17 Aug 2020
الدرس السادس عشر: الشرط والجزاء
عناصر الدرس:
● تمهيد.
● أنواع أدوات الشرط.
● حروف الشرط.
● أسماء الشرط.
● أنواع جملة الشرط وجملة جواب الشرط.
● أحوال جواب الشرط.
● رفع جواب الشرط.
● روابط جواب الشرط.
● دخول الشرط على الشرط.
● حذف جملة الشرط.
● العطف على جواب الشرط.
● المعاني البيانية للشرط في القرآن.
● أمثلة على دراسة مسائل الشرط في التفسير.
- المثال الأول: جواب الشرط في قول الله تعالى: {ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه}.
- المثال الثاني: جواب الشرط في قول الله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى}.
- المثال الثالث: معنى الشرط في قول الله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوَّل العابدين}.
● أمثلة من أقوال المفسرين.
- قال الله تعالى: { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)}.
- قال الله تعالى: {فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان}.
-
قال الله تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار
ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون
الله فقل أفلا تتقون (31)}.
● تطبيقات الدرس السادس عشر.
تمهيد
أسلوب الشرط من الأساليب التي تكررت كثيراً في القرآن
الكريم، وتعددت أغراضه البيانية، واشتملت مواضعه في القرآن على لطائف
بديعة، وفوائد عجيبة، تفتح للمفسّر باباً عظيم النفع في استخراج المعاني
والأوجه التفسيرية.
وأحبّ أن أنبّه إلى أنّ دراسة هذا الباب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقراءات والإعراب؛ ومعرفة القواعد النحوية في هذا الباب.
فلذلك ينبغي لدارس التفسير البياني أن يكون حسن العناية بهذه العلوم.
وحقيقة الشرط هي ترتيب جملة على جملة بأداة تفيد هذا الترتّب والتعليق؛
تسمى إحداهما جملة الشرط، والأخرى جواب الشرط، وتسمّى الأداة أداة الشرط.
وَتَعَلُّق جملة جواب الشرط بجملة فعل الشرط كتعلّق الخبر بالمبتدأ؛ لا يتمّ المعنى إلا بهما ذكراً أو تقديراً.
ففي قولك: إن تأتني أكرمْك.
"إن" أداة شرط.
و"تأتني" فعل الشرط.
و"أكرمْك" جواب الشرط.
فأفاد هذا التركيب تعليق الإكرام بالإتيان، ولو حذف جواب الشرط هنا لبقي الكلام غير تامّ يتطلَّب جزءاً يتمّ به.
وفي قول الله تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا}
{إن} أداة شرط.
{تطيعوه} فعل الشرط، مجزوم بحذف النون.
{وتهتدوا} جواب الشرط مجزوم بحذف النون.
فأفاد هذا التركيب تعليق الاهتداء بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وأنّ من لم يطع الرسول فليس بمهتدٍ.
فهذا هو الأصل في معنى الشرط، إلا أنّ الشرط قد يأتي لأغراض متعددة يتوصّل بها إلى معانٍ بيانية كثيرة.
ويتركّب من دلالات أدوات الشرط، وأغراض الشرط، وتراكيب جُملتي الشرط
وجواب الشرط، والصيغ الصرفية لمفرداتهما أنواع كثيرة من الدلالات واللطائف
البيانية.
أما دلالات الصيغ الصرفية للأسماء والأفعال فقد تقدّم الحديث عنها؛
وينبغي للدارس أن يستصحب في هذا الدرس ما درسه من تلك الدلالات.
وأما بقية المباحث فسيكون تفصيلها في هذا الدرس، والله المستعان وبه التوفيق.
أنواع أدوات الشرط
وللشرط أدوات بعضها حروف وبعضها أسماء:
فحروف الشرط: "إنْ"، و"إمَّا"، و"أمّا"، و"لمّا"، و"لو"، و"لولا"، و"لوما"، و"إذما".
وأسماء الشرط: "إذا"، و"مَن"، و"مَا"، و"مهما"، و"متى"، و"كيف"، و"أين"، و"أنَّى"، و"أيان"، و"أيّ"، و"حيثما".
ومنها أدوات شرط جازمة للفعل المضارع، وأدوات شرط غير جازمة.
حروف الشرط:
1: "إنْ"
وهي أصل أدوات الشرط الجازمة، وبها تفسّر كثير منها، وتختصّ بدخولها على الاسم المرفوع الذي بعده فعلٌ يفسّره، كما في قول تعالى: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره}، وقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}.
- وتدخل على الفعل الماضي كما في قول الله تعالى: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه}.
- وتدخل على الفعل المضارع فتجزمه، كما في قول الله تعالى: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء}.
وتستعمل "إن" غالباً لما يقلّ وقوعه أو يُشكّ فيه، أو يُنزّل منزلته، بخلاف "إذا" التي تُستعمل غالباً لما يكثر وقوعه أو يُتوقّع أو يُنزّل منزلته، وقد اجتمعا في قول الله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو رُكباناً فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون}.
فالخوف حالة عارضة، والأمن أكثر؛ وفي الآية لطيفة أخرى، وهي تعظيم الرجاء لمن ابتلي بالخوف بأن يتوقّع الأمن؛ وذلك في قوله تعالى: {فإذا أمنتم} فنزّل الأمن منزلة الأمر القادم المتوقّع وقوعه.
وفرّق بينهما أيضاً في قول الله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى
مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا
أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
وقوله تعالى: {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون}.
وقوله تعالى: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه}.
وقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف}.
وقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ
كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ
عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)}.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ
أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا}.
وقد تُستعمل "إن" فيما هو متحقق الوقوع لعلّة؛ كإبهام الزمان نحو ما في قول الله تعالى: {أفإن متّ فهم الخالدون}، وقوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}.
2: "إمَّا" الشرطية
وهي مركَّبة من "إن" و"ما"، كما في قول الله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)} وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}.
و"لإمَّا" معانٍ أخر خارجة عن معنى الشرط، وأصل معانيها التفصيل كما في قول الله تعالى: {قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)} وقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}.
3: "أمّا"
وتُسمّى "التفصيلية"، وهي حرف شرط يتطلّب جزاءً، كما في قول الله تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} ، وقوله تعالى: {فأما الّذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم}.
و"الفاء" لازمة في جوابها ذكراً كما في المثالين السابقين، أو تقديراً كما في قول الله تعالى: {فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم} أي: فيقال لهم: أكفرتم.
وفي قول الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} أي: فيقال لهم: ألم تكن آياتي تتلى عليكم، فانتقلت "الفاء" إلى صدر جملة مقول القول، وتقدّمتها "همزة" الاستفهام لاستحقاقها الصدارة في الجملة.
وهذا التقدير أولى من تقدير من قدّرها من النحاة بقوله: فألم.
وقد تجتمع مع "أمّا" أداة شرط أخرى؛ فيكون جواب الشرط جواب "أمّا".
- فمن ذلك اجتماعها مع "إن" كما في قول الله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ}
- واجتماعها مع "إذا" كما في قول الله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}
- واجتماعها مع "مَنْ" كما في قول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ}
- واجتماعها مع "ما" كما في قول الله تعالى: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}
والجواب في كلّ هذه المواضع جواب "أمّا" لأنها أسبق ولوجوب اقتران جوابها "بالفاء".
والأصل في "أما" أن تكرَّر لإفادتها التفصيل، والتفصيل يقتضي مفصولين أو أكثر، كما في قول الله تعالى: {كَذَّبَتْ
ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا
بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ
عَاتِيَةٍ (6)}.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}.
وقد يُكتفى بذكر مفصول واحدٍ لظهور تقدير المفصول الآخر كما في قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ
وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}.
4: "لمّا" الحينية
وهي مختصّة بالماضي، وتأتي على نوعين:
أ: متمحضة للظرفية لا تستدعي جواباً، كما في قول الله تعالى: {فقد كذبوا بالحقّ لما جاءهم}، وقوله تعالى: {وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا}، وقوله تعالى: {قال موسى أتقولون للحقّ لما جاءكم أسحر هذا}.
ب: حرف وجود لوجود، فتستدعي جواباً، وفيها معنى الظرف، ولذلك يختلف المعربون في إعرابها، وأكثر ما يكون جوابها:
- فعلاً ماضيا كما في قول الله تعالى: {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم} وقوله تعالى: {فلمّا آسفونا انتقمنا منهم}، وقوله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}.
- أو جملة اسمية مقرونة "بإذا" الفجائية كما في قول الله تعالى: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}.
- أو شبه جملة مقرونة "بالفاء" كما في قول الله تعالى: {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد}.
- وقد يأتي جوابها فعلاً مضارعاً كما في قول الله تعالى: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط} ، وهو مؤوَّل عند النحاة بـ"جادلنا" أو "أخذ يجادلنا"، والثاني أرجح لدلالته على تكرار المجادلة منهم طمعاً في هدايتهم.
وقد يُحذف جواب "لمَّا" كما في قول الله تعالى: {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجبّ وأوحينا إليه لتنبئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون}، وقوله تعالى: {فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم }.
وكذلك قوله تعالى: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء} جملة {ما كان يغني عنهم} اعتراضية وليست جواب "لمّا".
وقد تأتي "لمّا" نافية جازمة للفعل المضارع فلا تستدعي جواباً، كما في قول الله تعالى: {كلا لما يقض ما أمره} وقوله تعالى: {بل لما يذوقوا عذاب}.
والفرق بينها وبين "لم" أنَّ "لم" تفيد مطلق النفي، و"لما" تفيد النفي إلى وقت التكلّم مع توقع قوع الفعل بعده.
تقول: قمتُ و"لم" يقم زيد؛ فأثبتّ قيامك ونفيت قيام زيد.
وتقول: قمتُ و"لمَّا" يقم زيد، فأثبتَّ قيامك ونفيت قيام زيد إلى وقت التكلّم، وأنت تتوقع أن يقوم بعد ذلك.
قال الله تعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، فنفى دخول الإيمان في قلوبهم إلى الحال، مع إطماعهم بدخوله بعد ذلك.
- وقد تأتي "لمّا" بمعنى "إلا" كما في قول الله تعالى: {وإنّ كلا لمّا ليوفينّهم ربك أعمالهم} وقوله تعالى: {وإن كل لمّا جميع لدينا محضرون}.
ويدل لمجيء "لمّا" بمعنى "إلا" قراءة ابن مسعود رضي الله عنه فيما ذكره الفراء [ وإنَّ كلنا لمّا له مقام معلوم ] والقراءة المتواترة: {وما منا إلا له مقام معلوم}.
5: "لو"
وهي حرف يأتي لمعانٍ منها: الشرط، والامتناع، والتمنّي، والتقليل، والتأكيد.
وقد تجتمع بعض هذه المعاني في بعض الأمثلة.
أ: فالشرط، كما في قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وقوله تعالى: {ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به} وقوله تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم}.
وقد تأتي "لو" شرطية للشرط المستبعد وقوعه والمؤكد عدم وقوعه، كما في قول الله تعالى: {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} وقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}
ب: ومعنى الامتناع وقع في تحريره خلاف بين النحاة، والجاري على ألسنة كثير منهم أنَّ "لو" حرف امتناع لامتناع، وهذا إنما يصحّ باعتبار الأصل، وهو أن تدخل على جملتين مثبتتين، كقول قائل: "لو" قام زيد لقمت؛ فامتنع قيامه لامتناع قيام زيد.
أما إذا دخلت "لو" على جملتين منفيتين أو إحداهما منفية فلا تفيد امتناعاً لامتناع، وذلك كما في قول الله تعالى: {وَلَوْ
أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ
مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}.
وتفصيل أقوال النحاة في هذه المسألة يطول به المقام، لكن الخلاصة المُفهمة أن دخول "لو" على جواب منفي يقع على معنيين:
أحدهما: تأكيد النفي، كما في الآيتين السابقتين، وكما في قول القائل: "لن" أعفو عن فلان، و"لو" شفع فيه الأمير ما عفوت عنه.
فهذا الاستعمال يفيد تأكيد النفي، ولا يصحّ أن تعتبر فيه "لو" حرف امتناع لامتناع.
والآخر: بيان السببية، كما "لو" قلتَ: قمتُ و"لو" قام زيد لم أقم.
فـ "لو" هنا حرف وجود لامتناع؛ فحصل قيامك لامتناع قيام زيد.
ج- وتأتي "لو" للتمنّي كما في قول الله تعالى: {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم}.
د- وتأتي "لو" مصدرية بمعنى "أن" المصدرية كما في قول الله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة}، أي: "أن" يُعمَّر، وقوله تعالى: {وودوا لو تكفرون} أي: "أن" تكفروا.
وهي مُشْربة معنى التمني.
ه- وتأتي للتأكيد، كما في قول الله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}، وقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، وقوله تعالى: {ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت}.
و- وتأتي للتقليل، كما في الحديث: (( اتقوا النار ولو بشقّ تمرة )) ، وحديث: (( أولِمْ ولو بشاة )).
وقد يُحذف جواب "لو" كما في قول الله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا}، وقوله تعالى: {قال لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد}.
6: "لولا"
وتأتي لمعنيين: الامتناع والتحضيض.
أ- فأما "لولا" الامتناعية؛ فتستدعي جواباً، ولذلك كان فيها شوب معنى الشرط، فألحقت بأدوات الشرط، وهي حرف امتناع لوجود، كما في قول الله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)}.
وقد يُحذف جواب "لولا" كما في قول الله تعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}.
ب- وأما "لولا" التحضيضية فلا تستدعي جواباً، وإنما يُفهم منها معنى التحضيض حقيقة أو تهكّماً أو توبيخاً أو عتاباً.
فمن الأول: قول الله تعالى: {لولا تستغفرون الله لعلكم تُرحمون} وقوله تعالى: {نحن خلقناكم فلولا تصدّقون}.
ومن الثاني: قول الله تعالى: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة}.
ومن الثالث: قول الله تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت}.
ومن الرابع: قول الله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً}، وقوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
فهذه الأمثلة وما قاربها الأصل فيها التحضيض إلا أنها تُفسّر في كل موضع بما يناسبها.
وقد اجتمعت "لولا" الامتناعية و"لولا" التحضيضية في قول الله تعالى: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا}.
7: "لوما"
وهي مثل "لولا" تأتي لمعنيين: الامتناع والتحضيض.
أ: فالامتناع يستدعي جواباً ولذلك ألحق بأدوات الشرط، ومثاله قول القائل: "لوما زيد لأكرمتك"، ولم تأت في القرآن الكريم بهذا المعنى.
ب: والتحضيض، كما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا
يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
(7)}
8: "إذ لم"، و"إذ ما"
أما "إذ لم" فقد وردت بمعنى الشرط في قول الله تعالى: {
فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
وقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)}.
وقوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)}.
وأما "إذما" فهي حرف شرط مركّب من "إذ" و"ما"، ولم يرد في القرآن الكريم، واستشهد له سيبويه بقول عباس بن مرداس رضي الله عنه:
إذما مررْتَ على الرسولِ فقُلْ له ... حقاً عليك إذا اطمأنّ المجلسُ
يا خيرَ من ركب المطيَّ وَمَن مشى ... فوقَ التراب إذا تعَدُّ الأنفسُ
"فقل له" جواب "إذما".
- قال المبرّد: (ولا يكون الجزاء في "إذ" ولا في "حيث" بغير "ما" لأنهما ظرفان يضافان إلى الأفعال، وإذا زدت على كل واحد منهما "ما" مُنعتا الإضافة فعَمِلَتا)ا.هـ.
أسماء الشرط:
1: "إذا" الشرطية
وذلك أن "إذا" تأتي لمعانٍ منها: الشرطية، والظرفية، والفجائية.
أ: فـأما "إذا" الفجائية، فكما في قول الله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} وقوله تعالى: {ثمّ إذا أنتم بشر تنتشرون}، وقوله تعالى: {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين}.
وقد اختلف النحاة في حرفيّتها واسميّتها على أقوال لخّصها ابنُ أمّ قاسم المرادي بقوله: (اختلف النحويون في "إذا" الفجائية، على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها ظرف زمان، وهو مذهب الزجاج، والرياشي، واختاره ابن طاهر، وابن خروف، ونُسب إلى المبرد.
قيل: وهو ظاهر كلام سيبويه.
والثاني: أنها ظرف مكان، وهو مذهب المبرّد، والفارسي، وابن جنّي، ونُسب إلى سيبويه.
واستدل القائلون بأنها ظرف مكان بوقوعها خبراً عن الجثة، في نحو: "خرجت "فإذا" زيد".
وأجاب الأولون بأنه على حذف مضاف، أي: حضور زيد.
والثالث: أنها حرف، وهو مذهب الكوفيين، وحكي عن الأخفش، واختاره الشلوبين في أحد قوليه، وإليه ذهب ابن مالك)ا.هـ.
ب: وأما "إذا" الظرفية و"إذا" الشرطية فاسمان منصوبان.
- فالظرفية كما في قول الله تعالى: {والليل إذا يغشى} وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} وهي مختصّة بالجملة الفعلية عند جمهور النحاة.
- والشرطية كما في قول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}.
- وقد يجتمع في "إذا" معنى الظرفية والشرطية كما في قول الله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه}.
وقد يُحذف جواب "إذا" الشرطية كما في قول الله تعالى: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم}، وقوله تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون}.
والأصل في "إذا" الشرطية أن تدخل على الفعل الماضي كما في قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح}.
أو المضارع كما في قول الله تعالى: {وإذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به} وقوله تعالى: {إذا يُتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا}.
وقد اختلف في توجيه دخولها على الأسماء كما في قول الله تعالى: {إذا السماء انشقّت}.
فمذهب جمهور النحاة أن الفعل مقدّر، والاسم فاعل لهذا الفعل المقدّر.
وإذا دخلت "إذا" الشرطية على مبتدأ وخبر كان ذلك على إضمار "كان" الشأنية، كما في قول الفرزدق:
إذا باهلي تحته حنظلية ... له ولد منها فذاك المذرَّع
المذرَّع الذي أمّه أشرف من أبيه. متى تأتنا أصبحت كأساً رويّة ... وإن تك عنها ذا غنى فاغْنَ وازدد نُفاثِيّةٌ أيّان ما شاءَ أهلُها ... رأَوا فُوقَها في الخُصِّ لمَ يتَغيّب
- قال المبرّد: (وإنما سمّي مذرَّعا للرّقمتين في ذراع البغل، وإنما صارتا فيه من ناحية الحمار).
ومن أمثال العرب: قيل من أبوك يا بغل؟ قال: خالي الفرَس.
2: "مَن" الشرطية
كما في قول الله تعالى: {من يعمل سوءً يُجزَ به}
- وتأتي "مَن" استفهامية كما في قول الله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}.
- وتأتي موصولة كما في قول الله تعالى:{فَمِنَ
النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي
الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار} وقوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا مَن رحم ربك}.
- وقد تأتي محتملة للاستفهامية والموصولة كما في قول الله تعالى: {فستعلمون من أصحاب الصراط السويّ ومن اهتدى}، وقوله تعالى: {قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين}، ويكثر ذلك في "مَن" الواقعة بعد ألفاظ العِلم.
- وتأتي محتملة للشرطية والموصولة كما في قول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وقوله تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ}، وقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم}، وقوله تعالى: {قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار}.
وقد يعتمد تحرير معنى "مَن" على تعيين الأسلوب الذي وردت فيه، كما في قول الله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا}.
إذا اعتبرت الاستثناء متصلاً كانت "مَن" موصولة، والمعنى: إلا الذين ارتضاهم "من" رسله.
وإذا اعتبرت الاستثناء منقطعاً كانت "مَن" شرطية، أي: ولكن "مَن" ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا؛ فتكون جملة {فإنه يسلك}
جواباً للشرط، والجملة التي قبلها تامة لا يُستثنى منها أحد، ويفسّر الغيب
بما لا يعلمه إلا الله؛ أو باعتبار الأصل قبل إطْلاع أحد عليه، أو بتفسير
الإظهار تفسيراً يختص بالله تعالى.
وكذلك تحرير معنى "مَن" في قول الله تعالى: {فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة}.
3: "ما" الشرطية
كما في قول الله تعالى: {وما تفعلوا من خير يعلمْه الله}، وقوله تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}.
وقد تأتي "ما" محتملة للشرطية والموصولة كما في قول الله تعالى: {وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً} وقوله تعالى: {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين}، وقوله تعالى: {فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ}، وقوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}.
وتأتي "ما" لمعانٍ أخرى كثيرة منها: النافية، والاستفهامية، والموصولة، والمصدرية، والظرفية، والتعجبية، والنكرة الموصوفة، والزائدة.
4: "مهما"
وهي اسم من أسماء الشرط مجرّد عن الظرفية، وقد أتت في موضع واحد في القرآن، في قوله تعالى: {وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين}، جملة {فما نحن لك بمؤمنين} جواب الشرط.
5: "متى" الشرطية
كما في قول طرفة بن العبد:
6: "كيف" الشرطية
وهي أداة شرط غير جازمة، والأصل فيها أن يكون جوابها مثل فعلها، كما يقال: "كيف" تصنع أصنع.
ويجوز حذف جوابها كما في قول الله تعالى: {يصوركم في الأرحام كيف يشاء} والتقدير: "كيف" يشاء أن يصورّكم صوركم، وقوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان يُنفق كيف يشاء}، والتقدير: "كيف" يشاء أن ينفق أنفق.
وتأتي "كيف" استفهامية، وقد يخرج المعنى عن الاستفهام الحقيقي إلى التعجب والتوبيخ والتشنيع وغيرها.
7: "أين"
"أين" الشرطية لم تقع في القرآن، ومثّل لها جماعة من النحاة بقول القائل: "أين" تكن أكن.
وأكثر ما تكون "أين" استفهامية في محل نصب على الظرفية المكانية.
8: "أينما"
"أينما" وردت في القرآن بمعنى الشرط كما في قول الله تعالى: {أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً} وقوله تعالى: {أينما تكونوا يدركّم الموت}، وقوله تعالى: {أينما يوجّهه لا يأت بخير}.
وقد يُحذف الجواب لدلالة ما قبلها عليه كما في قول الله تعالى: {وجعلني مباركاً أينما كنت} وقوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا}.
9: "أنَّى"
وهي طرف مكان، وقد وردت شرطية في قوله تعالى: {فأتوا حرثكم أنّى شئتم} وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه.
وسائر مواضعها في القرآن استفهامية بمعنى "كيف" أو "من" "أين"، ويأتي الاستفهام بها للاستبعاد أو الاستغراب أو الإنكار أو التوبيخ أو التعجب.
10: "أيان"
وهي ظرف بمعنى "متى" و"أين"، وتفارقهما في أمور:
- منها: أنها تختص بالمستقبل.
- ومنها: أنه لا يقع بعدها فعل ماضٍ.
- ومنها: أنها تختص بالاستعمال في الأمور ذات الشأن.
قال تعالى: {وما يشعرون أيان يبعثون} وقال تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها}
ولم تقع في القرآن بمعنى الشرط، ومن أمثلة استعمالها شرطية قول ساعدة بن جؤيَّة الهذلي:
11: "أيّ" الشرطية
وقد جاءت في موضعين في القرآن متبوعة بما، وذلك في قول الله تعالى: {أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}، وقوله تعالى: {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي}.
وتأتي "أيّ" استفهامية كما في قول الله تعالى: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}، وقوله تعالى: {وإذا الموءودة سئلت بأيّ ذنب قتلت}، وقوله تعالى: {فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيمانا}.
وتأتي موصولة كما في قول الله تعالى: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} على قراءة الرفع.
وتأتي محتملة للاستفهامية والموصولة كما في قول الله تعالى: {يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب}، وقوله تعالى: {فلينظر أيها أزكى طعاما}.
12: "حيثما"
و"حيث" لا تكون أداة شرط إلا إذا اتصلت بـ"ما".
- قال المبرّد: (ولا يكون الجزاء في "إذ" ولا في "حيث" بغير "ما" لأنهما ظرفان يضافان إلى الأفعال، وإذا زدت على كل واحد منهما "ما" مُنعتا الإضافة فعَمِلَتا)ا.هـ.
وقد وردت "حيثما" في موضعين في القرآن هما قول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، وقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.
ومما يلتحق بأدوات الشرط "كلّما" لاستدعائها جواباً كما في قول الله تعالى: {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} ، وقوله تعالى: {كلما أضاء لهم مشوا فيه}.
و"كلّ" فيها مؤكدة لعموم "ما".
أنواع جملة الشرط وجملة جواب الشرط
الأصل أن يكون الشرط وجوابه جملتين فعليتين، ولهما أحوال:
- فقد يكون فعل الشرط ماضياً وجوابه ماضياً كما في قول الله تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم}، وقوله تعالى: {وإذا بطشتم بطشتم جبارين}، وقوله تعالى: {وإن عدتم عدنا}.
- وقد يكون فعل الشرط مضارعاً وجوابه مضارعاً كما في قول الله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت}، وقوله تعالى: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء}، وقوله تعالى: {وإن تعودوا نعد}.
- وقد يكون فعل الشرط ماضياً وجوابه مضارعاً كما في قول الله تعالى: {وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً}، وقوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها}.
- وقد يكون فعل الشرط مضارعاً وجوابه ماضيا كما في قول الله تعالى: {لو نشاء جعلناه أجاجاً}. لكنّه من استعمال صيغة الفعل الماضي في حدث مستقبل لإفادة قوة التحقق.
- وقد تكون جملة جواب الشرط جملة طلبية كما في قول الله تعالى: {فإذا فرغت فانصب}.
- وقد تكون جملة الشرط جملة اسمية مؤوَّلة بفعل كما في قول الله تعالى: {إذا الشمس كورّت} وقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}.
- وقد تكون جملة جواب الشرط جملة اسمية مؤوَّلة بفعل أيضاً، لأن تحقق الجزاء إنما يكون بحدَث؛ كما في قول الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} فالتقدير: يخلفه الله.
أحوال جواب الشرط:
جواب الشرط له أحوال:
1: أن يذكر بعد جملة الشرط، وهذا هو الأصل، كما في قول الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}.
2: أن يتقدم جواب الشرط على جملة الشرط، كما في قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، وقوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا}، وقوله تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيبا} على أحد الوجهين في تفسير الآية، وهو أن يكون {يوماً} مفعول {تتقون}، والوجه الآخر أن يكون {يوماً} مفعول {كفرتم}، أي: كيف تحصل لكم التقوى إن كفرتم بيوم القيامة وأهواله.
وللنحاة مسلكان في هذه الحالة:
أحدهما: القول بتقدّم جواب الشرط.
والآخر: القول بحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدّمه عليه.
3: أن يُحذف جواب الشرط، كما في قول الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} والتقدير: فافعل.
وقوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم}.
وقوله تعالى: {لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} أي: إن شاء أن تدخلوه.
4: أن يقوم دليل الجواب مقام الجواب، كما في قول الله تعالى: {إن تعذبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم}، فكونهم
عباده ليس متعلقاً بفعل الشرط؛ فهم لا يخرجون عن كونهم عباده إن عذبهم وإن
رحمهم، لكنّه دالٌّ على الجواب المحذوف؛ ليقدّر الجواب بكلّ تقديرٍ يوافق
الدليل.
وكذلك قوله تعالى: {فإن تولوا فإنّ الله لا يحبّ الكافرين}، وقوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق فإنّ الله سميع عليم} ، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ
كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}
فحذف
الجواب في هذه المواضع أبلغ، وقد أقيم دليل الجواب ليدلّ عليه، وهذه
الدلالة لها أوجه ، ولذلك يختلف المفسّرون في التقدير، والصواب الجمع بين
التقديرات الصحيحة.
ويستفاد من دليل الجواب أحكام ولطائف بيانية زائدة على دلالة جواب الشرط لو ذُكر.
- فقوله تعالى: {فإنّ الله لا يحبّ الكافرين} يدلّ على أنّ هذا التولّي كفر.
-
وقوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق فإنّ الله سميع عليم} يدلّ على أنّ الطلاق
لا بدّ فيه من لفظٍ يُسمع، وقصدٍ يُعلَم، فلا يقع الطلاق بحديث النفس، ولا
بلفظ لا يريد به المطلّق طلاق زوجته.
-
وقوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غنيّ عن العالمين} فيه بيان أن من جحد أن
لله على الناس حجّ البيت فقد كفر، وأنّ من كفر فإنّه لا يضرّ الله شيئاً
ولا ينقص من ملكه شيء، ولما كانت دعوة الحجّ واجبة ناسب أن ينَصّ على تنزيه
الله تعالى عما يحتاجه ملوك الدنيا إذا أوجبوا على الناس دعوة لحاجة من
حاجاتهم، فالله تعالى لمّا أمر بالحجّ لم يكن أمره إلا عن غنى منه تعالى
وكرم وفضل، فلا يضرّه من كفر بهذه الدعوة ولا من امتنع عنها.
5: أن يسدّ جواب القسم مسدّ جواب الشرط، كما في قول الله تعالى: {وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم}.
- قال ابن مالك في شرح الكافية: (إذا اجتمع شرط وقسم استُغْنِيَ بجواب ما سبق منهما عن جواب الآخر:
فتقديم القسم كقولك: "والله إن أتيتني لأكرمنك".
وتقديم الشرط نحو: "إن تأتني – والله - أكرمك").
- وقال أبو السعادات ابن الأثير: (قد أدخلوا "الّلام" على الجزاء، كقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ}، وأدخلوا عليه "ما" النّافية، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} وأدخلوا عليه "لا" كقوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ}.
وهذه الأجوبة في الحقيقة إنّما هي للقسم الّذي وطّأته "اللّام"، وسدّت مسدّ جواب الشّرط، ومثله قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ})ا.هـ.
رفع جواب الشرط
الأصل في جواب الشرط أن يكون مجزوماً، لكن إذا كان الجواب فعلاً مضارعاً فله أحوال:
الحال الأولى: أن يقترن الفعل المضارع بالفاء؛ فيجب رفعه سواء أكان الفعل مثبتاً أم منفياً.
1- فالمثبت، كما في قول الله تعالى: {ومن كفر فأمتّعُه قليلاً}، وقوله تعالى: {ومن عاد فينتقمُ الله منه}. قرأهما جميع القراء بالرفع في الموضعين.
وقرأ حمزة: [ إن تضلَّ إحداهما فتذكّرُ إحداهما الأخرى ] برفع [فتذكّر] على جواب الشرط لاقترانه بالفاء.
واختلف في تأويل الرفع على قولين:
القول الأول: أنه على تقدير جملة اسمية في جواب الشرط؛ واقتران الجملة الاسمية بالفاء واجب كما تقدّم، فقالوا في جواب الشرط في قوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} : إن تقديره فهو ينتقم الله منه.
والقول الثاني: لا حاجة لهذا التقدير؛ فالاستعمال مطّرد في رفع الفعل المضارع الواقع في جواب الشرط إذا اقترن بالفاء.
2- والمنفي، كما في قول الله تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخافُ بخساً ولا رهقاً}، وقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحلُّ له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره}، وقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله}، وقوله تعالى:{قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا}.
وهذه الفاء الرابطة لجواب الشرط بجملة الشرط تفيد التوكيد.
والحال الثانية: أن يقترن "بلا" النافية من غير "الفاء" ففيه الجزم، كما في قول الله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يُحملْ منه شيء}، وقوله تعالى:{إن يردن الرحمن بضر لا تغنِ عني شفاعتهم شيئا}، وقوله تعالى:{إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم}، وقوله تعالى:{ ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك}، وقوله تعالى:{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.
والحال الثالثة: أن لا يقترن "بالفاء" ولا "لا" النافية؛ فالأكثر فيه الجزم، ويجوز رفعه، كما في قول الله تعالى: {أينما تكونوا يدركّم الموت} قرئ: {يدركّم} بالجزم في المتواتر، وذكر أبو القاسم الهذلي عن طلحة بن سليمان السمّان أنه قرأ: [ يُدركُكُم الموت ] بالرفع.
وقوله تعالى: {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} {نتخطّف} قرئت بالجزم في المتواتر، وذكر أبو القاسم الهذلي عن أبي معمر المنقري أنه قرأها بالرفع.
وقوله تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم كيدهم شيئا}.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو [لا يَضِرْكُم] بالجزم على جواب الشرط.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {لا يضرُّكم} بالضمّ ، واختلف في إعرابه على قولين:
أحدهما: الفعل مجزوم في جواب الشرط، والضمّ إنما هو لأجل الإتباع، فيوافق القراءة السابقة في الإعراب، ويؤيده أنه قرئ في الشواذ بفتح "الراء" لالتقاء الساكنين، وذلك لا يكون إلا على الجزم.
والآخر: الفعل مرفوع على قطع الجواب، والتقدير: فإنه لا يضرّكم.
وفي قول الله تعالى: {وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيدا}.
اختلف في "ما" أهي شرطية أم موصولة.
وعلى القول بشرطيتها اختلف في إعرابها؛ فقيل: مجزومة في جواب الشرط، والضمّة إنما هي للإتباع، وقيل: مرفوعة على حذف "الفاء"، أي: فهي تودُّ.
قال أبو البقاء العكبري: (ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حذف؛ لأن الشرط هنا ماض، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الجزم والرفع).
روابط جواب الشرط:
إذا كان جواب الشرط فعلاً مجزوماً أو كان ارتباط جواب الشرط بجملة الشرط
ظاهراً لم يحتج جواب الشرط إلى رابط ظاهر غير ذلك، كما تقدّم في أمثلة
سابقة.
وإذا لم تفد جملة جواب الشرط الارتباط بجملة فعل الشرط بنفسها احتاجت إلى رابط ظاهر، والرابطان هما: "الفاء"، و"إذا" الفجائية، وقد يجتمعان، ويلتحق بهما: "اللام" و"ما" في جواب الشرط بـ"لو" و"لولا".
1: "الفاء"
وتدخل على جملة جواب الشرط لربطها بجملة الشرط في مواضع نظمها بعضهم بقوله:
أ: فالجملة الاسمية، نحو قول الله تعالى: {من يهد الله فهو المهتدي}، وقوله تعالى: {وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} ، وقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} ، وقوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}.
وقد تحذف "الفاء" كما في قول الله تعالى:{وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}، وقوله تعالى:{إن ترك خيرا الوصية}، وقوله تعالى:[وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم] في قراءة نافع وابن عامر من غير "فاء".
وقد اختلف النحاة في تأويل حذف "الفاء" في هذه المواضع على مذهبين:
المذهب الأول: القول بجواز حذف "الفاء" في الاختيار إذا كان الربط ظاهراً، وهو ظاهر اختيار الأخفش وابن مالك.
والمذهب الثاني: تأويل هذه المواضع بما لا يخالف القاعدة المتقررة.
- فأما قول الله تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}،
فإن جواب القسم قد سدّ مسدّ جواب الشرط، وكذلك كلّ ما اجتمع فيه شرط وقسم
فإنّ جواب القسم يسدّ مسدّ جواب الشرط كما في قول الله تعالى: {وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم}، وقوله تعالى: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}.
- وأما قول الله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف}، فإن "الوصية" نائب فاعل لفعل الشرط، وليست جواب شرط، وجواب الشرط متقدم وهو جملة {كتب عليكم} أو مقدّر بما يوافقها.
- وأما قول الله تعالى: [وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم] في قراءة نافع وابن عامر ففيه وجهان:
أحدهما: أن تكون "ما" موصولة وليست شرطية، فتكون متركبة من مبتدأ وخبر، كما في قول الله تعالى:{قال موسى ما جئتم به السحر}.
والآخر: أن يكون جواب الشرط محذوفاً، وقوله:[ بما كسبت أيديكم ] من صلة جملة فعل الشرط، كما في قول الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)}. ويقدّر جواب الشرط هنا بما يناسب.
ومما يصلح من التقدير أن يقال: وما أصابكم من مصيبة - بما كسبت أيديكم - فبإذن الله.
ب: والطلبية هي التي تضمنت طلباً، والطلب على أنواع منها:
- الأمر، سواء أكان بفعل الأمر أم بالفعل المضارع المقرون "بلام" الأمر أم باسم فعل الأمر، كما في قول الله تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني}، وقوله تعالى:{ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}، وقوله تعالى:{فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب}.
- والنهي، كما في قول الله تعالى:{فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً}.
- والاستفهام، كما في قول الله تعالى:{وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده}.
وأما في نحو قول الله تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى
قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}، وقوله تعالى:{قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين}، وقوله تعالى:{قُلْ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ
اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ
هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}.
فجواب الشرط فيها محذوف، ويقدّر بما تقترن به "الفاء".
- قال أبو حيان الأندلسي: (لا يجوز أن تكون هذه الجمل الاستفهامية جوابًا للشرط).
ج: والجامد هو الذي لا يتصرّف، "كعسى" و"ليس" و"نعم" و"بئس"، ومن أمثلته قول الله تعالى:{فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}، وقوله تعالى:{ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}، وقوله تعالى:{إن تبدوا الصدقات فنعما هي}.
د: و"ما" النافية، نحو قول الله تعالى:{وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين}، وقوله تعالى:{وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}.
وأما نحو قوله تعالى:{لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك} فعنه جوابان:
أحدهما: أن يكون جواب القسم قد سدّ مسدّ جواب الشرط.
والآخر: أن يكون جواب الشرط محذوفاً، وجملة {ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} مستأنفة استئنافاً بياناً.
وأما نحو قوله تعالى: {لو شاء الله ما تلوته} وقوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد} فأدوات الشرط هنا "لو" و"لولا" ويختصان بالربط "باللام" في الإثبات و"ما" في النفي، كما سيأتي.
ه: و"لن"، نحو قول الله تعالى:{ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه}.
و: و"قد"، نحو قول الله تعالى:{ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل}.
ز: والتنفيس، نحو قول الله تعالى:{وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء}، وقوله تعالى:{ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا}.
وهذه المواضع غير حاصرة؛ وقد زيد عليها "ربما" و"كأنما"؛ لأنَّ لهما حقَّ الصدارة في الكلام كما في قول الله تعالى:{ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}.
وقول أبي عطاء السندي في رثاء يزيد بن هبيرة:
دخول الشرط على الشرط
قد يجتمع في الجملة شرطان؛ فيدخل الشرط الثاني على جملة جواب الشرط الأوّل كما في قول الله تعالى:{فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب}.
وقوله تعالى:{فإذا أمنتم فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي}.
وقوله تعالى:{فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم}.
وقد يحذف جواب الشرطين كما في قول الله تعالى:{ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم}، والتقدير: إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم.
وقوله تعالى:{وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين}.
حذف جملة الشرط
تقدم البيان عن أنّ جواب الشرط قد يُحذف
لأغراض بلاغية، لكن مما ينبغي التنبيه عليه أنّ جملة الشرط قد تُحذف إذا
بقي جواب الشرط دالاً على معنى الشرط.
قال ابن مالك:
أي: ومن لا يفعل فلا حرج.
وذُكر عن الأحوص الأنصاري أنه كان يحبّ امرأة فزوّجها أهلها رجلاً يُقال له مطرٌ؛ فقال الأحوص:
سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطَرُ السلامُ
فإن يكن النكاحُ أحلَّ شيءٍ ... فإنَّ نكاحَها مطرًا حرامُ
فطلِّقْها فلستَ لها بكُفْءٍ ... وإلَّا يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحسامُ
الشاهد قوله: (وإلا يعل مفرقك الحُسام) ؛ فحذف جملة الشرط، والتقدير: وإن لا تفعل يعلُ مفرقك الحُسام
ونُسب إلى رؤبة بن العجاج أنه قال:
قالت سليمى: ليت لي بَعْلاً يمُنْ
يغسل عن رأسي ويُنسيني الحزَنْ
قالت بنات الحيّ: يا سلـمى وإنْ
كـان فقـــــــــــيرا معدِماً، قالت: وإنْ
فحذف جملة الشرط وجواب الشرط وأبقى الأداة فأدّت المعنى.
وبعض أهل البلاغة يُدخلون هذا النوع من الحذف فيما سمّوه
"بديع الاكتفاء"، ولشمس الدين النواجي(ت:859هـ) مؤلف مفرد فيه سمّاه
"الشفاء في بديع الاكتفاء".
ومن أمثلة ما قيل فيه بحذف جملة الشرط في القرآن الكريم:
1: قول الله تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون}
- قال الزمخشري: (فإن قلت: ما معنى "الفاء" في {فَاعْبُدُونِ} وتقديم المفعول؟
قلت: "الفاء"
جواب شرط محذوف، لأنّ المعنى: إنّ أرضى واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في
أرض فأخلصوها لي في غيرها، ثم حذف الشرط وعوّض من حذفه تقديم المفعول، مع
إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص).
- قال أبو حيان: (ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل).
2: قول الله تعالى: {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله}.
- قال ابن هشام: (أي إن صدقتم فيما كنتم تعدون به من أنفسكم فقد جاءكم بينة، وإن كذبتم فلا أحد أكذب منكم {فمن أظلم}).
3: قول الله تعالى: {أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي}.
- قال ابن هشام: (أي: إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي).
4: قول الله تعالى: {فذلك الذي يدعّ اليتيم}.
- قال أبو البقاء العكبري: (قوله تعالى: {فذلك}: "الفاء" جواب شرط مقدر، تقديره: إن تأملته، أو إن طلبت علمه).
قال ابن هشام في مغني اللبيب: (هو مطرد بعد الطلب، نحو:{فاتبعوني يحببكم الله}، أي: فإن تتبعوني يحببكم الله، {فاتبعني أهدك}،{ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل})ا.هـ.
وقد تشتبه "الفاء" الرابطة بين الجمل ب"الفاء" الواقعة في جواب شرط مقدّر؛ فيتوهّم بعض المفسرين وجود شرط مقدّر؛ كما وقع للزمخشري في تفسير قول الله تعالى:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}.
- قال: ("الفاء" جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ).
- فتعقّبه أبو حيان في البحر المحيط بقوله: (وليست "الفاء" جواب شرط محذوف كما زعم، وإنما هي للربط بين الجمل؛ لأنه لما قال:{فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان}، كان امتثال ما أمروا به باباً للقتل؛ فقيل:{فلم تقتلوهم}، أي:
لستم مستبدين بالقتل؛ لأن الأقدار عليه، والخالق له إنما هو الله، ليس
للقاتل فيها شيء، لكنه أُجريَ على يده؛ فنفى عنهم إيجاد القتل، وأثبت لله،
وفي ذلك رد على من زعم أن أفعال العباد خلق لهم)ا.هـ.
- وتعقّبه ابن هشام أيضاً في مغني اللبيب فقال في الكلام عن حذف جملة الشرط: (وجعل منه الزمخشري وتبعه ابن مالك بدر الدين:{فلم تقتلوهم}، أي: إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم، ويردّه أن الجواب المنفي بلم لا تدخل عليه "الفاء").
العطف على الشرط وعلى جواب الشرط
من المباحث المتصلة بأسلوب الشرط دراسة ما يكون من عطف على الشرط وعلى جواب الشرط، وأثر ذلك على المعنى.
العطف على جملة الشرط:
فأما العطف على الشرط فجاء في آيات كثيرة من القرآن منها:
1: قول الله تعالى: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفور رحيما}
2: وقوله تعالى: {ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما}
3: وقوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}
وقد تعطف جُمَلٌ على جملة الشرط كما في قوله تعالى: {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا}
وقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً}
العطف على جواب الشرط:
وأما العطف على جواب الشرط فكثير، ويجوز في الفعل المعطوف على جواب الشرط: الجزم والرفع والنصب.
- قال الفراء: (إذا عطفت على جواب الجزاء جاز الرفع والنصب والجزم)ا.هـ.
- وقال أبو إسحاق الزجاج: (تقول: ما تصنعْ أصنعْ مثله وأُكْرِمَكَ، وإن شئت قلت: وَأُكْرِمُكَ، على: وَأَنا أكرمك، وإن شئت: وَأُكْرِمْكَ، جزماً)ا.هـ.
وقد تعدّدت القراءات في الفعل الواقع في موقع العطف على جواب الشرط، ومن ذلك:
1. قول الله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفرُ عنكم من سيئاتكم}
- قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر [ ونكفرُ ] بالنون والرفع.
- وقرأ نافع وحمزة والكسائي: [ونكفرْ ] بالنون والجزم.
- وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص: {ويكفرُ}
- وذكر أبو القاسم الهذلي عن أبي حيوة أنه قرأ [وتكفِّرَ] بالتاء ونصب الراء، أي أن: الصدقات تكفّر السيئات، وهو من باب إسناد الفعل إلى السبب.
2. وقول الله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون}
- قرأ جمهور القراء: {ويذرُهم} بالرفع.
- وقرأ حمزة والكسائي: [ ويذرْهم ] بالجزم.
- ونقل أبو القاسم الهذلي عن اليزيدي نصب الراء.
3. وقول الله تعالى: {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا}
- قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم {ويجعلْ} بجزم اللام.
- وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: [ ويجعلُ ]
- وقرئ في الشواذّ [ ويجعلَ ] بالنصب.
4. وقول الله تعالى: {إِنْ
يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}
- قرأ نافع وابن عامر [ ويعلمُ ] بالرفع.
- وقرأ جمهور القراء {ويعلمَ} بالنصب بأن المضمرة عند البصريين، وبواو الصرف عند الكوفيين.
قال الفراء: ({ويعلم الذين} مردودة على الجزم؛ إلا أنه صرف؛ والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب).
إلى أن قال: (ولو جزم {ويعلم} جازمٌ كان مصيباً).
ومما ينبغي التنبّه له أنّ الرفع في هذه المواضع يقع على وجهين:
أحدهما: العطف على ما بعد الفاء؛ ومحلّه الجزم لوقوعه في جواب الشرط، على الأرجح كما تقدم في قوله تعالى: {ومن عاد فينتقمُ الله منه} ، أو لتأويله بجملة اسمية.
والآخر: الرفع على الاستئناف، ويكون بقطع الفعل عن جواب الشرط، وابتداء جملة مستأنفة.
وعلى هذين الوجهين حُمل الرفع في قوله تعالى: {ويكفّرُ} وقوله: {ويذرُهم} ، [ويعلمُ].
وحمل الرفع في قوله تعالى: [ويجعلُ لك قصوراً] على الاستئناف وحده لعدم تقدّم "الفاء".
وفي بعض المواضع يكون الاستئناف أرجح وأقوى دلالة، كما جاء في آيات منها:
1. قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
- قرأ جمهور القراء {ويعلمُ} بالرفع على الاستئناف.
- وقرأ نعيم بن ميسرة [ويعلمَ] بالنصب على إضمار "أن" على مذهب البصريين، و"بواو" الصرف على مذهب الكوفيين.
2. وقول الله تعالى: {وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}.
فقوله: {ثم لا ينصرون} رفع الفعل على الاستئناف لقطعه عن جواب الشرط، فأفاد أنهم جميع الأحوال لا يُنصرون، سواء أقاتلوا أم لم يقاتلوا.
مع جواز الجزم من جهة الإعراب، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ}
وقد يتعيّن الرفع على الاستئناف كما في قول الله تعالى: {فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمحُ الله الباطل ويحقُّ الحق بكلماته}
فقوله تعالى: {ويحقُّ الحقَّ} مقطوع عن جواب الشرط، والفعل مرفوع عند جميع القراء.
{ويمحُ} فيه وجهان في الإعراب:
أحدهما: الرفع على القطع والاستئناف؛ فيكون حذف "الواو" اتباعاً للرسم كما في قوله تعالى: {سندعُ الزبانية}.وهو قول جمهور المعربين، بل جزم به جماعة منه.
والآخر: الجزم بحذف "الواو" عطفاً على {يختم}، ويُفسّر المحو بما يناسب، أي: إن يشأ يمح باطلهم وكلّ باطلٍ في الدنيا، كما قال تعالى: {ولو شاء ربّك ما فعلوه} وقال تعالى: {فلو شاء لهداكم أجمعين}.
وقد يعقب جواب الشرط بفعل ماضٍ؛ فيكون على حالين:
أحدهما: العطف على جواب الشرط كما في قول الله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة}.
والآخر: الاستئناف كما في قول الله تعالى: {وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا}، فقوله تعالى: {وجعلنا} "الواو"
للاستئناف؛ لقطع تعلّق الجملة بفعل الشرط؛ فالله تعالى قد جعل جهنّم
للكافرين حصيراً سواءٌ أعاد بنو إسرائيل لفعلهم أم لم يعودوا، لكنّ هذا
القطع ليس تاماً، فمجيء هذه الجملة بعد جملة الجزاء له مناسبة ودلالة
بيانية، فهي قائمة مقام دليل الجواب، لتدلّ على أن جزائهم وجزاء من فعل مثل
فعلهم.
وقد يجتمع العطف والاستئناف كما في قول الله تعالى:{إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون}
{ويبسطوا} عطف.
{وودوا} استئناف.
وقد تعطف الجملة الاسمية على جواب الشرط كما في قوله تعالى: {وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون}
وتكون في محلّ رفعٍ أو جزم بحسب المعنى؛ فالرفع على القطع والاستئناف، والجزم على العطف.
وقد اجتمع العطف على فعل الشرط والعطف على جواب الشرط في آيات منها:
1. قول الله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)}
2. وقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ}
المعاني البيانية للشرط في القرآن
الأصل في أسلوب الشرط أن يفيد تعليق جواب الشرط بجملة الشرط لمناسبة.
وهذا التعليق يقع لأغراض بيانية متعددة يتعسّر حصرها، ومنها:
1: بيان السبب، وهو أكثر الأغراض استعمالاً، ومنه تعليل الحكم الشرعي والكوني كما في قوله تعالى: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم}، وقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} وقوله: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} ، وقوله تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم}، وقوله تعالى: { وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}.
2: بيان ترتّب الأثر وتحقق الجزاء، كما في قوله تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا}، وقوله تعالى: {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ، وقوله تعالى: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى}.
3: التوقيت، ومنه قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} ، وقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض}، وقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.
4: بيان الحال، كما في قول الله تعالى: {وَإِنْ
كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ
لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ
خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) }، وقوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} ، وقوله تعالى: {أريت الذي ينهى عبدا إذا صلى أريت إن كان على الهدى} وقوله تعالى: {يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب}، وقوله تعالى: {قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله}.
وهذا كما تقول لمن تعلم من حاله أنه يريد معرفة حقيقة أمرٍ ما: إن أردت معرفة حقيقة هذا الأمر فهي كذا وكذا.
5: الاحتجاج، كما في قول الله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} وقوله تعالى: {
قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ
اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ
هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}.
6: التهييج، كما في قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} ، وقوله تعالى: {واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} ، وقوله تعالى: { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18) }، وقوله تعالى: { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين (17)}.
- قال ابن عاشور: (وقوله: {إن كنتم مؤمنين} تهييج
وإلهاب لهم يبعث حرصهم على أن لا يعودوا لمثله، لأنهم حريصون على إثبات
إيمانهم، فالشرط في مثل هذا لا يقصد به التعليق، إذ ليس المعنى: إن لم
تكونوا مؤمنين فعودوا لمثله، ولكن لما كان احتمال حصول مفهوم الشرط مجتنباً
كان في ذكر الشرط بعث على الامتثال، فلو تكلم أحد في الإفك بعد هذه الآية
معتقدا وقوعه؛ فمقتضى الشرط أنه يكون كافراً، وبذلك قال مالك).
7: التنبيه، ومنه قوله تعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثمّ كفرتم به من أضلّ ممن هو في شقاق بعيد} وقوله تعالى: {قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ
أَفَلَا تَسْمَعُونَ}.
8: والتحذير، ومنه قوله تعالى:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} ، وقوله تعالى: { إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ}.
9: تأكيد النفي، كما في قول الله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وقوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين}.
10: الاستبعاد، ومنه قوله تعالى: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} ، وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه} ، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ
أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ
هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى
رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}.
11: التحدي، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} وقوله تعالى: {يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا}.
12: التعجيز، كما في قول الله تعالى: {مَنْ
كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ
هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}.
13: التخويف والتقريع، ومنه قوله تعالى: {فإن كان لكم كيد فكيدون} ، وقوله تعالى: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} ، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}.
14: التيئيس، ومنه قوله تعالى: {فإن استقرّ مكانه فسوف تراني} ، وقوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية ما تبعوا قبلتك} ، وقوله تعالى: {ولو سمعوا ما استجابوا لكم}، وقوله تعالى: {
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ
الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)}.
15: التبكيت، كما في قول الله تعالى: {فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين}.
والمعاني البيانية للشرط كثيرة متنوّعة، وقد يجتمع في الشرط الواحد معنيين أو أكثر.
أمثلة على دراسة مسائل الشرط في التفسير
المثال الأول: جواب الشرط في قول الله تعالى: {ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه}
اختلف المفسّرون في تعيين جواب الشرط في قول الله تعالى: {ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه} على أقوال:
القول الأول: جواب الشرط متقدّم، والتقدير لولا
أن رأى برهان ربّه لهمَّ بها، وهذا قول أبي عبيدة معمر بن المثنى وقطرب،
وعليه ذهبا إلى أنّ يوسف عليه السلام لم يقع منه همٌّ أصلاً.
وهذا القول ردَّه ابن جرير وأبو إسحاق الزجاج وابن عطية وغيرهم، وقال ابن القيم في الصواعق المرسلة: لا يجيزه النحاة.
- قال أبو إسحاق الزجاج: ("لولا" تُجاب "باللام"، فلو كان: "ولقد همّت به ولهمّ بها لولا أن رأى أي برهان ربّه" لكان يجوز على بعد).
القول الثاني: جواب الشرط محذوف وقوله تعالى: {وهمّ بها} دليل الجواب، والتقدير: "لولا" أن رأى برهان ربّه لهمّ بها، وهو يؤول إلى معنى القول الأول لكن باختلاف التخريج النحوي.
وهذا القول ضعيف لما يلزم منه من التفريق بين المتعاطفين في دليل جواب واحد.
- قال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث": (ليس يجوز في اللغة أن تقول: "هممت بفلان، وهم بي" وأنت تريد اختلاف الهمين)ا.هـ.
فإذا اختلف الهمّان وجب التصريح بهما ما لم يتقدّم لهما ذكرٌ يفسّرهما.
وجملة {ولقد همت به وهمّ بها} بتمامها دليل الجواب، ولا خلاف في أنّ همّها به كان محرّكاً إلى فعل الفاحشة.
وكذلك همّه عليه السلام، غير أنّ همّها قد تحوّل إلى عزيمة وقولٍ وفعل
للأسباب، وأمّا همّه فلم يعد خطرات النفس الدالة على سلامة الآلة وصحة
الغريزة وإمكان التأثّر؛ وبهذا تتحقق الفتنة.
فجيء باللفظ المشترك وهو الهمّ، ولم ينتقل يوسف عليه السلام إلى عزم بقولٍ
ولا فعل، بل بقي مستعصماً بالله حتى فرّج الله عنه بما أراه من البرهان
الذي أيقن منه بمعيّة الله له.
وليس في هذا نقيصة على يوسف عليه السلام، بل هو أدلّ على كماله البشري،
وأنه ملك نفسه، وبذل الأسباب للنجاة من الفتنة، واستعصم ولم يطاوع، وملك
شهوته ولم تملكه.
- وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه عن الإمام أحمد أنه قال: (الهمّ همان: همّ خطرات، وهمّ إصرار).
يريد بهمّ الخطرات ما لم يبلغ العزيمة ولم ينتج عنه قول أو عمل يُؤاخذ به.
وهمّ الإصرار ما ينتج القول أو العمل إلا لمانع.
فهمّ يوسف عليه السلام منع من إنفاذه وتحوّله إلى عزيمة إيمانه بالله ويقينه بمعيّته وهو ما رأى من برهان ربّه.
وهمّ امرأة العزيز تحوّل إلى عزيمة وقول وفعل للسبب لكن لم تقع الفاحشة
لاستعصام يوسف عليه السلام كما دلّ على ذلك قولها فيما حكاه الله تعالى
عنها: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم}.
- وقال أبو منصور الأزهري: أخبرني المنذري عن أبي العباس ثعلب أنه سُئلَ عن قول الله جلَّ وعزَّ: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} فقال: (همَّت زليخا بالمعصية مصرَّةً على ذلك، وهمَّ يوسفُ بالمعصية ولم يأتها ولم يصرَّ عليها، فبين الهَمَّتَينِ فرقٌ).
والقول الثالث: جواب الشرط محذوف، وهو الصواب إن شاء الله.
وقد ذهب إلى مؤداه جماعة من العلماء منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
والبرهان من الله هو ما فرّج الله به عنه، مما اعتاد من لطفه به وعرَف، وهو ما يفسّره قول الله تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء}؛
فهو بُرهان صرف الله عنه به السوء والفحشاء، ودلَّ يوسف على معيّة الله
له، وحفظه إيّاه، وأنّه لا يُسلمه لعدوّه، فألهمه الفرارَ بدينه وعفّته،
وقدَّر قدّ القميص من دبر، وقدّر قدوم سيّدها على خلاف تقدير المرأة
وظنّها، وهو دليل على أنه قدوم في غير وقت عادةٍ له، ففرَّج الله عن يوسف،
وأُسقط في يد المرأة؛ فلجأت إلى الحيلة لتبرئة نفسها باتّهامه.
وحَذْفُ جواب الشرط في قوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربّه} أعظم وقعاً في النفس، وأشدّ تأثيراً، وأوسع دلالةً من ذكر جواب واحد ينحصر فيه الذهن.
فتفكّرْ في جواب الشرط تجدْه محتملاً لمعانٍ متعددة متظاهرة؛ تقود إلى معنى
عظيمٍ حذفُه أبلغُ من ذكره، ليبقى الذهن متنقلاً بين حقائقه وآثاره
متفكّراً ومتعجّباً؛ لا ينقضي عجبه، ولا يبلغ التفكّر منتهاه.
فلولا أن رأى برهان ربّه لتسلّطت عليه المرأة تسلّطاً لا يطيقه.
ولولا أن رأى برهان ربّه لوقع فيما لا تُحمد عاقبته.
ولولا أن رأى برهان ربّه لكان موقف العزيز منه مختلفاً.
ولولا أن رأى برهان ربّه لكان على خطر من أمرٍ يغيّر مسار حياته التي كان
ملؤها الطهر والنقاء، وما يجرّ عليه هذا التغيّر مما لا يُستقصى وصفه.
فهذا حدث فارق في سيرة يوسف عليه السلام، لم يكن أثره محصوراً عليه؛ بل كان
حدثاً يشترك فيها أطراف حاضرون وغائبون يؤثّر فيهم ما يكون من يوسف عليه
السلام، وما ينتهي به هذا الموقف الخطير، فلولا أن رأى برهان ربّه فكانت
نجاته وعصمته؛ فلك أن تتخيّل أثر الموقف على يوسف نفسه هل كان سيصل إلى ما
وصل إليه؟!
وعلى المرأة إلى أيّ مدى ستوغل؟!
وعلى سيّدها ماذا سيصنع؟!
وعلى أبيه يعقوب كيف يكون أثر ذلك عليه؟!
وعلى من كان يعرف يوسف قبل هذه الحادثة.
كلّ هذه الآثار داخلة في جواب الشرط لتأثرها بما يكون لولا أن رأى برهان ربّه.
فكان الأبلغ في البيان، والأوقع في التأثير حذف الجواب ليعمّ كلَّ تقدير صحيحٍ يحتمله السياق، ويبلغه التفكّر.
المثال الثاني: جواب الشرط في قول الله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى}
اتفق المفسّرون على أنّ قوله تعالى: {سيذكر من يخشى} ليس جواباً للشرط في قوله تعالى: {إن نفعت الذكرى}، ولو كان جواباً للشرط لاقترن "بالفاء"، ولكنها جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً.
والراجح أنّ قوله: {فذكّر} ليس جواباً للشرط أيضاً لأمرين:
أحدهما: أن "الفاء" للتفريع على قوله تعالى: {ونيسرك لليسرى}؛ فهي عاملة في موضعها عملها المشتغلة به، وترتيب التذكير على التيسير في هذه الآية نظير ما في قول الله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}
والآخر: أنَّ
تعليق الأمر بالتذكير بشرط الانتفاع لا يصحّ، لأن الأمر بالتذكير عامّ
كما هو متقرر من أدلّة كثيرة، ولأن الانتفاع بالتذكير لا يُعلم إلا بعد
التذكير؛ فكيف يُعلَّق به؟!!
ولذلك تأوَّله بعض العلماء بمظنة الانتفاع، وهو تأوّل منشؤه اعتقاد تعلّق الشرط بقوله {فذكّر}، ولا تعلّق هنا على الصحيح، وليس في تفاسير السلف ما يدلّ على ذلك.
والتحقيق
أنّ جواب الشرط هنا محذوف، كما حذف في مواضع كثيرة من القرآن، وحذفه أبلغ
بياناً، وأوفى معنى، لتعلّق الشرط بأصناف من المخاطبين، منهم المتّبع
والمخالف، ومنهم الداعي والمدعو، ولكلّ صنف تقدير يناسبه في الجواب.
ثم
إن مبلغ النفع وآثاره ومبلغ الإعراض عن الانتفاع وآثاره من الأمور التي لا
يستوفيها ذهن الإنسان، ولا يبلغ منتهى التفكّر فيها؛ فحذف الجواب لتذهب النفس في تقديره كلّ مذهب ممكن.
وحذف الجواب مناسب أيضاً لحذف مفعول {فذكّر} ومتعلَّقه ليعمّ المذكَّرين وما يُذكّر به.
فتناولت الآية معانيَ واسعة، وقَسمت الناس إلى قسمين:
- قسم ينتفع بالذكرى فاكتفي بالنصّ على النفع دون ذكر متعلّق النفع؛ لكثرة المنافع وعظمتها وتنوّعها.
- وقسم لا ينتفع بالذكرى، وهم المعرضون الذين يأبون
الانتفاع بالذكرى؛ تكبّراً وعناداً، ولإعراضهم عن الانتفاع آثار كثيرة
عظيمة متنوّعة في الدنيا والآخرة.
وانتفاع بعض المذكَّرين بالذكرى حجة على من لم ينتفع
بها، وذلك أنّ عدم انتفاعهم إنما هو لعلّة فيهم، فالمورد واحد لكن شتَّان
ما بين وارد فمنتفع، ومعرض لا ينتفع.
وفي إسناد النفع إلى الذكرى لطيفة أخرى، وهي أنّ الذكرى تنفع المذكِّرَ والمذكَّر.
فالمذكِّر ينفعه تذكيره فيُعذر عند الله، ويقيم الحجَّة
على المدعوّ، وينتفع بمن يستجيب لتذكيره فيُكتب له مثل أجره، كما في قول
الله تعالى: {وإذ قالت أمّة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا )). رواه أحمد ومسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والمذكَّر ينتفع بالذكرى إن آمن وأناب؛ كما قال الله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} ، وقال تعالى: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}.
وفي التعبير بالذكرى لطيفة أخرى، وهي أن هذا اللفظ يشمل التذكُّرَ والتذكير؛ فكلاهما يصحّ أن يوصَف بالذكرى.
- فالذكرى بمعنى التذكير كما في قول الله تعالى: {إن هو إلا ذكرى للعالمين} ، وقوله تعالى: {ذلك ذكرى للذاكرين} ، وقوله تعالى: {ذكرى وما كنا ظالمين}، وقوله تعالى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}.
- والذكرى بمعنى التذكّر كما في قول الله تعالى: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} ، وقوله تعالى: {أنى لهم الذكرى}، وقوله تعالى: {يومئذ يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى}، وقوله تعالى: {فأنّى لهم إذا جاءتهم ذكراهم}.
وقد يجتمع المعنيان كما في قول الله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى}، وقوله تعالى: {وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقوله تعالى: {أو يذكر فتنفعه الذكرى}.
وهذه الآيات فيها النص على نفع الذكرى لا التشكيك فيه ولا استبعاده كما ذهب إليه بعض المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {إن نفعت الذكرى}.
فالشرط في هذه الآية جارٍ مجرى تأكيد نفع الذكرى وأنّه لا شكّ في نفعها لمن استمع إليها بقلب منيب كما هو منصوص قول الله تعالى: {إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
والعرب تستملح الإتيان بالشرط لغرض التأكيد كما قال سويد بن أبي كاهل في مدح قومه:
وقال المرّار بن منقذ التميمي يفخر بنفسه ومكانها من قبيلته:
المثال الثالث: معنى الشرط في قول الله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوَّل العابدين}
{إن} في هذه الآية تحتمل أن تكون شرطية، وأن تكون نافية، ولذلك اختلف العلماء في تعيين معناها على قولين مشهورين في كتب التفسير.
والقائلون بأنها شرطية اختلفوا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: المعنى: قل يا
محمد إن كان للرحمن ولد – كما تقولون أيها الكاذبون – فأن أوّل من يعبده،
ولا ينبغي أن تسبقوني إلى عبادته، وهذا حاصل قول السديّ واختيار ابن جرير.
والقول الثاني: قل إن كان للرحمن ولد في قولكم وزعمكم فأنا أوّل العابدين لله تعالى الموحدين له، وهو قول مجاهد بن جبر.
والقول الثالث: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أوّل المنكرين لذلك الآنفين منه، وهذا القول ذكره أبو عبيدة معمر بن المثنّى في مجاز القرآن.
فيكون لفظ "العابدين" على هذا القول من عَبِدَ يعْبَد
فهو عَبِدٌ، كفَرِحَ يَفْرَح فهو فَرِحٌ، والعابِد لغة في العَبِد، كالحذِر
والحاذِر، والأَنِف والآنِف.
فيكون لفظ "عابد" مشترك لفظي بين العابد فاعل العِبادة، والعَبِد الآنِفِ الغاضِب.
قال المرقّش الأصغر:
أفاطــــــــــــــــمُ لو أنَّ النساءَ ببلـــــــدة ... وأنتِ بأخـــــرى لاتَّبَعْـــــــــتُك هائـــــمـــــــــا
متى ما يشأ ذو الودّ يصرم خليله ... ويَعْبَــــــــــــــــدْ علــيه لا محـــالــة ظـــــــــــــــــــالما
والذين
ذكروا تفسير "العابد" بالآنف الغاضب المنكر جماعة من علماء اللغة
والقراءات، منهم: الكسائي، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو عمرو الشيباني،
وأبو زيد الأنصاري، وابن الأعرابي، وابن السكيت، وابن قتيبة، وأبو البركات
ابن الأنباري، وأبو عمر الزاهد غلام ثعلب، ومنهم من اختار هذا المعنى في
تفسير هذه الآية ولم يذكر غيره.
وذكره البخاري في صحيحه أحد قولين في تفسير هذه الآية؛ فهو قول معروف مشهور عند أهل العلم.
والقائلون بأنّها نافية اختلفوا على قولين:
القول الأول: "إن" نافية، أي: ما كان للرحمن ولد، و{أوّل العابدين} أوّل المؤمنين الموحّدين الشاهدين لله تعالى بالوحدانية، وأنه لا شريك له، ولا ولد.
و"إن" المخففة تأتي كثيراً بمعنى النفي كما في قول الله تعالى: {قل إن أدري أقريب ما توعدون} وقوله تعالى: {إن عندكم من سلطان بهذا} وقوله تعالى: {وإن أدري لعله فتنة لكم} وقوله تعالى: {إن الكافرون إلا في غرور}.
فيكون المعنى: ما كان للرحمن ولد قطّ، ثم قوله: {فأنا أوّل العابدين}
جملة مترتّبة عليها قائمة مقام الدليل على النفي، ولذلك رُوي عن ابن عباس
تفسير العابدين في هذا الموضع بالشاهدين لملاحظة قصد الاستشهاد.
- قال معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قول الله تعالى: {قل إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين} يقول: (لم يكن للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل الشّاهدين). رواه ابن جرير.
- وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {قل إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين} قال:
(هذا الإنكاف ما كان للرّحمن ولدٌ، نَكِفَ اللّه أن يكون له ولدٌ وإنّ مثل
ما إنّما هي: ما كان للرّحمن ولدٌ، ليس للرّحمن ولدٌ، مثل قوله: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}
إنّما هي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، فالّذي أنزل اللّه من كتابه
وقضاه من قضائه أثبت من الجبال، وإن هي ما إن كان ما كان تقول العرب: إن
كان، وما كان الّذي تقول وفي قوله: {فأنا أوّل العابدين} أوّل من تعبّد اللّه بالإيمان والتّصديق أنّه ليس للرّحمن ولدٌ على هذا أعبد اللّه). رواه ابن جرير.
وممن ذهب إلى هذا القول أن "إن" هنا للنفي: قتادة، وزهير بن محمد بن قمير، ولم أقف على اختيارهما في تفسير "العابدين".
القول الثاني: "إن" نافية، و{أوّل العابدين}
أوّل الآنفين المنكرين لأن يكون لله ولد، وهذا القول اختاره أبو عبيدة
معمر بن المثنى، وأبو علي الفارسي، وذكره الكسائي، والبخاري، وغيرهما.
لكن مما أشكل على بعض العلماء معنى "الفاء" على هذا القول؛ وذلك أنّه إذا قيل: إنَّ "إنْ" نافية، و{أوّل العابدين} أي: أي الآنفين المنكرين؛ فما المعنى الذي تؤديه "الفاء" في قوله تعالى: {فأنا أوّل العابدين}؟
- قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ("الفاء" مجازها مجاز "الواو": ما كان للرحمن ولدٌ، وأنا أول العابدين).
- وقال أبو علي الفارسي في "شرح الأبيات المشكلة الإعراب": (ما كان للرحمن ولدٌ، كقوله تعالى: {مَا كَانَ للهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ} ، {فَأَنَاْ أَوّلُ الْعَابِدِينَ} تكون "الفاء" عاطفة جملة على جملة) ا.هـ.
و"الفاء" تفيد قوة الارتباط بين الجمل؛ كما في قول الله تعالى: {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} ، وقوله تعالى: وقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غير ممنون}.
- وقال القسطلاني في شرح صحيح البخاري: "الفاء" سببية.
والقول بأنّ "الفاء" للسببيَّة لا يخلو من أحد وجهين:
الوجه الأول: أن تكون في جواب النفي، كما في قول الله تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا}، وهذا فيه ضعف، وهو سبب الإشكال.
والوجه الثاني: أن تكون جواباً للأمر في {قل} فيكون مرجع الضمير في {أنا} إلى الله جلَّ وعلا، أي: أن الله هو أوّل الآنفين المنكرين نسبة الولد إليه تعالى الله عمّا يقولون.
ولا ريب أنه لا يتقدّم اللهَ أحدٌ في إنكار هذه الدعوى
الباطلة؛ فيكون المعنى: قل لهم يا محمد: ما كان للرحمن ولد، فأنا أوّل
المنكرين الآنفين، ثم الملائكة بعد منكرون، والأنبياء والصالحون، بل حتى السموات والأرض والجبال كما قال الله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً . لقد جئتم شيئاً إدا . تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدا . أن دعوا للرحمن ولداً}.
وذِكْرُ تقدّم الله عزّ وجلّ وتصديق من يشاء من خلقه
وشهادتهم على ما شهد الله به واتباعهم ما أحبَّ الله قد تكرر في القرآن،
ومنه قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا
بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.
وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ
يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)}.
وقوله تعالى: { وَإِنْ
تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)}.
ولا ريب أن هذا المعنى له أثر بالغ في شدة نفي هذه
الدعوى الآثمة، والفرية الشنيعة، وأن يكون استناد النبي صلى الله عليه وسلم
في نفيها وإنكارها استناداً قوياً محكماً؛ فأوّل المنكرين لها هو الله
تعالى وكفى بالله عليماً.
وهذا يدلّ على أنّ هذه المقالة قد شاعت في تلك الطوائف على مرّ القرون حتى نشأ على اعتقادها أجيال بعد أجيال، ونفي ما ترسّخ في قلوبهم وعقولهم اعتقاده والقول به ينبغي أن يكون من منطلق قويّ محكم لا تردد فيه ولا ضعف.
والتعبير بأوّل العابدين على هذا التوجيه يحتمل أمرين في التركيب اللغوي:
- أحدهما: أن يكون أوّل
الآنفين نظير أرحم الراحمين، وأحسن الخالقين، وأكرم الأكرمين، ويكون
الاشتراك في أصل معنى الصفة لا يقتضي التشبيه كما هو متقرر.
والأمر الآخر: أن تكون الأولية على غير قصد دخول الأول في الفئة، وإنما هي على معنى التأييد لما في لفظ الأولية من معنى السبق والإمامة.
أمثلة من أقوال المفسرين:
قال الله تعالى: { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)}.
- قال محمد الأمين الشنقيطي: (قوله تعالى: {إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة}. الذي يظهر لي صوابه أن "إذا" هنا هي الظرفية المضمنة معنى الشرط، وأن قوله الآتي: {إذا رجت الأرض رجا} بدل من قوله: {إذا وقعت الواقعة} وأن جواب "إذا" هو قوله: {فأصحاب الميمنة} وهذا
هو اختيار أبي حيان خلافا لمن زعم أنها مسلوبة معنى الشرط هنا، وأنها
منصوبة بـ «اذكر» مقدرة أو أنها مبتدأ، وخلافا لمن زعم أنها منصوبة بـ "ليس" المذكورة بعدها.
والمعروف عند جمهور النحويين أن "إذا" ظرف مضمن معنى الشرط منصوب بجزائه، وعليه فالمعنى: "إذا" قامت القيامة وحصلت هذه الأحوال العظيمة ظهرت منزلة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة)ا.هـ.
قال الله تعالى: {فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان}.
قال أبو منصور الأزهري: (370هـ):(هذه
آية مشكلة، وقد فسَّرها ابن عباس ثم من بعده تفسيراً قربوه على قدر أفهام
أهل عصرهم، فرأيت أن أذكر قول ابن عباس، وأؤيده بما يزيده بيانا ووضوحا.
حدثنا محمد بن إسحاق السعدي، قال: حدثنا المخزومي، قال: حدثنا ابن عيينة،
عن عمرو بن دينار، عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: (كان القصاص في بني
إسرائيل، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله جل وعز لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد} إلى قوله: {فمن عفي له من أخيه شيء} ).
قال: (فالعفو أن يقبل الدية في العمد {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم، يطلب هذا بإحسان ويؤدي هذا بإحسان).
قلت: فقول ابن عباس: (العفو أن يقبل الدية في العمد) الأصل فيه أن العفو في موضوع اللغة الفضل.
يقال: عفا فلان لفلان بماله إذا أفضل له، وعفا له عما عليه إذا تركه. وليس العفو في قوله: {فمن عفي له} عفوا من ولي الدم، ولكنه عفو من الله جل وعز.
وذلك أن سائر الأمم قبل هذه الأمة لم يكن لهم أخذ الدية إذا قتل قتيل،
فجعله الله لهذه الأمة عفوا منه وفضلا، مع اختيار ولي الدم ذلك في العمد
وهو قول الله جل وعز: {فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف} أي
من عفا الله جل وعز اسمه له بالدية حين أباح له أخذها بعدما كانت محظورة
على سائر الأمم، مع اختياره إياها على الدم، اتباع بالمعروف أي مطالبة
للدية بمعروف، وعلى القاتل أداء الدية إليه بإحسان. ثم بين ذلك فقال:{ذلك تخفيف من ربكم} لكم يا أمة محمد، وفضل جعله لأولياء الدم منكم {ورحمة}خصكم بها {فمن اعتدى بعد ذلك} أي من سفك دم قاتل وليّه بعد قبوله الدية {فله عذاب أليم}.
والمعنى الواضح في قوله: {فمن عفي له من أخيه شيء} أي من أُحلَّ له أخذ الدية بدل أخيه المقتول، عفوا من الله وفضلا مع اختياره، فليطالب بالمعروف و "من"في قوله: {من أخيه} معناها البدل.
والعرب تقول عرضت له من حقه ثوبا، أي أعطيته بدل حقه ثوبا.
ومنه قول الله جل وعز: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الارض يخلفون}
يقول: لو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض والله أعلم.
قلت: وما علمت أحدا أوضح من معنى هذه الآية ما أوضحتُه، فتدبره واقبله بشكر إذا بان لك صوابه)ا.هـ.
قال الله تعالى: {قل
من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من
الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون
(31)}.
- قال ابن عاشور: (و"الفاء" في قوله: {فسيقولون الله} "فاء" السبية التي من شأنها أن تقترن بجواب الشرط إذا كان غير صالح لمباشرة أداة الشرط، وذلك أنه قصد تسبب قولهم: {الله} على السؤال المأمور به النبي عليه الصلاة والسلام، فنزل فعل {فقل} منزلة الشرط فكأنه قيل: إن تقل من يرزقكم من السماء والأرض فسيقولون الله، ومنه قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا}
وهذا الاستعمال نظير تنزيل الأمر من القول منزلة الشرط في جزم الفعل المقول بتنزيله منزلة جواب الشرط كقوله تعالى: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة}، وقوله: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}
التقدير: إن تقل لهم أقيموا الصلاة يقيموا، وإن تقل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا.
وهو كثير في القرآن على رأي المحققين من النحاة، وعادة المعربين أن يخرجوه على حذف شرط مقدر دل عليه الكلام.
والرأيان متقاربان إلا أن ما سلكه المحققون تقدير معنى، والتقدير عندهم
اعتبار لا استعمال، وما سلكه المعربون تقدير إعراب، والمقدر عندهم
كالمذكور.
ولو لم ينزّل الأمر بمنزلة الشرط لما جاءت "الفاء"، كما في قوله تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله} الآيات.
و"الفاء" في قوله: {فقل} "فاء" الفصيحة، أي إن قالوا ذلك فقل أفلا تتقون. و"الفاء" في قوله: {أفلا تتقون} "فاء" التفريع، أي يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم.
ومفعول {تتقون} محذوف، تقديره تتقونه، أي بتنزيهه عن الشريك.
وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله
لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك كما تكرر الإخبار بذلك عنهم في آيات
كثيرة من القرآن.
وفيه تحدٍّ لهم فإنهم لو استطاعوا لأنكروا أن يكون ما نسب إليهم صحيحا،
ولكن خوفهم عارَ الكذب صرفهم عن ذلك؛ فلذلك قامت عليهم الحجة بقوله: {فقل أفلا تتقون})ا.هـ.
تطبيقات الدرس السادس عشر:
بيّن معاني الشرط في الآيات التاليات، واشرح المسائل المتعلقة به:
1: قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ
قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ
كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا}
2: قول الله تعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ }.
3: قول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا
(60)}
4: قول الله تعالى: {وَلَمَّا
دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}
5: قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ
يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ
هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)}