2 Oct 2022
فيما يحق أن يكون غرض المفسر
المقدمة الرابعة
فيما يحق أن يكون غرض
المفسر
قالَ
مُحَمَّدُ الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت:1393هـ): (كأني بكم وقد مر
على أسماعكم ووعت ألبابكم ما قررته من استمداد علم التفسير، ومن صحة تفسير القرآن
بغير المأثور، ومن الإنحاء على من يفسر القرآن بما يدعيه باطنا ينافي مقصود القرآن،
ومن التفرقة بين ذلك وبين الإشارات، تتطلعون بعد إلى الإفصاح عن غاية المفسر من
التفسير، وعن معرفة المقاصد التي نزل القرآن لبيانها حتى تستبين لكم غاية المفسرين
من التفسير على اختلاف طرائقهم، وحتى تعلموا عند مطالعة التفاسير مقادير اتصال ما
تشتمل عليه، بالغاية التي يرمي إليها المفسر فتزنوا بذلك مقدار ما أوفى به من
المقصد، ومقدار ما تجاوزه، ثم ينعطف القول إلى التفرقة بين من يفسر القرآن بما يخرج
عن الأغراض المرادة منه، وبين من يفصل معانيه تفصيلا، ثم ينعطف القول إلى نموذج مما
استخرجه العلماء من مستنبطات القرآن في كثير من العلوم. إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة
رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل
شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية،
والجماعية، والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه
صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي
العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح
الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا
بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه
يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر
عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ
نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ
مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة
المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع. فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ
مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا
بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولو الألباب} سواء قلنا إنه يمكن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى وهو قول
علمائنا والمشائخي والسكاكي وهما من المعتزلة، أم قال قائل بقول بقية المعتزلة إن
الاطلاع على تمام مراد الله تعالى غير ممكن وهو خلاف لا طائل تحته إذ القصد هو
الإمكان الوقوعي لا العقلي، فلا مانع من التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة
ومبلغ العلم مع تعذر الاطلاع على تمامه. وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا
لوحيه، ومستودعا لمراده، وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة
علمها: منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا، وأكثرها تحملا للمعاني مع
إيجاز لفظه، ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي
عند المجادلة، ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية، ولا عن تلقي
الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس
المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة
أحوالهم، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب
السنين ينافي ذلك، نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي
شريعته وبثها ونشرها، فهم المخاطبون ابتداء قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم
مرعية لا محالة، وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة، وإصلاح أحوالهم قال
تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} وقال {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب
على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا
الكتاب لكنا أهدى منهم} لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم كما
سيأتي. أليس
قد وجب على الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها
فلنلم بها الآن بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا وهي ثمانية أمور: الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح. وهذا أعظم
سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويطهر
القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى
قوله تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك
وما زادوهم غير تتبيب} فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه
من آثار الاعتقاد بالآلهة. الثاني: تهذيب الأخلاق قال تعالى {وإنك لعلى خلق
عظيم}. وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها
لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. وفي الحديث الذي رواه
مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت لأتمم مكارم حسن
الأخلاق)) وهذا المقصد قد فهمه عامة العرب بله خاصة الصحابة، وقال أبو خراش الهذلي
مشيرا إلى ما دخل على العرب من أحكام الإسلام بأحسن تعبير:
فليس كعهد الدار يأم مالك =
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل وعاد الفتى
كالكهل ليس بقائل = سوى العدل شيئا فاستراح العواذل أراد بإحاطة السلاسل بالرقاب أحكام الإسلام. والشاهد في
قوله: وعاد الفتى كالكهل. الثالث: التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى:
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} {وأنزلنا إليك
الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل
الله} ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب، وجزئيا في المهم، فقوله:
{تبيانا لكل شيء} وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} المراد بهما إكمال الكليات التي
منها الأمر بالاستنباط والقياس. قال الشاطبي لأنه على اختصاره جامع والشريعة تمت
بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية. الرابع: سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه
صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله: {واعتصموا بحبل الله
جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم
بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} وقوله: {إن الذين فرقوا
دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} وقوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}
وقوله: {وأمرهم شورى بينهم}. الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح
أحوالهم قال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله
لمن الغافلين} {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وللتحذير من مساويهم قال:
{وتبين لكم كيف فعلنا بهم} وفي خلالها تعليم، وكنا أشرنا إليها في المقدمة
الثانية. السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما
يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم
مخالطي العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة
الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر، ثم نوه بشأن الحكمة
فقال: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} وهذا أوسع باب
انبجست منه عيون المعارف، وانفتحت به عيون الأميين إلى العلم. وقد لحق به التنبيه
المتكرر على فائدة العلم، وذلك شيء لم يطرق أسماع العرب من قبل، إنما قصارى علومهم
أمور تجريبية، وكان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تضم إليه تجربة وهم العرفاء
فجاء القرآن بقوله: {وما يعقلها إلا العالمون} {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا
يعلمون} وقال {ن * والقلم} فنبه إلى مزية الكتابة. السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، وهذا يجمع
جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب
والترهيب. الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول؛
إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه
ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه {قل فأتوا بسورة مثله} ولمعرفة أسباب النزول
مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه. هذا ما بلغ إليه استقرائي. وللغزالي في إحياء
علوم الدين بعض من ذلك. فغرض
المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله
المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه
فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا كما أشرنا إليه في المقدمة الأولى،
مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل، فلا جرم
كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله، ويعرف
اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات، وتعرض صاحب الكشاف إلى شيء من
عادات القرآن في متناثر كلامه في تفسيره. فطرائق المفسرين للقرآن ثلاث، إما الاقتصار على الظاهر
من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل. وإما استنباط معان من
وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن،
وتلك هي مستتبعات التراكيب وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة
ككون التأكيد يدل على إنكار المخاطب أو تردده، وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة
واحتمال المجاز مع الحقيقة، وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين
المعنى، أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها، أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين
بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه، أو لرد مطاعن من
يزعم أنه ينافيه لا على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع كما
أشرنا إليه في المقدمة الثانية. ففي
الطريقة الثانية قد فرع العلماء وفصلوا في الأحكام، وخصوها بالتآليف الواسعة، وكذلك
تفاريع الأخلاق والآداب التي أكثر منها حجة الإسلام الغزالي في كتاب الإحياء فلا
يلام المفسر إذا أتى بشيء من تفاريع العلوم مما له خدمة للمقاصد القرآنية، وله مزيد
تعلق بالأمور الإسلامية كما نفرض أن يفسر قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} بما
ذكره المتكلمون في إثبات الكلام النفسي والحجج لذلك، والقول في ألفاظ القرآن وما
قاله أهل المذاهب في ذلك. وكذا أن يفسر ما حكاه الله تعالى في قصة موسى مع الخضر
بكثير من آداب المعلم والمتعلم كما فعل الغزالي. وقد قال ابن العربي إنه أملى عليها
ثمانمائة مسألة. وكذلك تقرير مسائل من علم التشريع لزيادة بيان قوله تعالى في خلق
الإنسان: {من نطفة ثم من علقة} الآيات، فإنه راجع إلى المقصد وهو مزيد تقرير عظمة
القدرة الإلهية. وفي
الطريقة الثالثة تجلب مسائل علمية من علوم لها مناسبة بمقصد الآية: إما على أن
بعضها يومئ إليه معنى الآية ولو بتلويح ما كما يفسر أحد قوله تعالى: {ومن يؤت
الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} فيذكر تقسيم علوم الحكمة ومنافعها مدخلا ذلك تحت قوله:
{خيرا كثيرا} فالحكمة وإن كانت علما اصطلاحيا وليس هو تمام المعنى للآية إلا أن
معنى الآية الأصلي لا يفوت وتفاريع الحكمة تعين عليه. وكذلك أن نأخذ من قوله تعالى:
{كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} تفاصيل من علم الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة
العامة ونعلل بذلك مشروعية الزكاة والمواريث والمعاملات المركبة من رأس مال وعمل
على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء. وأن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير
آي القرآن كما نفرض مسألة كلامية لتقرير دليل قرآني مثل برهان التمانع لتقرير معنى
قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}. وكتقرير مسألة المتشابه لتحقيق
معنى نحو قوله تعالى { والسماء بنيناها بأيد} فهذا كونه من غايات التفسير واضح،
وكذا قوله تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من
فروج} فإن القصد منه الاعتبار بالحالة المشاهدة فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة
وبين أسرارها وعللها بما هو مبين في علم الهيئة كان قد زاد المقصد خدمة. وإما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل
الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع. وإما على وجه الاسترواح من الآية كما يؤخذ من
قوله تعالى: {ويوم نسير الجبال} أن فناء العالم يكون بالزلازل ومن قوله: {إذا الشمس
كورت} الآية أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم. وشرط كون ذلك مقبولا أن يسلك
فيه مسلك الإيجاز فلا يجلب إلا الخلاصة من ذلك العلم ولا يصير الاستطراد كالغرض
المقصود له لئلا يكون كقولهم: الشيء بالشيء يذكر. وللعلماء في سلوك هذه الطريقة الثالثة على الإجمال آراء:
فأما جماعة منهم فيرون من الحسن التوفيق بين العلوم غير الدينية وآلاتها وبين
المعاني القرآنية، ويرون القرآن مشيرا إلى كثير منها. قال ابن رشد الحفيد في فصل
المقال: أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن
تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر
الناس. وتباين قرائحهم في التصديق وتخلص إلى القول بأن بين العلوم الشرعية
والفلسفية اتصالا. وإلى مثل ذلك ذهب قطب الدين الشيرازي في شرح حكمة الإشراق، وهذا
الغزالي والإمام الرازي وأبو بكر ابن العربي وأمثالهم صنيعهم يقتضي التبسط وتوفيق
المسائل العلمية، فقد ملأوا كتبهم من الاستدلال على المعاني القرآنية بقواعد العلوم
الحكمية وغيرها وكذلك الفقهاء في كتب "أحكام القرآن"، وقد علمت ما قاله ابن العربي
فيما أملاه على سورة نوح وقصة الخضر وكذلك ابن جني والزجاج وأبو حيان قد أشبعوا
"تفاسيرهم" من الاستدلال على القواعد العربية، ولا شك أن الكلام الصادر عن علام
الغيوب تعالى وتقدس لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة ولكن معانيه تطابق الحقائق،
وكل ما كان من الحقيقة في علم من العلوم وكانت الآية لها اعتلاق بذلك فالحقيقة
العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف
باختلاف المقامات ويبنى على توفر الفهم، وشرطه أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية،
ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل، ولا يكون تكلفا بينا ولا خروجا عن المعنى الأصلي حتى
لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية. وأما
أبو إسحاق الشاطبي فقال في الفصل الثالث من المسألة الرابعة: لا يصح في مسلك الفهم
والإفهام إلا ما يكون عاما لجميع العرب. فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه وقال في
المسألة الرابعة من النوع الثاني: "ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب
أهلها وهم العرب تنبني عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على
القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات
والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح فإن
السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أن أحدا منهم
تكلم في شيء من هذا سوى ما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة. نعم تضمن
علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه
إدراكات العقول الراجحة" إلخ. وهذا مبني على ما أسسه من كون القرآن لما كان خطابا
للأميين وهم العرب فإنما يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم، وأن
الشريعة أمية. وهو أساس واه لوجوه ستة: الأول أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم
يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال وهذا باطل لما قدمناه، قال تعالى: {تلك من
أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا}. الثاني أن مقاصد
القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن
تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة. الثالث أن السلف
قالوا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه ولو كان كما قال الشاطبي لانقضت
عجائبه بانحصار أنواع معانيه. الرابع أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع
إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة. الخامس أن مقدار أفهام المخاطبين به
ابتداء لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم فأما مازاد على المعاني
الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام، وتحجب عنه أقوام، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه
منه. السادس أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده فنحن نساعد
عليه، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات بل قد بينوا
وفصلوا وفرعوا في علوم عنوا بها، ولا يمنعنا ذلك أن نقفي على آثارهم في علوم أخرى
راجعة لخدمة المقاصد القرآنية أو لبيان سعة العلوم الإسلامية، أما ما وراء ذلك فإن
كان ذكره لإيضاح المعنى فذلك تابع للتفسير أيضا. لأن العلوم العقلية إنما تبحث عن
أحوال الأشياء على ما هي عليه، وإن كان فيما زاد على ذلك فذلك ليس من التفسير لكنه
تكملة للمباحث العلمية واستطراد في العلم لمناسبة التفسير ليكون متعاطي التفسير
أوسع قريحة في العلوم. وذهب ابن العربي
في "العواصم" إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية ولم يتكلم
على غير هاته العلوم وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات
الاعتقادية وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء. وأنا أقول: إن علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب: الأولى: علوم تضمنها القرآن كأخبار
الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية
والبلاغة. الثانية: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيئة وخواص
المخلوقات. الثالثة: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات
الأرض والطب والمنطق. الرابعة: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر
والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض
والقوافي).