18 Nov 2018
تفسير قوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا (115)}
تفسير
قوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا (114)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ):
(وقوله: (لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح
بين النّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه فسوف نؤتيه أجرا عظيما
(114)
النجوي في الكلام ما تنفرد به الجماعة أو الاثنان سرا كان أو ظاهرا.
ومعنى نجوت الشيء في اللغة خلّصته وألقيته، يقال نجوت الجلد إذا ألقيته عن البعير وغيره.
قال الشاعر:
فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه... سيرضيكما منها سنام وغاربه
وقد نجوت فلانا إذا استنكهته.
قال الشاعر:
نجوت مجالدا فوجدت منه... كريح الكلب مات حديث عهد
ونجوت الوبر واستنجيته إذا خلصته.
قال الشاعر:
فتبازت فتبازخت لها... جلسة الأعسر يستنجي الوتر
وأصله كله من النجوة، وهو ما ارتفع من الأرض
قال الشاعر:
فمن بنجوته كمن بعقوته... والمستكنّ كمن يمشي بقرواح
ويقال: ما أنجى فلان شيئا وما نجا شيئا منذ أيام، أي لم يدخل الغائط.
والمعنى واللّه أعلم: لا خير في كثير من نجواهم، أي مما يدبرونه بينهم من الكلام.
(إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين النّاس).
فيجوز أن يكون موضع " من "
خفضا، المعنى إلا في نجوى من صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ويجوز
أن يكون - واللّه أعلم - استثناء ليس من الأول ويكون موضعها نصبا، ويكون
على معنى لكن من أمر بصدقة أو معروف ففي نجواه خير. وأعلم الله عزّ وجلّ
أن ذلك إنما ينفع من ابتغى به ما عند اللّه فقال:
(ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه فسوف نؤتيه أجرا عظيما).
ومعنى (ابتغاء مرضات اللّه) طلب مرضاة اللّه.
ونصب (ابتغاء مرضات اللّه) لأنه مفعول له.
المعنى ومن يفعل ذلك لابتغاء مرضاة اللّه، وهو راجع إلى تأويل المصدر، كأنه قال: ومن يبتغ ابتغاء مرضاة اللّه). [معاني القرآن: 2/104-106]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: لا خير في كثيرٍ من نجواهم إلاّ من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه فسوف نؤتيه أجراً عظيماً (114) ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً (115) إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك باللّه فقد ضلّ ضلالاً بعيداً (116)
الضمير في نجواهم عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه الآيات عامة التناول، وفي عمومها يندرج أصحاب النازلة، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة، والنجوى:
المسارّة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل ورضا، وتحتمل اللفظة في هذه الآية أن تكون الجماعة وأن تكون المصدر نفسه، فإن قدرناها الجماعة فالاستثناء متصل، كأنه قال: لا خير في كثير من جماعاتهم المنفردة المتسارة إلا من، وإن قدرنا اللفظة المصدر نفسه، كأنه قال: لا خير في كثير من تناجيهم، فالاستثناء منقطع بحكم اللفظ، ويقدر اتصاله على حذف مضاف، كأنه قال: إلا نجوى من، قال بعض المفسرين: النجوى كلام الجماعة المنفردة كان ذلك سرا أو جهرا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: انفراد الجماعة من الاستسرار، والغرض المقصود أن النجوى ليست بمقصورة على الهمس في الأذن ونحوه، و «المعروف»: لفظ يعم الصدقة والإصلاح، ولكن خصّا بالذكر اهتماما بهما، إذ هما عظيما الغناء في مصالح العباد، ثم وعد تعالى «بالأجر العظيم» على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا الله تعالى. وابتغاء نصب على المصدر، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم والكسائي فسوف نؤتيه بالنون وقرأ أبو عمرو وحمزة «يؤتيه» بالياء والقراءتان حسنتان). [المحرر الوجيز: 3/22-23]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لا خير في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا (114) ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا (115)}قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: ومن يشاقق الرّسول الآية، لفظ عام نزل بسبب طعمة بن أبيرق، لأنه
ارتد وسار إلى مكة، فاندرج الإنحاء عليه في طي هذا العموم المتناول لمن
اتصف بهذه الصفات إلى يوم القيامة، وقوله ما تولّى وعيد بأن يترك مع فاسد
اختياره في تولي الطاغوت، وقرأ ابن أبي عبلة «يوله» و «يصله» بالياء
فيهما). [المحرر الوجيز: 3/23]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى} أي: ومن سلك غير طريق
الشّريعة الّتي جاء بها الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم، فصار في شقٍّ
والشّرع في شقٍّ، وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحقّ وتبيّن له واتّضح له.
وقوله: {ويتّبع غير سبيل المؤمنين} هذا ملازمٌ للصّفة الأولى، ولكن قد
تكون المخالفة لنصّ الشّارع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمّة المحمّديّة،
فيما علم اتّفاقهم عليه تحقيقًا، فإنّه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من
الخطأ، تشريفًا لهم وتعظيما لنبيهم [صلّى اللّه عليه وسلّم]. وقد وردت في
ذلك أحاديث صحيحةٌ كثيرةٌ، قد ذكرنا منها طرفًا صالحًا في كتاب "أحاديث
الأصول"، ومن العلماء من ادّعى تواتر معناها، والّذي عوّل عليه الشّافعيّ،
رحمه اللّه، في الاحتجاج على كون الإجماع حجّةً تحرم مخالفته هذه الآية
الكريمة، بعد التّروّي والفكر الطّويل. وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها،
وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك واستبعد الدّلالة منها على ذلك.
ولهذا توعّد تعالى على ذلك بقوله:
{نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا} أي: إذا سلك هذه الطّريق
جازيناه على ذلك، بأن نحسّنها في صدره ونزيّنها له -استدراجًا له -كما قال
تعالى: {فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [القلم:
44]. وقال تعالى: {فلمّا زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم} [الصّفّ:5]. وقوله
{ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 110].
وجعل النّار مصيره في الآخرة، لأنّ من
خرج عن الهدى لم يكن له طريقٌ إلّا إلى النّار يوم القيامة، كما قال تعالى:
{احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم [وما كانوا يعبدون. من دون الله فاهدوهم
إلى صراط الجحيم]} [الصّافّات: 22، 23]. وقال: {ورأى المجرمون النّار
فظنّوا أنّهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفًا} [الكهف:53] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/412-413]
* للاستزادة ينظر: هنا