2 Oct 2022
الأحرف السبعة
القول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) :(قد دللنا، على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه، على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم، وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب ولغاتها.
فنقول الآن -إذ كان ذلك صحيحا- في الدلالة عليه بأي ألسن العرب أنزل: أبألسن جميعها أم بألسن بعضها؟ إذ كانت العرب، وإن جمع جميعها اسم أنهم عرب، فهم مختلفو الألسن بالبيان، متباينو المنطق والكلام. وإذ كان ذلك كذلك -وكان الله جل ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن عربيا وأنه أنزل بلسان عربي مبين، ثم كان ظاهره محتملا خصوصا وعموما- لم يكن لنا السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه، إلا ببيان من جعل إليه بيان القرآن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذ كان ذلك كذلك - وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه صلى الله عليه وسلم بما حدثنا به خلاد بن أسلم، قال: حدثنا أنس بن عياض، عن أبي حازم، عن أبي سلمة، قال: "لا أعلمه إلا عن أبي هريرة " -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمراء في القرآن كفر -ثلاث مرات- فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه)).
- حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنزل القرآن على سبعة أحرف، عليم حكيم، غفور رحيم" .
- وحدثنا أبو كريب، قال: حدثني عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
- وحدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن واصل بن حيان، عمن ذكره، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع)).
- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، قال: حدثنا سفيان، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
- حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: " اختلف رجلان في سورة، فقال هذا: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم. وقال هذا: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك، قال فتغير وجهه، وعنده رجل" فقال: ((اقرأوا كما علمتم -فلا أدري أبشيء أمر أم شيء ابتدعه من قبل نفسه- فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم)). قال:" فقام كل رجل منا وهو لا يقرأ على قراءة صاحبه. نحو هذا ومعناه "
- حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الأعمش -وحدثني أحمد بن منيع، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن الأعمش- عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: قال عبد الله بن مسعود: " تمارينا في سورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون أو ست وثلاثون آية. قال: فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدنا عليا يناجيه، قال: فقلنا: إنا اختلفنا في القراءة. قال: فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال: ((إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم)). قال:" ثم أسر إلى علي شيئا، فقال لنا علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرأوا كما علمتم" .
- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن عيسى بن قرطاس، عن زيد القصار، عن زيد بن أرقم، قال: "كنا معه في المسجد فحدثنا ساعة ثم قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة، أقرأنيها زيد وأقرأنيها أبي بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فقراءة أيهم آخذ؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وعلي إلى جنبه، فقال علي: ليقرأ كل إنسان كما علم، كل حسن جميل".
- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري أخبراه: أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: "سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلما سلم لببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها! فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان!" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام)). فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هكذا أنزلت)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأ يا عمر)). فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هكذا أنزلت)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منها)).
- حدثني أحمد بن منصور، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا حرب بن ثابت من بني سليم، قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، عن جده، قال: "قرأ رجل عند عمر بن الخطاب فغير عليه، فقال: لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغير علي. قال: فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ألم تقرئني آية كذا وكذا؟" قال: ((بلى!)) قال: "فوقع في صدر عمر شيء، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهه، قال: فضرب صدره" وقال: ((ابعد شيطانا)) -قالها ثلاثا- ثم قال: ((يا عمر، إن القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة)).
- حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي، قال: حدثنا عبد الله بن ميمون، قال: حدثنا عبيد الله -يعني ابن عمر- عن نافع، عن ابن عمر، قال: "سمع عمر بن الخطاب رجلا يقرأ القرآن، فسمع آية على غير ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا قرأ آية كذا وكذا". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف)).
- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن علي بن أبي علي، عن زبيد، عن علقمة النخعي، قال: "لما خرج عبد الله بن مسعود من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم، ثم قال: لا تنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى، ولا يتفه لكثرة الرد. وإن شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه فيه واحدة، ولو كان شيء من الحرفين ينهى عن شيء يأمر به الآخر، كان ذلك الاختلاف. ولكنه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شيء من شرائع الإسلام. ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمرنا فنقرأ عليه، فيخبرنا أن كلنا محسن. ولو أعلم أحدا أعلم بما أنزل الله على رسوله مني لطلبته، حتى أزداد علمه إلى علمي. ولقد قرأت من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عام قبض، فعرض عليه مرتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني محسن. فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه، فإنه من جحد بآية جحد به كله".
- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس -وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا رشدين بن سعد، عن عقيل بن خالد- جميعا عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده فيزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف)). قال ابن شهاب: "بلغني أن تلك السبعة الأحرف، إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا، لا يختلف في حلال ولا حرام".
- حدثني محمد بن عبد الله بن أبي مخلد الواسطي، ويونس بن عبد الأعلى الصدفي، قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله، أخبره أبوه: أن أم أيوب أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نزل القرآن على سبعة أحرف، أيها قرأت أصبت)).
- حدثنا إسماعيل بن موسى السدي، قال: أنبأنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، يرفعه، قال: أتاني ملكان، فقال أحدهما:"اقرأ". قال: "على كم؟" قال: "على حرف"، قال: "زده". حتى انتهى به إلى سبعة أحرف.
- حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا نافع بن يزيد، قال: حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أقرأني جبريل القرآن على حرف، فاستزدته فزادني، ثم استزدته فزادني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف)).
- حدثني الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، أنه سمع أم أيوب تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه - يعني نحو حديث ابن أبي مخلد.
- حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا أبو الربيع السمان، قال: حدثني عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن أم أيوب، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((نزل القرآن على سبعة أحرف، فما قرأت أصبت)).
- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن فلان العبدي -قال أبو جعفر: ذهب عنى اسمه-، عن سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب، قال: "رحت إلى المسجد، فسمعت رجلا يقرأ"، فقلت: "من أقرأك؟" فقال: "رسول الله صلى الله عليه وسلم". "فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: استقرئ هذا". قال: فقرأ، فقال: ((أحسنت)). قال فقلت: إنك أقرأتني كذا وكذا! فقال: ((وأنت قد أحسنت)). قال: فقلت: قد أحسنت! قد أحسنت! قال: فضرب بيده على صدري، ثم قال: ((اللهم أذهب عن أُبيٍّ الشك)). قال: ففضت عرقا، وامتلأ جوفي فرقا- ثم قال: ((إن الملكين أتياني، فقال أحدهما اقرأ القرآن على حرف. وقال الآخر: زده. قال: فقلت: زدني. قال: اقرأه على حرفين. حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: اقرأ على سبعة أحرف)).
- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي -وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا محمد بن ميمون الزعفراني- جميعا عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال:" ما حاك في صدري شيء منذ أسلمت، إلا أني قرأت آية، فقرأها رجل غير قراءتي، فقلت: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال الرجل: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: "أقرأتني آية كذا وكذا؟" قال: ((بلى)). قال الرجل: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: ((بلى، إن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف واحد. وقال ميكائيل: استزده، قال جبريل: اقرأ القرآن على حرفين. فقال ميكائيل: استزده. حتى بلغ ستة أو سبعة)) -الشك من أبي كريب- وقال ابن بشار في حديثه: حتى بلغ سبعة أحرف -ولم يشك فيه- وكل شاف كاف. ولفظ الحديث لأبي كريب.
- وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال في حديثه: حتى بلغ ستة أحرف، قال: اقرأه على سبعة أحرف، كل شاف كاف.
- حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس بن مالك، عن عبادة بن الصامت، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)).
- حدثنا أبو كريب قال حدثنا حسين بن علي، وأبو أسامة، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن أبي، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء فقال: ((إني بعثت إلى أمة أميين، منهم الغلام والخادم والشيخ العاسي والعجوز))، فقال جبريل: فليقرأوا القرآن على سبعة أحرف. ولفظ الحديث لأبي أسامة.
- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن نمير، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد -وحدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قال: حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن إسماعيل- عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده، عن أبي بن كعب، قال:" كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل رجل آخر، فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه، فدخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: يا رسول الله، إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ، فحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهما، فوقع في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية! فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشيني، ضرب في صدري، ففضت عرقا، كأنما أنظر إلى الله فرقا". فقال لي: ((يا أبي، أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه: أن هون على أمتي، فرد علي في الثانية: أن اقرأ القرآن على حرف. فرددت عليه أن هون على أمتي، فرد علي في الثالثة، أن اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم)). إلا أن ابن بيان قال في حديثه: فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد أصبتم وأحسنتم)). وقال أيضا: فارفضضت عرقا.
- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال: قال لي:" أعيذك بالله من الشك والتكذيب". وقال أيضا: "إن الله أمرني أقرأ القرآن على حرف"، فقلت: "اللهم رب خفف عن أمتي. قال: اقرأه على حرفين. فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف، من سبعة أبواب من الجنة، كلها شاف كاف".
- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى - عن ابن أبي ليلى وعن ابن أبي ليلى عن الحكم- عن ابن أبي ليلى، عن أبي قال: "دخلت المسجد فصليت، فقرأت النحل، ثم جاء رجل آخر فقرأها على غير قراءتي، ثم جاء رجل آخر فقرأ خلاف قراءتنا، فدخل نفسي من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية، فأخذت بأيديهما فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم"، فقلت: يا رسول الله، استقرئ هذين. فقرأ أحدهما، فقال: ((أصبت)). ثم استقرأ الآخر، فقال: ((أصبت)). فدخل قلبي أشد مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، وقال: ((أعاذك الله من الشك، وأخسأ عنك الشيطان)). قال إسماعيل: ففضت عرقا -ولم يقله ابن أبي ليلى- قال: فقال: ((أتاني جبريل فقال: اقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: إن أمتي لا تستطيع ذلك. حتى قال سبع مرات، فقال لي: اقرأ على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتها مسألة. قال: فاحتاج إلي فيها الخلائق، حتى إبراهيم)).
- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الله، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
- حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن جحادة، عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أضاة بني غفار" فقال: "إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فمن قرأ منها حرفا فهو كما قرأ".
- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار، قال: فأتاه جبريل فقال: "إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف". قال: ((أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك)). قال: ثم أتاه الثانية فقال: "إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين". قال: ((أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك)). ثم جاءه الثالثة فقال: "إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف". قال: ((أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك)). ثم جاءه الرابعة فقال:"إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا".
- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عند أضاة بني غفار - فذكر نحوه.
- حدثنا أبو كريب، قال حدثنا موسى بن داود، قال: حدثنا شعبة -وحدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا شعبة- عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب أنه قال: "سمعت رجلا يقرأ في سورة النحل قراءة تخالف قراءتي، ثم سمعت آخر يقرؤها قراءة تخالف ذلك، فانطلقت بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل، فسألتهما: من أقرأهما؟" فقالا: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت:" لأذهبن بكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ خالفتما ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدهما: ((اقرأ)). فقرأ، فقال: ((أحسنت)). ثم قال للآخر: ((اقرأ)). فقرأ، فقال: ((أحسنت)). قال أبي: فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان، حتى احمر وجهي، فعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي، فضرب بيده في صدري، ثم قال: ((اللهم أخسئ الشيطان عنه! يا أبي، أتاني آت من ربي فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عني. ثم أتاني الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. ثم أتاني الثالثة فقال مثل ذلك، وقلت مثل ذلك. ثم أتاني الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة. فقلت: يا رب اغفر لأمتي، يا رب اغفر لأمتي. واختبأت الثالثة شفاعة لأمتي يوم القيامة)).
- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله بن عمر، عن سيار أبي الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "ذكر أن رجلين اختصما في آية من القرآن، وكل يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه، فتقارآ إلى أبي، فخالفهما أبي"، فتقارؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، اختلفنا في آية من القرآن، وكلنا يزعم أنك أقرأته. فقال لأحدهما: ((اقرأ)). قال: فقرأ، فقال: ((أصبت)). وقال للآخر: ((اقرأ)). فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه، فقال: ((أصبت)). وقال لأبي: اقرأ. فقرأ فخالفهما، فقال: ((أصبت)). قال أبي: فدخلني من الشك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دخل في من أمر الجاهلية، قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في وجهي، فرفع يده فضرب صدري، وقال: ((استعذ بالله من الشيطان الرجيم))، قال: ففضت عرقا، وكأني أنظر إلى الله فرقا. وقال: ((إنه أتاني آت من ربي فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثانية فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثالثة فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاءني الرابعة فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة. قال: قلت: رب اغفر لأمتي، رب اغفر لأمتي، واختبأت الثالثة شفاعة لأمتي، حتى إن إبراهيم خليل الرحمن ليرغب فيها)).
- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال جبريل: اقرأوا القرآن على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: على حرفين. حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم تختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب. كقولك: هلم وتعال)).
- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد: أن أبا جهيم الأنصاري أخبره:" أن رجلين اختلفا في آية من القرآن"، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر)).
- حدثنا يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف)).
-حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن أبي عيسى بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن جده عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف، كل كاف شاف)).
- حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا أبو خلدة، قال: حدثني أبو العالية، قال:" قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خمس رجل، فاختلفوا في اللغة، فرضي قراءتهم كلهم، فكان بنو تميم أعرب القوم".
- حدثنا عمرو بن عثمان العثماني، قال: حدثنا ابن أبي أويس، قال: حدثنا أخي، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة)).
- حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال: حدثنا محمد بن جحادة عن الحكم ابن عتيبة، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، وهو بأضاة بني غفار"، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد. قال: فقال: ((أسأل الله مغفرته ومعافاته - أو قال: ومعافاته ومغفرته - سل الله لهم التخفيف، فإنهم لا يطيقون ذلك)). فانطلق ثم رجع، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين. قال: ((أسأل الله مغفرته ومعافاته - أو قال: معافاته ومغفرته - إنهم لا يطيقون ذلك، فسل الله لهم التخفيف)). فانطلق ثم رجع، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال: أسأل الله مغفرته ومعافاته - أو قال: معافاته ومغفرته- إنهم لا يطيقون ذلك، سل الله لهم التخفيف. فانطلق ثم رجع، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فمن قرأ منها بحرف فهو كما قرأ.
قال أبو جعفر صح وثبت أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب البعض منها دون الجميع، إذ كان معلوما أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبعة، بما يعجز عن إحصائه.
فإن قال: وما برهانك على أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نزل القرآن على سبعة أحرف))، وقوله: ((أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف))، هو ما ادعيته - من أنه نزل بسبع لغات، وأمر بقراءته على سبعة ألسن- دون أن يكون معناه ما قاله مخالفوك، من أنه نزل بأمر وزجر وترغيب وترهيب وقصص ومثل ونحو ذلك من الأقوال؟ فقد علمت قائل ذلك من سلف الأمة وخيار الأئمة.
قيل له: إن الذين قالوا ذلك لم يدعوا أن تأويل الأخبار التي تقدم ذكرناها، هو ما زعمت أنهم قالوه في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن دون غيره، فيكون ذلك لقولنا مخالفا، وإنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة أحرف، يعنون بذلك أنه نزل على سبعة أوجه. والذي قالوه من ذلك كما قالوا.
وقد روينا - بمثل الذي قالوا من ذلك - عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من أصحابه، أخبارا قد تقدم ذكرنا بعضها، وسنستقصي ذكر باقيها ببيانه، إذا انتهينا إليه، إن شاء الله.
فأما الذي تقدم ذكرناه من ذلك، فخبر أبي بن كعب، من رواية أبي كريب، عن ابن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، الذي ذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف، من سبعة أبواب من الجنة)).
والسبعة الأحرف: هو ما قلنا من أنه الألسن السبعة. والأبواب السبعة من الجنة: هي المعاني التي فيها، من الأمر والنهي والترغيب والترهيب والقصص والمثل، التي إذا عمل بها العامل، وانتهى إلى حدودها المنتهي، استوجب به الجنة. وليس والحمد لله في قول من قال ذلك من المتقدمين، خلاف لشيء مما قلناه.
والدلالة على صحة ما قلناه - من أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نزل القرآن على سبعة أحرف))، إنما هو أنه نزل بسبع لغات، كما تقدم ذكرنا من الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وسائر من قد قدمنا الرواية عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في أول هذا الباب- أنهم تماروا في القرآن، فخالف بعضهم بعضا في نفس التلاوة، دون ما في ذلك من المعاني، وأنهم احتكموا فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرأ كل رجل منهم، ثم صوب جميعهم في قراءتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم: ((إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف)).
ومعلوم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك، لو كان تماريا واختلافا فيما دلت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم والوعد والوعيد وما أشبه ذلك، لكان مستحيلا أن يصوب جميعهم صلى الله عليه وسلم، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه. لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحا، وجب أن يكون الله جل ثناؤه قد أمر بفعل شيء بعينه وفرضه، في تلاوة من دلت تلاوته على فرضه - ونهى عن فعل ذلك الشيء بعينه وزجر عنه، في تلاوة الذي دلت تلاوته على النهي والزجر عنه، وأباح وأطلق فعل ذلك الشيء بعينه، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فعله، ولمن شاء منهم أن يتركه تركه في تلاوة من دلت تلاوته على التخيير!
وذلك من قائله إن قاله، إثبات ما قد نفى الله جل ثناؤه عن تنزيله وحكم كتابه فقال تعالى ذكره: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82].
وفي نفي الله جل ثناؤه ذلك عن حكم كتابه، أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلا بحكم واحد متفق في جميع خلقه، لا بأحكام فيهم مختلفة.
وفي صحة كون ذلك كذلك، ما يبطل دعوى من ادعى خلاف قولنا في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)) للذين تخاصموا إليه عند اختلافهم في قراءتهم. لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر جميعهم بالثبوت على قراءته، ورضي قراءة كل قارئ منهم - على خلافها قراءة خصومه ومنازعيه فيها- وصوبها. ولو كان ذلك منه تصويبا فيما اختلفت فيه المعاني، وكان قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل علي القرآن على سبعة أحرف)) إعلاما منه لهم أنه نزل بسبعة أوجه مختلفة، وسبعة معان مفترقة - كان ذلك إثباتا لما قد نفى الله عن كتابه من الاختلاف، ونفيا لما قد أوجب له من الائتلاف. مع أن في قيام الحجة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض في شيء واحد في وقت واحد بحكمين مختلفين، ولا أذن بذلك لأمته - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على أن ذلك منفي عن كتاب الله.
وفي انتفاء ذلك عن كتاب الله، وجوب صحة القول الذي قلناه، في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف))، عند اختصام المختصمين إليه فيما اختلفوا فيه من تلاوة ما تلوه من القرآن، وفساد تأويل قول من خالف قولنا في ذلك.
وأخرى أن الذين تماروا فيما تماروا فيه من قراءتهم فاحتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن منكرا عند أحد منهم أن يأمر الله عباده جل ثناؤه في كتابه وتنزيله بما شاء، وينهى عما شاء، ويعد فيما أحب من طاعاته، ويوعد على معاصيه، ويحتم لنبيه ويعظه فيه ويضرب فيه لعباده الأمثال- فيخاصم غيره على إنكاره سماع ذلك من قارئه. بل على الإقرار بذلك كله كان إسلام من أسلم منهم. فما الوجه الذي أوجب له إنكار ما أنكر، إن لم يكن كان ذلك اختلافا منهم في الألفاظ واللغات؟
وبعد، فقد أبان صحة ما قلنا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا. وذلك الخبر الذي ذكرنا أن أبا كريب حدثنا قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال جبريل: اقرأ القرآن على حرف. قال ميكائيل: استزده. فقال: على حرفين. حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب، كقولك: هلم وتعال)).
فقد أوضح نص هذا الخبر أن اختلاف الأحرف السبعة، إنما هو اختلاف ألفاظ، كقولك "هلم وتعال" باتفاق المعاني، لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام.
وبمثل الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن جماعة من السلف والخلف.
- حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي، قال: حدثنا أبو معاوية - وحدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة - جميعا عن الأعمش، عن شقيق، قال: قال عبد الله: "إني قد سمعت القرأة، فوجدتهم متقاربين فاقرأوا كما علمتم، وإياكم والتنطع، فإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال".
- وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عمن سمع ابن مسعود يقول: "من قرأ منكم على حرف فلا يتحولن، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله لأتيته".
- وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن عابس، عن رجل من أصحاب عبد الله، عن عبد الله بن مسعود، قال: "من قرأ القرآن على حرف فلا يتحولن منه إلى غيره".
فمعلوم أن عبد الله لم يعن بقوله هذا: من قرأ ما في القرآن من الأمر والنهي فلا يتحولن منه إلى قراءة ما فيه من الوعد والوعيد، ومن قرأ ما فيه من الوعد والوعيد فلا يتحولن منه إلى قراءة ما فيه من القصص والمثل. وإنما عنى رحمة الله عليه أن من قرأ بحرفه - وحرفه: قراءته، وكذلك تقول العرب لقراءة رجل: حرف فلان، وتقول للحرف من حروف الهجاء المقطعة: حرف، كما تقول لقصيدة من قصائد الشاعر: كلمة فلان- فلا يتحولن عنه إلى غيره رغبة عنه. ومن قرأ بحرف أبي، أو بحرف زيد، أو بحرف بعض من قرأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الأحرف السبعة - فلا يتحولن عنه إلى غيره رغبة عنه، فإن الكفر ببعضه كفر بجميعه، والكفر بحرف من ذلك كفر بجميعه يعني بالحرف ما وصفنا من قراءة بعض من قرأ ببعض الأحرف السبعة.
- وقد حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، قال:" قرأ أنس هذه الآية: (إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا) فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة، إنما هي: {وأقوم} فقال: أقوم وأصوب وأهيأ، واحد".
- وحدثني محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد: "أنه كان يقرأ القرآن على خمسة أحرف".
- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم:" أن سعيد بن جبير كان يقرأ القرآن على حرفين".
- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: "كان يزيد بن الوليد يقرأ القرآن على ثلاثة أحرف".
أفترى الزاعم أن تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف))، إنما هو أنه نزل على الأوجه السبعة التي ذكرنا، من الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والمثل - كان يرى أن مجاهدا وسعيد بن جبير لم يقرآ من القرآن إلا ما كان من وجهيه أو وجوهه الخمسة دون سائر معانيه؟ لئن كان ظن ذلك بهما، لقد ظن بهما غير الذي يعرفان به من منازلهما من القرآن، ومعرفتهما بآي الفرقان!
- وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال حدثنا أيوب، عن محمد، قال: "نبئت أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له جبرائيل: اقرأ القرآن على حرفين. فقال له ميكائيل: استزده. فقال: اقرأ القرآن على ثلاثة أحرف. فقال له ميكائيل: استزده. قال: حتى بلغ سبعة أحرف، قال محمد: لا تختلف في حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، هو كقولك: تعال وهلم وأقبل"، قال: وفي قراءتنا {إن كانت إلا صيحة واحدة} [يس: 29]، في قراءة ابن مسعود (إن كانت إلا زقية واحدة).
- وحدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا شعيب - يعني ابن الحبحاب - قال: "كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل": "ليس كما تقرأ" وإنما يقول: أما أنا فأقرأ كذا وكذا". قال: "فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: أرى صاحبك قد سمع: "أن من كفر بحرف منه فقد كفر به كله".
- حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب: أن الذي ذكر الله تعالى ذكره {إنما يعلمه بشر} [النحل: 103] إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي، فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: سميع عليم، أو عزيز حكيم، أو غير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الوحي، فيستفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: أعزيز حكيم، أو سميع عليم أو عزيز عليم؟ فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي ذلك كتبت فهو كذلك)). ففتنه ذلك، فقال: إن محمدا وكل ذلك إلي، فأكتب ما شئت. وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة.
- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: من كفر بحرف من القرآن، أو بآية منه، فقد كفر به كله.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإذ كان تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)) عندك، ما وصفت، بما عليه استشهدت، فأوجدنا حرفا في كتاب الله مقروءا بسبع لغات، فنحقق بذلك قولك. وإلا فإن لم تجد ذلك كذلك: كان معلوما بعد مكه - صحة قول من زعم أن تأويل ذلك: أنه نزل بسبعة معان، وهو الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والمثل- وفساد قولك. أو تقول في ذلك: إن الأحرف السبعة لغات في القرآن سبع، متفرقة في جميعه، من لغات أحياء من قبائل العرب مختلفة الألسن- كما كان يقوله بعض من لم ينعم النظر في ذلك. فيصير بذلك إلى القول بما لا يجهل فساده ذو عقل، ولا يلتبس خطؤه على ذي لب.
وذلك أن الأخبار التي بها احتججت لتصحيح مقالتك في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نزل القرآن على سبعة أحرف))، وهي الأخبار التي رويتها عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، رحمة الله عليهم، وعمن رويت ذلك عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأنهم تماروا في تلاوة بعض القرآن، فاختلفوا في قراءته دون تأويله، وأنكر بعض قراءة بعض، مع دعوى كل قارئ منهم قراءة منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه ما قرأ بالصفة التي قرأ. ثم احتكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، أن صوب قراءة كل قارئ منهم، على خلافها قراءة أصحابه الذين نازعوه فيها، وأمر كل امرئ منهم أن يقرأ كما علم، حتى خالط قلب بعضهم الشك في الإسلام، لما رأى من تصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة كل قارئ منهم على اختلافها. ثم جلاه الله عنه ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له: أن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
فإن كانت الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، عندك -كما قال هذا القائل- متفرقة في القرآن، مثبتة اليوم في مصاحف أهل الإسلام، فقد بطلت معاني الأخبار التي رويتها عمن رويت عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم اختلفوا في قراءة سورة من القرآن، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر كلا أن يقرأ كما علم. لأن الأحرف السبعة إذا كانت لغات متفرقة في جميع القرآن، فغير موجب حرف من ذلك اختلافا بين تاليه لأن كل تال فإنما يتلو ذلك الحرف تلاوة واحدة على ما هو به في المصحف، وعلى ما أنزل.
وإذ كان ذلك كذلك، بطل وجه اختلاف الذين روى عنهم أنهم اختلفوا في قراءة سورة، وفسد معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل قارئ منهم أن يقرأه على ما علم. إذ كان لا معنى هنالك يوجب اختلافا في لفظ، ولا افتراقا في معنى. وكيف يجوز أن يكون هنالك اختلاف بين القوم، والمعلم واحد، والعلم واحد غير ذي أوجه؟ وفي صحة الخبر عن الذين روى عنهم الاختلاف في حروف القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأنهم اختلفوا وتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، على ما تقدم وصفناه- أبين الدلالة على فساد القول بأن الأحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن، لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني.
مع أن المتدبر إذا تدبر قول هذا القائل - في تأويله قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف))، وادعائه أن معنى ذلك أنها سبع لغات متفرقة في جميع القرآن، ثم جمع بين قيله ذلك، واعتلاله لقيله ذلك بالأخبار التي رويت عمن روي ذلك عنه من الصحابة والتابعين أنه قال: هو بمنزلة قولك تعال وهلم وأقبل؛ وأن بعضهم قال: هو بمنزلة قراءة عبد الله (إلا زقية)، وهي في قراءتنا {إلا صيحة} وما أشبه ذلك من حججه - علم أن حججه مفسدة في ذلك مقالته، وأن مقالته فيه مضادة حججه.
لأن الذي نزل به القرآن عنده إحدى القراءتين -: إما "صيحة"، وإما "زقية" وإما "تعال" أو "أقبل" أو "هلم" - لا جميع ذلك. لأن كل لغة من اللغات السبع عنده في كلمة أو حرف من القرآن، غير الكلمة أو الحرف الذي فيه اللغة الأخرى.
وإذ كان ذلك كذلك، بطل اعتلاله لقوله بقول من قال: ذلك بمنزله "هلم" و "تعال" و "أقبل"، لأن هذه الكلمات هي ألفاظ مختلفة، يجمعها في التأويل معنى واحد. وقد أبطل قائل هذا القول الذي حكينا قوله، اجتماع اللغات السبع في حرف واحد من القرآن. فقد تبين بذلك إفساده حجته لقوله بقوله، وإفساد قوله لحجته.
فقيل له: ليس القول في ذلك بواحد من الوجهين اللذين وصفت. بل الأحرف السبعة التي أنزل الله بها القرآن، هن لغات سبع، في حرف واحد، وكلمة واحدة، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كقول القائل: هلم، وتعال، وأقبل، وإلي، وقصدي، ونحوي، وقربي، ونحو ذلك، مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعاني، وإن اختلفت بالبيان به الألسن، كالذي روينا آنفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمن روينا ذلك عنه من الصحابة، أن ذلك بمنزلة قوله: "هلم وتعال وأقبل"، وقوله: {ما ينظرون إلا صيحة}، و (إلا زقية).
فإن قال: ففي أي كتاب الله نجد حرفا واحدا مقروءا بلغات سبع مختلفات الألفاظ، متفقات المعنى، فنسلم لك صحة ما ادعيت من التأويل في ذلك؟
قيل: إنا لم ندع أن ذلك موجود اليوم، وإنما أخبرنا أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف))، على نحو ما جاءت به الأخبار التي تقدم ذكرناها. وهو ما وصفنا، دون ما ادعاه مخالفونا في ذلك، للعلل التي قد بينا.
فإن قال: فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة، إن كان الأمر في ذلك على ما وصفت، وقد أقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأمر بالقراءة بهن، وأنزلهن الله من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم؟ أنسخت فرفعت، فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الأمة، فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه؟ أم ما القصة في ذلك؟
قيل له: لم تنسخ فترفع، ولا ضيعتها الأمة وهي مأمورة بحفظها. ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت. كما أمرت، إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة، أن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة. فلو أجمع جميعها على التكفير فيها بواحدة من الكفارات الثلاث، دون حظرها التكفير بأي الثلاث شاء المكفر، كانت مصيبة حكم الله، مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق الله. فكذلك الأمة، أمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت: فرأت - لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد- قراءته بحرف واحد، ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه، بما أذن له في قراءته به.
فإن قال: وما العلة التي أوجبت عليها الثبات على حرف واحد دون سائر الأحرف الستة الباقية؟
- قيل: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه زيد، قال: "لما قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة، دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر رحمه الله فقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة تهافتوا تهافت الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا - وهم حملة القرآن- فيضيع القرآن وينسى. فلو جمعته وكتبته! فنفر منها أبو بكر وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم! فتراجعا في ذلك. ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت، قال زيد: فدخلت عليه وعمر محزئل فقال أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحي. فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل. قال: فاقتص أبو بكر قول عمر، وعمر ساكت، فنفرت من ذلك وقلت: نفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم! إلى أن قال عمر كلمة: "وما عليكما لو فعلتما ذلك؟" قال: فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شيء والله! ما علينا في ذلك شيء! قال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب".
فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتب ذلك في صحيفة واحدة، فكانت عنده. فلما هلك، كانت الصحيفة عند حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة كان غزاها في فرج إرمينية فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان فقال: "يا أمير المؤمنين: أدرك الناس! فقال عثمان: "وما ذاك؟" قال غزوت فرج إرمينية، فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فيكفرهم أهل العراق. وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفرهم أهل الشام. قال زيد: فأمرني عثمان بن عفان أكتب له مصحفا، وقال: إني مدخل معك رجلا لبيبا فصيحا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلي. فجعل أبان بن سعيد بن العاص، قال: فلما بلغا: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت} [البقرة: 248] قال: زيد فقلت: "التابوه" وقال أبان بن سعيد: "التابوت"، فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب: "التابوت" قال: فلما فرغت عرضته معه عرضة، فلم أجد فيه هذه الآية: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} إلى قوله: {وما بدلوا تبديلا} [الأحزاب: 23] قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها عند خزيمة بن ثابت، فكتبتها، ثم عرضته عرضة أخرى، فلم أجد فيه هاتين الآيتين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} إلى آخر السورة [التوبة: 128، 129] فاستعرضت المهاجرين، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضا، فأثبتها في آخر "براءة"، ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة. ثم عرضته عرضة أخرى، فلم أجد فيه شيئا، ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها فأعطته إياها، فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا في شيء. فردها إليها، وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف. فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمة، فأعطاهم إياها فغسلت غسلا.
- وحدثني به أيضا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد، عن أبيه زيد بن ثابت، بنحوه سواء.
- وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال:" لما كان في خلافة عثمان، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين" - قال أيوب: فلا أعلمه إلا قال-: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض. فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبا فقال: "أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا. اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إماما". قال أبو قلابة، فحدثني مالك أبو أنس قال: كنت فيمن يملى عليهم، قال: فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها، حتى يجيء أو يرسل إليه. فلما فرغ من المصحف، كتب عثمان إلى أهل الأمصار: "إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم".
- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس قال: قال ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك الأنصاري: أنه اجتمع لغزوة أذربيجان وإرمينية أهل الشام وأهل العراق، فتذاكروا القرآن، فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة. فركب حذيفة بن اليمان - لما رأى اختلافهم في القرآن - إلى عثمان، فقال: "إن الناس قد اختلفوا في القرآن، حتى إني والله لأخشى أن يصيبهم مثل ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف". قال: ففزع لذلك فزعا شديدا، فأرسل إلى حفصة فاستخرج الصحف التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق.
- حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال:" قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب والسعف".
- حدثنا سعيد بن الربيع قال: حدثنا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي، عن صعصعة "أن أبا بكر أول من ورث الكلالة وجمع المصحف".
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب جميعها الكتاب، والآثار الدالة على أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمة الله عليه، جمع المسلمين - نظراً منه لهم، وإشفاقا منه عليهم، ورأفة منه بهم، حذار الردة من بعضهم بعد الإسلام، والدخول في الكفر بعد الإيمان، إذ ظهر من بعضهم بمحضره وفي عصره التكذيب ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، مع سماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن التكذيب بشيء منها، وإخباره إياهم أن المراء فيها كفر- فحملهم رحمة الله عليه، إذ رأى ذلك ظاهرا بينهم في عصره، وبحداثة عهدهم بنزول القرآن، وفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بما أمن عليهم معه عظيم البلاء في الدين من تلاوة القرآن - على حرف واحد.
وجمعهم على مصحف واحد، وخرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه. وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه، أن يخرقه. فاستوسقت له الأمة على ذلك بالطاعة ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها، طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها، لدثورها وعفو آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتها وصحة شيء منها ولكن نظرا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها. فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية.
فإن قال بعض من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بقراءتها؟
قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة. لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم، لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة، عند من يقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر، ويزيل الشك من قرأة الأمة. وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة.
وإذ كان ذلك كذلك، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع، تاركين ما كان عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا. إذ كان الذي فعلوا من ذلك، كان هو النظر للإسلام وأهله. فكان القيام بفعل الواجب عليهم، بهم أولى من فعل ما لو فعلوه، كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة، من ذلك.
فأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه، وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة، فمن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف)) - بمعزل. لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن - مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى- يوجب المراء به كفر المماري به في قول أحد من علماء الأمة. وقد أوجب صلى الله عليه وسلم بالمراء فيه الكفر، من الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه، وتظاهرت عنه بذلك الرواية على ما قد قدمنا ذكرها في أول هذا الباب.
فإن قال لنا قائل: فهل لك من علم بالألسن السبعة التي نزل بها القرآن؟ وأي الألسن هي من ألسن العرب؟
قلنا: أما الألسن الستة التي قد نزلت القراءة بها، فلا حاجة بنا إلى معرفتها، لأنا لو عرفناها لم نقرأ اليوم بها مع الأسباب التي قدمنا ذكرها. وقد قيل إن خمسة منها لعجز هوازن، واثنين منها لقريش وخزاعة. روي جميع ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية به عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله. وذلك أن الذي روى عنه: "أن خمسة منها من لسان العجز من هوازن"، الكلبي عن أبي صالح، وأن الذي روى عنه: "أن اللسانين الآخرين لسان قريش وخزاعة"، قتادة، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه.
- حدثني بذلك بعض أصحابنا، قال: حدثنا صالح بن نصر الخزاعي، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن عباس، قال: "نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة، وذلك أن الدار واحدة".
- وحدثني بعض أصحابنا، قال: حدثنا صالح بن نصر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي الأسود الدئلي، قال:"نزل القرآن بلسان الكعبين: كعب بن عمرو وكعب بن لؤي". فقال خالد بن سلمة لسعد بن إبراهيم:" ألا تعجب من هذا الأعمى! يزعم أن القرآن نزل بلسان الكعبين؛ وإنما نزل بلسان قريش! "
قال أبو جعفر: والعجز من هوازن: سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف.
وأما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر نزول القرآن على سبعة أحرف: إن كلها شاف كاف - فإنه كما قال جل ثناؤه في وصفه القرآن: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} [يونس: 57]، جعله الله للمؤمنين شفاء، يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وخطراته، فيكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته).
القول في البيان عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة))، وذكر الأخبار المروية بذلك
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ): (اختلفت النقلة في ألفاظ
الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: - فروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: ((كان الكتاب الأول نزل من باب واحد وعلى حرف واحد، ونزل القرآن
من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال،
فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا
بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند
ربنا)). حدثني بذلك
يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني حيوة بن شريح، عن عقيل بن
خالد، عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي
صلى الله عليه وسلم. وروي عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا غير
ذلك: - حدثنا محمد
بن بشار، قال حدثنا عباد بن زكريا، عن عوف، عن أبي قلابة، قال: بلغني أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل
وقصص ومثل)). -
وروي عن أبي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ما حدثني به أبو كريب، قال:
حدثنا محمد بن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن
أبي ليلى، عن أبيه، عن جده، عن أبي بن كعب، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي. قال:
اقرأه على حرفين. فقلت: رب خفف عن أمتي. فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة
أبواب من الجنة، كلها شاف كاف)). وروي عن ابن مسعود من قيله خلاف ذلك
كله. - وهو ما
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، عن الأحوص بن حكيم، عن ضمرة بن حبيب، عن
القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن الله أنزل القرآن على خمسة
أحرف: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال. فأحل الحلال، وحرم الحرام، واعمل بالمحكم،
وآمن بالمتشابه، واعتبر بالأمثال. وكل هذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، متقاربة المعاني، لأن قول القائل: فلان مقيم على باب من أبواب
هذا الأمر، وفلان مقيم على وجه من وجوه هذا الأمر، وفلان مقيم على حرف من هذا الأمر
- سواء. ألا ترى أن الله تعالى ذكره وصف قوما عبدوه على وجه من وجوه العبادات،
فأخبر عنهم أنهم عبدوه على حرف فقال: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11]،
يعني أنهم عبدوه على وجه الشك، لا على اليقين به والتسليم
لأمره. فكذلك رواية
من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نزل القرآن من سبعة أبواب)) و((نزل
على سبعة أحرف)) سواء، معناهما مؤتلف، وتأويلهما غير مختلف في هذا
الوجه. ومعنى ذلك
كله، الخبر منه صلى الله عليه وسلم عما خصه الله به وأمته، من الفضيلة والكرامة
التي لم يؤتها أحدا في تنزيله. وذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله على نبي
من أنبياء الله صلى الله عليهم، فإنما نزل بلسان واحد، متى حول إلى غير اللسان الذي
نزل به، كان ذلك له ترجمة وتفسيرا لا تلاوة له على ما أنزله الله وأنزل كتابنا
بألسن سبعة، بأي تلك الألسن السبعة تلاه التالي، كان له تاليا على ما أنزله الله لا
مترجما ولا مفسرا، حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها، فيصير فاعل ذلك حينئذ
-إذا أصاب معناه- له مترجما. كما كان التالي بعض الكتب التي أنزلها الله بلسان واحد
-إذا تلاه بغير اللسان الذي نزل به- له مترجما، لا تاليا على ما أنزله الله
به. فذلك معنى قول
النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان الكتاب الأول، نزل على حرف واحد، ونزل القرآن على
سبعة أحرف)). وأما
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الكتاب الأول نزل من باب واحد، ونزل القرآن من
سبعة أبواب))، فإنه صلى الله عليه وسلم عنى بقوله: ((نزل الكتاب الأول من باب
واحد))، والله أعلم، ما نزل من كتب الله على من أنزله من أنبيائه، خاليا من الحدود
والأحكام والحلال والحرام، كزبور داود، الذي إنما هو تذكير ومواعظ، وإنجيل عيسى،
الذي هو تمجيد ومحامد وحض على الصفح والإعراض -دون غيرها من الأحكام والشرائع- وما
أشبه ذلك من الكتب التي نزلت ببعض المعاني السبعة التي يحوي جميعها كتابنا، الذي خص
الله به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته. فلم يكن المتعبدون بإقامته يجدون
لرضى الله تعالى ذكره مطلبا ينالون به الجنة، ويستوجبون به منه القربة، إلا من
الوجه الواحد الذي أنزل به كتابهم، وذلك هو الباب الواحد من أبواب الجنة الذي نزل
منه ذلك الكتاب. وخص الله جل وعز نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته، بأن أنزل عليهم
كتابه على أوجه سبعة من الوجوه التي ينالون بها رضوان الله، ويدركون بها الفوز
بالجنة، إذا أقاموها فكل وجه من أوجهه السبعة باب من أبواب الجنة الذي نزل منه
القرآن. لأن العامل بكل وجه من أوجهه السبعة، عامل على باب من أبواب الجنة، وطالب
من قبله الفوز بها. فالعمل بما أمر الله جل ذكره في كتابه، باب من أبواب الجنة،
وترك ما نهى الله عنه فيه؛ باب آخر ثان من أبوابها؛ وتحليل ما حلل الله فيه، باب
ثالث من أبوابها؛ وتحريم ما حرم الله فيه، باب رابع من أبوابها؛ والإيمان بمحكمه
المبين، باب خامس من أبوابها؛ والتسليم لمتشابهه الذي استأثر الله بعلمه وحجب علمه
عن خلقه والإقرار بأن كل ذلك من عند ربه، باب سادس من أبوابها؛ والاعتبار بأمثاله
والاتعاظ بعظاته، باب سابع من أبوابها. فجميع ما في القرآن -من حروفه السبعة،
وأبوابه السبعة التي نزل منها- جعله الله لعباده إلى رضوانه هاديا، ولهم إلى الجنة
قائدا. فذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((نزل القرآن من سبعة أبواب من
الجنة)). وأما قوله
صلى الله عليه وسلم في القرآن: ((إن لكل حرف منه حدا))، يعني الكل وجه من أوجهه
السبعة حداً حده الله جل ثناؤه، لا يجوز لأحد أن يتجاوزه. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإن لكل حرف
منها ظهرا وبطنا))، فظهره: الظاهر في التلاوة، وبطنه: ما بطن من
تأويله. وقوله صلى
الله عليه وسلم: ((وإن لكل حد من ذلك مطلعا))، فإنه يعني أن لكل حد من حدود الله
التي حدها فيه -من حلال وحرام، وسائر شرائعه- مقدارا من ثواب الله وعقابه، يعاينه
في الآخرة، ويطلع عليه ويلاقيه في القيامة. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع"، يعني بذلك ما
يطلع عليه ويهجم عليه من أمر الله بعد وفاته).