والمرتبة الثانية: ترك المكروهات، وما يُفضي إلى الشبهة أو يخشى أن يؤول إلى الفتنة، أو إلى اختيار مفضول على فاضل.
وفي الصحيحين من حديث ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال:
«اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي»
وفي رواية في صحيح البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني».
فترك النبي صلى الله عليه وسلم ما هو مباح في الأصل حتى لا يُشغله عن
صلاته؛ لكن لما كان هذا العمل فيه نصّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح
لبس ما فيه أعلام تشغل المصلّي عن صلاته مكروهاً.
ومسائل الورع على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: مسائل نصّية، أي ورد النصّ بها؛ فهذه يتّبع فيها المتورّع ما ورد في النصّ.
والصنف الثاني: مسائل أثرية؛ وردت عن السلف الصالح وليس فيها ما يُنكر، فيكون للمتورّع فيها سلف صالح.
والصنف الثالث: مسائل
اجتهادية، فقد ينزل بالمتورّع أمر ليس فيه نصّ ، ولا أثر، وهو يخشى أن
يوقعه في الإثم أو يؤول به إلى فتنة؛ فيجتهد في التورّع فيه.
والاجتهاد في الورع قد تدقّ مسالكه فيخفى على بعض الناس ما يستدعي
التورّع، ويكون الأمر ظاهراً لدى أهل الورع ومن ارتاضت نفوسهم له وفقهوا
أحكامه، وقد مضى ذكر أمثلة لدقائق الورع عند السلف.
- وقال الأصمعي عن ابن عون قال: كان ابن سيرين يكره إذا اشترى شيئاً أن يستوضع من ثمنه بعد البيع، ويقول: (هذا من المسألة). رواه ابن عساكر.
- وقال هشام بن حسان: كان ابن سيرين إذا دُعي إلى وليمة أو إلى عرس يدخل منزله فيقول: (اسقوني شربة سويق) فيقال له: يا أبا بكر أنت تذهب إلى الوليمة أو إلى العرس تشرب سويقا؟!!
قال: « إني أكره أن أحمل جدَّ جوعي على طعام الناس » رواه الإمام أحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية بلفظ (حرَّ جوعي).
- قال ابن القيم رحمه الله: (من دقيق الورع أن لا
يقبل المبذول حال هيجان الطبع من حزن أو سرور؛ فذلك كبذل السكران، ومعلوم
أن الرأي لا يتحقق إلا مع اعتدال المزاج، ومتى بذل باذل في تلك الحال يعقبه
ندم، ومن هنا لا يقضي القاضي وهو غضبان).
- وقال أيضاً: (كان أهل الورع من أهل العلم
يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس
والإفتاء تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه، وإن بُلي الرجل بذلك فتعاطاه
دفعاً لشرّ يتوقعه منهم؛ فمشى إليهم ولم يقل إلا خيرا، ودعا لهم بالتوفيق
والتسديد فلا بأس بذلك، وبالله التوفيق).
فقه الورع:
ينبغي للسالك أن يكون له فقه في الورع، فيعرف أصوله ودرجاته ومراتبه، وما
يصحّ منه وما لا يصحّ، وما يلزمه من ترك ما أراد التورّع عنه، وأن يوازن
المصالح والمفاسد، ويعرف مذاهب العلماء في الورع، وما يحتمله هو من الورع؛
حتّى لا يحمل نفسه على ما لا تطيق فيعجز ويقع في شرّ مما أراد التورّع عنه.
- قال تميم بن طرفة الطائي: ( جاء سائل إلى عدي بن
حاتم، فسأله نفقة في ثمن خادم - أو في بعض ثمن خادم - فقال: ليس عندي ما
أعطيك إلا درعي، ومغفري، فأكتب إلى أهلي أن يعطوكها، قال: فلم يرض، فغضب
عدي، فقال: أما والله لا أعطيك شيئا، ثم إن الرجل رضي، فقال: أما والله
لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «من حلف على يمين، ثم رأى أتقى لله منها، فليأت التقوى» ما حنثت يميني).
رواه مسلم في صحيحه، وقد رواه أبو داوود الطيالسي، وعبد الرزاق، وأحمد،
وابن أبي شيبة، وابن ماجه، والنسائي، وغيرهم من طرق عن تميم بن طرفة.
وفي رواية عند عبد الرزاق عن إسرائيل بن يونس عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة قال:(سمعت
عدي بن أبي حاتم أتى منزلا فنزله فأتى أعرابي فسأله، فقال: ما معي شيء
أعطيك، ولكن لي درع بالكوفة هي لك فسخطها الأعرابي، فحلف أن لا يعطيه،
فقال: إنما جئت أسألك في خادم أن تعينني فيها، فقال: أمرت لك بدرعي فوالله
لهي أحب إلي من ثلاثة أعبد، فرغب فيها الأعرابي، وقال: أقبل معروفك، فقال
عدي: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتبع الذي هو خير » ما أعطيتك).
فهذا عديّ بن حاتم رأى أنّ التورّع عن ردّ السائل أولى من التورّع عن الحنث
في اليمين، وأبصر المخرج من الحنث باليمين بما معه من العلم عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمشروعية التكفير عن اليمين إذا رأى غيرها خيراً منها.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يحتاج المتدين
المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين وإلا فقد يفسد تورعه
الفاسد أكثر مما يصلحه كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض
وغيرهم).
- وقال حماد بن زيد: حدثنا عاصم الأحول قال: سمعت مورقا العجلي يقول: «ما رأيت رجلا أَفْقَهَ في وَرَعِهِ، ولا أَوْرَعَ في فقهه من محمَّد» يريد
محمد بن سيرين، رواه ابن سعد في الطبقات، وابن أبي شيبة في مصنفه،
والبخاري في التاريخ الكبير، والفسوي في المعرفة، وأبو نعيم في الحلية،
والخطيب البغدادي في تاريخه.
- وقال رجاء بن أبي سلمة: سمعت يونس بن عبيد يصف الحسن وابن سيرين فقال: «أما ابن سيرين؛ فإنه لم يعرض له أمران في دينه إلا أخذ بأوثقهما» رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه وأبو نعيم في الحلية.
- وقال حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين قال: (لم يبلغ محمداً قطّ حديثان أحدهما أشدّ من الآخر إلا أخذ بأشدّهما) قال: (وكان لا يرى بالآخر بأسا، وكان قد طُوِّق لذلك). رواه ابن سعد.
- وقال أيوب السختياني: ذُكر محمد بن سيرين عند أبي قلابة فقال: «وأيّنا يطيق ما يطيق محمد؟!! محمد يركب مثل حدّ السنان» رواه ابن سعد في الطبقات والبخاري في التاريخ الكبير وأبو نعيم في الحلية والخطيب البغدادي في تاريخه.
- وقال عفان بن مسلم: حدثنا معاذ عن ابن عون أنّ (عمر بن
عبد العزيز بعث إلى الحسن فقبل، وبعث إلى ابن سيرين فلم يقبل). رواه ابن
سعد وابن عساكر.
- وقال الواقدي: حدثنا خليد بن دعلج قال: لما استخلف عمر
بن عبد العزيز أرسل إلى الحسن وابن سيرين يقول لهما: (أرد عليكما ما حبس
عنكما من أعطيتكما؟)
فقال ابن سيرين: (إن فعل ذلك بأهل البصرة فعلت، وأما غير ذلك فلا).
فكتب عمر: (إن المال لا يسع).
قال: (وقبل الحسن).
وكان محمد بن سيرين يُضرب بورَعه المثل؛ فيقال: أورع من ابن سيرين.
لكنَّه كان على بيّنة فيما يتورّع عنه، وله في الورع أخبار كثيرة، وكان من أهل العلم والورع من لا يطيق ما يطيقه محمد بن سيرين، وهو لم يبلغ هذه المرتبة العالية من الورع إلا بتوفيق من الله عز وجلّ، ثم بالصبر والتقوى على فقه حسن، وبصيرة بالمخارج من المضايق.
وقد حاول بعض العلماء مجاراته في الورع فما أطاقوه.
- قال سفيان بن عيينة: قال لي ابن شبرمة:
عجباً لهذا الرازي [ يريد جرير بن عبد الحميد ] عرضت عليه أن أجري عليه
مائة درهم في الشهر من الصدقة، فقال: أيأخذ المسلمون كلهم مثل هذا؟
قلت: لا.
قال: (لا حاجة لي فيه).
- قال يحيى بن معين: سمعت جريراً يقول:
(عُرضت علي بالكوفة ألفا درهم يعطوني مع القراء فأبيت، ثم جئت اليوم أطلب
ما عندهم). رواه عباس الدوري في روايته لتاريخ يحيى بن معين، ورواه الخطيب
البغدادي في تاريخه.
وقبول العطاء من غير استشراف جائز، والتورع عنه مذهب لبعض أهل العلم، لكن من خشي أن يضطر للسؤال فالأخذ أفضل في حقه من الامتناع.
وفقه الورع يقوم على أصول العلم والتقوى والصبر.
وعماده: معرفة خير الخيرين وشرّ الشرين، والبصيرة بالمخارج من المضايق، والبصيرة بما يُصلح النفس.
وقد يحتاج المتورّع إلى أن يأتسي بأهل الورع في زمانه، ولا سيما في
المسائل النازلة التي ليس فيها نصّ ولا أثر وخفي عليه طريق الاجتهاد فيها.
- قال ابن وهب: (حدثني
مالك أن محمد بن سيرين قد ثَقل وتخلَّف عن الحج، فكان يأمر من يحج أن ينظر
إلى هدي القاسم ولَبوسه وناحيته؛ فيبلّغوه ذلك؛ فيقتدي بالقاسم). رواه الفسوي وابن عساكر.
يريد القاسم بن محمد بن أبي بكر رحمه الله.
مذاهب العلماء في الورع:
ومن الفقه في الورع أن يُعلم أن للعلماء مذاهب في الورع بحسب ما يطيقون
وبما يُراعون به الأصلح لقلوبهم، وهو أمر يتفاوت فيه السالكون.
فالعالم المجتهد في الورع يأخذ بالأتقى لله في حقّه، وقد يختلف الحكم في حقّ غيره، باعتبار ما هو أوفق له وأصلح لحاله.
ولذلك قد يُروى في المسألة الواحد أقوال لأهل العلم، وكلها في حدود
التقوى بحسب اجتهادهم إلا أنّ بعضهم يتورّع فيها ما لا يتورّع غيره.
ويرى بعضهم أنه لا يحتمل ورع بعض الأئمة فيختار لنفسه ما هو أصلح لها بما لا يخرجه عن التقوى.
والورِع نفسُه قد يتورّع في أبواب من السلوك ما لا يتورّع بمثله في أبواب أخرى.
والسالك مهما بلغ من العلم والتقوى لا يمكنه أن يجمع ورع الأئمة كلّهم في
جميع الأبواب، وذلك لاختلاف اجتهاداتهم في الورع، ومذاهبهم في أبواب
السلوك، كما اختلفت مذاهبهم في الزهد، وفي الرجاء والخوف، وفي العزلة
والخلطة، وفي معاملة الحكّام، وغيرها.
ويختلفون كذلك في مبلغ طاقتهم من الأخذ بالأشدّ، ومن المعلوم أنه ليس كلّ واحد يطيق ذلك على بصيرة وسداد، ولا يخرج به إلى الغلو.
- قال حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين قال: (لم يبلغ محمداً قطّ حديثان أحدهما أشدّ من الآخر إلا أخذ بأشدّهما) قال: (وكان لا يرى بالآخر بأسا، وكان قد طُوِّق لذلك). رواه ابن سعد.
يريد محمّد بن سيرين.
والمقصود أنّ من تكلّف من الورع ما لا يطيق أو ما فيه فتنة له وشتات
لقلبه أو يؤول به إلى ترك ما هو أرجح فقد أخطأ، وإن كان قد أخذ به بعض أهل
العلم.
والأقرب في حاله أن يأخذ بما يوافقه من مذاهب أهل العلم في الورع.
علل الورع:
يجب على المتورّع أن يحذر العلل التي تفسد الورع أن تقدح فيه، ومنها:
1: التورّع عن أمر واجب أو مستحبّ أو أمر مباح منفعته خالصة أو راجحة؛ فهذا ورع فاسد، كما قال الله تعالى عن بعض المنافقين: {وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ
سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ثلاثة أقسام لا يتورع عنها: المنافع المكافئة والراجحة والخالصة: كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب فإن الورع عنها ضلال).
وهذا الورع الفاسد على نوعين:
النوع الأول: سببه الحامل عليه في الأصل سوء
القصد واتّباع الهوى، وإنما لبّسه لباس الورع تمويهاً أو اغتراراً؛ كمن
يترك أداء الحقوق الشرعية من الابتداء بالسلام وعيادة المريض وشهود الجنائز
وتحمّل الشهادات وأدائها تكبّراً وترفّعا، ويتذرّع بقصد ترك مخالطة
الظلمة.
والنوع الثاني:
سببه الحامل عليه الجهل ببعض الأحكام، واعتقاد صحّة ما لا يصحّ من
المرويات الضعيفة والواهية، والإقبال على القصص والأخبار وترك الصحيح من
الأحاديث والآثار.
2. أن يحمله التورّع عن
أمر على ارتكاب ما هو شرّ منه؛ فمن الناس من يترك أمراً فيه شبهة يسيرة ولا
طاقة له باحتمال تركه؛ فيرتكب بدلا منه أمراً فيه شبهة أشدّ أو محرّماً
بيّن َالتحريم، أو يتورّع عن أمر فيه مضرّة مرجوحة ويغفل عن المعارض
الراجح؛ كمن يتورّع عن الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة، ومن
يتورّع عن ترك إنكار المنكر باليد أو اللسان؛ فيحمله ذلك على ارتكاب مفسدة
أعظم من المنكر الذي أراد إنكاره باليد أو باللسان.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وتمام الورع أن يعلم
الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل
المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل
والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات ويفعل محرمات،
ويرى ذلك من الورع؛ كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا،
ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من
الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة
خفية ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع)ا.هـ.
- وقال أيضاً: (الورع المشروع هو الورع عما قد تخاف
عاقبته، وهو ما يُعلم تحريمه، وما يُشك في تحريمه، وليس في تركه مفسدة
أعظم من فعله، مثل مَن يترك أخذ الشبهة وَرَعا مع حاجته إليها، ويأخذ بدل
ذلك محرماً بيّنا تحريمه، أو يترك واجبا تركُه أعظم فساداً من فعله مع
الشبهة، كمن يكون على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها وليس له وفاء إلا مِن
مال فيه شبهة؛ فيتورع عنها ويدع ذمّته أو ذمّة أبيه مرتهنة)ا.هـ.
3. أن يحمله الورع على إساءة الظنّ بمن لم يتورّع مثل ورعه، فيقع
في سوء الظنّ بالمسلم، وربما قاده ذلك إلى ازدرائهم في نفسه، وينبغي
للمتورّع أن يكون حسن الظنّ بالمسلمين، عظيم الرجاء لهم، والتورّع عن سوء
الظنّ بالمسلمين من أبواب الورع.
- قال عبد الله بن عون: «ما رأيت أحدا كان أعظمَ رجاءً لهذه الأمة من محمد بن سيرين، وأشدّ خوفا على نفسه منه». رواه ابن المبارك في الزهد، وابن أبي الدنيا في "حسن الظن"، والخطيب البغدادي في تاريخه.
4. أن يحمله ورعه على العجب بنفسه وبورعه؛ فيتورّع عن دقائق الشبهات ويقع في كبيرة من الكبائر الباطنة.
5. أن يغلو في ورعه؛ فيقع في التنطّع المهلك، ويؤول أمره إلى الوقوع في محرّمات قطعية، بل ربما في كبائر.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من غلا في الزهد والورع حتى خرج عن حد العدل الشرعي ينتهي أمره إلى الرغبة الفاسدة وانتهاك المحارم كما قد رؤي ذلك وجُرّب).
- وقال: (وكذلك وَرَعُ قوم يعدّون غالب
أموال الناس محرمة أو مشتبهة أو كلها، وآل الأمرُ ببعضهم إلى إحلالها لذي
سلطان؛ لأنه مستحق لها، وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق، ولا يحكم فيها
بالأموال المغصوبة، وقد أنكر حالَ هؤلاء الأئمةُ كأحمد بن حنبل وغيره،
وذمَّ المتنطعين في الورع، وقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثا.
وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب، بل ورع اليهود والنصارى والكفار
عن واجبات دين الإسلام من هذا الباب، وكذلك ما ذمّه الله تعالى في القرآن
من ورعهم عما حرموه ولم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة والوصيلة
والحام.
ومن هذا الباب الوَرَع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث
الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواما تنزهوا عنها فقال: " «ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم وفي رواية: أخشاهم وأعلمهم بحدوده له»).
6: أن يعتمد في اعتقاد التحريم والحكم بالشبهة على الظنّ وما
تهواه نفسه لا على الفقه الصحيح، ولا يقوم بما يجب عليه من التعلم أو سؤال
أهل العلم؛ ويدّعي الاحتياط لدينه ويقع في التكلف المذموم أو الوسوسة.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كثير من الناس تنفر
نفسه عن أشياء لعادة ونحوها؛ فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده،
ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة؛ فتكون تلك الظنون مبناها على الورع
الفاسد؛ فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات؛
فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم).
7: أن يُسمّي ما هو فيه من الجُبن والبخل والبطالة ورعاً، فيدع
واجبات شرعية من النفقات الواجبة، وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والجهاد في سبيل الله في مواضع وجوبه لما قام في قلبه من الجبن أو
البخل أو محبة البطالة ويتعلّق بشَوْبِ شبهة قد لا يكون محقّا فيها؛ فيعصب
بها تركه، وهو إنما حمله على الترك ما لا يُحمد مما ذُكر.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كثيرا ما يشتبه
الورع الفاسد بالجبن والبخل؛ فإن كلاهما فيه ترك؛ فيشتبه ترك الفساد لخشية
الله تعالى بترك ما يؤمر به من الجهاد والنفقة جبنا وبخلا؛ وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم «شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع». قال الترمذي: حديث صحيح. كذلك قد يترك الإنسان العمل ظنا أو إظهارا أنه ورع؛ وإنما هو كبر وإرادة للعلو).
8: أن يظنّ أنّ الورع إنما هو في باب الترك ويغفل عن الورع في أداء الواجبات.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (واعلم أن الورع لا
ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص: أما في الورع
بفعل المأمور به فظاهر؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به
وجهه، وأما بترك المنهي عنه الذي يسميه بعض الناس ورعا؛ فإنه إذا ترك
السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها؛ وإن لم يعاقب عليها، وإن تركها لوجه
الله أثيب عليها، ولا يكون ذلك إلا بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله أو
خشية عذابه، ورجاءُ رحمته وخشية عذابه من الأمور الوجودية المأمور بها؛
فتبيَّن أن الورع لا يكون عملا صالحا إلا بفعل المأمور به من الرجاء
والخشية وإلا فمجرد الترك العدمي لا ثواب فيه)ا.هـ
- وقال أيضاً: (وهذا يُبتلى به كثير من المتدينة
المتورّعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة؛ لكونه
من مال ظالم أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع
في الدين، وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه، إما عينا
وإما كفاية وقد تعينت عليه من صلة رحم؛ وحق جار ومسكين؛ وصاحب ويتيم وابن
سبيل؛ وحق مسلم، وذي سلطان، وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعن
الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما
وجب عليه أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف
ونحو ذلك.
وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار؛ فإن ورع الخوارج والروافض
والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس تورعوا عن الظلم وعما اعتقدوه ظلما من
مخالطة الظلمة في زعمهم حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة؛
والحج والجهاد؛ ونصيحة المسلمين والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر
عليهم الأئمة كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة
والجماعة)ا.هـ.
- وقال أيضاً: (وقد تبين أن من جعل الورع الترك
فقط؛ وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم
،وأعرض عما فوَّتوه بورعهم من الحسنات الراجحة؛ فإن الذي فاته من دين
الإسلام أعظم مما أدركه فإنه قد يعيب أقواماً هم إلى النجاة والسعادة أقرب.
وهذه القاعدة منفعتها لهذا الضرب وأمثاله كثيرة؛ فإنه ينتفع بها أهل
الورع الناقص أو الفاسد وكذلك أهل الزهد الناقص أو الفاسد فإن الزهد
المشروع الذي به أمر الله ورسوله هو عدم الرغبة فيما لا ينفع من فضول
المباح فترك فضول المباح الذي لا ينفع في الدين زهد وليس بورع).
9: أن يغترّ بتورّعه في أبواب دقيقة، ويغفل عن وقوعه في محرّمات ظاهرة.
- قال عبد الرحمن بن أبي نعم: كنت شاهداً لابن عمر، وسأله رجل عن دم البعوض، فقال: ممن أنت؟
فقال: من أهل العراق.
قال: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «هما ريحانتاي من الدنيا». رواه أحمد والبخاري وغيرهما.
وفي رواية عند أحمد: (يا أهل العراق! تسألوني عن محرم قتل ذباباً، وقد قتلتم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم).
10: أن يحمل نفسه على ورع لا يطيقه
وهذا قد يحمل عليه إرادة مجاراة أهل الورع العالي الذين ارتاضت له
أنفسهم، وبنوه على فقه وبصيرة، فإذا رأى أنه لا يمكنه مجاراتهم وقع في صريح
المحظور.
الأسباب المعينة على الورع:
من الأسباب المعينة على تحصيل الورع وتحقيقه:
1: الخوف من الله، وهو الحامل على التقوى التي هي أصل الورع ومنشؤه.
- قال ابن القيم: (الخوف يثمر الورع والاستعانة وقصر الأمل).
2: العلم النافع، وبه تحصَّل البصيرة بخطر ما يُتورّع عنه.
- قال أبو عبد الرّحمن السّلميّ: سمعت أبا عثمان المغربيّ يقول: (من أسّس بنيانه على التّقوى والعلم جاءت أذكاره وأفعاله صافيةً، ودخل عليه الورع من حيث لا يشعر). رواه البيهقي في الزهد الكبير.
3: الزهد في الدنيا، وقد تقدّم الحديث عنه.
- وقال إسماعيل بن إبراهيم التّرجمانيّ: سمعت أبا جعفرٍ الحٍوّليّ، وكان عالمًا عابدًا، قال: (حرامٌ
على قلب محبٍّ للدّنيا أن يسكنه الورع الخفيّ، وحرامٌ على نفسٍ عليها
ربّانيّة النّاس أن تذوق حلاوة الآخرة، وحرامٌ على كلّ عالمٍ لم يعمل بعلمه
أن يتّخذه المتّقون إمامًا). رواه الخطيب البغدادي في الزهد.
4: الصبر، ولا ورع لمن لا صبر له.
5: العزيمة الصادقة والقوّة في دين الله، فلا يكاد يستقيم الورع في قلب فيه وهن وضعف، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنّي أسألك العزيمة على الرشد).
6: ترك ما لا يعني، وهو أجمع معاني الورع.
- قال ابن القيم: (وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله بكلمة واحدة فقال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))
فهذا يعمّ الترك لما لا يعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش،
والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية
في الورع).
7: المراقبة والمحاسبة، وهما قوام عمل الورع.
تمّ هذا الدرس بفضل الله ورحمته.