2 Oct 2022
هـ: آداب تلاوة القرآن وأحكامها: (5) أحكام متفرّقة في تلاوة القرآن
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت:774 هـ): (قال البخاري رحمه الله: القراءة على الدابة
حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، أخبرني أبو إياس قال: سمعت عبد الله بن مغفل، رضي الله عنه، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقرأ على راحلته سورة الفتح".
وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة سوى ابن ماجة من طرق، عن شعبة، عن أبي إياس، وهو معاوية بن قرة به وهذا -أيضا- له تعلق بما تقدم من تعاهد القرآن وتلاوته سفرا وحضرا، ولا يكره ذلك عند أكثر العلماء إذا لم يتله القارئ في الطريق، وقد نقله ابن أبي داود عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ في الطريق، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أذن في ذلك، وعن الإمام مالك أنه كره ذلك، كما قال ابن أبي داود: وحدثني أبو الربيع، أخبرنا ابن وهب قال سألت مالكا عن الرجل يصلي من آخر الليل، فيخرج إلى المسجد، وقد بقي من السورة التي كان يقرأ منها شيء، فقال: ما أعلم القراءة تكون في الطريق.
وقال الشعبي: تكره قراءة القرآن في ثلاثة مواطن: في الحمام، وفي الحشوش، وفي بيت الرحى وهي تدور. وخالفه في
القراءة في الحمام كثير من السلف: أنها لا تكره، وهو مذهب مالك والشافعي وإبراهيم
النخعي وغيرهم، وروى ابن أبي داود عن علي بن أبي طالب: أنه كره
ذلك، ونقله ابن المنذر عن أبي وائل شقيق بن سلمة، والشعبي والحسن البصري
ومكحول وقبيصة بن ذؤيب، وهو رواية عن إبراهيم النخعي، ويحكى عن أبي حنيفة، رحمهم
الله، أن القراءة في الحمام تكره وأما القراءة في الحشوش
فكراهتها ظاهرة، ولو قيل بتحريم ذلك صيانة لشرف القرآن لكان مذهبا، وأما
القراءة في بيت الرحى وهي تدور فلئلا يعلو غير القرآن عليه، والحق يعلو ولا يعلى،
والله أعلم).
تعليم الصبيان القرآن
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت:774 هـ): (حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن
سعيد بن جبير قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم،
قال: وقال ابن عباس: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا
ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جمعت المحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: وما المحكم؟ قال: "المفصل".
انفرد بإخراجه البخاري، وفيه دلالة على جواز تعلم
الصبيان القرآن؛ لأن ابن عباس أخبر عن سنه حين موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد
كان جمع المفصل، وهو من الحجرات، كما تقدم ذلك، وعمره آنذاك عشر سنين. وقد روى
البخاري أنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا
مختون. وكانوا لا يختنون الغلام حتى يحتلم، فيحتمل أنه تجوز في هذه الرواية
بذكر العشر، وترك ما زاد عليها من الكسر، والله أعلم. وعلى كل تقدير، ففيه دلالة على جواز تعليمهم القرآن في
الصبا، وهو ظاهر، بل قد يكون مستحبا أو واجبا؛ لأن الصبي إذا تعلم القرآن بلغ وهو
يعرف ما يصلي به، وحفظه في الصغر أولى من حفظه كبيرا، وأشد علوقا بخاطره وأرسخ
وأثبت، كما هو المعهود من حال الناس، وقد استحب بعض السلف أن يترك الصبي في ابتداء
عمره قليلا للعب، ثم توفر همته على القراءة، لئلا يلزم أولا بالقراءة فيملها ويعدل
عنها إلى اللعب، وكره بعضهم تعليمه القرآن وهو لا يعقل ما يقال له، ولكن يترك حتى
إذا عقل وميز علم قليلا قليلا بحسب همته ونهمته وحفظه وجودة ذهنه، واستحب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن يلقن خمس آيات خمس
آيات، رويناه عنه بسند جيد).
من لم ير بأسا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا
وكذا
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت:774 هـ): (حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي، حدثنا الأعمش،
حدثنا إبراهيم، عن علقمة وعبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ((الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأ
بهما في ليلة كفتاه)).
وهذا
الحديث قد أخرجه الجماعة من حديث عبد الرحمن بن يزيد وصاحبا الصحيح والنسائي وابن
ماجة من حديث علقمة، كلاهما عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري
البدري. الحديث الثاني: ما رواه من حديث
الزهري، عن عروة، عن المسور وعبد الرحمن بن عبد القارئ، كلاهما عن عمر قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان... وذكر الحديث
بطوله، كما تقدم، وكما سيأتي. الحديث
الثالث: ما رواه من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم قارئا يقرأ من الليل في المسجد، فقال: ((يرحمه
الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية، كنت أسقطتهن من سورة كذا
وكذا)). وهكذا في الصحيحين
عن ابن مسعود: أنه كان يرمي الجمرة من الوادي ويقول: هذا مقام
الذي أنزلت عليه سورة البقرة. وكره بعض السلف ذلك، ولم يروا إلا أن يقال:
السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، كما تقدم من رواية يزيد
الفارسي عن ابن عباس، عن عثمان أنه قال: إذا نزل شيء من القرآن
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا هذا في
السورة التي يذكر فيها كذا وكذا))، ولا شك أن هذا أحوط وأولى، ولكن قد صحت
الأحاديث بالرخصة في الآخر، وعليه عمل الناس اليوم في ترجمة السور في مصاحفهم،
وبالله التوفيق).
في كم يقرأ القرآن
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت:774 هـ): (في كم يقرأ القرآن
وقول الله تعالى:
{فاقرءوا ما تيسر منه} [المزمل:
20]
حدثنا علي، حدثنا سفيان، قال: قال لي ابن شبرمة: نظرت كم يكفي الرجل من القرآن فلم أجد سورة أقل من ثلاث آيات. فقلت: لا ينبغي لأحد أن يقرأ أقل من ثلاث آيات.
قال سفيان: أخبرنا منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، أخبره علقمة عن أبي مسعود، فلقيته وهو يطوف بالبيت، فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم أن "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه".
وقد تقدم أن هذا الحديث متفق عليه، وقد جمع البخاري فيما بين عبد الرحمن بن يزيد وعلقمة عن أبي مسعود وهو صحيح؛ لأن عبد الرحمن سمعه أولا من علقمة، ثم لقي أبا مسعود وهو يطوف فسمعه منه، وعلي هذا هو ابن المديني وشيخه هو سفيان بن عيينة، وما قاله عبد الله بن شبرمة -فقيه الكوفة في زمانه- استنباط حسن، وقد جاء في حديث في السنن: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات)) ولكن هذا الحديث -أعني حديث أبي مسعود- أصح وأشهر وأخص، ولكن وجه مناسبته للترجمة التي ذكرها البخاري فيه نظر، والله أعلم.
والحديث الثاني أظهر في المناسبة وهو قوله: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته فيسألها عن بعلها فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ((ألقني به))، فلقيته بعد، فقال: ((كيف تصوم؟)). قلت: كل يوم. قال: ((وكيف تختم؟)). قال: كل ليلة. قال: ((صم كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر)): قال: قلت: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: ((صم ثلاثة أيام في الجمعة)). قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: ((أفطر يومين وصوم يوما)). قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: ((صم أفضل الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة))، فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وذلك أني كبرت وضعفت، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرأ يعرضه بالنهار ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى وصام مثلهن، كراهية أن يترك شيئا فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: في ثلاث وفي خمس وأكثرهم على سبع ".
وقد رواه في الصوم، والنسائي -أيضا- عن بندار عن غندر، عن شعبة، عن مغيرة، والنسائي من حديث حصين، كلاهما عن مجاهد به.
ثم روى البخاري ومسلم وأبو داود من حديث يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن -مولى بني زهرة- عن أبي سلمة: قال: وأحسبني قال: سمعت أنا من أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو قال: "قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:. ((اقرأ القرآن في شهر)). قلت: إني أجد قوة. قال: ((فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك)) ". فهذا السياق ظاهره يقتضي المنع من قراءة القرآن في أقل من سبع، وهكذا الحديث الذي رواه أبو عبيد:
حدثنا حجاج وعمر بن طارق ويحيى بن بكير، كلهم عن ابن لهيعة، عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن قيس بن أبي صعصعة؛ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، في كم أقرأ القرآن؟ فقال: ((في كل خمس عشرة)). قال: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: ((ففي كل جمعة)).
وحدثنا حجاج عن شعبة، عن محمد بن ذكوان -رجل من أهل الكوفة- قال: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يقول: كان عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن في غير رمضان من الجمعة إلى الجمعة.
وعن حجاج، عن شعبة، عن أيوب: سمعت أبا قلابة، عن أبي المهلب قال: كان أبي بن كعب يختم القرآن في كل ثمان.
وحدثنا علي بن عاصم، عن خالد، عن أبي قلابة قال: كان أبي بن كعب يختم القرآن في كل ثمان.
وكان تميم الداري يختمه في كل سبع، وحدثنا هشيم، عن الأعمش، عن إبراهيم: أنه كان يختم القرآن في كل سبع.
وحدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: كان الأسود يختم القرآن في كل ست، وكان علقمة يختمه في كل خمس.
فلو تركنا ومجرد هذا لكان الأمر في ذلك جليا، ولكن دلت أحاديث أخرجوها على جواز قراءته فيما دون ذلك، كما رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا حبان ابن واسع، عن أبيه، عن سعد بن المنذر الأنصاري؛ أنه قال: يا رسول الله، أقرأ القرآن في ثلاث؟ قال: ((نعم)). قال: فكان يقرؤه حتى توفي.
وهذا إسناد جيد قوي حسن، فإن حسن بن موسى الأشيب ثقة متفق على جلالته روى له الجماعة وابن لهيعة، إنما يخشى من تدليسه وسوء حفظه، وقد صرح هاهنا بالسماع، وهو من الأئمة العلماء بالديار المصرية في زمانه، وشيخه حبان بن واسع بن حبان وأبوه، كلاهما من رجال مسلم، والصحابي لم يخرج له أحد من أهل الكتب الستة، وهذا على شرط كثير منهم، والله أعلم.
وقد رواه أبو عبيد، رحمه الله، عن ابن بكير عن ابن لهيعة، عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال: "يا رسول الله، أقرأ القرآن في ثلاث؟ قال: ((نعم، إن استطعت)) ". قال: فكان يقرؤه كذلك حتى توفي.
حديث آخر: قال أبو عبيد: حدثنا يزيد، عن همام، عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث)).
وهكذا أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة من حديث قتادة به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
حديث آخر: قال أبو عبيد: حدثنا يوسف بن الغرق، عن الطيب بن سليمان، حدثتنا عمرة بنت عبد الرحمن: أنها سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم القرآن في أقل من ثلاث.
هذا حديث غريب وفيه ضعف، فإن الطيب بن سليمان هذا بصري، ضعفه الدارقطني، وليس هو بذاك المشهور، والله أعلم.
وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث، كما هو مذهب أبي عبيد وإسحاق وابن راهويه وغيرهما من الخلف -أيضا- قال أبو عبيد: حدثنا يزيد، عن هشام بن حسان، عن حفصة، عن أبي العالية، عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. صحيح.
وحدثنا يزيد، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز. وحدثنا حجاج، عن شعبة، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله مثله سواء.
وحدثنا حجاج، عن شعبة، عن محمد بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه؛ أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث. إسناده صحيح.
وفي المسند عن عبد الرحمن بن شبل مرفوعا: ((اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به)).
فقوله: ((لا تغلوا فيه)) أي: لا تبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مدة، فإن ذلك ينافي التدبر غالبا؛ ولهذا قابله بقوله: ((ولا تجفوا عنه)) أي: لا تتركوا تلاوته.
فصل
وقد ترخص جماعة من السلف في تلاوة القرآن في أقل من ذلك؛ منهم أمير المؤمنين
عثمان بن عفان، رضي الله عنه. قال أبو عبيد: حدثنا حجاج، عن ابن جريج،
أخبرني ابن خصيفة، عن السائب بن يزيد: أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن
صلاة طلحة بن عبيد فقال: إن شئت أخبرتك عن صلاة عثمان، رضي الله عنه، فقال: نعم.
قال: قلت: لأعلين الليلة على الحجر، فقمت، فلما قمت إذا أنا برجل مقنع يزحمني،
فنظرت فإذا عثمان بن عفان، فتأخرت عنه، فصلى فإذا هو يسجد سجود القرآن، حتى إذا
قلت: هذه هوادي الفجر، أوتر بركعة لم يصل غيرها. وهذا إسناد
صحيح. قال وحدثنا
هشيم، أن منصور، عن ابن سيرين قال: قالت نائلة بنت الفرافصة الكلبية حيث دخلوا على
عثمان ليقتلوه: إن يقتلوه أو يدعوه، فقد كان يحيي الليل كله بركعة يجمع فيها
القرآن. وهذا حسن أيضا. وقال -أيضا- : حدثنا أبو معاوية، عن عاصم بن سليمان، عن ابن سيرين: إن تميما الداري قرأ القرآن في ركعة. حدثنا حجاج بن شعبة، عن حماد، عن سعيد بن
جبير: أنه قال: قرأت القرآن في ركعة في البيت -يعني
الكعبة. وحدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قرأ القرآن في ليلة، طاف
بالبيت أسبوعا، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالطول، ثم طاف بالبيت أسبوعا، ثم أتى
المقام فصلى عنده فقرأ بالمئين، ثم طاف أسبوعا، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ
بالمثاني، ثم طاف بالبيت أسبوعا ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية
القرآن. وهذه كلها
أسانيد صحيحة، ومن أغرب ما هاهنا: ما رواه أبو عبيد رحمه الله: حدثنا سعيد بن عفير،
عن بكر بن مضر، أن سليم بن عتر التجيبي كان يختم القرآن في ليلة ثلاث مرات، ويجامع
ثلاث مرات، قال: فلما مات قالت امرأته: رحمك الله، إن كنت لترضي ربك وترضي أهلك،
قالوا: وكيف ذلك؟ قالت: كان يقوم من الليل فيختم القرآن، ثم يلم بأهله ثم يغتسل،
ويعود فيقرأ حتى يختم ثم يلم بأهله، ثم يغتسل، ويعود فيقرأ حتى يختم، ثم يلم بأهله
ثم يغتسل، ويخرج إلى صلاة الصبح. قلت: كان سليم بن عتر تابعيا جليلا ثقة
نبيلا وكان قاضيا بمصر أيام معاوية وقاصها، ثم قال أبو حاتم: روى عن أبي الدرداء،
وعنه ابن زحر، ثم قال: حدثني محمد بن عوف، عن أبي صالح كاتب الليث، حدثني حرملة بن
عمران، عن كعب بن علقمة قال: كان سليم بن عتر من خير
التابعين. وذكره
ابن يونس في تاريخ مصر. وقد روى ابن أبي داود عن مجاهد أنه كان يختم القرآن فيما
بين المغرب والعشاء. وعن منصور قال: كان علي
الأزدي يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من
رمضان. وعن
إبراهيم بن سعد قال: كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم
القرآن. قلت: وروي عن منصور بن زاذان: أنه كان يختم فيما بين
الظهر والعصر، ويختم أخرى فيما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرونها
قليلا. وعن
الإمام الشافعي، رحمه الله: أنه كان يختم في اليوم والليلة من
شهر رمضان ختمتين، وفي غيره ختمة. وعن أبي عبد الله البخاري -صاحب الصحيح-
: أنه كان يختم في الليلة ويومها من رمضان
ختمة. ومن
غريب هذا وبديعه ما ذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي قال: سمعت الشيخ أبا
عثمان المغربي يقول: كان ابن الكاتب يختم بالنهار أربع ختمات،
وبالليل أربع ختمات. وهذا نادر جدا. فهذا وأمثالة من الصحيح عن
السلف محمول إما على أنه ما بلغهم في ذلك حديث مما تقدم، أو أنهم كانوا يفهمون
ويتفكرون فيما يقرؤونه مع هذه السرعة، والله أعلم. قال الشيخ أبو زكريا النووي في كتابه
التبيان بعد ذكر طرف مما تقدم: (والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان
له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له كمال فهم ما يقرؤه، وكذا من
كان مشغولا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على
قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر
ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة).
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت:774 هـ): (ثم قال البخاري، رحمه الله:
البكاء عند
القراءة
وأورد فيه من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله -هو ابن مسعود- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأ علي)). قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: ((إني أشتهي أن أسمعه من غيري)). قال: فقرأت النساء، حتى إذا بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: 41]، قال لي: ((كف أو أمسك))، فرأيت عيناه تذرفان ".
وهذا من المتفق عليه كما تقدم، وكما سيأتي إن شاء الله).
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت:774 هـ): (ثم قال البخاري:
اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم
حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل عارم، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه)).
حدثنا عمرو بن علي بن بحر الفلاس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سلام بن أبي مطيع، عن أبي عمران الجوني، عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه)).
تابعه الحارث بن عبيد وسعيد بن زيد، عن أبي عمران، ولم يرفعه حماد بن سلمة وأبان.
وقال غندر: عن شعبة، عن أبي عمران قال: سمعت جندبا. قوله: وقال ابن عون، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن عمر قوله. وجندب أصح وأكثر .
وقد رواه في موضع آخر، ومسلم كلاهما عن إسحاق بن منصور، عن عبد الصمد، عن همام، عن أبي عمران به ومسلم -أيضا- عن يحيى بن يحيى، عن الحارث بن عبيد أبي قدامة، عن أبي عمران به، ورواه مسلم -أيضا- عن أحمد بن سعيد، عن حبان بن هلال، عن أبان العطار، عن أبي عمران به مرفوعا.
وقد حكى البخاري: أن أبان وحماد بن سلمة لم يرفعاه، فالله أعلم.
ورواه النسائي والطبراني من حديث مسلم بن إبراهيم، عن هارون بن موسى الأعور النحوي، عن أبي عمران به.
ورواه النسائي -أيضا- من طرق عن سفيان، عن حجاج بن فرافصة، عن أبي عمران به مرفوعا وفي رواية عن هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، عن أبيه، عن سفيان عن حجاج، عن أبي عمران، عن جندب موقوفا، ورواه عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الله بن عون، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن عمر قوله.
قال أبو بكر بن أبي داود: لم يخطئ ابن عون في حديث قط إلا في هذا، والصواب عن جندب. ورواه الطبراني عن علي بن عبد العزيز عن مسلم بن إبراهيم وسعيد بن منصور قالا حدثنا الحارث بن عبيد، عن أبي عمران، عن جندب مرفوعا.
فهذا مما تيسر من ذكر طرق هذا الحديث على سبيل الاختصار، والصحيح منها ما أرشد إليه شيخ هذه الصناعة أبو عبد الله البخاري، رحمه الله، من أن الأكثر والأصح: أنه عن جندب بن عبد الله مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الحديث أنه، عليه السلام، أرشد وحض أمته على تلاوة القرآن إذا كانت القلوب مجتمعة على تلاوته، متفكرة فيه، متدبرة له، لا في حال شغلها وملالها، فإنه لا يحصل المقصود من التلاوة بذلك كما ثبت في الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام: ((اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) وقال: ((أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل))، وفي اللفظ الآخر: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)).
ثم قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، عن عبد الله -هو ابن مسعود- "أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((كلاكما محسن فاقرآ)) أكبر علمي قال: ((فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم الله عز وجل)) ".
وأخرجه النسائي من رواية شعبة به وهذا في معنى الحديث الذي تقدمه، وأنه ينهى عن الاختلاف في القراءة والمنازعة في ذلك والمراء فيه كما تقدم النهي عن ذلك، والله أعلم.
وقريب من هذا ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا أبو محمد بن محمد الجرمي، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن الأعمش، عن عاصم، عن زر بن حبيش قال: قال عبد الله بن مسعود: تمارينا في سورة من القرآن فقلنا: خمس وثلاثون آية، ست وثلاثون آية قال: فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدنا عليا يناجيه فقلنا له: اختلفنا في القراءة، فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرؤوا كما قد علمتم.
وهذا آخر ما أورده البخاري، رحمه الله، في كتاب فضائل القرآن، جل منزله، وتعالى قائله، ولله الحمد والمنة).