2 Oct 2022
من إعجاز القرآن مبتكراته وعاداته
مبتكرات القرآن
قالَ مُحَمَّدُ الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت:1393هـ): (هذا وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب.
فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة وقد نبه عليه العلماء المتقدمون. وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة، بل جاء بطريقة كتاب يقصد حفظه وتلاوته، وذلك من وجوه إعجازه إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام.
وأعد من ذلك أنه جاء بالجمل الدالة على معان مفيدة محررة
شأن الجمل العلمية والقواعد التشريعية، فلم يأت بعمومات شأنها التخصيص غير مخصوصة،
ولا بمطلقات تستحق التقييد غير مقيدة، كما كان يفعله العرب لقلة اكتراثهم بالأحوال
القليلة والأفراد النادرة. مثاله قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير
أولي الضرر والمجاهدون} وقوله: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} فبين أن
الهوى قد يكون محمودا إذا كان هوى المرء عن هدى، وقوله: {إن الإنسان لفي خسر إلا
الذين آمنوا}. ومنها أن جاء على أسلوب
التقسيم والتسوير وهي سنة جديدة في الكلام العربي أدخل بها عليه طريقة التبويب
والتصنيف وقد أومأ إليها في الكشاف إيماء. ومنها الأسلوب القصصي في حكاية أحوال النعيم والعذاب في
الآخرة، وفي تمثيل الأحوال، وقد كان لذلك تأثير عظيم على نفوس العرب إذ كان فن
القصص مفقودا من أدب العربية إلا نادرا، كان في بعض الشعر كأبيات النابغة في الحية
التي قتلت الرجل وعاهدت أخاه وغدر بها، فلما جاء القرآن بالأوصاف بهت به العرب كما
في سورة الأعراف من وصف أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف {ونادى أصحاب الجنة
أصحاب النار} إلخ وفي سورة الحديد {فضرب بينهم بسور} الآيات. ومما يتبع هذا أن القرآن يتصرف في حكاية أقوال المحكي
عنهم فيصوغها على ما يقتضيه أسلوب إعجازه لا على الصيغة التي صدرت فيها، فهو إذا
حكى أقوالا غير عربية صاغ مدلولها في صيغة تبلغ حد الإعجاز بالعربية، وإذا حكى
أقوالا عربية تصرف فيها تصرفا يناسب أسلوب المعبر مثل ما يحكيه عن العرب فإنه لا
يلتزم حكاية ألفاظهم بل يحكي حاصل كلامهم، وللعرب في حكاية الأقوال اتساع مداره على
الإحاطة بالمعنى دون التزام الألفاظ، فالإعجاز الثابت للأقوال المحكية في القرآن هو
إعجاز للقرآن لا للأقوال المحكية. ومن
هذا القبيل حكاية الأسماء الواقعة في القصص فإن القرآن يغيرها إلى ما يناسب حسن
مواقعها في الكلام من الفصاحة مثل تغيير شاول إلى طالوت، وتغيير اسم تارح أبي
إبراهيم إلى آزر. وكذلك
التمثيل فقد كان في أدب العرب الأمثال وهي حكاية أحوال مرموز لها بتلك الجمل
البليغة التي قيلت فيها أو قيلت لها المسماة بالأمثال، فكانت تلك الجمل مشيرة إلى
تلك الأحوال، إلا أنها لما تداولتها الألسن في الاستعمال وطال عليها الأمد نسيت
الأحوال التي وردت فيها ولم يبق للأذهان عند النطق بها إلا الشعور بمغازيها التي
تقال لأجلها. أما
القرآن فقد أوضح الأمثال وأبدع تركيبها كقوله تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم
أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} وقوله: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من
السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} وقوله: {والذين كفروا أعمالهم
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن} إلى قوله: {فما له من نور} وقوله {والذين يدعون من دونه
لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو
ببالغه}. لم
يلتزم القرآن أسلوبا واحدا، واختلفت سوره وتفننت، فتكاد تكون لكل سورة لهجة خاصة،
فإن بعضها بني على فواصل وبعضها ليس كذلك. وكذلك فواتحها منها ما افتتح بالاحتفال
كالحمد، و{يا أيها الذين آمنوا}، و{الم * ذلك الكتاب}، وهي قريب مما نعبر عنه في
صناعة الإنشاء بالمقدمات. ومنها ما افتتح بالهجوم على الغرض من أول الأمر نحو
{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} و{براءة من الله
ورسوله}. ومن أبدع الأساليب في كلام
العرب الإيجاز وهو متنافسهم وغاية تتبارى إليها فصحاؤهم، وقد جاء القرآن بأبدعه إذ
كان مع ما فيه من الإيجاز المبين في علم المعاني فيه إيجاز عظيم آخر وهو صلوحية
معظم آياته لأن تؤخذ منها معان متعددة كلها تصلح لها العبارة باحتمالات لا ينافيها
اللفظ، فبعض تلك الاحتمالات مما يمكن اجتماعه، وبعضها وإن كان فرض واحد منه يمنع من
فرض آخر فتحريك الأذهان إليه وإخطاره بها يكفي في حصول المقصد من التذكير به
للامتثال أو الانتهاء. وقد أشرنا إلى هذا في المقدمة التاسعة. ولولا إيجاز القرآن
لكان أداء ما يتضمنه من المعاني في أضعاف مقدار القرآن. وأسرار التنزيل ورموزه في
كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزيد عن تبصره، {ولا ينبئك
مثل خبير}. إنك
تجد في كثير من تراكيب القرآن حذفا ولكنك لا تعثر على حذف يخلو الكلام من دليل عليه
من لفظ أو سياق، زيادة على جمعه المعاني الكثيرة في الكلام القليل، قال في الكشاف
في سورة المدثر الحذف والاختصار هو نهج التنزيل قال بعض بطارقة الروم لعمر بن
الخطاب لما سمع قوله تعالى: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم
الفائزون} قد جمع الله في هذه الآية ما أنزل على عيسى من أحوال الدنيا والآخرة. ومن
ذلك قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} الآية، جمع بين أمرين ونهيين
وبشارتين، ومن ذلك قوله: {ولكم في القصاص حياة} مقابلا أوجز كلام عرف عندهم وهو
القتل أنفى للقتل، ومن ذلك قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي}
ولقد بسط السكاكي في المفتاح آخر قسم البيان نموذجا مما اشتملت عليه هذه الآية من
البلاغة والفصاحة، وتصدى أبو بكر الباقلاني في كتابه المسمى إعجاز القرآن إلى بيان
ما في سورة النمل من الخصائص فارجع إليهما. وأعد من أنواع إيجازه إيجاز الحذف مع عدم الالتباس، وكثر
ذلك في حذف القول، ومن أبدع الحذف قوله تعالى: {في جنات يتساءلون عن المجرمين ما
سلككم في سقر} أي يتذاكرون شأن المجرمين فيقول من علموا شأنهم سألناهم فقلنا ما
سلككم في سقر. قال في الكشاف قوله: {ما سلككم في سقر} ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما
هو حكاية قول المسؤولين، أي أن المسئولين يقولون للسائلين قلنا لهم {ما سلككم في
سقر قالوا لم نك من المصلين} اهـ. ومنه
حذف المضاف كثيرا كقوله تعالى: {ولكن البر من آمن بالله} وحذف الجمل التي يدل
الكلام على تقديرها نحو قوله تعالى: {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق}
إذ التقدير: فضرب فانفلق. ومن ذلك الإخبار عن أمر خاص بخبر يعمه وغيره لتحصل فوائد:
فائدة الحكم العام، وفائدة الحكم الخاص، وفائدة أن هذا المحكوم عليه بالحكم الخاص
هو من جنس ذلك المحكوم عليه بالحكم العام. وقد تتبعت أساليب من أساليب نظم الكلام في القرآن
فوجدتها مما لا عهد بمثلها في كلام العرب، مثال ذلك قوله تعالى: {قد أنزل الله
إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات} فإبدال {رسولا} من {ذكرا} يفيد أن
هذا الذكر ذكر هذا الرسول، وأن مجيء الرسول هو ذكر لهم، وأن وصفه بقوله: {يتلو
عليكم آيات الله} يفيد أن الآيات ذكر. ونظير هذا قوله: {حتى تأتيهم البينة رسول من
الله يتلو صحفا مطهرة} الآية وليس المقام بسامح لإيراد عديد من هذا. ولعله يأتي في
أثناء التفسير. ومن
بديع الإيجاز في القرآن وأكثره ما يسمى بالتضمين، وهو يرجع إلى إيجاز الحذف،
والتضمين أن يضمن الفعل أو الوصف معنى فعل أو وصف آخر ويشار إلى المعنى المضمن بذكر
ما هو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل في الجملة معنيان. ومن هذا الباب ما اشتمل عليه من الجمل الجارية مجرى
الأمثال، وهذا باب من أبواب البلاغة نادر في كلام بلغاء العرب، وهو الذي لأجله عدت
قصيدة زهير في المعلقات فجاء في القرآن ما يفوق ذلك كقوله تعالى: {قل كل يعمل على
شاكلته} وقوله: {طاعة معروفة} وقوله {ادفع بالتي هي أحسن}. وسلك القرآن مسلك الإطناب لأغراض من البلاغة ومن أهم
مقامات الإطناب مقام توصيف الأحوال التي يراد بتفصيل وصفها إدخال الروع في قلب
السامع وهذه طريقة عربية في مثل هذا كقول ابن زيابة:
نبئت عمرا غارزا رأسه = في سنة
يوعد أخواله فمن آيات القرآن في
مثله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي * وقيل من راق * وظن أنه الفراق * والتفت الساق
بالساق} وقوله: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون} وقوله: {مهطعين مقنعي
رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم}. ومن
أساليب القرآن المنفرد بها التي أغفل المفسرون اعتبارها أنه يرد فيه استعمال اللفظ
المشترك في معنيين أو معان إذا صلح المقام بحسب اللغة العربية لإدارة ما يصلح منها،
واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي إذا صلح المقام لإرادتهما، وبذلك تكثر
معاني الكلام مع الإيجاز وهذا من آثار كونه معجزة خارقة لعادة كلام البشر ودالة على
أنه منزل من لدن العليم بكل شيء والقدير عليه. وقد نبهنا على ذلك وحققناه في
المقدمة التاسعة. ومن
أساليبه الإتيان بالألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف حروفها أو اختلاف حركات
حروفها وهو من أسباب اختلاف كثير من القراءات مثل (وجعلوا الملائكة الذين هم عند
الرحمن إناثا) قرئ (عند) بالنون دون ألف وقرئ {عباد} بالموحدة وألف بعدها، ومثل
(إذا قومك منه يصُدون) بضم الصاد وكسرها. وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة
السادسة. واعلم
أن مما يندرج تحت جهة الأسلوب ما سماه أئمة نقد الأدب بالجزالة، وما سموه بالرقة
وبينوا لكل منهما مقاماته وهما راجعتان إلى معاني الكلام، ولا تخلو سورة من القرآن
من تكرر هذين الأسلوبين، وكل منهما بالغ غايته في موقعه، فبينما تسمعه يقول: {قل يا
عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
إنه هو الغفور الرحيم}. ويقول: {يريد
الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} إذ تسمعه يقول: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم
صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} قال عياض في الشفا: إن عتبة بن ربيعة لما سمع هذه الآية
أمسك بيده على فم النبيء صلى الله عليه وسلم وقال له: ناشدتك الله والرحم إلا ما
كففت).
عادات القرآن
قالَ مُحَمَّدُ الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت:1393هـ): (يحق على المفسر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه. وقد تعرض بعض السلف لشيء منها، فعن ابن عباس: كل كاس في القرآن فالمراد بها الخمر. وذكر ذلك الطبري عن الضحاك أيضا.
وفي صحيح البخاري في تفسير سورة الأنفال قال ابن عيينة: ما سمى الله مطرا في القرآن إلا عذابا، وتسميه العرب الغيث كما قال تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا}. وعن ابن عباس أن كل ما جاء من {يا أيها الناس} فالمقصود به أهل مكة المشركون.
وقال
الجاحظ في البيان وفي القرآن معان لا تكاد تفترق، مثل الصلاة والزكاة، والجوع
والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس قلت:
والنفع والضر، والسماء والأرض. وذكر
صاحب الكشاف وفخر الدين الرازي أن من عادة القرآن أنه ما جاء بوعيد إلا أعقبه بوعد،
وما جاء بنذارة إلا أعقبها ببشارة. ويكون ذلك بأسلوب الاستطراد والاعتراض لمناسبة
التضاد، ورأيت منه قليلا في شعر العرب كقول لبيد:
فاقطع لبانة من تعرض وصله = فلشر واصل خلة صرامها
واحب المجامل بالجزيل وصرمه = باق إذا ظلعت وزاغ قوامها
وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين} الآية: جيء به ماضيا على عادة الله في أخباره. وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} من سورة العقود عادة هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء وأحوال القيامة ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع.
وقد استقريت بجهدي عادات كثيرة في اصطلاح القرآن سأذكرها في مواضعها، ومنها أن كلمة هؤلاء إذا لم يرد بعدها عطف بيان يبين المشار إليهم فإنها يراد بها المشركون من أهل مكة كقوله تعالى: {بل متعت هؤلاء وآباءهم} وقوله: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين} وقد استوعب أبو البقاء الكفوي في كتاب الكليات في أوائل أبوابه كليات مما ورد في القرآن من معاني الكلمات، وفي الإتقان للسيوطي شيء من ذلك.
وقد
استقريت أنا من أساليب القرآن أنه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ قال دون
حروف عطف، إلا إذا انتقل من محاورة إلى أخرى، انظر قوله تعالى: {وإذ قال ربك
للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} إلى قوله:
{أنبئهم بأسمائهم}. وأما
الجهة الثالثة من جهات الإعجاز وهي ما أودعه من المعاني الحكمية والإشارات العلمية
فاعلموا أن العرب لم يكن لهم علم سوى الشعر وما تضمنه من الأخبار: قال عمر بن
الخطاب كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه. إن العلم نوعان علم اصطلاحي وعلم حقيقي، فأما الاصطلاحي
فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء، وهذا قد
يتغير بتغير العصور ويختلف باختلاف الأمم والأقطار، وهذا النوع لا تخلو عنه
أمة. وأما
العلم الحقيقي فهو معرفة ما بمعرفته كمال الإنسان، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف
وإدراك الحقائق النافعة عاجلا وآجلا، وكلا العلمين كمال إنساني ووسيلة لسيادة
أصحابه على أهل زمانهم، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه. وهذه الجهة خلا عنها كلام
فصحاء العرب، لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات والمتخيلات والافتراضات
المختلفة ولا تحوم حول تقرير الحقائق وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن، ولم يقل
إلا صدقا كما أشار إليه فخر الدين الرازي. وقد اشتمل القرآن على النوعين، فأما النوع الأول فتناوله
قريب لا يحتاج إلى كد فكر ولا يقتضي نظرا فإن مبلغ العلم عندهم يومئذ علوم أهل
الكتاب ومعرفة الشرائع والأحكام وقصص الأنبياء والأمم وأخبار العالم، وقد أشار إلى
هذا القرآن بقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا
إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو
أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} وقال:
{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} ونحو هذا
من محاجة أهل الكتاب. ولعل هذا هو الذي عناه عياض بقوله في الشفاء ما أنبأ به من
أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم القصة منه
إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قضى عمره في تعليم ذلك فيورده النبيء صلى الله
عليه وسلم على وجهه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه كخبر موسى مع الخضر، ويوسف
وإخوته، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، ولقمان إلخ كلامه، وإن كان هو قد ساقه في غير
مساقنا بل جاء به دليلا على الإعجاز من حيث علمه به صلى الله عليه وسلم مع ثبوت
الأمية، ومن حيث محاجته إياهم بذلك. فأما إذا أردنا عد هذا الوجه في نسق وجوه
الإعجاز فذلك فيما نرى من جهة أن العرب لم يكن أدبهم مشتملا على التاريخ إلا
بإرشادات نادرة، كقولهم درع عادية، ورمح يزنية، وقول شاعرهم:
أحلام عاد وأجسام مطهرة
وقول آخر:
تراه يطوف الآفاق حرصا = ليأكل رأس لقمان بن عاد
ولكنهم لا يأبهون بذكر قصص الأمم التي هي مواضع العبرة، فجاء القرآن بالكثير من ذلك تفصيلا كقوله: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف} وكقوله: {فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} ولهذا يقل في القرآن التعرض إلى تفاصيل أخبار العرب لأن ذلك أمر مقرر عندهم معلوم لديهم، وإنما ذكر قليل منه على وجه الإجمال على معنى العبرة والموعظة بخبر عاد وثمود وقوم تبع، كما أشرنا إليه في المقدمة السابعة في قصص القرآن.
وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين: قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم، وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله لأنه جاء به أمي في موضع لم يعالج أهله دقائق العلوم، والجائي به ثاو بينهم لم يفارقهم. وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما درسوه وألفوه.
قال ابن عرفة عند قوله تعالى: {تولج الليل في النهار} في
سورة آل عمران كان بعضهم يقول إن القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ
يفهمها الخواص وعلى ما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية فإن الإيلاج يشمل الأيام التي
لا يدركها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام أقول: وكذلك قوله تعالى: {أن
السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما}. فمن طرق إعجازه العلمية أنه دعا للنظر والاستدلال، قال
في الشفاء ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد للعرب، ولا يحيط بها أحد من علماء
الأمم، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على
طرق الحجة العقلية، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة كقوله: {لو كان فيهما
آلهة إلا الله لفسدتا} وقوله: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق
مثلهم}. ولقد فتح الأعين إلى فضائل
العلوم بأن شبه العلم بالنور وبالحياة كقوله {لينذر من كان حيا} وقوله: {يخرجهم من
الظلمات إلى النور} وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}
وقال: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}. وهذا النوع من الإعجاز هو الذي خالف به القرآن أساليب
الشعر وأغراضه مخالفة واضحة. هذا والشاطبي قال في الموافقات: إن القرآن لا تحمل
معانيه ولا يتأول إلا على ما هو متعارف عند العرب ولعل هذا الكلام صدر منه في
التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصادا في البحث وإبقاء على نفيس الوقت، وإلا
فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على
الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة
والفصاحة، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة
منهم لإعجاز القرآن. وقد بينت نقض كلام الشاطبي في أواخر المقدمة
الرابعة. وقد بدت لي حجة لتعلق هذه
الجهة الثالثة بالإعجاز ودوامه وعمومه وهي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث
الصحيح: ((ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي أو أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر
وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم
القيامة)) ففيه نكتتان غفل عنهما شارحوه: الأولى أن قوله ((ما مثله آمن عليه
البشر)) اقتضى أن كل نبيء جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به وأعجز
عنه فيؤمنون على مثل تلك المعجزة. ومعنى آمن عليه أي لأجله وعلى شرطه، كما تقول على
هذا يكون عملنا أو اجتماعنا، الثانية أن قوله: ((وإنما كان الذي أوتيت وحيا)) اقتضى
أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأولين أفعالا لا أقوالا،
كقلب العصا وانفجار الماء من الحجر، وإبراء الأكمه والأبرص، بل كانت معجزته ما في
القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني، وبذلك
يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر ويتدبره ويفصح عن ذلك تعقيبه
بقوله: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب، فالمناسبة
بين كونه أوتي وحيا وبين كونه يرجو أن يكون أكثرهم تابعا لا تنجلي إلا إذا كانت
المعجزة صالحة لجميع الأزمان حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أمما كثيرين
على اختلاف قرائحهم فيكون هو أكثر الأنبياء تابعا لا محالة، وقد تحقق ذلك لأن
المعني بالتابع التابع له في حقائق الدين الحق لا اتباع الادعاء والانتساب بالقول.
ولعل الرجاء متوجه إلى كونه أكثر من جميعهم تابعا أي أكثر أتباعا من أتباع جميع
الأنبياء كلهم، وقد أغفل بيان وجه التفريع في هذا اللفظ النبوي
البليغ. وهذه الجهة من الإعجاز إنما
تثبت للقرآن بمجموعه أي مجموع هذا الكتاب إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من
سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل
به التحدي إلا إشارة نحو قوله: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا}. وإعجازه من هذه الجهة للعرب
ظاهر: إذ لا قبل لهم بتلك العلوم كما قال الله تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك
من قبل هذا} وإعجازه لعامة الناس أن تجيء تلك العلوم من رجل نشأ أميا في قوم أميين،
وإعجازه لأهل الكتاب خاصة إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميا، ولا قبل لهم بأن
يدعوا أنهم علموه لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدا عن أهل الكتاب الذين كان
مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين، ولأنه جاء بنسخ دين
اليهودية والنصرانية، والإنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم فلو كان قد تعلم
منهم لأعلنوا ذلك وسجلوا عليه أنه عقهم حق التعليم. وأما الجهة الرابعة وهي الإخبار بالمغيبات فقد اقتفينا
أثر من سلفنا ممن عد ذلك من وجوه الإعجاز اعتدادا منا بأنه من دلائل كون القرآن
منزلا من عند الله، وإن كان ذلك ليس له مزيد تعلق بنظم القرآن ودلالة فصاحته
وبلاغته على المعاني العليا، ولا هو كثير في القرآن، وسيأتي التنبيه على جزئيات هذا
النوع في تضاعيف هذا التفسير إن شاء الله. وقد جاء كثير من آيات القرآن بذلك منها
قوله: {الم * غلبت الروم} الآية روى الترمذي في تفسيرها عن ابن عباس قال: كان
المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون
يحبون أن يظهر الروم لأنهم أهل كتاب فذكره أبو بكر لرسول الله فنزل قوله تعالى:
{الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين} فخرج
أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة، فقال له ناس من قريش أفلا نراهنك على ذلك? قال: بلى
وذلك قبل تحريم الرهان، فلما كانت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس وأسلم عند ذلك
كثير من قريش. وقوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في
الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من
بعد خوفهم أمنا} وقوله: {لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} فما حدث بعد ذلك من
المراكب منبأ به في هذه الآية. وقوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} نزلت قبل فتح مكة
بعامين. وقوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا
تخافون} وأعلن ذلك الإعجاز بالتحدي به في قوله تعالى في شأن القرآن: {وإن كنتم في
ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} إلى قوله: {ولن تفعلوا} فسجل أنهم لا
يفعلون ذلك أبدا وكذلك كان، كما بيناه آنفا في الجهة الثالثة. وكأنك بعد ما قررناه في هذه المقدمة قد صرت قديرا على
الحكم فيما اختلف فيه أئمة علم الكلام من إعجاز القرآن للعرب هل كان بما بلغه من
منتهى الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وما احتوى عليه من النكت والخصوصيات التي لا تقف
بها عدة، ويزيدها النظر مع طول الزمان جدة، فلا تخطر ببال ناظر من العصور الآتية
نكتة أو خصوصية إلا وجد آيات القرآن تتحملها بحيث لا يمكن إيداع ذلك في كلام إلا
لعلام الغيوب وهو مذهب المحققين، أو كان الإعجاز بصرف الله تعالى مشركي العرب عن
الإتيان بمثله وأنه لولا أن الله سلبهم القدرة على ذلك لأمكن أن يأتوا بمثله لأنه
مما يدخل تحت مقدور البشر، ونسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري وهو منقول في شرح
التفتزاني على المفتاح عن النظام وطائفة من المعتزلة، ويسمى مذهب أهل الصرفة، وهو
الذي قال به ابن حزم في كتابه في الملل والنحل. والأول هو الوجه الذي اعتمده أبو بكر الباقلاني في كتابه
إعجاز القرآن، وأبطل ما عداه بما لا حاجة إلى التطويل به، وعلى اعتباره دون أئمة
العربية علم البلاغة، وقصدوا من ذلك تقريب إعجاز القرآن على التفصيل دون الإجمال،
فجاءوا بما يناسب الكامل من دلائل الكمال).