2 Oct 2022
بيان أسماء القرآن وسوره وآيه وأسماء سورة الفاتحة
القول في تأويل أسماء القرآن وسوره
وآيه
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310ه): (إن الله عز وجل سمى تنزيله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أسماء أربعة:
منهن: "القرآن"، فقال في تسميته إياه بذلك في تنزيله: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} [يوسف: 3]، وقال: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون} [النمل: 76].
ومنهن: "الفرقان"، قال جل ثناؤه في وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مسميه بذلك: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان:1].
ومنهن: "الكتاب": قال تبارك اسمه في تسميته إياه به: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما} [الكهف: 1، 2].
ومنهن: "الذكر"، فقال تعالى ذكره في تسميته إياه به: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9].
ولكل اسم من أسمائه الأربعة في كلام العرب، معنى ووجه غير معنى الآخر ووجهه.
فأما "القرآن"، فإن المفسرين اختلفوا في تأويله. والواجب أن يكون تأويله على قول ابن عباس: من التلاوة والقراءة، وأن يكون مصدرا من قول القائل: قرأت القرآن، كقولك: "الخسران" من "خسرت"، و "الغفران" من "غفر الله لك"، و "الكفران" من "كفرتك"، "والفرقان" من "فرق الله بين الحق والباطل".
- وذلك أن يحيى بن عثمان بن صالح السهمي حدثني، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {فإذا قرأناه} يقول: بيناه، {فاتبع قرآنه} [القيامة: 18] يقول: اعمل به.
ومعنى قول ابن عباس هذا: فإذا بيناه بالقراءة، فاعمل بما بيناه لك بالقراءة. ومما يوضح صحة ما قلنا في تأويل حديث ابن عباس هذا، ما حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 17] قال: أن نقرئك فلا تنسى {فإذا قرأناه} عليك {فاتبع قرآنه} يقول: إذا تلي عليك فاتبع ما فيه.
قال أبو جعفر: فقد صرح هذا الخبر عن ابن عباس: أن معنى "القرآن" عنده القراءة، وإنه مصدر من قول القائل: قرأت، على ما بيناه.
وأما على قول قتادة، فإن الواجب أن يكون مصدرا، من قول القائل: قرأت الشيء، إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، كقولك: "ما قرأت هذه الناقة سلى قط" تريد بذلك أنها لم تضمم رحما على ولد، كما قال عمرو بن كلثوم التغلبي:
تريك إذا دخلت على خلاء = وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعى عيطل أدماء بكر = هجان اللون لم تقرأ جنينا
يعني بقوله: "لم تقرأ جنينا"، لم تضمم رحما على ولد.
- وذلك أن بشر بن معاذ العقدي حدثنا قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه} يقول: حفظه وتأليفه، {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} يقول: اتبع حلاله، واجتنب حرامه.
- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، قال: حدثنا معمر، عن قتادة بمثله.
فرأى قتادة أن تأويل "القرآن": التأليف.
قال أبو جعفر: ولكلا القولين -أعني قول ابن عباس وقول قتادة- اللذين حكيناهما، وجه صحيح في كلام العرب. غير أن أولى قوليهما بتأويل قول الله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} قول ابن عباس.
لأن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في غير آية من تنزيله باتباع ما أوحى إليه، ولم يرخص له في ترك اتباع شيء من أمره إلى وقت تأليفه القرآن. فكذلك قوله: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} نظير سائر ما في آي القرآن التي أمره الله فيها باتباع ما أوحى إليه في تنزيله.
ولو وجب أن يكون معنى قوله: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} فإذا ألفناه فاتبع ما ألفنا لك فيه - لوجب ألا يكون كان لزمه فرض {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1] ولا فرض {يا أيها المدثر * قم فأنذر} [المدثر: 1، 2] قبل أن يؤلف إلى ذلك غيره من القرآن. وذلك، إن قاله قائل، خروج من قول أهل الملة.
وإذ صح أن حكم كل آية من آي القرآن كان لازما النبي صلى الله عليه وسلم اتباعه والعمل به، مؤلفة كانت إلى غيرها أو غير مؤلفة -صح ما قال ابن عباس في تأويل قوله: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} أنه معني به: فإذا بيناه لك بقراءتنا، فاتبع ما بيناه لك بقراءتنا- دون قول من قال: معناه، فإذا ألفناه فاتبع ما ألفناه.
وقد قيل إن قول الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به = يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
يعني به قائله: تسبيحا وقراءة.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يسمى "قرآنا" بمعنى القراءة، وإنما هو مقروء؟
قيل: كما جاز أن يسمى المكتوب "كتابا"، بمعنى: كتاب الكاتب، كما قال الشاعر في صفة طلاق كتابه كتبه لامرأته:
تؤمل رجعة منى وفيها = كتاب مثل ما لصق الغراء
يريد: طلاقا مكتوبا، فجعل "المكتوب" كتابا.
وأما تأويل اسمه الذي هو "فرقان"، فإن تفسير أهل التفسير جاء في ذلك بألفاظ مختلفة، هي في المعاني مؤتلفة.
- فقال عكرمة، فيما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن جابر، عن عكرمة: أنه كان يقول: هو النجاة.
وكذلك كان السدي يتأوله.
- حدثنا بذلك محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - وهو قول جماعة غيرهما.
وكان ابن عباس يقول: "الفرقان": المخرج.
- حدثني بذلك يحيى بن عثمان بن صالح، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
وكذلك كان مجاهد يقول في تأويله حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن جابر، عن مجاهد.
وكان مجاهد يقول في قول الله جل ثناؤه: {يوم الفرقان} [الأنفال: 41] يوم فرق الله فيه بين الحق والباطل.
- حدثني بذلك محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثني أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
وكل هذه التأويلات في معنى "الفرقان" -على اختلاف ألفاظها- متقاربات المعاني. وذلك أن من جعل له مخرج من أمر كان فيه، فقد جعل له ذلك المخرج منه نجاة. وكذلك إذا نجي منه، فقد نصر على من بغاه فيه سوءا، وفرق بينه به وبين باغيه السوء.
فجميع ما روينا -عمن روينا عنه- في معنى "الفرقان"، قول صحيح المعنى، لاتفاق معاني ألفاظهم في ذلك.
وأصل "الفرقان" عندنا: الفرق بين الشيئين والفصل بينهما. وقد يكون ذلك بقضاء، واستنقاذ، وإظهار حجة، ونصر وغير ذلك من المعاني المفرقة بين المحق والمبطل. فقد تبين بذلك أن القرآن سمي "فرقانا"، لفصله -بحججه وأدلته وحدود فرائضه وسائر معاني حكمه- بين المحق والمبطل. وفرقانه بينهما: بنصره المحق، وتخذيله المبطل، حكما وقضاء.
وأما تأويل اسمه الذي هو "كتاب": فهو مصدر من قولك: "كتبت كتابا" كما تقول: قمت قياما، وحسبت الشيء حسابا. والكتاب: هو خط الكاتب حروف الكتاب المعجم مجموعة ومفترقة. وسمي "كتابا"، وإنما هو مكتوب، كما قال الشاعر في البيت الذي استشهدنا به:
.............................. = وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء
يعني به مكتوبا.
وأما تأويل اسمه الذي هو "ذكر"، فإنه محتمل معنيين: أحدهما: أنه ذكر من الله جل ذكره، ذكر به عباده، فعرفهم فيه حدوده وفرائضه، وسائر ما أودعه من حكمه. والآخر: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وصدق بما فيه، كما قال جل ثناؤه: {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44]، يعني به أنه شرف له ولقومه.
ثم لسور القرآن أسماء سماهن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا أبو العوام -وحدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا رواد بن الجراح، قال: حدثنا سعيد بن بشير، جميعا- عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل)).
- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت السبع الطول مكان التوراة، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وفضلت بالمفصل)). قال خالد: كانوا يسمون المفصل: العربي. قال خالد: قال بعضهم: ليس في العربي سجدة.
- حدثنا محمد بن حميد، قال حدثنا حكام بن سلم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن المسيب، عن ابن مسعود قال: الطول كالتوراة، والمئون كالإنجيل، والمثاني كالزبور، وسائر القرآن بعد فضل على الكتب.
- حدثنا أبو عبيد الوصابي محمد بن حفص، قال: أنبأنا ابن حميد، حدثنا الفزاري، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي بردة، عن أبي المليح، عن واثلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطول، ومكان الإنجيل المثاني، ومكان الزبور المئين، وفضلني بالمفصل)).
قال أبو جعفر: والسبع الطول: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، في قول سعيد بن جبير.
- حدثني بذلك يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير.
وقد روي عن ابن عباس قول يدل على موافقته قول سعيد هذا.
- وذلك ما حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، ويحيى بن سعيد، ومحمد بن جعفر، وسهل بن يوسف، قالوا: حدثنا عوف، قال: حدثني يزيد الفارسي، قال: حدثني ابن عباس: قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطرا: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتموها في السبع الطول؟ ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا ببعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتها في السبع الطول".
فهذا الخبر ينبئ عن عثمان بن عفان رحمة الله عليه، أنه لم يكن تبين له أن الأنفال وبراءة من السبع الطول، ويصرح عن ابن عباس أنه لم يكن يرى ذلك منها.
وإنما سميت هذه السور السبع الطول، لطولها على سائر سور القرآن.
وأما "المئون: فهي ما كان من سور القرآن عدد آيه مائة آية، أو تزيد عليها شيئا أو تنقص منها شيئا يسيرا.
وأما "المثاني: فإنها ما ثنى المئين فتلاها، وكان المئون لها أوائل، وكان المثاني لها ثواني. وقد قيل: إن المثاني سميت مثاني، لتثنية الله جل ذكره فيها الأمثال والخبر والعبر، وهو قول ابن عباس.
- حدثنا بذلك أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وروي عن سعيد بن جبير، أنه كان يقول: إنما سميت مثاني لأنها ثنيت فيها الفرائض والحدود.
- حدثنا بذلك محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير.
وقد قال جماعة يكثر تعدادهم: القرآن كله مثان.
وقال جماعة أخر: بل المثاني فاتحة الكتاب، لأنها تثنى قراءتها في كل صلاة.
وسنذكر أسماء قائلي ذلك وعللهم، والصواب من القول فيما اختلفوا فيه من ذلك، إذا انتهينا إلى تأويل قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} [الحجر: 87] إن الله شاء ذلك.
وبمثل ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء سور القرآن التي ذكرت، جاء شعر الشعراء. فقال بعضهم:
حلفت بالسبع اللواتي طولت
وبمئين بعدها قد أمئيت
وبمثان ثنيت فكررت
وبالطواسين التي قد ثلثت
وبالحواميم اللواتي سبعت
وبالمفصل اللواتي فصلت
قال أبو جعفر: وهذه الأبيات تدل على صحة التأويل الذي تأولناه في هذه الأسماء.
وأما "المفصل": فإنما سميت مفصلا لكثرة الفصول التي بين سورها بـ "بسم الله الرحمن الرحيم".
ثم تسمى كل سورة من سور القرآن سورة، وتجمع سورا، على تقدير "خطبة وخطب"، "وغرفة وغرف".
والسورة، بغير همز: المنزلة من منازل الارتفاع. ومن ذلك سور المدينة، سمي بذلك الحائط الذي يحويها، لارتفاعه على ما يحويه. غير أن السورة من سور المدينة لم يسمع في جمعها "سور"، كما سمع في جمع سورة من القرآن "سور". قال العجاج في جمع السورة من البناء:
فرب ذي سرادق محجور
سرت إليه في أعالي السور
فخرج تقدير جمعها على تقدير جمع برة وبسرة، لأن ذلك يجمع برا وبسرا. وكذلك لم يسمع في جمع سورة من القرآن سور، ولو جمعت كذلك لم يكن خطأ في القياس، إذا أريد به جميع القرآن. وإنما تركوا -فيما يرى- جمعه كذلك، لأن كل جمع كان بلفظ الواحد المذكر مثل: بر وشعير وقصب وما أشبه ذلك، فإن جماعه مجرى الواحد من الأشياء غيره. لأن حكم الواحد منه منفردا قلما يصاب، فجرى جماعه مجرى الواحد من الأشياء غيره ثم جعلت الواحدة منه كالقطعة من جميعه، فقيل: برة وشعيرة وقصبة، يراد به قطعة منه. ولم تكن سور القرآن موجودة مجتمعة اجتماع البر والشعير وسور المدينة، بل كل سورة منها موجودة منفردة بنفسها، انفراد كل غرفة من الغرف وخطبة من الخطب، فجعل جمعها جمع الغرف والخطب، المبني جمعها من واحدها.
ومن الدلالة على أن معنى السورة: المنزلة من الارتفاع، قول نابغة بني ذبيان:
ألم تر أن الله أعطاك سورة = ترى كل ملك دونها يتذبذب
يعني بذلك: أن الله أعطاه منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها منازل الملوك.
وقد همز بعضهم السورة من القرآن. وتأويلها، في لغة من همزها، القطعة التي قد أفضلت من القرآن عما سواها وأبقيت. وذلك أن سؤر كل شيء: البقية منه تبقى بعد الذي يؤخذ منه، ولذلك سميت الفضلة من شراب الرجل -يشربه ثم يفضلها فيبقيها في الإناء- سؤرا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة، يصف امرأة فارقته فأبقت في قلبه من وجدها بقية:
فبانت وقد أسأرت في الفؤاد = صدعا على نأيها مستطيرا
وقال الأعشى في مثل ذلك:
بانت وقد أسأرت في النفس حاجتها = بعد ائتلاف وخير الود ما نفعا
وأما الآية من آي القرآن، فإنها تحتمل وجهين في كلام العرب:
أحدهما: أن تكون سميت آية، لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها، كالآية التي تكون دلالة على الشيء يستدل بها عليه، كقول الشاعر:
ألكنى إليها عمرك الله يا فتى = بآية ما جاءت إلينا تهاديا
يعني: بعلامة ذلك. ومنه قوله جل ثناؤه: {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك} [المائدة: 114] يعني بذلك علامة منك لإجابتك دعاءنا وإعطائك إيانا سؤلنا.
والآخر منهما: القصة، كما قال كعب بن زهير بن أبي سلمى:
ألا أبلغا هذا المعرض آية = أيقظان قال القول إذ قال أم حلم
يعني بقوله "آية": رسالة مني وخبرا عني.
فيكون معنى الآيات: القصص، قصة تتلو قصة، بفصول ووصول).
القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310ه): (صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني)).
فهذه أسماء فاتحة
الكتاب. وسميت "فاتحة الكتاب"، لأنها
يفتتح بكتابتها المصاحف، وبقراءتها في الصلوات، فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن
في الكتاب والقراءة. وسميت "أم القرآن"
لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، وتأخر ما سواها خلفها في القراءة والكتابة.
وذلك من معناها شبيه بمعنى فاتحة الكتاب. وإنما قيل لها -لكونها كذلك- أم القرآن،
لتسمية العرب كل جامع أمرا -أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه، هو لها إمام
جامع- "أما". فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ: "أم الرأس". وتسمى لواء الجيش ورايتهم
التي يجتمعون تحتها للجيش - "أما". ومن ذلك قول ذي الرمة، يصف راية معقودة على قناة
يجتمع تحتها هو وصحبه:
وأسمر قوام إذا نام صحبتي = خفيف الثياب لا تواري له أزرا
على رأسه أم لنا نقتدي بها = جماع أمور لا
نعاصي لها أمرا إذا
نزلت قيل انزلوا وإذا غدت = غدت ذات برزيق تخال بها
فخرا
يعني
بقوله: "على رأسه أم لنا"، أي على رأس الرمح راية يجتمعون لها في النزول والرحيل
وعند لقاء العدو. وقد قيل إن مكة سميت "أم القرى"، لتقدمها أمام جميعها، وجمعها ما
سواها. وقيل: إنما سميت بذلك، لأن الأرض دحيت منها فصارت لجميعها أما. ومن ذلك قول
حميد بن ثور الهلالي:
إذا كانت الخمسون أمك لم يكن = لدائك إلا أن تموت طبيب
لأن الخمسين جامعة ما دونها من العدد، فسماها أما للذي قد بلغها.
وأما تأويل اسمها أنها "السبع"، فإنها سبع آيات، لا خلاف
بين الجميع من القراء والعلماء في ذلك. وإنما اختلفوا في الآي التي صارت بها سبع آيات. فقال عظم
أهل الكوفة: صارت سبع آيات بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} وروي ذلك عن جماعة من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين. وقال آخرون: هي سبع آيات، وليس منهن {بسم
الله الرحمن الرحيم} ولكن السابعة "أنعمت عليهم". وذلك قول عظم قرأة أهل المدينة
ومتفقهيهم. قال أبو جعفر: وقد بينا
الصواب من القول عندنا في ذلك في كتابنا: (اللطيف في أحكام شرائع الإسلام) بوجيز من
القول، وسنستقصي بيان ذلك بحكاية أقوال المختلفين فيه من الصحابة والتابعين
والمتقدمين والمتأخرين في كتابنا: (الأكبر في أحكام شرائع الإسلام) إن الله شاء
ذلك. وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم
آياتها السبع بأنهن مثان، فلأنها تثنى قراءتها في كل صلاة تطوع ومكتوبة. وكذلك كان
الحسن البصري يتأول ذلك. - حدثني يعقوب
بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال سألت الحسن عن قوله: {ولقد
آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] قال: هي فاتحة الكتاب. ثم سئل
عنها وأنا أسمع فقرأها: {الحمد لله رب العالمين} حتى أتى على آخرها، فقال: تثنى في
كل قراءة - أو قال - في كل صلاة. الشك من أبي جعفر. والمعنى الذي قلنا في ذلك قصد أبو النجم العجلي
بقوله:
الحمد لله الذي عافاني
وكل خير
بعده أعطاني من
القرآن ومن المثاني
وكذلك قول الراجز الآخر الذي
يقول:
نشدتكم بمنزل الفرقان
أم الكتاب
السبع من مثاني ثنين من آي من القرآن والسبع سبع الطول
الدواني
وليس في وجوب اسم "السبع المثاني" لفاتحة الكتاب، ما يدفع صحة وجوب اسم "المثاني" للقرآن كله، ولما ثنى المئين من السور. لأن لكل ذلك وجها ومعنى مفهوما، لا يفسد - بتسمية بعض ذلك بالمثاني - تسمية غيره بها.
فأما وجه تسمية ما ثنى المئين من سور
القرآن بالمثاني، فقد بينا صحته، وسندل على صحة وجه تسمية جميع القرآن به عند
انتهائنا إليه في سورة الزمر، إن شاء الله).