2 Oct 2022
بيان طرق التفسير والنهي عن القول في التفسير بمجرد الرأي
[تفسير القرآن بالقرآن]
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (فَصْلٌ فِي أَحْسَنِ طُرُقِ التَّفْسِيرِ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ :
فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ ؟ فَالْجَوَابُ : إِنَّ
أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ : أَنْ يُفَسِّرَ القُرْآنَ بِالْقُرْآنِ : فَمَا
أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اخْتُصِرَ
فِي مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ).
تفسير القرآن بالسنة
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (فَإِنْ أَعْيَاكَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِالسُّنَّةِ : فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ ، وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ ، بَلْ قَدْ قَالَ الإِمامُ أَبُوعَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ : " كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِن الْقُرْآنِ : قَالَ اللهُ تَعَالَى : {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}[سُورَةُ النِّسَاءِ : 105]، وَقَالَ تَعَالَى : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سُورَةُ النَّحْلِ : 44]، وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُم الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سُورَةُ النَّحْلِ : 64].
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ " يَعْنِي : السُّنَّةَ .
وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ ، لاَ أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى . وَقَد اسْتَدَلَّ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ ، وَغَيْرُهُ مِن الأَئِمَّةِ ، عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَة ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ .
وَالغَرَضُ أَنَّكَ تَطْلُبُ تَفْسِيرَ القُرْآنِ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِن السُّنَّةِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ : " بمَ تَحْكـُمُ ؟ " قَالَ : بِكِتَابِ اللهِ ، قَالَ :" فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟"قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ تجِدْ ؟ قَالَ : أجتهدُ رَأْيِي" قَالَ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بِصَدْرِهِ وَقَالَ : " الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسَولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ " وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ).
3- تفسير القرآن بأقوال الصحابة
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (وَحِينَئِذٍ إِذَا لَمْ تَجِد التَّفسيرَ فِي القُرْآنِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ ؛ رَجَعْتَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحابةِ ؛ فَإنَّهُم أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِن الْقَرَائِنِ وَالأَحْوَالِ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا ، وَلِمَا لَهُم مِن الفَهْمِ التَّامِّ والعِلْمِ الصَّحيحِ ، ، لاَ سِيَّما عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ ،وعَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍٍ .
قَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا جَابِرُ بنُ نُوحٍ ، قَالَ : أَنبَأَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ - يَعْنِي ابنَ مسعُودٍ - " وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلاَّ وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَا نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ ، وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ مِنِّي تَنَالُهُ الْمَطَايَا ؛ لأَتَيْتُهُ ."
وَقَالَ الأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ ؛ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ .
وَمِنْهُمُ الحَبْرُ البَحْرُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُرْجُمَانُ القُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ ، حَيثُ قَالَ : " اللَّهـُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ " .
وَقَالَ ابنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أنْبأنا وَكِيعٌ ، أَنبَأَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ - يَعْنِي ابنَ مسعُودٍ - قَالَ : " نِعْمَ ، تُرْجُمَانُ القُرآنِ ابنُ عَبَّاسٍ " .
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ دَاوُدَ عَنْ إِسْحَاقَ الأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بنِ صُبَيحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَن ابنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قالَ : " نـعْمَ التُّرجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابنُ عبَّاسٍ "
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنِ الأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ .
فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ قَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ العبارَةَ ، وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَعُمِّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلاَثِينَ سَنَةً . فَمَا ظنُّكَ بِمَا كَسَبَهُ مِن الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِِ مَسْعُودٍ ؟
وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ : اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ عَلَى الْمَوسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ البقرَةِ - وَفِي رِوَايةٍ سُورَةَ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ والتُّركُ والدَّيلَمُ لأَسْلَمُوا .
وَلِهَذَا فَإِنَّ غَالِبَ مَا يَرْوِيهِ إِسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الرَّحمنِ السُّدِّيُّ الكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجلَيْنِ : ابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِِ الأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُم مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُُ قَالَ : " بَلِّغُوا عنـِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو .
ولِهَذَا كانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَومَ اليرموكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الكِتَابِ ؛ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُما بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِن الإِذْنِ فِي ذَلِكَ).
أقسام الإسرائيليات
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (وَلَكِنَّ هَذِهِ الأَحَادِيثَ الإِسْرَائِيلِيَّةَ تُذْكَرُ لِلاسْتِشْهَادِ لاَ لِلاعْتِقَادِ ، فَإِنَّهَا عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ :
أََحَدِهَا : مَا عَلِمْنَا صِحَّتَه مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدقِ ، فَذَاكَ صَحِيحٌ .
والثَّاني : مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يخالِفُهُ .
وَالثَّالثُ : مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ . لاَ مِنْ هَذَا القَبِيلِ ، وَلاَ مِنْ هَذَا القبيلِ ؛ فَلا نُؤْمِنُ بِِهِ وَلا نُكَذِّبُهُ ، وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَغَالِبُ ذَلِكَ ممَّا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إِلَى أَمْرٍ دِينيٍّ . وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَماءُ أَهْلِ الكِتَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا ، وَيَأْتِي عَنِ الْمُفَسِّرِينَ خِلاَفٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ .
كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الكَهْفِ ، وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ ، وَعِدَّتَهُم ، وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجرِ كانَتْ ، وَأَسْمَاءَ الطُّيورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللهُ تَعَالَى لإِبْرَاهِيمَ ، وَتَعْيِينَ البَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْمَقْتولُ مِن البَقَرَةِ ، وَنَوْعَ الشَّجَرةِ الَّتِي كَلَّمَ اللهُ مِنْهَا مُوسَى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ممَّا أَبْهَمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي القُرْآنِ مِمَّا لاَ فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلاَ فِي دِينِهِمْ . وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلاَفِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ .
كَمَا قَالَ تَعَالَى : {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا } [سُورَةُ الْكَهْفِ :22] فَقَد اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكريمةُ عَلَى الأَدَبِ فِي هَذَا المُقَامِ ، وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ في ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ ، { وَ } ضَعَّفَ القَوْلَيْنِ الأَوَّلَيْنِ ، وَسَكَتَ عَن الثَّالثِ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ ، إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلاً لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا ، ثمَّ أَرْشَدَ إِلَى أَنَّ الاطِّلاَعَ عَلَى عِدَّتِهِم لاَ طَائِلَ تَحْتَهُ ، فيُقالُ في مِثْلِ هَذَا : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } ؛ فَإنَّهُ لا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إِلاَّ قَلِيلٌ مِن النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيْهِ ، فَلِهَذَا قَالَ : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِرًا } أَيْ : لاَ تُجْهِدْ نَفْسَكَ فِيمَا لاَ طَائِلَ تَحْتَهُ ، وَلاَ تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ رَجْمَ الْغَيْبِ .
فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَاتِ الْخِِلافِ أنْ تُستَبْعَدَ الأقوالُ في ذَلِكَ المُقَامِ ، وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحيحِ مِنْهَا ، وَيُبْطَلَ البَاطِلُ ، وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلاَفِ وَثَمَرَتُهُ ؛ لِئَلاَ يَطُولَ النِّزاعُ وَالخِلاَفُ فِيمَا لاَ فَائِدَةَ تَحْتَهُ فيُشتَغَلَ بِهِ عَن الأَهَمِّ .
فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ ، أَوْ يَحْكِي الْخِلاَفَ وَيُطْلِقُهُ وَلاَ يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحيحِ مِن الأقْوالِ ، فَهُوَ ناقصٌ أَيْضًا ، فَإِنْ صَحَّحَ غيرَ الصَّحيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الكَذِبَ ، أَوْ جَاهِلاً فَقَدْ أَخْطَأَ .
كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الخِلاَفَ فِيمَا لاَ فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالاً مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنىً، فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ ، وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، فَهُوَ كَلاَبِسِ ثَوْبَي زُورٍ . وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوابِ).
4- تفسير القرآن بأقوال التابعين
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (فصلٌ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ بِأَقْوَالِ التَّابِعِينَ
إِذَا لَمْ تَجِدِ التَّفسيرَ في القُرآنِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ وَلاَ وَجَدْتَهُ عَنِ الصَّحابةِ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِن الأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إِلَى أَقْوَالِ التَّابعينَ كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ ؛ فَإِنَّهُ آيَةٌ فِي التَّفْسِيرِ .
كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : " عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلاَثَ عَرْضَاتٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ ، أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا " .
وَبِهِ إِلَى التِّرمذيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَينُ بْنُ مَهْدِيٍّ البَصْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ مُجَاهدٌ : " مَـا فـِي القُرْآنِ آيَةٌ إِلاَّ وَقَدْ سَمِعْتُ فِيهَا شَيْئًا ".
وَبِهِ إِلَيْهِ قَالَ : حَدَّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَن الأَعْمَشِ قَالَ : قَالَ مُجَاهِدٌ : " لَوْ كُنْـتُ قَرَأْتُ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِن القُرْآنِ مِمَّا سَأَلْتُ ".
وَقَالَ ابنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا أَبُوكُرَيْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَن ابنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : رَأَيْتُ مُجَاهِدًا سَأَلََ ابْنَ عَبَّاسٍ عَن تَفْسِيرِ القُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ ، فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ :" اكتُبْ " حَتَّى سَأَلَهُ عَن التَّفسيرِ كلِّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ : " إِذَا جَاءَكَ التَّفسيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ ."
وَكَسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَمَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ ، وَغَيْرِهِمْ مِن التَّابِعِينَ ، وَتَابِعِِيهِمْ ، وَمَنْ بَعْدَهُم ، فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُم فِي الآيَةِ فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِم تَبَايُنٌ فِي الأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لاَ عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلافًا فَيَحْكِِيهَا أَقْوَالاً ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنِ الشَّيءِ بِلاَزِمِهِ أَوْ نَظِيرِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنُصُّ عَلَى الشَّيءِ بِعَيْنِهِ ، وَالكُلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي كَثيرٍ مِن الأَمَاكِنِ فَلْيَتَفَطَّن اللَّبِيبُ لِذَلِكَ ، وَاللهُ الْهَادِي .
وَقَالَ شُعْبَةُ بنُ الحَجَّاجِ وَغَيرُهُ : " أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً ، فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفْسِيرِ ؟" يَعْنِي أَنَّهَا لاَ تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُم ، وهَذَا صَحِيحٌ ، أَمَّا إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الشَّيءِ فَلاَ يُرْتَابُ في كَوْنِهِ حُجَّةً ، فَإِن اخْتَلَفُوا فَلاَ يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِِهِم حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ ، وَلاَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى لُغَةِ القُرْآنِ ، أَو السُّنَّةِ ، أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ ، أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ).
تفسير القرآن بالرأي
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (فَأَمَّا تَفْسِيرُ القُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأيِ فَحَرَامٌ.
حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رُسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :" مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ "
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ".
وَبِِهِ إِلَى التِّرمذيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حِبَّانُ بْنُ هِلاَلٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُهَيلٌ أَخُو حزم القُطَعِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُوعِمْرَانَ الْجُونِيُّ عَنْ جُنْدُبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ " . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِِ أَبِي حَزْمٍ .
وَهَكَذا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلمِ عَنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيرِهِم أنَّهُم شَدَّدُوا في أَنْ يُفَسَّرَ القُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ العِلمِ أنَّهُم فَسَّرُوا القُرْآنَ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِم أنَّهُم قالُوا في القُرْآنِ ، أَوْ فَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِم . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُم مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُم لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِم بِغَيْرِِ عِلْمٍ ، فَمَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ ، فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الأَمْرَ مِنْ بَابِهِ ، كَمَنْ حَكَمَ بَيْن النَّاسِ عَنْ جَهْلٍ فَهُو فِي النَّارِ ، وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ ، لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ ، وَاللهُ أَعْلَمُ .
وَهَكَذَا سَمَّى اللهُ - تَعَالى - القَذََفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ : ]فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَـئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [[سُورَةُ النُّورِ : 13] ، فَالقَاذِفُ كَاذِبٌ وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الأَمرِ ؛ لأنَّهُ أَخْبرَ بِمَا لاَ يَحِلُّ لَهُ الإِخْبَارُ بِهِ ، وَتَكَلَّفَ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ ، وَاللهُ أَعْلَمُ).
تحرج السلف عن القول في القرآن بلا علم
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِن السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لاَ عِلْمَ لَهُمْ بِهِ ، كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : " أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي ، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي ؛ إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ " ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ العَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } [ سُورَةُ عَبَسَ : 31] فَقَالَ : " أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ أَنَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ أَعْلَمُ " - مُنْقطِعٌ -
وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حُمَيدٍ : عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ قَرأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } فَقَالَ : " هَذِهِ الفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاها فَمَا هُوَ الأَبُّ ؟ " ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِِهِ فَقَالَ : " إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكلُّفُ يا عمرُ "
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ ثَابِتٍِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ : {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فَقَالَ : " وما الأبُّ ؟ " فَقَالَ : " إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكلُّفُ ، فَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ تَدْرِيهِ ؟ "
وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - إِنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ مَاهِيَّةِ الأَبِّ ، وَإِلاَّ فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِن الأَرْضِ ظَاهِرٌ لاَ يُجْهَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا }.
وَقَالَ ابنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهيمَ قَالَ : حَدَّثَنا ابنُ عُليَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَن ابنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئلَ عَنْهَا بَعْضُكُم لَقَال فِيها ، فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا . إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ بنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ ابنَ عبَّاسٍ عَنْ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ، فَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ فَمَا : {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }[سُورَةُ الْمَعَارِج : 4] فَقَالَ الرَّجلُ : إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِتُحَدِّثَني ، فَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ : " هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللهُ فِي كِتَابِهِ ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِمَا . " فَكَرِه أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ يَعْلَمُ .
وَقَالَ ابنُ جَرِيرٍ : حَدَّثني يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهيمَ قالَ : حدَّثَنا ابنُ عُليَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَن الْوَلِيدِ بنِ مُسْلِمٍ قَالَ : جَاءَ طَلْقُ بنُ حَبِيبٍ إِلَى جُنْدُبِ بنِ عَبْدِِ اللهِ فَسَألَهُ عَنْ آيَةٍ مِن القُرْآنِ فَقَالَ : " أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا لَمَّا قُمْتَ عنِّي " أَوْ قالَ : أَنْ تُجَالِسَنِي .
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ عن سعيد بْنِ الْمُسَيَّبِ : إِنَّهُ كَانَ إِذَا سُئلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِن القُرْآنِ قالَ : " إِنَّا لاَ نَقُولُ فِي القُرْآنِ شَيْئًا ."
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ : إِنَّهُ كَانَ لاَ يَتَكَلَّمُ إِلاَّ فِي الْمَعْلُومِ مِن القُرْآنِ .
وَقَالَ شُعْبَةُ : عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بنَ الْمُسيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِن الْقُرْآنِ فَقَالَ : لاَ تَسْأَلْنِي عَن القُرْآنِ ، وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ . " يَعْنِي عِكْرِمَةَ .
وَقَالَ ابنُ شَوْذَبَ : حَدَّثَنِي يَزِيدُ بنُ أَبِي يَزِيدَ قالَ : كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بنَ الْمُسَيَّبِ عَن الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ ، فإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِن الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ .
وقالَ ابنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ ، قَالَ : " لَقَدْ أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ ، وَإنَّهُم لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ ، مِنْهُم سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ، وَالقَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ ، وَسَعِيدُ ابْنُ المسيَّبِ ، وَنَافِعٌ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ ، عَنِ اللَّيثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، قَالَ : " مَا سَمِعْتُ أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ قطُّ . "
وَعَنْ أَيُّوبَ ، وَابْنِ عَوْنٍ ، وَهِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : سَأَلْتُ عَبِيْدَةَ السَّلْمَانِيَّ عَنْ آيَةٍ مِن القُرْآنِ ، فَقَالَ : " ذَهَبَ الَّذِين كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيما أُنزِلَ القُرْآنِ ، فَاتَّقِ اللهَ ، وَعَلَيْكَ بِالسَّدادِ . "
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنا مُعَاذٌ عَن ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " إِِذَا حَدَّثْتَ عَنْ اللهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ " . حَدَّثَنا هُشَيْمٌ ، عَنْ مُغِيرَةَ ، عَنْ إِبْرَاهيمَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُهُ يَتَّقُونَ التَّفسيرَ وَيَهَابُونَهُ .
وَقَالَ شُعْبَةُ عَن عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي السَّفَرِ ، قَالَ : قالَ الشَّعبيُّ : " وَاللهِ مَا مِنْ آيَةٍ إِلاَّ وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا، وَلَكِنَّهَا الرِّوايةُ عَن اللهِ ."
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنا هُشَيْمٌ ، قَالَ : أَنْبَأنَا عُمَرُ بنُ أَبِي زَائِدَةَ عَن الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : " اتَّقُوا التَّفسِيرَ ؛ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوايةُ عَنِ اللهِ . "
فهَذِهِ الآثارُ الصَّحيحةُ ، وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِم عَن الْكَلاَمِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لاَ عِلْمَ لَهُمْ بِهِ ، فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِما يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلاَءِ وَغَيْرِهِم أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ ، وَلاَ مُنَافَاةَ ؛ لأنَّهُم تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ ، وَهَذَا هُوَ الوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ، فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكوتُ عَمَّا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ القَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلمُهُ ؛ لِقَولِهِ تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 187] ، وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ : " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ").
أثر ابن عباس: (التفسير على أربعة أوجه....)
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (وَقَالَ ابنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنا مَؤَمَّلٌ ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنادِ , قَالَ : قَالَ ابنُ عبَّاسٍ : " التَّفسيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : وَجْهٌ تَعْرِفُهُ العَرَبُ مِنْ كَلاَمِهَا ، وَتَفْسِيرٌ لاَ يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ ، وَتَفسيرٌ يَعْلَمُهُ العُلَمَاءُ ، وَتَفْسِيرٌ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللهُ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - وَاللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ).