7 Apr 2015
تأملات في قول الله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}
تضمنت
هذه الآية الجليلة على وجازة ألفاظها آداب مجادلة أهل الباطل، وبيان شروط
تمام الغلبة، والتنبيه على العلل التي يُخذل بها بعض المجادلين، وتضمّنت
وعداً بكرامة عظيمة لمن التزموا هذه الآداب وحققوا تلك الشروط.
فأوّل هذه الآداب أن يستشعر المجادلُ أن الذي يقذف هو الله، وأنه مجرد سبب وأداة يُنصر بها الحق، وغاية ما يرجو من الشرف أن يكون سبباً صالحاً؛ فإنَّ الله تعالى أسند القذف إليه، وقال في محاجة إبراهيم لقومه: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه}
ومن ظنَّ أنه هو الذي يستعلي بحجته ودهائه وتفنّنه في أساليب البلاغة فليشفق على نفسه من الخذلان والاستدراج، وذلك لضعف توكله على الله وغفلته عن الاستعانة به، ويكثر في هذا الصنف أنهم إذا حصل لهم شيء من العلوّ الظاهر لضعف الخصم أصابهم من الزهو والعجب ما يذهب الأجر ويجلب المقت.
وهذا الأدب الجليل يحمل العبد على تحقيق التوكل على الله والاستعانة به، والتواضع لجلاله وعظمته، واستلهام هدايته وتوفيقه، وأن يستشعر العبد أنه جنديٌّ من جنود الحق؛ يشرف بهذه النسبة، ويطمئن لضمان الله الغلبة لجنده؛ فيعتقد أن الله حسبه وكافيه.
فيكون أكثر ما يخشاه أن يستزلَّه الشيطان ببعض ما كسب؛ فيدفعه ذلك لتحقيق الاستقامة وإتباعها بالاستغفار وتكرار التوبة؛ فالمصاولة العلمية لا تقل عن المصاولة على أرض القتال؛ وقد أثنى الله على المحسنين في الجهاد بقوله: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين}
فهؤلاء من المحسنين في جهادهم.
والثاني: أن هذا المقام إذا صحّ في قلب المؤمن المجادل بالحق أثمر فيه عبادات قلبية عظيمة من المحبّة والخوف والرجاء والخشية والإنابة والتوكل والاستعانة والاستعاذة وغيرها فتجتمع في قلبه اجتماعاً حسناً، وهذه الأعمال أحبّ إلى الله تعالى من أعمال العبد الظاهرة، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الله ينظر إلى القلوب، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)).
والثالث: أن يتمحض المؤمن المجادل للحق ، ويكون ردّه على محض الباطل؛ ولذلك قد يتجادل خصمان مع أحدهما حق كثير وباطل قليل، والآخر بعكسه ؛ فلا يدمغ أحدهما الآخر، وإنما يدمغ حق كل منهما باطل صاحبه؛ فإنّ في الحق قوة لا تقبل الإزهاق، وإن كان مع صاحبه باطل كثير.
وقد قال النبي في الشيطان وهو رأس الباطل: (صدقك وهو كذوب)
ولذلك فإنَّ من الإنصاف اعترافك بالحق الذي قال به خصمك في المجادلة وإن كان قليلاً، ثم ترد باطله، وأما ردك حقه بحجة كثرة باطله فهو نوع مكابرة قد تخذل بسببها، وقد يتأخر النصر.
والرابع: أنْ يوجّه المجادل حجّته على أصل الباطل (فيدمغه) ولا ينشغل بالأطراف والقضايا الجانبية التي لو بيَّن بطلانها بقي غيرها وبقي منبعها الذي يولّد أطرافاً أخرى.
والخامس: أنّ الحق فيه علوّ ملازم له، والباطل سافل بذاته، وإنما يرتفع بالإثارة؛ كالغبار والدخان إذا أُثيرا آذا وأزكما وربما حجبا رؤية الحق عن الذين لا يعرفون معالمه ؛ فإذا عُرف مصدر إثارة الباطل، ووجهت إليه قذيفة الحق عاد الباطل إلى أصله {إن الباطل كان زهوقاً} .
والسادس: أنّ معرفتك بعلوّ الحق وقوته تكسبك طمأنينة وثقة وتماسكاً وثباتاً يفتقده المجادلُ بالباطل، فإنَّ المجادل بالباطل متحفّز لنصرة باطله دائبٌ على إثارته حتى لا يخبو فيعود لأصله، فهو ملازم للقلق والاضطراب والتخوّف، وأما صاحب الحق فإنه ينظر إلى الباطل من علوّ فيعرف مصدر إثارته وأصل شبهته فيوجّه إليه قذيفة الحق فيدمغه؛ فإذا هو زاهق بإذن الله.
والسابع: علو الحق مستلزم لعلوّ صاحبه، وما الناس إلا فريقان: فريق هم أهل الحق، وفريق أهل باطل، فمن كان من أهل الحقّ القائمين به كان موعوداً بالعزة والرفعة والعلو كما قال الله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}
ولما أَذِن الله تعالى بالقتال في سبيله وحثّ المؤمنين عليه ووعدهم بالنصر علَّل ذلك بقوله: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير}
فكونه تعالى هو الحق يقتضي أن لا يقرّ الباطل؛ بل لا بد أن ينصر الحق ويعليه على الباطل.
وَخَتْم الآية بالاسمين الجليلين {العلي الكبير} له أثر عظيم في بيان هذا التعليل؛ فهو "العلي" بذاته وأسمائه وصفاته، ودينُه أعلى الأديان، وعباده المؤمنون هم الأعلون، ومن سواهم فهم الأذلّون الأرذلون، ولا يمكن أن يغلب الأذلّ الأعزّ، ولا الأدنى الأعلى.
وهو "الكبير" الذي لا أكبر منه؛ فهو أكبر من كل شيء بذاته وصفاته، وهذه الصفة الجليلة تستلزم ما تستلزم من صفات جليلة أخرى كالقوة والقدرة والقهر والجبروت والملكوت وشدة البطش وغيرها.
- فكونه العلي يقتضي عدم خذلانهم.
- وكونه الكبير يقتضي عدم عجزه عن نصرتهم.
فتحصل للمؤمن بذلك سكينة وطمأنينة بانتصار الحق وعلوّه وغلبة جند الله تعالى.
وهذه التهيئة النفسية لها أثر عظيم في حسن الإعداد للجهاد، وأخذ العدة له، والتبصر بمواضع قوة الخصم ومصادر إمداده، فيوجه عنايته إليه.
والثامن:
أنَّ من تمحّض للحقّ، وكان دفعه لمحض الباطل شرف بالنسبة إلى حزب الله
تعالى وكان وليّا من أولياء الله فإنّ الله تعالى هو الحق، وهو يتولّى أهل
الحق.