2 Oct 2022
الخلاف الواقع في التفسير من جهة الاستدلال
[أنواع الخلاف الواقع في التفسير من جهة الاستدلال]
فصلٌ في النَّوعِ الثَّاني : الخِلاَفُ الوَاقِعُ فِي التَّفسيرِ مِنْ جِهَةِ الاسْتِدْلالِ
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت:
728هـ) : (وَأَمَّا النَّوعُ
الثَّاني مِنْ سببي الاخْتِلاَفِ ، وَهُوَ مَا يُعلَمُ بِالاسْتِدْلالِ لاَ
بِالنَّقلِ ، فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ
حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وتابعيهم بإحسانٍ ،
فَإِنَّ التَّفاسِيرَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَلامُ هَؤُلاَءِ صِرْفًا لاَ
يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الجِهَتَيْنِ ، مِثْلُ تَفْسِيرِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَوَكِيعٍ ، وَعَبْدِِ بنِ حُمَيْدٍ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ
بنِ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٍ ، وَمِثْلُ تَفْسِيرِ الإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ
بنِ رَاهَوَيْهِ ، وَبَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ ، وَأَبِي بَكْرِِ بنِ الْمُنْذِرِ ،
وَسُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ ، وَسُنَيْدٍ ، وَابنِ جَرِيرٍ ، وَابنِ أَبِي حَاتمٍ ،
وَأَبِي سَعِيدٍ الأَشَجِّ ، وَأَبِي عَبْدِ اللهِ بنِ مَاجَهْ ، وَابْنِ
مَرْدَوَيْهِ .
إِحْدَاهُمَا : قَوْمٌ اعْتَقَدُوا مَعَانِيَ ، ثمَّ أَرَادُوا حَمْلَ أَلْفَاظِ القُرْآنِ عَلَيْهَا .
وَالثَّانِيَةِ : قَوْمٌ فَسَّرُوا القُرْآنَ بِمُجَرَّدِ مَا يَسُوغُ أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلاَمِهِ مَنْ كَانَ مِنْ النَّاطِقِينَ بِلُغَةِ العَرَبِ بكلامه مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالقُرْآنِ وَالْمُنْزَلِ عَلَيْهِ ، وَالْمُخَاطَبِ بِهِ .
فَالأَوَّلُونَ رَاعَوا الْمَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ القُرْآنِ مِن الدِّلالةِ وَالبَيَانِ ، وَالآخِرُونَ رَاعَوا مُجَرَّدَ اللَّفْظِِ وَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُم أَنْ يُرِيدَ بِهِ العَرَبيُّ , مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلى مَا يَصْلُحُ لِلْمُتَكلِّمِ بِهِ وَسِياقِ الكَلامِ ، ثمَّ هَؤُلاَءِ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ في احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِك الَّذِين قَبْلَهُم ، كَمَا أَنَّ الأَوَّلِينَ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ ، كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الآخِرُونَ ، وَإِنْ كَانَ نَظَرُ الأَوَّلِينَ إِلَى الْمَعْنَى أَسْبَقَ ، وَنَظَرُ الآخِرِين إلى اللَّفْظِ أَسْبَقَ .
والأَوَّلُونَ صِنْفَانِ :
تَارَةً يَسْلِبُونَ لَفْظَ القُرْآنِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ .
وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ .
وَفِي كِلاَ الأَمْرَيْنِ قَد يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إِثْبَاتَهُ مِنَ الْمَعنَى بَاطِلاً ؛ فَيَكُونُ خَطَؤُهُم فِي الدَّليلِ وَالْمَدْلُولِ ، وقدْ يكونُ حقًّا فيكونُ خطؤهُمْ في الدَّليلِ لا فِي الْمَدْلُولِ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ فَإنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا في تَفْسِيرِ الحَدِيثِ).
الذين يخطئون في الدليل والمدلول
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (فَالَّذِينَ أَخْطَأُوا فِي الدَّليلِ وَالْمَدْلُولِ مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ اعْتَقَدُوا مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ [الأُمَّةُ ]الوَسَطُ الَّذِينَ لاَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلاَلَةٍ كَسَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَعَمَدُوا إِلَى القُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى آرَائِهِم ؛ تَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِآيَاتٍ عَلَى مَذْهَبِهِمْ ، وَلاَ دِلاَلَةَ فِيهَا ، وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا يُحَرِّفُونَ بِهِ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ .
وَمِنْ هَؤُلاَءِ فِرَقُ الخَوَارِجِ ، وَالرَّوافِضِ ، وَالْجَهْمِيَّةِ ، وَالْمُعْتَزِلةِ ، وَالقَدَرِيَّةِ ، وَالْمُرْجِئَةِ ، وغيرُهُمْ .
وهَذَا ، كَالْمُعْتَزِلَةِ مَثَلاً ، فَإِنَّهُم مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَلاَماً وَجِدَالاً ، وَقَدْ صَنَّفُوا تَفَاسِيرَ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ مِثْلَ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ كَيْسَانَ الأَصَمِّ شَيْخِ إِبْرَاهيمَ بنِ إِسْمَاعِيلَ بنِ عُليَّةَ الَّذِي كانَ يُنَاظِرُ الشَّافعيَّ ، وَمِثْلَ كِتابِ أَبِي عِليٍّ الجُبَّائي ، وَالتَّفسيرِ الكَبِيرِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الجبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَمَدَانيِّ ، وَالْجَامِعِ لِعِلْمِ الْقُرْآنِ لِعَلِيِّ بنِ عِيسَى الرُّمَّانيِّ ، وَالكَشَّافِ لأِبِي الْقَاسِِمِ الزَّمخشَريِّ ، فَهَؤُلاَءِ وَأَمْثَالُهُم اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ الْمُعْتَزِلَةِ .
وَأُصُولُ الْمُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ يُسَمُّونَهَا هُمْ : التَّوْحِيدَ ، وَالعَدْلَ ، وَالْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ ، وَإِنْفَاذَ الوَعِيدِ ، وَالأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَن الْمُنْكَرِ .
وَتَوْحِيدُهُمْ هُوَ تَوْحِيدُ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِي مَضْمُونُهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ ، وَغيرُ ذَلِكَ . قَالُوا : إِنَّ اللهَ لا يُرَى ، وَإِنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ ، وَإِنَّهُ - تَعَالَى - لَيْسَ فَوْقَ العَالَمِ . وَإِنَّهُ لاَ يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلاَ قُدْرَةٌ وَلاَ حَيَاةٌ وَلاَ سَمْعٌ وَلاَ بَصَرٌ وَلاَ كَلاَمٌ وَلاَ مَشِيئةٌ وَلاَ صِفَةٌ من الصِّفَاتِ .
وَأَمَّا عَدْلُهُم فَمِنْ مَضْمُونِهِ أَنَّ اللهَ لَمْ يَشَأْ جَمِيعَ الكَائِنَاتِ ، وَلاَ خَلَقَهَا كُلَّهَا ، وَلاَ هُو قَادِرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا ، بَلْ عندَهُمْ أنَّ أَفْعَالُ العبَادِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللهُ لاَ خَيْرَهَا وَلاَ شَرَّهَا ، وَلَمْ يُرِدْ إلا مَا أَمَرَ بِهِ شَرْعًا ، وَماَ سِوَى ذَلِكَ فَإنَّهُ يَكُونُ بِغَيرِ مَشِيئَة .
وَقَدْ وَافقَهُمْ عَلَى ذلِكَ مُتَأَخِّرُو الشِّيعَةِ كَالمُفِيدِ ، وَأَبِي جَعْفرٍ الطُّوسيِّ وَأَمْثَالِهِمَا . وَلأبي جَعْفَرٍ هَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى هَذِهِ الطَّريقَةِ لَكِنْ يَضُمُّ إلى ذلِكَ قَوْلَ الإمَاميَّةِ الاثني عشريَّةَ ، فإنَّ المعتزِلَةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ ، وَلاَ مَنْ يُنْكِرُ خِلاَفَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ .
وَمِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْخَوَارِجِ إِنْفَاذُ الوَعِيدِ فِي الآخِرَةِ ، وَأَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ في أَهْلِ الكَبَائِرِ شَفَاعَةً ، وَلاَ يُخْرِجُ مِنْهُم أَحَدًا مِن النَّارِ .
وَلا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنَ الْمُرْجِئَةِ وَالكَرَّامِيَّةِ وَالكُلاَّبِيَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ فَأَحْسَنُوا تَارَةً وَأَسَاؤُوا أُخْرَى ، حَتَّى صَارُوا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ ، كَمَا قَدْ بُسِطََ فِي غَيْرِ هَذَا الموضِعِ .
والمقصُودُ أنَّ مثلَ هَؤُلاَءِ اعتقَدُوا رأيًا ثُمَّ حَملُوا أَلْفَاظَ القرآنِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، وَلاَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، لاَ فِي رَأْيِهِم وَلاَ فِي تَفْسِِيرِهِم .
كيف يعرف بطلان التفاسير الباطلة؟
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (وَمَا مِنْ تَفْسِيرٍ مِنْ تَفَاسِيرِهِم البَاطِلَةِ إِلاَّ وَبُطْلاَنُهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ :
تَارَةً مِن العِلْمِ بِفَسَادِ قَوْلِِهِم .
وَتَارَةً مِنَ العِلْمِ بِفَسَادِ مَا فَسَّرُوا بِهِ القُرْآنَ ، إِمَّا دَلِيلاً عَلَى قَوْلِهِم أَوْ جَوابًا عَلَى المُعَارِضِ لَهُم .
وَمِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ العِبَارةِ فَصِيحًا يَدُسُّ البِدَعَ في كَلامِهِ - وأَكْثَرُ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ - كَصَاحِبِ الكَشَّافِ وَنَحْوِِهِ ، حَتَّى إِنَّهُ يَرُوجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لاَ يَعْتَقِدُ البَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِم البَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللهُ .
وَقَدْ رَأَيْتُ مِن العُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِم مَا يُوافِقُ أُصولهَمُ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا ، وَلا يَهْتَدِي لِذَلِِكَ).