2 Oct 2022
خطبة المصنف وبيان معنى التفسير والتأويل وكون التفسير علما
خطبة المصنف
قالَ مُحَمَّدُ الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت:1393هـ):
(بسم الله الرحمن
الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
الحمد لله على أن بين للمستهدين معالم مراده، ونصب لجحافل المستفتحين أعلام أمداده فأنزل القرآن قانونا عاما معصوما، وأعجز بعجائبه فظهرت يوما فيوما، وجعله مصدقا لما بين يديه ومهيمنا، وما فرط فيه من شيء يعظ مسيئا ويعد محسنا، حتى عرفه المنصفون من مؤمن وجاحد، وشهد له الراغب والمحتار والحاسد، فكان الحال بتصديقه أنطق من اللسان، وبرهان العقل فيه أبصر من شاهد العيان، وأبرز آياته في الآفاق فتبين للمؤمنين أنه الحق، كما أنزله على أفضل رسول فبشر بأن لهم قدم صدق، فبه أصبح الرسول الأمي سيد الحكماء المربين، وبه شرح صدره إذ قال: {إنك على الحق المبين}، فلم يزل كتابه مشعا نيرا، محفوظا من لدنه أن يترك فيكون مبدلا ومغيرا. ثم قيض لتبيينه أصحابه الأشداء الرحماء، وأبان أسراره من بعدهم في الأمة من العلماء. فصلاة الله وسلامه على رسوله وآله الطاهرين، وعلى أصحابه نجوم الاقتداء للسائرين والماخرين
أما بعد فقد كان أكبر أمنيتي منذ أمد بعيد، تفسير الكتاب المجيد، الجامع لمصالح الدنيا والدين، وموثق شديد العرى من الحق المتين، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها، والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها، طمعا في بيان نكت من العلم وكليات من التشريع، وتفاصيل من مكارم الأخلاق، كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره، أو مطالعة كلام مفسره، ولكني كنت على كلفي بذلك أتجهم التقحم على هذا المجال، وأحجم عن الزج بسية قوسي في هذا النضال. اتقاء ما عسى أن يعرض له المرء نفسه من متاعب تنوء بالقوة، أو فلتات سهام الفهم وإن بلغ ساعد الذهن كمال الفتوة. فبقيت أسوف النفس مرة ومرة أسومها زجرا، فإن رأيت منها تصميما أحلتها على فرصة أخرى، وأنا آمل أن يمنح من التيسير، ما يشجع على قصد هذا الغرض العسير. وفيما أنا بين إقدام وإحجام، أتخيل هذا الحقل مرة القتاد وأخرى الثمام. إذا أنا بأملي قد خيل إلي أنه تباعد أو انقضى، إذ قدر أن تسند إلي خطة القضا. فبقيت متلهفا ولات حين مناص، وأضمرت تحقيق هاته الأمنية متى أجمل الله الخلاص، وكنت أحادث بذلك الأصحاب والإخوان، وأضرب المثل بأبي الوليد ابن رشد في كتاب "البيان" ولم أزل كلما مضت مدة يزداد التمني وأرجو إنجازه، إلى أن أوشك أن تمضي عليه مدة الحيازة، فإذا الله قد من بالنقلة إلى خطة الفتيا. وأصبحت الهمة مصروفة إلى ما تنصرف إليه الهمم العليا، فتحول إلى الرجاء ذلك الياس، وطمعت أن أكون ممن أوتي الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس. هنالك عقدت العزم على تحقيق ما كنت أضمرته، واستعنت بالله تعالى واستخرته? وعلمت أن ما يهول من توقع كلل أو غلط، لا ينبغي أن يحول بيني وبين نسج هذا النمط، إذا بذلت الوسع من الاجتهاد، وتوخيت طرق الصواب والسداد.
أقدمت على هذا المهم إقدام الشجاع، على وادي السباع؛ متوسطا في معترك أنظار الناظرين، وزائر بين ضباح الزائرين، فجعلت حقا علي أن أبدي في تفسير القرآن نكتا لم أر من سبقني إليها، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها، فإن الاقتصار على الحديث المعاد، تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد.
ولقد
رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين: رجل معتكف فيما شاده الأقدمون، وآخر آخذ
بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضر كثير، وهنالك حالة أخرى
ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا
أن ننقضه أو نبيده، عالما بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من
حميد خصال الأمة، فالحمد لله الذي صدق الأمل، ويسر إلى هذا الخير ودل. والتفاسير وإن كانت كثيرة فإنك لا تجد الكثير منها إلا
عالة على كلام سابق بحيث لا حظ لمؤلفه إلا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل. وإن
أهم التفاسير تفسير "الكشاف" و"المحرر الوجيز" لابن عطية و"مفاتيح الغيب" لفخر
الدين الرازي، "وتفسير البيضاوي" الملخص من "الكشاف" ومن "مفاتيح الغيب" بتحقيق
بديع، و"تفسير الشهاب الآلوسي"، وما كتبه الطيبي والقزويني والقطب والتفتزاني على
"الكشاف"، وما كتبه الخفاجي على "تفسير البيضاوي"، و"تفسير أبي السعود"، و"تفسير
القرطبي" والموجود من "تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي" من تقييد تلميذه الأبي
وهو بكونه تعليقا على "تفسير ابن عطية" أشبه منه بالتفسير لذلك لا يأتي على جميع آي
القرآن و"تفاسير الأحكام"، و"تفسير الإمام محمد ابن جرير الطبري"، وكتاب "درة
التنزيل" المنسوب لفخر الدين الرازي، وربما ينسب للراغب الأصفهاني. ولقصد الاختصار
أعرض عن العزو إليها، وقد ميزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه وما أجلبه من
المسائل العلمية، مما لا يذكره المفسرون، وإنما حسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما
بين يدي من التفاسير في تلك الآية خاصة، ولست أدعي انفرادي به في نفس الأمر، فكم من
كلام تنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلم، وكم من فهم تستظهره وقد تقدمك إليه متفهم،
وقديما قيل: هل غادر الشعراء من
متردم إن معاني القرآن ومقاصده
ذات أفانين كثيرة بعيدة المدى مترامية الأطراف موزعة على آياته فالأحكام مبينة في
آيات الأحكام، والآداب في آياتها، والقصص في مواقعها، وربما اشتملت الآية الواحدة
على فنين من ذلك أو أكثر. وقد نحا كثير من المفسرين بعض تلك الأفنان، ولكن فنا من
فنون القرآن لا تخلو عن دقائقه ونكته آية من آيات القرآن، وهو فن دقائق البلاغة هو
الذي لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا الأفانين الأخرى، من أجل ذلك التزمت
أن لا أغفل التنبيه على ما يلوح لي من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن كلما
ألهمته بحسب مبلغ الفهم وطاقة التدبر. وقد
اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال،
واهتممت أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، وهو منزع جليل قد عني به فخر
الدين الرازي، وألف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى "نظم الدرر في تناسب الآي
والسور" إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع، فلم تزل أنظار المتأملين
لفصل القول تتطلع، أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض، فلا أراه حقا على
المفسر. ولم
أغادر سورة إلا بينت ما أحيط به من أغراضها لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن
مقصورا على بيان مفرداته ومعاني جمله كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه وتحجب
عنه روائع جماله. واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط
وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة. وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق
مراده، ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده، فإني بذلت الجهد في الكشف عن نكت
من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير، ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو
إليه همم النحارير، بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولات القماطير، ففيه أحسن
ما في التفاسير، وفيه أحسن مما في التفاسير. وسميته تحرير المعنى السديد، وتنوير
العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد واختصرت هذا الاسم باسم "التحرير والتنوير من
التفسير" وها أنا أبتدئ بتقديم مقدمات تكون عونا للباحث في التفسير، وتغنيه عن معاد
كثير).
المقدمة الأولى
في التفسير والتأويل وكون التفسير علما
قالَ
مُحَمَّدُ الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت:1393هـ): (التفسير مصدر فسر
بتشديد السين الذي هو مضاعف فسر بالتخفيف من بابي نصر وضرب الذي مصدره الفسر،
وكلاهما فعل متعد فالتضعيف ليس للتعدية. والفسر الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ
بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسر عند السامع، ثم قيل المصدران والفعلان متساويان في
المعنى، وقيل يختص المضاعف بإبانة المعقولات، قاله الراغب وصاحب البصائر، وكأن وجهه
أن بيان المعقولان يكلف الذي يبينه كثرة القول، كقول أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظن = كأن قد رأى وقد سمعا
فكان تمام البيت تفسيرا لمعنى الألمعي، وكذلك الحدود المنطقية المفسرة للمواهي والأجناس، لا سيما الأجناس العالية الملقبة بالمقولات فناسب أن يخص هذا البيان بصيغة المضاعفة، بناء على أن فعل المضاعف إذا لم يكن للتعدية كان المقصود منه الدلالة على التكثير من المصدر، قال في "الشافية" وفعل للتكثير غالبا وقد يكون التكثير في ذلك مجازيا واعتباريا بأن ينزل كد الفكر في تحصيل المعاني الدقيقة، ثم في اختيار أضبط الأقوال لإبانتها منزلة العمل الكثير كتفسير صحار العبدي وقد سأله معاوية عن البلاغة فقال: "أن تقول فلا تخطئ، وتجيب فلا تبطئ" ثم قال لسائله: "أقلني لا تخطئ ولا تبطئ".
ويشهد لهذا قوله تعالى {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}.
فأما إذا كان فعل المضاعف للتعدية فإن إفادته التكثير مختلف فيها، والتحقيق أن المتكلم قد يعدل عن تعدية الفعل بالهمزة إلى تعديته بالتضعيف لقصد الدلالة على التكثير لأن المضاعف قد عرف بتلك الدلالة في حالة كونه فعلا لازما فقارنته تلك الدلالة عند استعماله للتعدية مقارنة تبعية. ولذلك قال العلامة الزمخشري في خطبة الكشاف: الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما، ونزله على حسب المصالح منجما فقال المحققون من شراحه، جمع بين أنزل ونزل لما في نزل من الدلالة على التكثير، الذي يناسب ما أراده العلامة من التدريج والتنجيم.
وأنا أرى أن استفادة معنى التكثير في حال استعمال التضعيف للتعدية أمر من مستتبعات الكلام حاصل من قرينة عدول المتكلم البليغ عن المهموز. الذي هو خفيف إلى المضعف الذي هو ثقيل، فذلك العدول قرينة على المراد وكذلك الجمع بينهما في مثل كلام الكشاف قرينة على إرادة التكثير.
وعزا
شهاب الدين القرافي في أول "أنواء البروق" إلى بعض مشايخه أن العرب فرقوا بين فرق
بالتخفيف، وفرق بالتشديد، فجعلوا الأول للمعاني والثاني للأجسام بناء على أن كثرة
الحروف تقتضي زيادة المعنى أو قوته، والمعاني لطيفة يناسبها المخفف، والأجسام كثيفة
يناسبها التشديد، واستشكله هو بعدم اطراده، وهو ليس من التحرير بالمحل اللائق، بل
هو أشبه باللطائف منه بالحقائق، إذ لم يراع العرب في هذا الاستعمال معقولا ولا
محسوسا وإنما راعوا الكثرة الحقيقية أو المجازية كما قررنا، ودل عليه استعمال
القرآن، ألا ترى أن الاستعمالين ثابتان في الموضع الواحد، كقوله تعالى {وقرآنا
فرقناه} قرئ بالتشديد والتخفيف، وقال تعالى حكاية لقول المؤمنين: {لا نفرق بين أحد
من رسله} وقال لبيد:
فمضى وقدمها وكانت عادة = منه إذا هي عردت إقدامها
فجاء بفعل قدم وبمصدر أقدم، وقال سيبويه "إن فعل وأفعل يتعاقبان" على أن التفرقة عند مثبتها، تفرقة في معنى الفعل لا في حالة مفعوله بالأجسام.
والتفسير في الاصطلاح نقول: هو اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن وما يستفاد منها باختصار أو توسع. والمناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المنقول إليه لا يحتاج إلى تطويل.
وموضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه وبهذه الحيثية خالف علم القراءات لأن تمايز العلوم-كما يقولون-بتمايز الموضوعات، وحيثيات الموضوعات.
هذا وفي عد التفسير علما تسامح؛ إذ العلم إذا أطلق، إما أن يراد به نفس الإدراك، نحو قول أهل المنطق، العلم إما تصور وإما تصديق، وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل وإما أن يراد به التصديق الجازم وهو مقابل الجهل وهذا غير مراد في عد العلوم وإما أن يراد بالعلم المسائل المعلومات وهي مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك العلم وهي قضايا كلية، ومباحث هذا العلم ليست بقضايا يبرهن عليها فما هي بكلية، بل هي تصورات جزئية غالبا لأنه تفسير ألفاظ أو استنباط معان. فأما تفسير الألفاظ فهو من قبيل التعريف اللفظي وأما الاستنباط فمن دلالة الالتزام وليس ذلك من القضية.
فإذ قلنا إن يوم الدين في قوله تعالى: {مالك يوم الدين} هو يوم الجزاء، وإذا قلنا إن قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} مع قوله: {وفصاله في عامين} يؤخذ منه أن أقل الحمل ستة أشهر عند من قال ذلك، لم يكن شيء من ذلك قضية، بل الأول تعريف لفظي، والثاني من دلالة الالتزام ولكنهم عدوا تفسير ألفاظ القرآن علما مستقلا أراهم فعلوا ذلك لواحد من وجوه ستة:
الأول: أن مباحثه لكونها تؤدي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية، نزلت منزلة القواعد الكلية لأنها مبدأ لها، ومنشأ، تنزيلا للشيء منزلة ما هو شديد الشبه به بقاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه، ولا شك أن ما تستخرج منه القواعد الكلية والعلوم أجدر بأن يعد علما من عد فروعه علما، وهم قد عدوا تدوين الشعر علما لما فى حفظه من استخراج نكت بلاغية وقواعد لغوية.
والثاني أن نقول: إن اشتراط كون مسائل العلم قضايا كلية
يبرهن عليها في العلم خاص بالعلوم المعقولة، لأن هذا اشتراط ذكره الحكماء في تقسيم
العلوم، أما العلوم الشرعية والأدبية فلا يشترط فيها ذلك، بل يكفي أن تكون مباحثها
مفيدة كمالا علميا لمزاولها، والتفسير أعلاها في ذلك، كيف وهو بيان مراد الله تعالى
من كلامه، وهم قد عدوا البديع علما والعروض علما وما هي إلا تعاريف لألقاب
اصطلاحية. والثالث أن نقول: التعاريف اللفظية تصديقات على رأي بعض
المحققين فهي تؤول إلى قضايا، وتفرع المعاني الجمة عنها نزلها منزلة الكلية،
والاحتجاج عليها بشعر العرب وغيره يقوم مقام البرهان على المسألة، وهذا الوجه يشترك
مع الوجه الأول في تنزيل مباحث التفسير منزلة المسائل، إلا أن وجه التنزيل في الأول
راجع إلى ما يتفرع عنها، وهنا راجع إلى ذاتها مع أن التنزيل في الوجه الأول في جميع
الشروط الثلاثة وهنا في شرطين، لأن كونها قضايا إنما يجيء على مذهب بعض
المنطقيين. الرابع
أن نقول: إن علم التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه مثل تقرير قواعد النسخ
عند تفسير {ما ننسخ من آية} وتقرير قواعد التأويل عند تقرير {وما يعلم تأويله}
وقواعد المحكم عند تقرير {منه آيات محكمات} فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا،
وقد اعتنى العلماء بإحصاء كليات تتعلق بالقرآن، وجمعها ابن فارس، وذكرها عنه في
الإتقان وعنى بها أبو البقاء الكفوي في كلياته، فلا بدع أن تزاد تلك في وجوه شبه
مسائل التفسير بالقواعد الكلية. الخامس: أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع
وكلياته فكان بذلك حقيقا بأن يسمى علما ولكن المفسرين ابتدأوا بتقصي معاني القرآن
فطفحت عليهم وحسرت دون كثرتها قواهم، فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع
إلا في مواضع قليلة. السادس
وهو الفصل: أن التفسير كان أول ما اشتغل به علماء الإسلام قبل الاشتغال بتدوين بقية
العلوم، وفيه كثرت مناظراتهم. وكان يحصل من مزاولته والدربة فيه لصاحبه ملكة يدرك
بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، فكان بذلك مفيدا علوما كلية لها مزيد اختصاص
بالقرآن المجيد، فمن أجل ذلك سمي علما. ويظهر
أن هذا العلم إن أخذ من حيث إنه بيان وتفسير لمراد الله من كلامه كان معدودا من
أصول العلوم الشرعية وهي التي ذكرها الغزالي في الضرب الأول من العلوم الشرعية
المحمودة من كتاب الإحياء، لأنه عد أولها الكتاب والسنة، ولا شك أنه لا يعني بعلم
الكتاب حفظ ألفاظه بل فهم معانيها وبذلك صح أن يعد رأس العلوم الإسلامية كما وصفه
البيضاوي بذلك، وإن أخذ من حيث ما فيه من بيان مكي ومدني، وناسخ ومنسوخ، ومن قواعد
الاستنباط التي تذكر أيضا في علم أصول الفقه من عموم وخصوص وغيرهما كان معدودا في
متممات العلوم الشرعية المذكورة في الضرب الرابع من كلام الغزالي، وبذلك الاعتبار
عد فيها إذ قال الضرب الرابع المتممات وذلك في علم القرآن ينقسم إلى ما يتعلق
باللفظ، كعلم القراءات، وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير فإن اعتماده أيضا على
النقل، وإلى ما يتعلق بأحكامه كالناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وكيفية استعمال
البعض منه مع البعض وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه وهو بهذا الاعتبار لا يكون رئيس
العلوم الشرعية. والتفسير أول العلوم الإسلامية ظهورا، إذ قد ظهر الخوض
فيه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان بعض أصحابه قد سأل عن بعض معاني
القرآن كما سأله عمر رضي الله عنه عن الكلالة، ثم اشتهر فيه بعد من الصحابة علي
وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولا في التفسير، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وعبد الله
بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكثر الخوض فيه، حين دخل في
الإسلام من لم يكن عربي السجية، فلزم التصدي لبيان معاني القرآن لهم، وشاع عن
التابعين وأشهرهم في ذلك مجاهد وابن جبير، وهو أيضا أشرف العلوم الإسلامية ورأسها
على التحقيق. وأما
تصنيفه فأول من صنف فيه عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة 80 هـ والمتوفى سنة
149 هـ صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة وجمع فيه آثارا وغيرها وأكثر روايته عن أصحاب
ابن عباس مثل عطاء ومجاهد، وصنفت تفاسير ونسبت روايتها إلى ابن عباس، لكن أهل الأثر
تكلموا فيها وهي "تفسير محمد بن السائب الكلبي" المتوفى سنة 146 هـ عن أبي صالح عن
ابن عباس، وقد رمي أبو صالح بالكذب حتى لقب بكلمة دروغدت بالفارسية بمعنى الكذاب
وهي أوهى الروايات فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان السدي عن الكلبي فهي سلسلة
الكذب، أرادوا بذلك أنها ضد ما لقبوه بسلسلة الذهب، وهي مالك عن نافع عن ابن عمر.
وقد قيل: إن الكلبي كان من أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل، الذي أسلم وطعن في
الخلفاء الثلاثة وغلا في حب علي بن أبي طالب، وقال: إن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى
الدنيا وقد قيل إنه ادعى إلهية علي. وهنالك
رواية مقاتل ورواية الضحاك، ورواية علي بن أبي طلحة الهاشمي كلها عن ابن عباس،
وأصحها رواية علي بن أبي طلحة، وهي التي اعتمدها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه
فيما يصدر به من تفسير المفردات على طريقة التعليق، وقد خرج في الإتقان، جميع ما
ذكره البخاري من تفسير المفردات، عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرتبة على سور
القرآن. والحاصل أن الرواية عن ابن عباس، قد اتخذها الوضاعون والمدلسون ملجأ لتصحيح
ما يروونه كدأب الناس في نسبة كل أمر مجهول من الأخبار والنوادر، لأشهر الناس في
ذلك المقصد. وهنالك
روايات تسند لعلي رضي الله عنه، أكثرها من الموضوعات، إلا ما روي بسند صحيح، مثل ما
في صحيح البخاري ونحوه، لأن لعلي أفهاما في القرآن كما ورد في صحيح البخاري، عن أبي
جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله? فقال: لا والذي فلق
الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ثم تلاحق العلماء
في تفسير القرآن وسلك كل فريق مسلكا يأوي إليه وذوقا يعتمد عليه. فمنهم من سلك مسلك نقل ما يؤثر عن السلف، وأول من صنف في
هذا المعنى، مالك ابن أنس، وكذلك الداودي تلميذ السيوطي في طبقات المفسرين، وذكره
عياض في المدارك إجمالا. وأشهر أهل هذه الطريقة فيما هو بأيدي الناس محمد بن جرير
الطبري. ومنهم
من سلك مسلك النظر كأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي، وشغف كثير بنقل القصص عن
الإسرائيليات، فكثرت في كتبهم الموضوعات، إلى أن جاء في عصر واحد عالمان جليلان
أحدهما بالمشرق، وهو العلامة أبو القاسم محمود الزمخشري، صاحب "الكشاف"، والآخر
بالمغرب بالأندلس وهو الشيخ عبد الحق بن عطية، فألف تفسيره المسمى بـ"المحرر
الوجيز". كلاهما يغوص على معاني الآيات، ويأتي بشواهدها من كلام العرب ويذكر كلام
المفسرين إلا أن منحى البلاغة والعربية بالزمخشري أخص، ومنحى الشريعة على ابن عطية
أغلب، وكلاهما عضادتا الباب، ومرجع من بعدهما من أولي الألباب. وقد جرت عادة المفسرين بالخوض في بيان معنى التأويل، وهل
هو مساو للتفسير أو أخص منه أو مباين. وجماع القول في ذلك أن من العلماء من جعلهما
متساويين، وإلى ذلك ذهب ثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة، وهو ظاهر كلام الراغب،
ومنهم من جعل التفسير للمعنى الظاهر والتأويل للمتشابه، ومنهم من قال: التأويل صرف
اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل فيكون هنا بالمعنى الأصولي، فإذا فسر
قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت} بإخراج الطير من البيضة، فهو التفسير، أو بإخراج
المسلم من الكافر فهو التأويل، وهنالك أقوال أخر لا عبرة بها، وهذه كلها اصطلاحات
لا مشاحة فيها إلا أن اللغة والآثار تشهد للقول الأول، لأن التأويل مصدر أوله إذا
أرجعه إلى الغاية المقصودة، والغاية المقصودة من اللفظ هو معناه وما أراده منه
المتكلم به من المعاني، فساوى التفسير، على أنه لا يطلق إلا على ما فيه تفصيل معنى
خفي معقول. قال الأعشى:
على أنها كانت تأول حبها = تأول ربعي السقاب فأصحبا
أي تبيين
تفسير حبها أنه كان صغيرا في قلبه، فلم يزل يشب حتى صار كبيرا كهذا السقب، أي ولد
الناقة، الذي هو من السقاب الربيعية لم يزل يشب حتى كبر وصار له ولد يصحبه قاله أبو
عبيدة، وقد قال الله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله} أي ينتظرون إلا بيانه الذي هو
المراد منه، وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين
وعلمه التأويل))، أي فهم معاني القرآن، وفي حديث عائشة رضي الله عنها كان صلى الله
عليه وسلم يقول في ركوعه: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) يتأول
القرآن أي يعمل بقوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره} فلذلك جمع في دعائه التسبيح
والحمد وذكر لفظ الرب وطلب المغفرة فقولها: "يتأول"، صريح في أنه فسر الآية بالظاهر
منها ولم يحملها على ما تشير إليه من انتهاء مدة الرسالة وقرب انتقاله صلى الله
عليه وسلم، الذي فهمه منها عمر وابن عباس رضي الله عنهما).