الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (124) إلى الآية (126) ]
1 Sep 2014
1 Sep 2014

4267

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم التاسع

تفسير سورة البقرة [من الآية (124) إلى الآية (126) ]
1 Sep 2014
1 Sep 2014

1 Sep 2014

4267

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}


تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للنّاس إماما قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين} المعنى: اذكروا إذ ابتلى إبراهيم ربه.
ومعنى {فأتمهن}: وفّى بما أمر به فيهن، وقد اختلفوا في الكلمات:
1- فقال قوم: تفسيرها أنه أمره بخمس خلال في الرأس، وخمس خلال في البدن،
فأمّا اللاتي في الرأس: فالفرق, وقص الشارب , والسواك، والمضمضة، والاستنشاق،
وأمّا التي في البدن : فالختان , وحلق العانة , والاستنجاء , وتقليم الأظافر , ونتف الإبط, فهذا مذهب قوم , وعليه كثير من أهل التفسير.
2- وقال قوم: أن الذي ابتلاه به: ما أمره به من ذبح ولده, وما كان من طرحه في النار، وأمر النجوم التي جرى ذكرها في القرآن في قوله عزّ وجلّ: {فلمّا جنّ عليه اللّيل رأى كوكباً}, وما جرى بعد الكواكب من ذكر القمر والشمس، فهذا مذهب قوم.
وجميع هذه الخلال قد ابتلي بها إبراهيم، وقد وفّى بما أمر به, وأتى بما يأتي به المؤمن, بل البر المصطفى المختار،
ومعنى {ابتلى}: اختبر.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّي جاعلك للنّاس إماماً}؛الأم: في اللغة القصد، تقول: أممت كذا وكذا، إذا قصدته, وكذلك قوله: {فتيمّموا صعيداً طيّباً}, أي: فاقصدوا, والإمام: الذي يؤتم به, فيفعل أهله وأمته كما فعل، أي: يقصدون لما يقصد.
{قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين}: فأعلم اللّه إبراهيم أن في ذريته الظالم، وقد قرئت (لا ينال عهدي الظالمون), والمعنى في الرفع والنصب واحد؛ لأن النّيل مشتمل على العهد وعلى الظالمين إلا أنه منفي عنهم، والقراءة الجيّدة هي على نصب الظالمين؛ لأن المصحف هكذا فيه، وتلك القراءة جيدة باللغة إلا أني لا أقرأ بها، ولا ينبغي أن يقرأ بها؛ لأنها خلاف المصحف؛ ولأن المعنى: أن إبراهيم عليه السلام كأنّه قال: واجعل الإمامة تنال ذريتي, واجعل هذا العهد ينال ذريتي، قال اللّه: {لا ينال عهدي الظالمين}, فهو على هذا أقوى أيضاً).[معاني القرآن: 1/205]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والعامل في إذ فعل، تقديره: واذكر إذ، وابتلى معناه اختبر، وإبراهيم يقال إن تفسيره بالعربية أب رحيم، وقرأ ابن عامر في جميع سورة البقرة «أبراهام»، وقدم على الفاعل للاهتمام، إذ كون الرب مبتليا معلوم، فإنما يهتم السامع بمن ابتلى، وكون ضمير المفعول متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام.
واختلف أهل التأويل في الكلمات، فقال ابن عباس: هي ثلاثون سهما، هي الإسلام كله لم يتمه أحد كاملا إلا إبراهيم صلوات الله عليه، عشرة منها في براءة التّائبون العابدون [التوبة: 112]، وعشرة في الأحزاب إنّ المسلمين والمسلمات [الأحزاب: 35]، وعشرة في سأل سائلٌ [المعارج: 1]، وقال ابن عباس أيضا وقتادة: الكلمات عشر خصال خمس منها في الرأس المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وفرق الرأس، وقيل بدل فرق الراس: إعفاء اللحية، وخمس في الجسد تقليم الظفر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستنجاء بالماء، والاختتان، وقال ابن عباس أيضا: هي عشرة خصال، ست في البدن وأربع في الحج: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة، والطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة، وقال الحسن بن أبي الحسن: هي الخلال الست التي امتحن بها، الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، وقيل بدل الهجرة: الذبح، وقالت طائفة: هي مناسك الحج خاصة، وروي أن الله عز وجل أوحى إليه أن تطهر، فتمضمض، ثم أن تطهر فاستنشق، ثم أن تطهر فاستاك، ثم أن تطهر فأخذ من شاربه، ثم أن تطهر ففرق شعره، ثم أن تطهر فاستنجى، ثم أن تطهر فحلق عانته، ثم أن تطهر فنتف إبطه، ثم أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ما يصنع فاختتن بعد عشرين ومائة سنة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي البخاري أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم.
وقال الراوي: فأوحى الله إليه إنّي جاعلك للنّاس إماماً يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أقوى الأقوال في تفسير هذه الآية، وعلى هذه الأقوال كلها فإبراهيم عليه السلام هو الذي أتم.
وقال مجاهد وغيره: إن الكلمات هي أن الله عز وجل قال لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال إبراهيم: تجعلني للناس إماما، قال الله: نعم، قال إبراهيم: تجعل البيت مثابة، قال الله: نعم، قال إبراهيم وأمنا، قال الله: نعم، قال إبراهيم: وترينا مناسكنا وتتوب علينا، قال الله: نعم، قال إبراهيم: تجعل هذا البلد آمنا، قال الله: نعم، قال إبراهيم: وترزق أهله من الثمرات، قال الله: نعم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم، وقد طول المفسرون في هذا، وذكروا أشياء فيها بعد فاختصرتها، وإنما سميت هذه الخصال كلمات، لأنها اقترنت بها أوامر هي كلمات، وروي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما أتم هذه الكلمات أو أتمها الله عليه كتب الله له البراءة من النار، فذلك قوله تعالى: وإبراهيم الّذي وفّى [النجم: 37].
والإمام القدوة، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وهو هنا اسم مفرد، وقيل في غير هذا الموضع: هو جمع آم وزنه فاعل أصله آمم، فيجيء مثل قائم وقيام وجائع وجياع ونائم ونيام.
وجعل الله تعالى إبراهيم إماما لأهل طاعته، فلذلك أجمعت الأمم على الدعوى فيه، وأعلم الله تعالى أنه كان حنيفا، وقول إبراهيم عليه السلام: ومن ذرّيّتي، هو على جهة الدعاء والرغبى إلى الله، أي ومن ذريتي يا رب فاجعل، وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ والذرية مأخوذة من ذرا يذرو أو من ذرى يذري أو من ذر يذر أو من ذرأ يذرأ، وهي أفعال تتقارب معانيها، وقد طول في تعليلها أبو الفتح وشفى.
وقوله تعالى: قال لا ينال عهدي، أي قال الله، والعهد فيما قال مجاهد: الإمامة، وقال السدي: النبوءة، وقال قتادة: الأمان من عذاب الله، وقال الربيع والضحاك: العهد الدين: دين الله تعالى.
وقال ابن عباس: معنى الآية لا عهد عليك لظالم أن تطيعه، ونصب الظّالمين لأن العهد ينال كما ينال، وقرأ قتادة وأبو رجاء والأعمش «الظالمون» بالرفع، وإذا أولنا العهد الدين أو الأمان أو أن لا طاعة لظالم فالظلم في الآية ظلم الكفر، لأن العاصي المؤمن ينال الدين والأمان من عذاب الله وتلزم طاعته إذا كان ذا أمر، وإذا أولنا العهد النبوءة أو الإمامة في الدين فالظلم ظلم المعاصي فما زاد). [المحرر الوجيز: 1/339-342]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للنّاس إمامًا قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين (124)}
يقول تعالى منبّهًا على شرف إبراهيم خليله، عليه السّلام وأنّ اللّه تعالى جعله إمامًا للنّاس يقتدى به في التّوحيد، حتّى قام بما كلّفه اللّه تعالى به من الأوامر والنّواهي؛ ولهذا قال: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ} أي: واذكر -يا محمّد -لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الّذين ينتحلون ملّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنّما الذي هو عليها مستقيمٌ فأنت والّذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء اللّه إبراهيم، أي: اختباره له بما كلّفه به من الأوامر والنّواهي {فأتمّهنّ} أي: قام بهنّ كلّهنّ، كما قال تعالى: {وإبراهيم الّذي وفّى} [النّجم: 37]، أي: وفّى جميع ما شرع له، فعمل به صلوات اللّه عليه، وقال تعالى: {إنّ إبراهيم كان أمّةً قانتًا للّه حنيفًا ولم يك من المشركين* شاكرًا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراطٍ مستقيمٍ* وآتيناه في الدّنيا حسنةً وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين* ثمّ أوحينا إليك أن اتّبع ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين}[النّحل: 120 -123]، وقال تعالى: {قل إنّني هداني ربّي إلى صراطٍ مستقيمٍ دينًا قيمًا ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين}[الأنعام: 161]، وقال تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين* إنّ أولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبيّ والّذين آمنوا واللّه وليّ المؤمنين} [آل عمران: 67، 68]
وقوله تعالى: {بكلماتٍ} أي: بشرائع وأوامر ونواهٍ، فإنّ الكلمات تطلق، ويراد بها الكلمات القدريّة، كقوله تعالى عن مريم، عليها السّلام،: {وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين}[التّحريم: 12]. وتطلق ويراد بها الشّرعيّة، كقوله تعالى: {وتمّت كلمة ربّك صدقًا وعدلا لا مبدّل لكلماته} [الأنعام: 115] أي: كلماته الشّرعيّة. وهي إمّا خبر صدقٍ، وإمّا طلب عدلٍ إن كان أمرًا أو نهيًا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ} أي: قام بهنّ. قال: {إنّي جاعلك للنّاس إمامًا} أي: جزاءً على ما فعل، كما قام بالأوامر وترك الزّواجر، جعله اللّه للنّاس قدوةً وإمامًا يقتدى به، ويحتذى حذوه.
وقد اختلف العلماء في تفسير الكلمات التي اختبر اللّه بها إبراهيم الخليل، عليه السّلام. فروي عن ابن عبّاسٍ في ذلك رواياتٍ:
فقال عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن قتادة، قال ابن عبّاسٍ: ابتلاه اللّه بالمناسك. وكذا رواه أبو إسحاق السّبيعي، عن التّميميّ، عن ابن عبّاسٍ.
وقال عبد الرّزّاق -أيضًا -: أخبرنا معمرٌ، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ} قال: ابتلاه اللّه بالطّهارة: خمسٌ في الرّأس، وخمسٌ في الجسد؛ في الرّأس: قص الشّارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسّواك، وفرق الرّأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن سعيد بن المسيّب، ومجاهدٍ، والشّعبيّ، والنّخعي، وأبي صالحٍ، وأبي الجلد، نحو ذلك.
قلت: وقريبٌ من هذا ما ثبت في صحيح مسلمٍ، عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "عشرٌ من الفطرة: قصّ الشّارب، وإعفاء اللّحية، والسّواك، واستنشاق الماء، وقصّ الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء" قال مصعبٌ ونسيت العاشرة إلّا أن تكون المضمضة.
قال وكيع: انتقاص الماء، يعني: الاستنجاء.
وفي الصّحيح، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال:
«الفطرة خمسٌ: الختان، والاستحداد، وقصّ الشّارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط». ولفظه لمسلمٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى، قراءةً، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن حنش بن عبد اللّه الصّنعانيّ، عن ابن عبّاسٍ: أنّه كان يقول في هذه الآية: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ} قال: عشرٌ، ستٌّ في الإنسان، وأربعٌ في المشاعر. فأمّا التي في الإنسان: حلق العانة، ونتف الإبط، والختان. وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثّلاثة واحدةٌ. وتقليم الأظفار، وقصّ الشّارب، والسّواك، وغسل يوم الجمعة. والأربعة التي في المشاعر: الطّواف، والسّعي بين الصّفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة.
وقال داود بن أبي هندٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كلّه إلّا إبراهيم، قال اللّه تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ} قلت له: وما الكلمات التي ابتلى اللّه إبراهيم بهنّ فأتمهنّ؟ قال: الإسلام ثلاثون سهمًا، منها عشر آياتٍ في براءةٍ: {التّائبون العابدون الحامدون}[التّوبة: 112] إلى آخر الآية وعشر آياتٍ في أوّل سورة {قد أفلح المؤمنون} و {سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ} وعشر آياتٍ في الأحزاب: {إنّ المسلمين والمسلمات}[الآية: 35] إلى آخر الآية، فأتمهنّ كلّهنّ، فكتبت له براءةٌ. قال اللّه: {وإبراهيم الّذي وفّى}[النّجم: 37].
هكذا رواه الحاكم، وأبو جعفر بن جريرٍ، وأبو محمّد بن أبي حاتمٍ، بأسانيدهم إلى داود بن أبي هندٍ، به. وهذا لفظ ابن أبي حاتمٍ.
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيدٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: الكلمات التي ابتلى اللّه بهنّ إبراهيم فأتمّهنّ: فراق قومه -في اللّه -حين أمر بمفارقتهم. ومحاجّته نمروذ -في اللّه -حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه. وصبره على قذفه إيّاه في النّار ليحرقوه -في اللّه -على هول ذلك من أمرهم. والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده -في اللّه -حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضّيافة والصّبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلمّا مضى على ذلك من اللّه كلّه وأخلصه للبلاء قال اللّه له: {أسلم قال أسلمت لربّ العالمين} على ما كان من خلاف النّاس وفراقهم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا إسماعيل بن عليّة، عن أبي رجاءٍ، عن الحسن -يعني البصريّ -: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ} قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشّمس فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه، وابتلاه بالختان فرضي عنه، وابتلاه بابنه فرضي عنه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا بشر بن معاذٍ، حدّثنا يزيد بن زريع، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: أي واللّه، ابتلاه بأمرٍ فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشّمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أنّ ربّه دائمٌ لا يزول، فوجّه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما كان من المشركين. ثمّ ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتّى لحق بالشّام مهاجرًا إلى اللّه، ثمّ ابتلاه بالنّار قبل الهجرة فصبر على ذلك. وابتلاه اللّه بذبح ابنه والختان فصبر على ذلك.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عمّن سمع الحسن يقول في قوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ}
قال: ابتلاه اللّه بذبح ولده، وبالنّار، والكوكب والشّمس، والقمر.
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا سلم بن قتيبة، حدّثنا أبو هلالٍ، عن الحسن {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ} قال: ابتلاه بالكوكب، والشّمس، والقمر، فوجده صابرًا.
وقال العوفيّ في تفسيره، عن ابن عبّاسٍ: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ} فمنهنّ: {إنّي جاعلك للنّاس إمامًا} ومنهنّ: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} ومنهنّ: الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرّزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمّدٌ بعث في دينهما.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ} قال اللّه لإبراهيم: إنّي مبتليك بأمرٍ فما هو؟ قال: تجعلني للنّاس إمامًا. قال: نعم. قال: ومن ذرّيّتي؟ {قال لا ينال عهدي الظّالمين} قال: تجعل البيت مثابةً للنّاس؟ قال: نعم. قال: وأمنًا. قال: نعم. قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك؟ قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثّمرات من آمن منهم باللّه؟ قال: نعم.
قال ابن أبي نجيح: سمعته من عكرمة، فعرضته على مجاهدٍ، فلم ينكره.
وهكذا رواه ابن جريرٍ من غير وجهٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ.
وقال سفيان الثّوريّ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ} قال: ابتلي بالآيات التي بعدها: {إنّي جاعلك للنّاس إمامًا قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين}
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ} قال: الكلمات: {إنّي جاعلك للنّاس إمامًا} وقوله: {وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس وأمنًا} وقوله {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} وقوله: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} الآية، وقوله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} الآية، قال: فذلك كلّه من الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم.
قال السّدّيّ: الكلمات التي ابتلى بهنّ إبراهيم ربّه: {ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك}، {ربّنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك}.
وقال القرطبيّ: وفي الموطّأ وغيره، عن يحيى بن سعيدٍ أنّه سمع سعيد بن المسيّب يقول: إبراهيم، عليه السّلام، أوّل من اختتن وأوّل من ضاف الضّيف، وأوّل من استحدّ، وأوّل من قلّم أظفاره، وأوّل من قصّ الشّارب، وأوّل من شاب فلمّا رأى الشّيب، قال: ما هذا؟ قال: وقارٌ، قال: يا ربّ، زدني وقارًا. وذكر ابن أبي شيبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أوّل من خطب على المنابر إبراهيم، عليه السّلام، قال غيره: وأوّل من برّد البريد، وأوّل من ضرب بالسّيف، وأوّل من استاك، وأوّل من استنجى بالماء، وأوّل من لبس السّراويل، وروي عن معاذ بن جبلٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«إن أتّخذ المنبر فقد اتّخذه أبي إبراهيم، وإن أتّخذ العصا فقد اتّخذها أبي إبراهيم»قلت: هذا حديثٌ لا يثبت، واللّه أعلم. ثمّ شرع القرطبيّ يتكلّم على ما يتعلّق بهذه الأشياء من الأحكام الشّرعيّة.
قال أبو جعفر بن جريرٍ ما حاصله: أنّه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائزٌ أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيءٍ منها أنّه المراد على التّعيين إلّا بحديثٍ أو إجماعٍ. قال: ولم يصحّ في ذلك خبرٌ بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التّسليم له.
قال: غير أنّه قد روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في نظير معنى ذلك خبران، أحدهما ما حدّثنا به أبو كريب، حدّثنا رشدين بن سعدٍ، حدّثني زبّان بن فائدٍ، عن سهل بن معاذ بن أنسٍ، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:
«ألا أخبركم لم سمّى اللّه إبراهيم خليله {الّذي وفّى}[النّجم: 37]؟ لأنّه كان يقول كلّما أصبح وكلّما أمسى: {فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون}[الرّوم: 17] حتّى يختم الآية».
قال: والآخر منهما: حدّثنا به أبو كريبٍ، أخبرنا الحسن، عن عطيّة، أخبرنا إسرائيل، عن جعفر بن الزّبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«{وإبراهيم الّذي وفّى} أتدرون ما وفّى؟» قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: «وفّى عمل يومه، أربع ركعاتٍ في النّهار».
ورواه آدم في تفسيره، عن حمّاد بن سلمة. وعبد بن حميدٍ، عن يونس بن محمّدٍ، عن حمّاد بن سلمة، عن جعفر بن الزّبير، به.
ثمّ شرع ابن جريرٍ يضعّف هذين الحديثين، وهو كما قال؛ فإنّه لا تجوز روايتهما إلّا ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجوهٍ عديدةٍ، فإنّ كلًّا من السّندين مشتملٌ على غير واحدٍ من الضّعفاء، مع ما في متن الحديث ممّا يدلّ على ضعفه واللّه أعلم.
ثمّ قال ابن جريرٍ: ولو قال قائلٌ: إنّ الذي قاله مجاهدٌ وأبو صالحٍ والربيع بن أنس أولى بالصّواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبًا، فإنّ قوله: {إنّي جاعلك للنّاس إمامًا} وقوله: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطّائفين} وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر اللّه أنّه ابتلى بهنّ إبراهيم.
قلت: والذي قاله أوّلًا من أنّ الكلمات تشمل جميع ما ذكر، أقوى من هذا الذي جوّزه من قول مجاهدٍ ومن قال مثله؛ لأنّ السّياق يعطي غير ما قالوه واللّه أعلم.
وقوله: {قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين} لمّا جعل اللّه إبراهيم إمامًا، سأل اللّه أن تكون الأئمة من بعده من ذرّيّته، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنّه سيكون من ذرّيّته ظالمون، وأنّه لا ينالهم عهد اللّه، ولا يكونون أئمّةً فلا يقتدى بهم، والدّليل على أنّه أجيب إلى طلبته قول اللّه تعالى في سورة العنكبوت: {وجعلنا في ذرّيّته النّبوّة والكتاب}[العنكبوت: 27] فكلّ نبيٍّ أرسله اللّه وكلّ كتابٍ أنزله اللّه بعد إبراهيم ففي ذرّيّته صلوات اللّه وسلامه عليه.
وأمّا قوله تعالى: {قال لا ينال عهدي الظّالمين} فقد اختلفوا في ذلك، فقال خصيف، عن مجاهدٍ في قوله: {قال لا ينال عهدي الظّالمين} قال: إنّه سيكون في ذرّيّتك ظالمون.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، {قال لا ينال عهدي الظّالمين} قال: لا يكون لي إمامٌ ظالمٌ يقتدى به. وفي روايةٍ: لا أجعل إمامًا ظالمًا يقتدى به. وقال سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {قال لا ينال عهدي الظّالمين} قال: لا يكون إمامٌ ظالمٌ يقتدى به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثني أبي، حدّثنا مالك بن إسماعيل، حدّثنا شريكٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {ومن ذرّيّتي} قال: أمّا من كان منهم صالحًا فسأجعله إمامًا يقتدى به، وأمّا من كان ظالمًا فلا ولا نعمة عينٍ.
وقال سعيد بن جبيرٍ: {لا ينال عهدي الظّالمين} المراد به المشرك، لا يكون إمامٌ ظالمٌ. يقول: لا يكون إمامٌ مشركٌ.
وقال ابن جريج، عن عطاءٍ، قال: {إنّي جاعلك للنّاس إمامًا قال ومن ذرّيّتي} فأبى أن يجعل من ذرّيّته إمامًا ظالمًا. قلت لعطاءٍ: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا عمرو بن ثورٍ القيساريّ فيما كتب إليّ، حدّثنا الفريابيّ، حدّثنا إسرائيل، حدّثنا سماك بن حربٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال اللّه لإبراهيم: {إنّي جاعلك للنّاس إمامًا قال ومن ذرّيّتي} فأبى أن يفعل، ثمّ قال: {لا ينال عهدي الظّالمين}
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيدٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: {قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين} يخبره أنّه كائنٌ في ذرّيّته ظالمٌ لا ينال عهده -ولا ينبغي له أن يولّيه شيئًا من أمره وإن كان من ذرّيّة خليله -ومحسنٌ ستنفذ فيه دعوته، وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: {لا ينال عهدي الظّالمين} قال: يعني لا عهد لظالمٍ عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا المثنّى، حدّثنا إسحاق، حدّثنا عبد الرّحمن بن عبد اللّه، عن إسرائيل، عن مسلمٍ الأعور، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: {لا ينال عهدي الظّالمين} قال: ليس للظّالمين عهدٌ، وإن عاهدته فانتقضه.
وروي عن مجاهدٍ، وعطاءٍ، ومقاتل بن حيّان، نحو ذلك.
وقال الثّوريّ، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: ليس لظالم عهدٌ.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: {لا ينال عهدي الظّالمين} قال: لا ينال عهد اللّه في الآخرة الظّالمين، فأمّا في الدّنيا فقد ناله الظّالم فأمن به، وأكل وعاش.
وكذا قال إبراهيم النّخعيّ، وعطاءٌ، والحسن، وعكرمة.
وقال الرّبيع بن أنسٍ: عهد اللّه الذي عهد إلى عباده: دينه، يقول: لا ينال دينه الظّالمين، ألا ترى أنّه قال: {وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذرّيّتهما محسنٌ وظالمٌ لنفسه مبينٌ} [الصافات: 113]، يقول: ليس كلّ ذرّيّتك يا إبراهيم على الحقّ.
وكذا روي عن أبي العالية، وعطاءٍ، ومقاتل بن حيّان.
وقال جويبرٌ، عن الضّحّاك: لا ينال طاعتي عدوٌّ لي يعصيني، ولا أنحلها إلّا وليًّا لي يطيعني.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدّثنا عبد الرّحمن بن محمّد بن حامدٍ، حدّثنا أحمد بن عبد اللّه بن سعيدٍ الأسديّ، حدّثنا سليم بن سعيدٍ الدّامغانيّ، حدّثنا وكيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرّحمن السّلميّ، عن عليّ بن أبي طالبٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: {لا ينال عهدي الظّالمين} قال:
«لا طاعة إلّا في المعروف».
وقال السّدّيّ: {لا ينال عهدي الظّالمين} يقول: عهدي نبوّتي.
فهذه أقوال مفسّري السّلف في هذه الآية على ما نقله ابن جريرٍ، وابن أبي حاتمٍ، رحمهما اللّه تعالى. واختار ابن جريرٍ أنّ هذه الآية -وإن كانت ظاهرةً في الخبر -أنّه لا ينال عهد اللّه بالإمامة ظالمًا. ففيها إعلامٌ من اللّه لإبراهيم الخليل، عليه السّلام، أنّه سيوجد من ذرّيّتك من هو ظالمٌ لنفسه، كما تقدّم عن مجاهدٍ وغيره، واللّه أعلم).[تفسير ابن كثير: 1/405-412]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمنا واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود}
{مثابة}: يثوبون إليه، والمثاب والمثابة واحد، وكذلك المقام والمقامة.
قال الشاعر:
وإنّي لقوّام مقاوم لم يكن= جرير ولا مولى جرير يقومها
وواحد المقاوم "مقام", وقال زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوهها= وأندية ينتابها القول والفعل
وواحد المقامات "مقامة",
و الأصل في مثابة "مثوبة", ولكن حركة الواو نقلت إلى التاء، وتبعت الواو الحركة فانقلبت ألفا، وهذا إعلال إتباع، تبع مثابة باب "ثاب" وأصل ثاب "ثوب"، ولكن الواو قلبت ألفا لتحركها, وانفتاح ما قبلها لا اختلاف بين النحويين في ذلك.
وهذا الباب فيه صعوبة إلا أن كتابنا هذا يتضمن شرح الإعراب والمعاني , فلا بد من استقصائها على حسب ما يعلم.
ومعنى قوله {وأمنا}؛ قيل: كان من جنى جناية ثم دخل الحرم لم يقم عليه الحد، ولكن لا يبايع , ولا يكلم حتى يضطر إلى الخروج منه، فيقام عليه الحد.
وقوله عزّ وجلّ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى} قرئت {واتخذوا} بالفتح والكسر: واتخذوا، واتّخذوا .
روى أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم, وقد وقفا على مقام إبراهيم: "أليس هذا مقام خليل ربنا؟" وقال بعضهم: "مقام أبينا, أفلا نتخذه مصلى؟"؛ فأنزل الله عزّ وجلّ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى}, فكان الأمر.
والقراءة: {واتخذوا} بالكسر على هذا الخبر أبين, ولكن ليس يمتنع (واتخَذوا)؛ لأن الناس اتخذوا هذا، فقال: {وإذ جعلنا البيت مثابة}, (واتخَذوا), فعطف بجملة على جملة.
وقوله عزّ وجلّ: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود}
معنى "طهّراه": امنعاه من تعليق الأصنام عليه، و"الطائفون": هم الذين يطوفون بالبيت، و"العاكفون": المقيمون به، ويقال: قد عكف يعكف , ويعكف على الشيء عكوفاً, أي: أقام عليه، ومن هذا قول الناس: فلان معتكف على الحرام، أي: مقيم عليه.
{والرّكع السجود}: سائر من يصلي فيه من المسلمين.
و{بيتي}: الأجود فيه فتح الياء، وإن شئت سكّنتها، و"الرّكع": جمع راكع، مثل: غاز وغزى، و"السجود" جمع ساجد، كقولك: ساجد وسجود، وشاهد وشهود). [معاني القرآن: 1/206-207]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس وأمناً واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود (125) وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتّعه قليلاً ثمّ أضطرّه إلى عذاب النّار وبئس المصير (126)
قوله وإذ عطف على إذ المتقدمة والبيت الكعبة، ومثابةً يحتمل أن تكون من ثاب إذا رجع لأن الناس يثوبون إليها أي ينصرفون، ويحتمل أن تكون من الثواب أي يثابون هناك، قال الأخفش: دخلت الهاء فيها للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، وقال غيره: هي هاء تأنيث المصدر، فهي مفعلة أصلها مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء فانقلبت الواو ألفا لانفتاح ما قبلها، وقيل: هو على تأنيث البقعة، كما يقال: مقام ومقامة، وقرأ الأعمش «مثابات» على الجمع، وقال ورقة بن نوفل في الكعبة: [الطويل]:
مثاب لأفناء القبائل كلّها = تخبّ إليها اليعملات الطلائح
وأمناً معناه أن الناس يغيرون ويقتتلون حول مكة وهي آمنة من ذلك، يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه، لأن الله تعالى جعل لها في النفوس حرمة وجعلها أمنا للناس والطير والوحوش، وخصص الشرع من ذلك الخمس الفواسق، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «واتخذوا» بكسر الخاء على جهة الأمر، فقال أنس بن مالك وغيره: معنى ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، في الحجاب، وفي عسى ربّه إن طلّقكنّ [التحريم: 5]، وقلت يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال المهدوي: وقيل ذلك عطف على قوله اذكروا فهذا أمر لبني إسرائيل، وقال الربيع بن أنس: ذلك أمر لإبراهيم ومتبعيه، فهي من الكلمات، كأنه قال: إنّي جاعلك للنّاس إماماً [البقرة: 124] واتّخذوا، وذكر المهدوي رحمه الله أن ذلك عطف على الأمر الذي يتضمنه قوله: جعلنا البيت مثابةً، لأن المعنى: توبوا، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم، وذلك معطوف على قوله وإذ جعلنا، كأنه قال: وإذ اتخذوا، وقيل هو معطوف على جعلنا دون تقدير إذ، فهي جملة واحدة، وعلى تقدير إذ فهي جملتان.
واختلف في مقام إبراهيم، فقال ابن عباس وقتادة وغيرهما، وخرجه البخاري: إنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت وغرقت قدماه فيه.
وقال الربيع بن أنس: هو حجر ناولته إياه امرأته فاغتسل عليه وهو راكب، جاءته به من شق ثم من شق فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه، وقال فريق من العلماء: المقام المسجد الحرام، وقال عطاء بن أبي رباح: المقام عرفة والمزدلفة والجمار، وقال ابن عباس: مقامه مواقف الحج كلها، وقال مجاهد: مقامه الحرم كله.
ومصلًّى موضع صلاة، هذا على قول من قال: المقام الحجر، ومن قال بغيره قال مصلًّى مدعى، على أصل الصلاة.
وقوله تعالى: وعهدنا العهد في اللغة على أقسام، هذا منها الوصية بمعنى الأمر، وأن في موضع نصب على تقدير بأن وحذف الخافض، قال سيبويه: إنها بمعنى أي مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب، وطهّرا قيل معناه ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، فيجيء مثل قوله: أسّس على التّقوى [التوبة: 108] وقال مجاهد: هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان، وقيل: من الفرث والدم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لا تعضده الأخبار، وقيل: من الشرك، وأضاف الله البيت إلى نفسه تشريفا للبيت، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك، وللطّائفين ظاهره أهل الطواف، وقاله عطاء وغيره، وقال ابن جبير: معناه للغرباء الطارئين على مكة، والعاكفين قال ابن جبير: هم أهل البلد المقيمون، وقال عطاء: هم المجاورون بمكة، وقال ابن عباس: المصلون، وقال غيره: المعتكفون.
والعكوف في اللغة اللزوم للشيء والإقامة عليه، كما قال الشاعر [العجاج]: [الرجز]
... ... ... ... = عكف النبيط يلعبون الفنزجا
فمعناه لملازمي البيت إرادة وجه الله العظيم، والرّكّع السّجود المصلون، وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى، وكل مقيم عند بيت الله إرادة ذات الله فلا يخلو من إحدى هذه الرتب الثلاث، إما أن يكون في صلاة أو في طواف فإن كان في شغل من دنياه فحال العكوف على مجاورة البيت لا يفارقه). [المحرر الوجيز: 1/343-346]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس وأمنًا واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى (125)}
قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس} يقول: لا يقضون منه وطرًا، يأتونه، ثمّ يرجعون إلى أهليهم، ثمّ يعودون إليه.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {مثابةً للنّاس} يقول: يثوبون.
رواهما ابن جريرٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا أبي، أخبرنا عبد اللّه بن رجاءٍ، أخبرنا إسرائيل، عن مسلمٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس} قال: يثوبون إليه ثمّ يرجعون. قال: وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبيرٍ-في روايةٍ -وعطاءٍ، ومجاهدٍ، والحسن، وعطيّة، والرّبيع بن أنسٍ، والضّحّاك، نحو ذلك. وقال ابن جريرٍ: حدّثني عبد الكريم بن أبي عميرٍ، حدّثني الوليد بن مسلمٍ قال: قال أبو عمرٍو -يعني الأوزاعيّ -حدّثني عبدة بن أبي لبابة، في قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس} قال: لا ينصرف عنه منصرفٌ وهو يرى أنّه قد قضى منه وطرًا.
وحدّثني يونس، عن ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس} قال: يثوبون إليه من البلدان كلّها ويأتونه.
وما أحسن ما قال الشّاعر في هذا المعنى، أورده القرطبيّ:

جعل البيت مثابًا لهم.......ليس منه الدّهر يقضون الوطر

وقال سعيد بن جبيرٍ -في الرّواية الأخرى -وعكرمة، وقتادة، وعطاءٌ الخراسانيّ {مثابةً للنّاس} أي: مجمعًا.
{وأمنًا} قال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: أي أمنًا للنّاس.
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس وأمنًا} يقول: أمنًا من العدوّ، وأن يحمل فيه السّلاح، وقد كانوا في الجاهليّة يتخطّف النّاس من حولهم، وهم آمنون لا يسبون.
وروي عن مجاهدٍ، وعطاءٍ، والسّدّيّ، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، قالوا: من دخله كان آمنًا.
ومضمون ما فسّر به هؤلاء الأئمّة هذه الآية: أنّ اللّه تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابةً للنّاس، أي: جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددت إليه كلّ عامٍ، استجابةً من اللّه تعالى لدعاء خليله إبراهيم، عليه السّلام، في قوله: {فاجعل أفئدةً من النّاس تهوي إليهم} إلى أن قال: {ربّنا وتقبّل دعاء} [إبراهيم: 37 -40] ويصفه تعالى بأنّه جعله أمنًا، من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثمّ دخله كان آمنًا.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: كان الرّجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له، كما وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى {جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قيامًا للنّاس}[المائدة: 97] أي: يرفع عنهم بسبب تعظيمها السوء، كما قال ابن عبّاسٍ: لو لم يحجّ الناس هذا البيت لأطبق اللّه السماء على الأرض، وما هذا الشّرف إلّا لشرف بانيه أوّلًا وهو خليل الرّحمن، كما قال تعالى: {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئًا} [الحجّ: 26] وقال تعالى: {إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركًا وهدًى للعالمين* فيه آياتٌ بيّناتٌ مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا} [آل عمران: 96، 97].
وفي هذه الآية الكريمة نبّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصّلاة عنده. فقال: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} وقد اختلف المفسّرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا عمر بن شبّة النّميريّ، حدّثنا أبو خلفٍ -يعني عبد اللّه بن عيسى-حدّثنا داود بن أبي هندٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} قال: مقام إبراهيم: الحرم كلّه. وروي عن مجاهدٍ وعطاءٍ مثل ذلك.
وقال أيضًا حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: سألت عطاءً عن {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} فقال: سمعت ابن عبّاسٍ قال:
«أمّا مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا، فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد، ثمّ قال: و {مقام إبراهيم} يعدّ كثيرٌ، " مقام إبراهيم " الحجّ كلّه». ثمّ فسّره لي عطاءٌ فقال: التّعريف، وصلاتان بعرفة، والمشعر، ومنًى، ورمي الجمار، والطّواف بين الصّفا والمروة. فقلت: أفسّره ابن عبّاسٍ؟ قال: لا ولكن قال: مقام إبراهيم: الحجّ كلّه. قلت: أسمعت ذلك؟ لهذا أجمع. قال: نعم، سمعته منه.
وقال سفيان الثّوريّ، عن عبد اللّه بن مسلمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} قال: الحجر مقام إبراهيم نبيّ اللّه، قد جعله اللّه رحمةً، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة. ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه.
وقال السّدّيّ: المقام: الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتّى غسلت رأسه. حكاه القرطبيّ، وضعّفه ورجّحه غيره، وحكاه الرّازيّ في تفسيره عن الحسن البصريّ وقتادة والرّبيع بن أنسٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا عبد الوهّاب بن عطاءٍ، عن ابن جريج، عن جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، سمع جابرًا يحدّث عن حجّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: لمّا طاف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم، قال: أفلا نتّخذه مصلًّى؟ فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى}.
وقال عثمان بن أبي شيبة: أخبرنا أبو أسامة، عن زكريّا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال: قال عمر: قلت: يا رسول اللّه، هذا مقام خليل ربّنا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتّخذه مصلًّى؟ فنزلت: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى}.
وقال ابن مردويه: حدّثنا دعلج بن أحمد، حدّثنا غيلان بن عبد الصّمد، حدّثنا مسروق بن المرزبان، حدّثنا زكريّا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمونٍ عن عمر بن الخطّاب أنّه مرّ بمقام إبراهيم فقال: يا رسول اللّه، أليس نقوم مقام خليل ربّنا ؟ قال:
«بلى». قال: أفلا نتّخذه مصلًّى؟ فلم يلبث إلّا يسيرًا حتّى نزلت: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى}
وقال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن محمّدٍ القزوينيّ، حدّثنا عليّ بن الحسين الجنيد، حدّثنا هشام بن خالدٍ، حدّثنا الوليد، عن مالك بن أنسٍ، عن جعفر بن محمّدٍ عن أبيه، عن جابرٍ، قال: لمّا وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة عند مقام إبراهيم، قال له عمر: يا رسول اللّه، هذا مقام إبراهيم الذي قال اللّه: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى}؟ قال:
«نعم». قال الوليد: قلت لمالكٍ: هكذا حدّثك {واتّخذوا} قال: نعم. هكذا وقع في هذه الرّواية. وهو غريبٌ.
وقد روى النّسائيّ من حديث الوليد بن مسلمٍ نحوه.
وقال البخاريّ: باب قوله: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} مثابة يثوبون يرجعون.
حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن حميدٍ، عن أنس بن مالكٍ. قال: قال عمر بن الخطّاب وافقت ربّي في ثلاثٍ، أو وافقني ربّي في ثلاثٍ، قلت: يا رسول اللّه، لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلًّى؟ فنزلت: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} وقلت: يا رسول اللّه يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل اللّه آية الحجاب. وقال: وبلغني معاتبة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بعض نسائه، فدخلت عليهنّ فقلت: إن انتهيتنّ أو ليبدلن اللّه رسوله خيرًا منكنّ، حتّى أتيت إحدى نسائه، فقالت: يا عمر، أما في رسول اللّه ما يعظ نساءه حتّى تعظهن أنت؟! فأنزل اللّه: {عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجًا خيرًا منكنّ} الآية [التّحريم: 5].
وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيّوب، حدّثني حميدٌ، قال: سمعت أنسًا عن عمر، رضي اللّه عنهما.
هكذا ساقه البخاريّ هاهنا، وعلّق الطّريق الثّانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصريّ. وقد تفرّد بالرّواية عنه البخاريّ من بين أصحاب الكتب السّتّة. وروى عنه الباقون بواسطةٍ، وغرضه من تعليق هذا الطّريق ليبيّن فيه اتّصال إسناد الحديث، وإنّما لم يسنده؛ لأنّ يحيى بن أبي أيّوب الغافقيّ فيه شيءٌ، كما قال الإمام أحمد فيه: هو سيّئ الحفظ، واللّه أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا هشيم، حدّثنا حميد، عن أنسٍ، قال: قال عمر رضي اللّه عنه وافقت ربّي عزّ وجلّ في ثلاثٍ، قلت: يا رسول اللّه، لو اتّخذنا من مقام إبراهيم مصلًّى؟ فنزلت: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} وقلت: يا رسول اللّه، إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نساؤه في الغيرة فقلت لهنّ: {عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجًا خيرًا منكنّ}[التّحريم: 5] فنزلت كذلك ثمّ رواه أحمد، عن يحيى وابن أبي عديٍّ، كلاهما عن حميدٍ، عن أنسٍ، عن عمر أنّه قال: وافقت ربّي في ثلاثٍ، أو وافقني ربّي في ثلاثٍ فذكره.
وقد رواه البخاريّ عن عمرو بن عون والتّرمذيّ عن أحمد بن منيعٍ، والنّسائيّ عن يعقوب بن إبراهيم الدّورقيّ، وابن ماجه عن محمّد بن الصّبّاح، كلّهم عن هشيم بن بشيرٍ، به. ورواه التّرمذيّ -أيضًا-عن عبد بن حميد، عن حجّاج بن منهال، عن حمّاد بن سلمة، والنّسائيّ عن هنّادٍ، عن يحيى بن أبي زائدة، كلاهما عن حميدٍ، وهو ابن تيرويه الطّويل، به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ. ورواه الإمام عليّ بن المدينيّ عن يزيد بن زريع، عن حميدٍ به. وقال: هذا من صحيح الحديث، وهو بصريٌّ، ورواه الإمام مسلم بن الحجّاج في صحيحه بسندٍ آخر، ولفظٍ آخر، فقال: حدّثنا عقبة بن مكرم، أخبرنا سعيد بن عامرٍ، عن جويرية بن أسماء، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن عمر، قال: وافقت ربّي في ثلاثٍ: في الحجاب، وفي أسارى بدرٍ، وفي مقام إبراهيم.
وقال أبو حاتمٍ الرّازيّ: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الأنصاريّ، حدّثنا حميدٌ الطّويل عن أنس بن مالكٍ قال: قال عمر بن الخطّاب: وافقني ربّي في ثلاثٍ -أو وافقت ربّي-قلت يا رسول اللّه، لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلًّى؟ فنزلت: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} وقلت: يا رسول اللّه لو حجبت النّساء؟ فنزلت آية الحجاب. والثّالثة: لمّا مات عبد اللّه بن أبيٍّ جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليصلّي عليه. قلت: يا رسول اللّه، تصلّي على هذا الكافر المنافق! فقال:
«إيهًا عنك يا بن الخطّاب»، فنزلت: {ولا تصلّ على أحدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره}[التّوبة: 84].
وهذا إسنادٌ صحيحٌ أيضًا، ولا تعارض بين هذا ولا هذا، بل الكلّ صحيحٌ، ومفهوم العدد إذا عارضه منطوقٌ قدم عليه، واللّه أعلم.
وقال ابن جريجٍ أخبرني جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه عن جابرٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رمل ثلاثة أشواطٍ، ومشى أربعًا، حتّى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين، ثمّ قرأ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى}
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا يوسف بن سلمان حدّثنا حاتم بن إسماعيل، حدّثنا جعفر بن محمّدٍ عن أبيه، عن جابرٍ قال: استلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الرّكن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثمّ تقدّم إلى مقام إبراهيم، فقرأ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلّى ركعتين.
وهذا قطعةٌ من الحديث الطّويل الذي رواه مسلمٌ في صحيحه، من حديث حاتم بن إسماعيل.
وروى البخاريّ بسنده، عن عمرو بن دينارٍ، قال: سمعت ابن عمر يقول: قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فطاف بالبيت سبعًا، وصلّى خلف المقام ركعتين.
فهذا كلّه ممّا يدلّ على أنّ المراد بالمقام إنّما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام، يقوم عليه لبناء الكعبة، لمّا ارتفع الجدار أتاه إسماعيل، عليه السّلام، به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، كلّما كمّل ناحيةً انتقل إلى النّاحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقفٌ عليه، كلّما فرغ من جدارٍ نقله إلى النّاحية التي تليها هكذا، حتّى تمّ جدارات الكعبة، كما سيأتي بيانه في قصّة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت، من رواية ابن عبّاسٍ عند البخاريّ. وكانت آثار قدميه ظاهرةٌ فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليّتها؛ ولهذا قال أبو طالبٍ في قصيدته المعروفة اللّاميّة:

وموطئ إبراهيم في الصّخر رطبةٌ.......على قدميه حافيًا غير ناعل

وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا. وقال عبد اللّه بن وهبٍ: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهابٍ: أنّ أنس بن مالكٍ حدّثهم، قال: رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السّلام، وإخمص قدميه، غير أنّه أذهبه مسح النّاس بأيديهم.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا بشر بن معاذٍ، حدّثنا يزيد بن زريع، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} إنّما أمروا أن يصلّوا عنده ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلّفت هذه الأمّة شيئًا ما تكلّفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمّة يمسحونه حتّى اخلولق وانمحى.
قلت: وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروفٌ اليوم إلى جانب الباب ممّا يلي الحجر يمنة الدّاخل من الباب في البقعة المستقلّة هناك، وكان الخليل، عليه السّلام لمّا فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنّه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا -واللّه أعلم-أمر بالصّلاة هناك عند فراغ الطّواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنّما أخّره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه وهو أحد الأئمّة المهديّين والخلفاء الرّاشدين، الّذين أمرنا باتّباعهم، وهو أحد الرّجلين اللّذين قال فيهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكرٍ وعمر». وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصّلاة عنده؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحدٌ من الصّحابة، رضي اللّه عنهم أجمعين.
قال عبد الرّزّاق، عن ابن جريج، حدّثني عطاءٌ وغيره من أصحابنا: قالوا: أوّل من نقله عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه وقال عبد الرّزّاق أيضًا عن معمر عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن، عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال الحافظ أبو بكرٍ أحمد بن الحسين بن عليٍّ البيهقيّ أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطّان، أخبرنا القاضي أبو بكرٍ أحمد بن كاملٍ، حدّثنا أبو إسماعيل محمّد بن إسماعيل السّلميّ، حدّثنا أبو ثابتٍ، حدّثنا الدّراورديّ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللّه عنها: أنّ المقام كان في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وزمان أبي بكرٍ ملتصقًا بالبيت، ثمّ أخّره عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه وهذا إسنادٌ صحيحٌ مع ما تقدّم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان -يعني ابن عيينة وهو إمام المكّيّين في زمانه-كان المقام في سقع البيت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فحوّله عمر إلى مكانه بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وبعد قوله: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} قال: ذهب السّيل به بعد تحويل عمر إيّاه من موضعه هذا، فردّه عمر إليه.
وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بها أم لا؟.
فهذه الآثار متعاضدةٌ على ما ذكرناه، واللّه أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدّثنا أبو عمرو، حدّثنا محمّد بن عبد الوهّاب، حدّثنا آدم، حدّثنا شريكٌ، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن مجاهدٍ، قال: قال عمر: يا رسول اللّه لو صلّينا خلف المقام؟ فأنزل اللّه: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} فكان المقام عند البيت فحوّله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى موضعه هذا. قال مجاهدٌ: قد كان عمر يرى الرّأي فينزل به القرآن.
هذا مرسلٌ عن مجاهدٍ، وهو مخالفٌ لما تقدّم من رواية عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن حميدٍ الأعرج، عن مجاهدٍ أنّ أوّل من أخّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه وهذا أصحّ من طريق ابن مردويه، مع اعتضاد هذا بما تقدّم، واللّه أعلم).[تفسير ابن كثير: 1/412-418]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود (125) وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلدًا آمنًا وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتّعه قليلا ثمّ أضطرّه إلى عذاب النّار وبئس المصير (126) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم (127) ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنّك أنت التّوّاب الرّحيم (128)}
قال الحسن البصريّ: قوله: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} قال: أمرهما اللّه أن يطهّراه من الأذى والنّجس ولا يصيبه من ذلك شيءٌ.
وقال ابن جريجٍ: قلت لعطاءٍ: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: {وعهدنا إلى إبراهيم} أي: أمرناه. كذا قال. والظّاهر أنّ هذا الحرف إنّما عدّي بإلى، لأنّه في معنى تقدّمنا وأوحينا.
وقال سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {أن طهّرا بيتي للطّائفين والعاكفين} قال: من الأوثان.
وقال مجاهدٌ وسعيد بن جبير: {طهّرا بيتي للطّائفين} إنّ ذلك من الأوثان والرّفث وقول الزّور والرّجس.
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن عبيد بن عميرٍ، وأبي العالية، وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٍ، وعطاءٍ وقتادة: {أن طهّرا بيتي} أي: بلا إله إلّا اللّه، من الشّرك.
وأمّا قوله تعالى: {للطّائفين} فالطّواف بالبيت معروفٌ. وعن سعيد بن جبيرٍ أنّه قال في قوله تعالى: {للطّائفين} يعني: من أتاه من غربة، {والعاكفين} المقيمين فيه. وهكذا روي عن قتادة، والرّبيع بن أنسٍ: أنّهما فسّرا العاكفين بأهله المقيمين فيه، كما قال سعيد بن جبيرٍ.
وقال يحيى بن القطّان، عن عبد الملك -هو ابن أبي سليمان-عن عطاءٍ في قوله: {والعاكفين} قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده وقال لنا -ونحن مجاورون-: أنتم من العاكفين.
وقال وكيعٌ، عن أبي بكرٍ الهذليّ عن عطاءٍ عن ابن عبّاسٍ قال: إذا كان جالسًا فهو من العاكفين.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا حمّاد بن سلمة، حدّثنا ثابتٌ قال: قلنا لعبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ: ما أراني إلّا مكلّم الأمير أن أمنع الّذين ينامون في المسجد الحرام فإنّهم يجنبون ويحدثون. قال: لا تفعل، فإنّ ابن عمر سئل عنهم، فقال: هم العاكفون.
ورواه عبد بن حميدٍ عن سليمان بن حربٍ عن حمّاد بن سلمة، به.
قلت: وقد ثبت في الصّحيح أنّ ابن عمر كان ينام في مسجد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم وهو عزب.
وأمّا قوله تعالى: {والرّكّع السّجود} فقال وكيعٌ، عن أبي بكرٍ الهذليّ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ {والرّكّع السّجود} قال: إذا كان مصلّيًا فهو من الرّكّع السّجود. وكذا قال عطاءٌ وقتادة.
وقال ابن جرير رحمه اللّه: فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطّائفين. والتّطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشّرك. ثمّ أورد سؤالًا فقال: فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيءٌ من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ وأجاب بوجهين: أحدهما: أنّه أمرهما بتطهيره ممّا كان يعبد عنده زمان قوم نوحٍ من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سنّة لمن بعدهما إذ كان اللّه تعالى قد جعل إبراهيم إمامًا يقتدى به كما قال عبد الرّحمن بن زيدٍ: {أن طهّرا بيتي} قال: من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظّمونها.
قلت: وهذا الجواب مفرّع على أنّه كان يعبد عنده أصنامٌ قبل إبراهيم عليه السّلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليلٍ عن المعصوم محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم.
الجواب الثّاني: أنّه أمرهما أن يخلصا في بنائه للّه وحده لا شريك له، فيبنياه مطهّرًا من الشّرك والرّيب، كما قال جلّ ثناؤه: {أفمن أسّس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوانٍ خيرٌ أم من أسّس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ}[التّوبة: 109] قال: فكذلك قوله: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي} أي: ابنيا بيتي على طهرٍ من الشّرك بي والرّيب، كما قال السّدّيّ: {أن طهّرا بيتي} ابنيا بيتي للطّائفين.
وملخّص هذا الجواب: أنّ اللّه تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام، أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطّائفين به والعاكفين عنده، والمصلّين إليه من الرّكّع السّجود، كما قال تعالى: {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئًا وطهّر بيتي للطّائفين والقائمين والرّكّع السّجود} الآيات [الحجّ: 26 -37].
وقد اختلف الفقهاء: أيّما أفضل، الصّلاة عند البيت أو الطّواف؟ فقال مالكٌ: الطّواف به لأهل الأمصار أفضل من الصّلاة عنده، وقال الجمهور: الصّلاة أفضل مطلقًا، وتوجيه كلٍّ منهما يذكر في كتاب الأحكام.
والمراد من ذلك الرّدّ على المشركين الّذين كانوا يشركون باللّه عند بيته، المؤسّس على عبادته وحده لا شريك له، ثمّ مع ذلك يصدّون أهله المؤمنين عنه، كما قال تعالى: {إنّ الّذين كفروا ويصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام الّذي جعلناه للنّاس سواءً العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ}[الحجّ: 25].
ثمّ ذكر أنّ البيت إنّما أسّس لمن يعبد اللّه وحده لا شريك له، إمّا بطوافٍ أو صلاةٍ، فذكر في سورة الحجّ أجزاءها الثّلاثة: قيامها، وركوعها، وسجودها، ولم يذكر العاكفين لأنّه تقدّم {سواءً العاكف فيه والباد} وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطّائفين والعاكفين، واجتزأ بذكر الرّكوع والسّجود عن القيام؛ لأنّه قد علم أنّه لا يكون ركوعٌ ولا سجودٌ إلّا بعد قيامٍ. وفي ذلك -أيضًا-ردّ على من لا يحجّه من أهل الكتابين: اليهود والنّصارى؛ لأنّهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته، ويعلمون أنّه بنى هذا البيت للطّواف في الحجّ والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصّلاة عنده وهم لا يفعلون شيئًا من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل، وهم لا يفعلون ما شرع اللّه له؟ وقد حجّ البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم السّلام، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحيٌ يوحى}[النّجم: 4].
وتقدير الكلام إذًا: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} أي: تقدّمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل {أن طهّرا بيتي للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود} أي: طهّراه من الشّرك والرّيب وابنياه خالصًا للّه، معقلًا للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود. وتطهير المساجد مأخوذٌ من هذه الآية، ومن قوله تعالى: {في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال}[النّور: 36] ومن السّنة من أحاديث كثيرةٍ، من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك، من صيانتها من الأذى والنّجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السّلام:
«إنّما بنيت المساجد لما بنيت له». وقد جمعت في ذلك جزءًا على حدةٍ وللّه الحمد والمنّة.
وقد اختلف النّاس في أوّل من بنى الكعبة، فقيل: الملائكة قبل آدم، وروي هذا عن أبي جعفرٍ الباقر محمّد بن عليّ بن الحسين، ذكره القرطبيّ وحكى لفظه، وفيه غرابةٌ، وقيل: آدم عليه السّلام رواه عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عن عطاءٍ وسعيد بن المسيّب وغيرهم: أنّ آدم بناه من خمسة أجبلٍ: من حراءٍ وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجوديّ، وهذا غريبٌ أيضًا. وروي نحوه عن ابن عبّاسٍ وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبّهٍ: أنّ أوّل من بناه شيث، عليه السّلام، وغالب من يذكر هذا إنّما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي ممّا لا يصدّق ولا يكذّب ولا يعتمد عليها بمجرّدها، وأمّا إذا صحّ حديث في ذلك فعلى الرأس والعين). [تفسير ابن كثير: 1/418-421]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتّعه قليلا ثمّ أضطرّه إلى عذاب النّار وبئس المصير} المعنى: واذكروا إذ قال إبراهيم.
{وأمنا}: ذا أمن.
وقوله عزّ وجل: {وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم...} {من} نصب بدل من {أهله}، المعنى: أرزق من آمن من أهله دون غيرهم؛ لأن الله تعالى قد أعلمه أن في ذريته غير مؤمن، لقوله: عزّ وجل: {لا ينال عهدي الظّالمين}.
وقوله عزّ وجلّ: {قال ومن كفر فأمتّعه قليلا ثمّ أضطرّه إلى عذاب النار} أكثر القراءة على: {فأمتّعه قليلاً ثم أضطره} على الإخبار، وقد قرئ أيضاً: (فأمتعه ثم اضطرّه) على الدعاء، ولفظ الدعاء كلفظ الأمر مجزوم، إلا أنه استعظم أن يقال "أمر"، فمسألتك من فوقك -نحو: أعطني، وأغفر لي- دعاء ومسألة، ومسألتك من دونك أمر، كقولك لغلامك: افعل كذا وكذا,
والراء مفتوحة في قوله: (ثم اضطرّه), لسكونها , وسكون الراء التي قبلها الأصل: ثم اضطرره، ويجوز: (ثم أضطره) , ولا أعلم أحداً قرأ بها).[معاني القرآن: 1/207-208]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وإذ قال إبراهيم الآية، دعا إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم بمكة بالأمن ورغد
العيش، واجعل لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء، وآمناً معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلاث التي تحل بالبلاد.
وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء فيه ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره، ونبتت فيها أنواع الثمرات.
وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل صلوات الله عليه فاقتلع فلسطين، وقيل قطعة من الأردن فطاف بها حول البيت سبعا وأنزلها بوجّ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف.
واختلف في تحريم مكة متى كان؟ فقالت فرقة: جعلها الله حراما يوم خلق السموات والأرض، وقالت فرقة: حرمها إبراهيم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأول قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح، والثاني قاله أيضا النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عنه: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها حرام»، ولا تعارض بين الحديثين، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه، ومن بدل من قوله أهله، وخص إبراهيم المؤمنين بدعائه.
وقوله تعالى: ومن كفر الآية قال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما: هذا القول من الله عز وجل لإبراهيم، وقرؤوا «فأمتّعه» بضم الهمزة وفتح الميم وشد التاء، «ثم اضطرّه» بقطع الألف وضم الراء، وكذلك قرأ السبعة حاشا ابن عامر، فإنه قرأ «فأمتعه» بضم الهمزة وسكون الميم وتخفيف التاء، «ثمّ أضطرّه» بقطع الألف، وقرأ يحيى بن وثاب «فأمتعه» كما قرأ ابن عامر «ثم اضطره» بكسر الهمزة على لغة قريش في قولهم لا إخال، وقرأ أبي بن كعب «فنمتعه» «ثم نضطره»، ومن شرط والجواب في فأمتّعه، وموضع من رفع على الابتداء والخبر، ويصح أن يكون موضعها نصبا على تقدير وأرزق من كفر، فلا تكون شرطا.
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هذا القول هو من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقرؤوا «فأمتعه» بفتح الهمزة وسكون الميم «ثم اضطره» بوصل الألف وفتح الراء، وقرئت بالكسر، ويجوز فيها الضم، وقرأ ابن محيصن «ثم اطّره» بإدغام الضاد في الطاء، وقرأ يزيد بن أبي حبيب «ثم اضطره» بضم الطاء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين.
وقليلًا معناه مدة العمر، لأن متاع الدنيا قليل، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال: متاعا قليلا، وإما لزمان، كأنه قال: وقتا قليلا أو زمنا قليلا، والمصير مفعل كموضع من صار يصير، و «بيس» أصلها بئس، وقد تقدمت في «بئسما»، وأمتعه معناه أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلا، لأنه فان منقض، وأصل المتاع الزاد، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله، قال الشاعر [سليمان بن عبد الملك]: [الطويل]
وقفت على قبر غريب بقفرة = متاع قليل من حبيب مفارق
ومنه تمتيع الزوجات، ويضطر الله الكافر إلى النار جزاء على كفره). [المحرر الوجيز: 1/346-349]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلدًا آمنًا وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر}
قال الإمام أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهدي، حدّثنا سفيان، عن أبي الزّبير، عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«إنّ إبراهيم حرّم بيت اللّه وأمّنه وإنّي حرّمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها».
وهكذا رواه النّسائيّ، عن محمّد بن بشّارٍ عن بندار به.
وأخرجه مسلمٌ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو النّاقد، كلاهما عن أبي أحمد الزّبيريّ، عن سفيان الثّوريّ.
وقال ابن جريرٍ -أيضًا-: حدّثنا أبو كريب وأبو السّائب قالا حدّثنا ابن إدريس، وحدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا عبد الرّحيم الرّازيّ، قالا جميعًا: سمعنا أشعث عن نافعٍ عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«إنّ إبراهيم كان عبد اللّه وخليله وإنّي عبد اللّه ورسوله وإنّ إبراهيم حرّم مكّة وإنّي حرّمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، لا يحمل فيها سلاحٌ لقتالٍ، ولا يقطع منها شجرةً إلّا لعلف بعيرٍ».
وهذه الطّريق غريبةٌ، ليست في شيءٍ من الكتب السّتّة، وأصل الحديث في صحيح مسلمٍ من وجهٍ آخر، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: كان النّاس إذا رأوا أول الثمر، جاؤوا به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإذا أخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «اللّهمّ بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدّنا، اللّهمّ إنّ إبراهيم عبدك وخليلك ونبيّك، وإنّي عبدك ونبيّك وإنّه دعاك لمكّة وإنّي أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكّة ومثله معه» ثمّ يدعو أصغر وليدٍ له، فيعطيه ذلك الثّمر. وفي لفظٍ: "بركةً مع بركةٍ" ثمّ يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. لفظ مسلمٍ.
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا قتيبة بن سعيدٍ، حدّثنا بكر بن مضرٍ، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمّدٍ، عن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«إنّ إبراهيم حرّم مكّة، وإنّي أحرّم ما بين لابتيها».
انفرد بإخراجه مسلمٌ، فرواه عن قتيبة، عن بكر بن مضرٍ، به. ولفظه كلفظه سواء. وفي الصّحيحين عن أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأبي طلحة:
«التمس لي غلامًا من غلمانكم يخدمني» فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كلّما نزل. وقال في الحديث: ثمّ أقبل حتّى إذا بدا له أحد قال: «هذا جبلٌ يحبّنا ونحبّه». فلمّا أشرف على المدينة قال:«اللّهمّ إنّي أحرّم ما بين جبليها، مثلما حرّم به إبراهيم مكّة، اللّهمّ بارك لهم في مدّهم وصاعهم». وفي لفظٍ لهما: "اللّهمّ بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدّهم". زاد البخاريّ: يعني: أهل المدينة.
ولهما أيضًا عن أنسٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«اللّهمّ اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكّة من البركة» وعن عبد اللّه بن زيد بن عاصمٍ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم: «إن إبراهيم حرّم مكّة ودعا لها، وحرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة، ودعوت لها في مدّها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكّة».
رواه البخاريّ وهذا لفظه، ومسلمٌ ولفظه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إنّ إبراهيم حرّم مكّة ودعا لأهلها. وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة، وإنّي دعوت لها في صاعها ومدّها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكّة».
وعن أبي سعيدٍ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«اللّهمّ إنّ إبراهيم حرّم مكّة فجعلها حرامًا، وإنّي حرّمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها، لا يهراق فيها دمٌ، ولا يحمل فيها سلاحٌ لقتالٍ، ولا يخبط فيها شجرةٌ إلّا لعلفٍ. اللّهمّ بارك لنا في مدينتنا، اللّهمّ بارك لنا في صاعنا، اللّهمّ بارك لنا في مدّنا، اللّهمّ اجعل مع البركة بركتين». الحديث رواه مسلمٌ.
والأحاديث في تحريم المدينة كثيرةٌ، وإنّما أوردنا منها ما هو متعلّقٌ بتحريم إبراهيم، عليه السّلام، لمكّة، لما في ذلك في مطابقة الآية الكريمة.
وتمسّك بها من ذهب إلى أنّ تحريم مكّة إنّما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل: إنّها محرّمةٌ منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى.
وقد وردت أحاديث أخر تدلّ على أنّ اللّه تعالى حرّم مكة قبل خلق السموات والأرض، كما جاء في الصّحيحين، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة:
«إنّ هذا البلد حرّمه اللّه يوم خلق السّموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة اللّه إلى يوم القيامة. وإنّه لم يحل القتال فيه لأحدٍ قبلي، ولم يحلّ لي إلّا ساعة من نهار، فهو حرامٌ بحرمة اللّه إلى يوم القيامة. لا يعضد شوكه ولا ينفّر صيده، ولا تلتقط لقطته إلّا من عرّفها، ولا يختلى خلاها» فقال العبّاس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال: «إلّا الإذخر» وهذا لفظ مسلمٍ.
ولهما عن أبي هريرة نحوٌ من ذلك.
ثمّ قال البخاريّ بعد ذلك: قال أبان بن صالحٍ، عن الحسن بن مسلمٍ، عن صفيّة بنت شيبة: سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، مثله.
وهذا الذي علّقه البخاريّ رواه الإمام أبو عبد اللّه بن ماجه، عن محمّد بن عبد اللّه بن نمير، عن يونس بن بكير، عن محمّد بن إسحاق، عن أبان بن صالحٍ، عن الحسن بن مسلم بن ينّاق، عن صفيّة بنت شيبة، قالت: سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يخطب عام الفتح، فقال:
«يا أيّها النّاس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها ولا ينفّر صيدها، ولا يأخذ لقطتها إلّا منشد» فقال العبّاس: إلّا الإذخر؛ فإنّه للبيوت والقبور. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:«إلّا الإذخر».
وعن أبي شريح العدوي أنّه قال لعمرو بن سعيد -وهو يبعث البعوث إلى مكّة -: ائذن لي -أيّها الأمير -أن أحدثك قولًا قام به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلّم به، إنّه حمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: "إنّ مكّة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئٍ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقولوا: إنّ اللّه أذن لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يأذن لكم. وإنّما أذن لي فيها ساعةً من نهارٍ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلّغ الشاهد الغائب". فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريحٍ، إنّ الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدمٍ، ولا فارًّا بخربة.
رواه البخاريّ ومسلمٌ، وهذا لفظه.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدّالّة على أنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السموات والأرض، وبين الأحاديث الدّالّة على أنّ إبراهيم، عليه السّلام، حرّمها؛ لأنّ إبراهيم بلّغ عن اللّه حكمه فيها وتحريمه إيّاها، وأنّها لم تزل بلدًا حرامًا عند اللّه قبل بناء إبراهيم، عليه السّلام، لها، كما أنّه قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكتوبًا عند اللّه خاتم النّبيّين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم، عليه السّلام: {ربّنا وابعث فيهم رسولا منهم} وقد أجاب اللّه دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، أخبرنا عن بدء أمرك. فقال:
«دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أمّي كأنّه خرج منها نور أضاء ت له قصور الشّام».
أي: أخبرنا عن بدء ظهور أمرك. كما سيأتي قريبًا، إن شاء اللّه.
وأمّا مسألة تفضيل مكّة على المدينة، كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكّة، كما هو مذهب مالكٍ وأتباعه، فتذكر في موضعٍ آخر بأدلّتها، إن شاء اللّه، وبه الثّقة.
وقوله: تعالى إخبارًا عن الخليل أنّه قال: {ربّ اجعل هذا بلدًا آمنًا} أي: من الخوف، لا يرعب أهله، وقد فعل اللّه ذلك شرعًا وقدرًا. كقوله تعالى {ومن دخله كان آمنًا}[آل عمران: 97] وقوله {أولم يروا أنّا جعلنا حرمًا آمنًا ويتخطّف النّاس من حولهم}[العنكبوت: 67] إلى غير ذلك من الآيات. وقد تقدّمت الأحاديث في تحريم القتال فيها. وفي صحيح مسلمٍ عن جابرٍ: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "لا يحلّ لأحدٍ أن يحمل بمكّة السّلاح". وقال في هذه السّورة: {ربّ اجعل هذا بلدًا آمنًا} أي: اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا، وناسب هذا؛ لأنّه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلدًا آمنًا}[إبراهيم: 35] وناسب هذا هناك لأنّه، واللّه أعلم، كأنّه وقع دعاءً ثانيًا بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنًّا من إسماعيل بثلاث عشرة سنةٍ؛ ولهذا قال في آخر الدّعاء: {الحمد للّه الّذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إنّ ربّي لسميع الدّعاء}[إبراهيم: 39]
وقوله تعالى: {وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتّعه قليلا ثمّ أضطرّه إلى عذاب النّار وبئس المصير}
قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ: {قال ومن كفر فأمتّعه قليلًا ثمّ أضطرّه إلى عذاب النّار وبئس المصير} قال: هو قول اللّه تعالى. وهذا قول مجاهدٍ وعكرمة وهو الذي صوّبه ابن جريرٍ، رحمه اللّه تعالى: قال: وقرأ آخرون: {قال ومن كفر فأمتّعه قليلا ثمّ أضطرّه إلى عذاب النّار وبئس المصير} فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية قال: كان ابن عبّاسٍ يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربّه أنّ من كفر فأمتّعه قليلًا.
وقال أبو جعفرٍ، عن ليث بن أبي سليمٍ، عن مجاهدٍ: {ومن كفر فأمتّعه قليلا} يقول: ومن كفر فأرزقه أيضًا {ثمّ أضطرّه إلى عذاب النّار وبئس المصير}
وقال محمّد بن إسحاق: لمّا عزل إبراهيم، عليه السّلام، الدّعوة عمّن أبى اللّه أن يجعل له الولاية -انقطاعًا إلى اللّه ومحبّته، وفراقًا لمن خالف أمره، وإن كانوا من ذرّيّته، حين عرف أنّه كائنٌ منهم أنّه ظالمٌ ألّا يناله عهده، بخبر اللّه له بذلك -قال اللّه: ومن كفر فإنّي أرزق البرّ والفاجر وأمتّعه قليلًا.
وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخرّاط، عن عمّار الدّهني، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {ربّ اجعل هذا بلدًا آمنًا وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر} قال ابن عبّاسٍ:
«كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون النّاس، فأنزل اللّه ومن كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقًا لا أرزقهم؟! أمتّعهم قليلًا ثمّ أضطرّهم إلى عذاب النّار وبئس المصير». ثمّ قرأ ابن عبّاسٍ: {كلا نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظورًا} [الإسراء: 20]. رواه ابن مردويه. وروي عن عكرمة ومجاهدٍ نحو ذلك أيضًا. وهذا كقوله تعالى: {إنّ الّذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون* متاعٌ في الدّنيا ثمّ إلينا مرجعهم ثمّ نذيقهم العذاب الشّديد بما كانوا يكفرون}[يونس: 69، 70]، وقوله تعالى: {ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبّئهم بما عملوا إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور* نمتّعهم قليلا ثمّ نضطرّهم إلى عذابٍ غليظٍ}[لقمان: 23، 24]، وقوله: {ولولا أن يكون النّاس أمّةً واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرّحمن لبيوتهم سقفًا من فضّةٍ ومعارج عليها يظهرون* ولبيوتهم أبوابًا وسررًا عليها يتّكئون* وزخرفًا وإن كلّ ذلك لمّا متاع الحياة الدّنيا والآخرة عند ربّك للمتّقين}[الزّخرف: 33، 35]
وقوله {ثمّ أضطرّه إلى عذاب النّار وبئس المصير} أي: ثمّ ألجئه بعد متاعه في الدّنيا وبسطنا عليه من ظلّها إلى عذاب النّار وبئس المصير. ومعناه: أنّ اللّه تعالى ينظرهم ويمهلهم ثمّ يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدرٍ، كقوله تعالى: {وكأيّن من قريةٍ أمليت لها وهي ظالمةٌ ثمّ أخذتها وإليّ المصير} [الحجّ: 48]، وفي الصّحيحين:
«لا أحد أصبر على أذًى سمعه من اللّه؛ إنّهم يجعلون له ولدًا، وهو يرزقهم ويعافيهم» وفي الصّحيح أيضًا: «إنّ اللّه ليملي للظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلته». ثمّ قرأ قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ إنّ أخذه أليمٌ شديدٌ} [هودٍ: 102]). [تفسير ابن كثير: 1/422-426]


* للاستزادة ينظر: هنا