2 Oct 2022
صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه
المقدمة الثالثة
في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه
قالَ مُحَمَّدُ الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت:1393هـ): (إن قلت: أتراك بما عددت من علوم التفسير تثبت أن تفسيرا كثيرا للقرآن لم يستند إلى مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وتبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظا كافيا وذوقا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه، أن يفسر من آي القرآن بما لم يؤثر عن هؤلاء، فيفسر بمعان تقتضيها العلوم التي يستمد منها علم التفسير، وكيف حال التحذير الواقع في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار))، وفي رواية: ((من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)). والحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" وكيف محمل ما روي من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف? فقد روي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن تفسير الأب في قوله {وفاكهة وأبا }. فقال: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي". ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي إحجامهما عن ذلك.
قلت: أراني كما حسبت أثبت ذلك وأبيحه، وهل اتسعت التفاسير وتفننت مستنبطات معاني القرآن إلا بما رزقه الذين أوتوا العلم من فهم في كتاب الله. وهل يتحقق قول علمائنا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه إلا بازدياد المعاني باتساع التفسير? ولولا ذلك لكان تفسير القرآن مختصرا في ورقات قليلة. وقد قالت عائشة: ما كان رسول الله يفسر من كتاب الله إلا آيات معدودات علمه جبريل إياهن كما تقدم في المقدمة الثانية.
ثم لو كان التفسير مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم. قال الغزالي والقرطبي: لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم عن عائشة. الثاني أنهم اختلفوا في التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها. وسماع جميعها من رسول الله محال، ولو كان بعضها مسموعا لترك الآخر، أي لو كان بعضها مسموعا لقال قائله: إنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليه من خالفه، فتبين على القطع أن كل مفسر قال في معنى الآية بما ظهر له باستنباطه. روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله? قال: "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن" إلخ وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن، وقد ذكر فقهاؤنا في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم، قال الغزالي في الإحياء: "التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين قال: ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة".
وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} في سورة النساء وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة، وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف بضم الخاء ا هـ. وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا? فغضب وقال: إنما قاله من علمه يريد نفسه، وقال أبو بكر ابن العربي في العواصم إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة.
وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن في خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك? وهذا الإمام الشافعي يقول: تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به في قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
قال شرف الدين الطيبي في شرح الكشاف في سورة الشعراء: شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال، سليما من التكلف عريا من التعسف، وصاحب الكشاف يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير.
وأما الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي فمرجعه إلى أحد خمسة وجوه:
أولها: أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول، فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم، لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل: "رمية من غير رام" وهذا كمن فسر {الم} إن الله أنزل جبريل على محمد بالقرآن فإنه لا مستند لذلك، وأما ما روي عن الصديق رضي الله عنه فيما تقدم في تفسير الآية فذلك من الورع خشية الوقوع في الخطأ في كل ما لم يقم له فيه دليل أو في مواضع لم تدع الحاجة إلى التفسير فيها، ألم تر أنه سئل عن الكلالة في آية النساء فقال: أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان إلخ. وعلى هذا المحمل ما روي عن الشعبي وسعيد أي أنهما تباعدا عما يوقع في ذلك ولو على احتمال بعيد مبالغة في الورع ودفعا للاحتمال الضعيف، وإلا فإن الله تعالى ما تعبدنا في مثل هذا إلا ببذل الوسع مع ظن الإصابة.
ثانيها: أن لا يتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن يعتمد على ما يبدو من وجه في العربية فقط، كمن يفسر قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله} الآية على ظاهر معناها يقول، إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله تعالى: {قل كل من عند الله} أو بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم تكن عمياء، فهذا من الرأي المذموم لفساده.
ثالثها: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف، فيجر شهادة القرآن لتقرير رأيه ويمنعه عن فهم القرآن حق فهمه ما قيد عقله من التعصب، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه حتى إن لمع له بارق حق وبدا له معنى يباين مذهبه حمل عليه شيطان التعصب حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقدك كمن يعتقد من الاستواء على العرش التمكن والاستقرار، فإن خطر له أن معنى قوله تعالى: {القدوس} أنه المنزه عن كل صفات المحدثات حجبه تقليده عن أن يتقرر ذلك في نفسه، ولو تقرر لتوصل فهمه فيه إلى كشف معنى ثان أو ثالث، ولكنه يسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته مذهبه. وجمود الطبع على الظاهر مانع من التوصل للغور. كذلك تفسير المعتزلة قوله: {إلى ربها ناظرة} بمعنى أنها تنتظر نعمة ربها على أن إلى واحد الآلاء مع ما في ذلك من الخروج عن الظاهر وعن المأثور وعن المقصود من الآية.
وقالت البيانية في قوله تعالى: {هذا بيان للناس}: إنه بيان ابن سمعان كبير مذهبهم. وكانت المنصورية أصحاب أبي منصور الكسف يزعمون أن المراد من قوله تعالى: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم} أن الكسف إمامهم نازل من السماء، وهذا إن صح عنهم ولم يكن من ملصقات أضدادهم فهو تبديل للقرآن ومروق عن الدين.
رابعها: أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق على المتأولين.
خامسها: أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل ونبذ التسرعإلى ذلك، وهذا مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء غير عازيه إلى غيره. وكان الأصمعي لا يفسر كلمة من العربية إذا كانت واقعة في القرآن، ذكر ذلك في المزهر فأبى أن يتكلم في أن سرى وأسرى بمعنى واحد، لأن أسرى ذكرت في القرآن، ولا في أن عصفت الريح وأعصفت بمعنى واحد لأنها في القرآن، وقال: الذي سمعته في معنى الخليل أنه أصفى المودة وأصمها ولا أزيد فيه شيئا لأنه في القرآن اهـ.
فهذا ضرب من الورع يعتري بعض الناس لخوف، وأنه قد يعتري كثيرا من أهل العلم والفضل، وربما تطرق إلى بعضهم في بعض أنواع الأحوال دون بعض، فتجد من يعتريه ذلك في العلم ولا يعتريه في العقل، وقد تجد العكس، والحق أن الله ما كلفنا في غير أصول الاعتقاد بأكثر من حصول الظن المستند إلى الأدلة والأدلة متنوعة على حسب أنواع المستند فيه، وأدلة فهم الكلام معروفة وقد بيناها.
أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر، فإن أرادوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن، فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير، وغلطوا سلفهم فيما تأولوه، إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أرادوا بالمأثور ما روي عن النبي وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره الدر المنثور، لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن علي بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع، وقد ثبت عنه أنه قال: ما عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله. وما يروى عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة. وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروى عنه قولا برأيه على تفاوت بين رواته. وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل ما يروى عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود، فقد أخذوا يفتحون الباب من شقه، ويقربون ما بعد من الشقة، إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافا ينبئ إنباء واضحا بأنهم إنما تأولوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم، وهي ثابتة في تفسير الطبري ونظرائه، وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين، لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن حاتم[1] وابن مردويه والحاكم، فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية.
وإذ قد تقصينا مثارات التفسير بالرأي المذموم وبينا لكم الأشباه والأمثال، بما لا يبقى معه للاشتباه من مجال، فلا نجاوز هذا المقام ما لم ننبهكم إلى حال طائفة التزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سموه الباطن، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض، وأصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به، وهم يعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية لأنهم ينسبون مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق، ويعتقدون عصمته وإمامته بعد أبيه بالوصاية، ويرون أن لا بد للمسلمين من إمام هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين، ويبين مراد الله. ولما توقعوا أن يحاجهم العلماء بأدلة القرآن والسنة رأوا أن لا محيص لهم من تأويل تلك الحجج التي تقوم في وجه بدعتهم، وأنهم إن خصوها بالتأويل وصرف اللفظ إلى الباطن اتهمهم الناس بالتعصب والتحكم فرأوا صرف جميع القرآن عن ظاهره وبنوه على أن القرآن رموز لمعان خفية في صورة ألفاظ تفيد معاني ظاهرة ليشتغل بها عامة المسلمين، وزعموا أن ذلك شأن الحكماء، فمذهبهم مبني على قواعد الحكمة الإشراقية ومذهب التناسخ والحلولية فهو خليط من ذلك، ومن طقوس الديانات اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة ودين زرادشت. وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وفي الأماكن المقدسة، وأنه يشبه الخلق تعالى وتقدس وكل علوي يحل فيه الإله. وتكلفوا لتفسير القرآن بما يساعد الأصول التي أسسوها. ولهم في التفسير تكلفات ثقيلة منها قولهم أن قوله تعالى: {وعلى الأعراف رجال} أن جبلا يقال له الأعراف هو مقر أهل المعارف الذين يعرفون كلا بسيماهم. وأن قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} أي لا يصل أحد إلى الله إلا بعد جوازه على الآراء الفاسدة إما في أيام صباه، أو بعد ذلك، ثم ينجي الله من يشاء. وإن قوله تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} أراد بفرعون القلب.
وقد تصدى للرد عليهم الغزالي في كتابه الملقب بـ "المستظهري". وقال: إذا قلنا بالباطن فالباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر فيمكن تنزيل الآية على وجوه شتى اهـ. يعني والذي يتخذونه حجة لهم يمكن أن نقلبه عليهم وندعي أنه باطن القرآن لأن المعنى الظاهر هو الذي لا يمكن اختلاف الناس فيه لاستناده للغة الموضوعة من قبل. وأما الباطن فلا يقوم فهم أحد فيه حجة على غيره اللهم إلا إذا زعموا أنه لا يتلقى إلا من الإمام المعصوم ولا إخالهم إلا قائلين ذلك. ويؤيد هذا ما وقع في بعض قراطيسهم قالوا إنما ينتقل إلى البدل مع عدم الأصل، والنظر بدل من الخبر فإن كلام الله هو الأصل فهو خلق الإنسان وعلمه البيان والإمام هو خليفته ومع وجود الخليفة الذي يبين قوله فلا ينتقل إلى النظر اهـ وبين ابن العربي في كتاب العواصم شيئا من فضائح مذهبهم بما لا حاجة إلى التطويل به هنا.
فإن قلت فما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا)). وعن ابن عباس أنه قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا. قلت لم يصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، بله المروي عن ابن عباس فمن هو المتصدي لروايته عنه? على أنهم ذكروا من بقية كلام ابن عباس أنه قال فظهره التلاوة وبطنه التأويل فقد أوضح مراده إن صح عنه بأن الظهر هو اللفظ والبطن هو المعنى. ومن تفسير الباطنية تفسير القاشاني وكثير من أقوالهم مبثوث في "رسائل إخوان الصفاء. "
أما ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه، وحسبكم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية. ولعلماء الحق فيها رأيان: فالغزالي يراها مقبولة، قال في كتاب من "الإحياء": إذا قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة، فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال: ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر اهـ. فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا} قال هم كفار قريش، ومحمد نعمة الله {وأحلوا قومهم دار البوار} قال يوم بدر.
وابن العربي في كتاب "العواصم" يرى إبطال هذه الإشارات كلها حتى أنه بعد أن ذكر نحلة الباطنية وذكر "رسائل إخوان الصفاء" أطلق القول في إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره، وحتى أنه بعد ما نوه بالثناء على الغزالي في تصديه للرد على الباطنية والفلاسفة قال: "وقد كان أبو حامد بدرا في ظلمة الليالي، وعقدا في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وحاد في أكثر أقواله عن الطريقة" اهـ.
وعندي إن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء: الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون مثلا {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس. ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية، {وسعى في خرابها} بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى، فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه بالمعرفة ويمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم الله، وذكر الآية عند تلك الحالة كالنطق بلفظ المثل، ومن هذا قولهم في حديث: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب)) كما تقدم عن الغزالي.
الثاني: ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده، والذي يجول في خاطره وهذا كمن قال في قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع} من ذل ذي إشارة للنفس يصير من المقربين للشفعاء، فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شغل به قلبه. ورأيت الشيخ محيي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع.
الثالث: عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه فإذا أخذوا من قوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا} اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.
ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر: هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلا للنار، فجعل يبكي ويقول: إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار.
فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين. وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما، فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا مناطه، وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم اختراطه.
وليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة، وفحوى الخطاب، وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي، ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} ومشروعية الضمان من قوله: {وأنا به زعيم}. ومشروعية القياس من قوله: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو {يا جبال أوبي معه} {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.
قال في الكشاف: وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها. يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة.
هذا وإن واجب النصح في الدين والتنبيه إلى ما يغفل عنه المسلمون مما يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم قضي علي أن أنبه إلى خطر أمر تفسير الكتاب والقول فيه دون مستند من نقل صحيح عن أساطين المفسرين أو إبداء تفسير أو تأويل من قائله إذا كان القائل توفرت فيه شروط الضلاعة في العلوم التي سبق ذكرها في المقدمة الثانية.
فقد رأينا تهافت كثير من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن فمنهم من يتصدى لبيان معنى الآيات على طريقة كتب التفسير ومنهم من يضع الآية ثم يركض في أساليب المقالات تاركا معنى الآية جانبا، جالبا من معاني الدعوة والموعظة ما كان جالبا، وقد دلت شواهد الحال على ضعف كفاية البعض لهذا العمل العلمي الجليل فيجب على العاقل أن يعرف قدره، وأن لا يتعدى طوره، وأن يرد الأشياء إلى أربابها، كي لا يختلط الخاثر بالزباد، ولا يكون في حالك سواد، وإن سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة، وإفحاش لأهل هذه الغلطة، فمن يركب متن عمياء، ويخبط خبط عشواء، فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه، وتمييز حلوه من أجاجه، تحذيرا للمطالع، وتنزيلا في البرج والطالع).
[1] لعله ابن أبي حاتم.