25 Oct 2008
الخبر المتواتر
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (فالأَوَّلُ:
المُتَوَاتِرُ: المُفِيدُ لِلْعِلْمِ اليَقِينِيِّ بِشُرُوطِهِ).
نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): ( (1) (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلِيمًا قَدِيرًا) حَيًّا،
قَيُّومًا، سَميعَاً، بَصِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ
وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأُكَبِّرُهُ تَكْبِيرًا. (2) (أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ التّصَانِيفَ فِي اصْطِلاَحِ أَهْلِ الحَدِيثِ قَدْ كَثُرَتْ وَبُسِطَتْ وَاخْتُصِرَتْ) لِلأَئِمَّةِ فِي القَدِيمِ وَالحَدِيثِ. فَمِن أولِ مَنْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ:القَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ الرّامَهُرْمُزِيُّ، فِي كِتَابِهِ (المُحَدِّثُ الفَاصِل) ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَوعِبْ. - وَالحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ النَّيْسَابُورِيُّ؛ لَكِنَّه لَمْ يُهَذِّبْ، وَلَمْ يُرَتِّبْ. - وَتَلاَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ؛ فَعَمِلَ عَلَى كِتَابِهِ مُسْتَخْرَجًا، وَأَبْقَى أَشْيَاءَ لِلمُتَعقِّبِ. - ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ الخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ البَغْدَادِيُّ؛ فَصَنَّفَ فِي قَوَانِينِ الرِّوَايةِ كِتَابًا سَمَّاهُ (الكِفَايةَ)، وَفِي آدَابِهَا، كِتَابًا سَمَّاهُ (الجَامِعَ لآدَابِ الشَّيْخِ وَالسَّامِع) ،
وَقَلَّ فَنٌّ مِن فُنُونِ الحَديثِِ إلاَّ وَقَد صَنَّفَ فيه كِتَابًا
مُفْرَدًا، فَكَانَ كَمَا قَالَ الحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ نُقْطَةَ: (كُلُّ مَن أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ المُحَدِّثِينَ بَعْدَ الخَطِيبِ عِيَالٌ عَلَى كُتُبِهِ). ثُمَّ
جَاءَ بَعْدَهُمْ بَعْضُ مَن تَأَخَّرَ عَن الخَطِيبِ؛ فَأَخَذَ مِن هَذَا
العِلْمِ بِنَصِيبٍ؛ فَجَمَعَ القَاضِي عِيَاضٌ كِتَابًا لَطِيفًا
سَمَّاهُ (الإِلْمَاعَ) ، وَأَبُو حَفْصٍ المَيَّانَجِيُّ؛ جُزْءاً سَمَّاهُ (مَا لاَ يَسَعُ المُحَدِّثَ جَهْلُهُ). (3) وَأَمِثَالُ ذَلِكَ مِن (التَّصَانِيفِ) التي اشْتَهَرَتْ (وَبُسِطَتْ) لِيَتَوفَّرَ عِلْمُهَا، (وَاخْتُصِرَتْ) ؛
لِيَتَيَسَّرَ فَهْمُهَا، إِلَى أَنْ جَاءَ الحَافِظُ الفَقِيهُ تَقِيُّ
الدِّينِ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ الصَّلاَحِ عَبْدُ الرّحْمَنِ
الشَّهْرُزُورِيُّ، نَزِيلُ دِمَشْقَ، فَجَمَعَ لَمَّا وَلِيَ تَدْرِيسَ
الحَدِيثِ بِالْمَدْرَسَةِ الأَشْرَفِيَّةِ كِتَابَهُ المَشْهُورَ،
فَهَذَّبَ فُنَونَهُ، وَأَمْلاَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ؛ فَلِهَذَا لَمْ
يَحْصُلْ تَرْتِيبُهُ عَلَى الوَضْعِ المُتَنَاسِبِ، وَاعْتَنَى
بِتصَانِيفِ الخَطِيبِ المُتَفَرِّقَةِ؛ فَجَمَعَ شَتَاتَ مَقَاصِدِهَا،
وَضَمَّ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا نُخَبَ فَوَائِدِهَا. فَاجْتمَعَ
فِي كِتَابِهِ مَا تَفَرَّقَ فِي غَيْرِهِ، فَلِهَذَا عَكَفَ النَّاسُ
عَلَيْهِ وَسَارُوا بِسَيْرِهِ؛ فَلاَ يُحْصَى كَمْ نَاظِمٍ لَهُ
وَمُخْتَصِرٍ، وَمُسْتَدْرِكٍ عَلَيْهِ، وَمُقْتَصِرٍ، وَمُعَارِضٍ لَهُ،
وَمُنْتَصِرٍ. (4) (فَسَأَلَنِي بَعْضُ الإِخْوَانِ أَنْ أُلَخِّصَ لَهُ المُهِمَّ مِنْ ذَلِكَ) فَلَخَّصْتُهُ فِي أورَاقٍ لَطِيفَةٍ سَمَّيْتُهَا (نُخْبَةَ الفِكَرِ في مُصْطَلَحِ أَهْلِ الأَثَرِ) ،
عَلَى تَرْتِيبٍ ابْتَكَرْتُهُ وَسَبْيلٍ انْتَهَجْتُهُ، مَعَ مَا
ضَمَمْتُهُ إِلَيْهِ مِنْ شَوَارِدِ الفَرَائِدِ، وَزَوَائِدِ الفَوَائِدِ. (5) (فَأَجَبْتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ رَجَاءَ الانْدِرَاجِ فِي تِلْكَ المَسَالِكِ) فَرَغِبَ إِلَيَّ جَمَاعَةٌ ثَانِيًا أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا شَرْحًا يَحُلُّ رُمُوزَهَا، وَيَفْتَحُ كُنُوزَهَا، وَيُوَضِّحُ مَا خَفِيَ عَلَى المُبْتَدِئِ مِن ذَلِكَ (فَأَجَبْتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ رَجَاءَ الانْدِرَاجِ في تِلْكَ المَسَالِكِ) فَبَالَغْتُ
فِي شَرْحِهَا فِي الإيضَاحِ وَالتَّوْجِيهِ، وَنَبَّهْتُ عَلَى خَبَايا
زَوَاياهَا؛ لأنَّ صَاحِبَ البَيْتِ أَدْرَى بِمَا فيه، وَظَهَرَ لِي أَنَّ
إيرَادَهُ عَلَى صُورَةِ البَسْطِ أَلْيَقُ، ودَمْجَهَا ضِمْنَ
تَوْضِيحِهَا أوفَقُ، فَسَلَكْتُ هَذِهِ الطَّرِيقَ القَلِيلَةَ
الَمَسَالِكِ. (6) (فَأَقُولُ) طَالِبًا مِن اللهِ التّوفِيقَ فِيمَا هُنَالِكَ. (الخَبَرُ)عِنْدَ عُلَمَاءِ هَذَا الفَنِّ: - مُرَادِفٌ لِلْحَدِيثِ. - وَقِيلَ:الحَّدِيثُ: مَا جَاءَ عَن النّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. وَالخَبَرُ:مَا جَاءَ عَن غَيْرِهِ. وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لِمَنْ يَشْتَغِلُ بِالتَّوَارِيخِ وَمَا شَاكَلَهَا: الأَخْبَارِيُّ، وَلِمَن يَشْتَغِلُ بِالسُّنَّةِ النّبَوِيَّةِ: المُحَدِّثُ. - وَقِيلَ:بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ؛ فَكُلُّ حَدِيثٍ خَبَرٌ مِن غَيْرِ عَكْسٍ. وَعَبَّرْتُ هُنَا بِالخَبَرِ لِيَكُونَ أَشْمَلَ، فَهُوَ بِاعْتِبَارِ وُصُولِهِ إِلَيْنَا. (7) (إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ) أي:
أَسَانِيدُ كَثِيرَةٌ؛ لأنَّ طُرُقًا جَمْعُ طَرِيقٍ، وَفَعِيلٌ فِي
الكَثْرَةِ يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ بِضَمَّتَينِ، وَفِي القِلَّةِ عَلَى
أَفْعِلَةٍ. وَالمُرَادُ
بِالطُّرُقِ الأَسَانِيدُ، وَالإِسْنَادُ حِكَايةُ طَرِيقِ المَتْنِ،
وَتِلْكَ الكَثْرَةُ أَحَدُ شُرُوطِ التَّوَاتُرِ إِذَا وَرَدَتْ (بِلاَ) حَصْرِ(عَدَدٍ مُعَيَّنٍ) بَلْ
تَكُونُ العَادَةُ قَدْ أَحَالَتْ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الكَذِبِ، وَكَذَا
وُقُوعُهُ منهم اتِّفاقًا مِن غَيْرِ قَصْدٍ؛ فَلاَ مَعْنَى لِتَعْيِينِ
العَدَدِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمنهمْ:مَن عَيَّنَهُ فِي الأَرْبَعَةِ. وَقِيلَ: فِي الخَمْسَةِ. وَقِيلَ: فِي السَّبْعَةِ. وَقِيلَ: فِي العَشَرَةِ. وَقِيلَ: فِي الاثْنَيْ عَشَرَ. وَقِيلَ: فِي الأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ:فِي السّبْعِينَ. وَقِيلَ:غَيْرُ ذَلِكَ. وتمسَّكَ
كُلُّّ قائلٍ بدليلٍ جاءَ فيه ذِكْرُ ذَلكَ العَدَدِ فأفادَ العِلْمَ،
وليس بلازمٍ أن يَطَّرِدَ في غَيرهِ لاحْتمَالِ الاخْتصَاصِ، فإذا وردَ
الخَبرُ كَذلكَ وانضَافَ إليهِ: - أنْ يستويَ الأمرُ فيه في الكَثْرةِ المَذْكُورَةِ مِن ابتدائِهِ إِلى انتهائِهِ. والمرادُ
بالاسْتِواءِ: أن لا تَنْقُصَ الكَثْرةُ المَذْكُورةُ فِي بَعضِ المَواضعِ
لا أنْ لا تَزيدَ؛ إذ الزّيَادَةُ هُنا مَطْلُوبةٌ مِن بَابِ أولى. - وأنْ يكونَ مُسْتَنَدُ انْتِهَائِهِ الأَمْرَ المُشَاهَدَ أو المَسْمُوعَ، لاَ مَا ثَبَتَ بِقَضِيَّةِ العَقْلِ الصِّرْفِ. فَإِذَا جَمَعَ هَذِهِ الشّروطَ الأَرْبَعةَ -وَهِي: أ-عَدَدٌ كَثيرٌ أَحَالَت العادةُ تَوَاطُؤَهُمْ وتَوَافُقَهُم عَلَى الكَذبِ. ب-رَوَوْا ذَلِكَ عَن مِثْلِهِمْ مِن الابْتِداءِ إِلى الانْتِهاءِ. ت-وَكانَ مُسْتندُ انْتِهائِهمْ الحِسَّ. ث-وَانْضَافَ إلَى ذَلِك أَنْ يَصْحَبَ خَبَرَهُم إِفَادَةُ العِلْمِ لسامِعِهِ. فَهَذَا هُو المُتواتِرُ، ومَا تَخلَّفتْ إِفَادةُ العِلْمِ عَنْهُ كَانَ مشهورًا فَقَطْ. فَكُلُّّ مُتَواترٍ، مَشْهورٌ مِن غَيْرِ عَكْسٍ. وَقَد يُقَالُ: إِنَّ الشّروطَ الأَرْبَعَةَ إِذَا حَصَلَت اسْتَلْزَمَتْ حُصُولَ العِلْمِ، وَهوكَذلكَ في الغَالبِ، لكِنْ قَد تَتَخَلَّفُ عَن البَعْضِ لمَانعٍ. وَقَدْ وَضَحَ بِهَذَا تَعريِفُ المُتَواتِرِ، وَخِلاَفُهُ قَد يَرِدُ بِلاَ حَصْرٍ أيضًا، لَكِنْ مَعَ فقْدِ بَعْضِ الشُّروطِ. (8) (أو مَعَ حَصْرٍ بِمَا فَوْقَ الاثْنَيْنِ) أي: بِثَلاَثةٍ فَصَاعدًا مَا لمْ يَجْمَعْ شُرُوطَ المُتواتِرِ (9) (أو بِهِمَا) أي: بِاثْنَينِ فَقَطْ، (أو بِوَاحِدٍ) فَقَطْ. وَالمُرَادُ بِقَولِنَا: (أَنْ يَرِدَ بِاثْنينِ) أَنْ
لاَ يَرِدَ بِأَقَلَّ منهمَا؛ فَإِنْ وَرَدَ بِأكثرَ فِي بَعْضِ
المَواضِعِ مِن السَّنَدِ الوَاحِدِ لاَ يَضُرُّ؛ إِذْ الأَقلُّ فِي هَذَا
العِلْمِ يَقضِي عَلَى الأَكثرِ. (.1) (فَالأولُ: المُتَوَاتِرُ) وَهُو: (المُفِيدُ لِلْعِلْمِ اليَقِينِيِّ) فأَخْرَجَ النَّظَرِيَّ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ (بِشُرُوطِهِ) التي تَقَدَّمَتْ. وَاليقينُ: هُوَ الاعتِقَادُ الجَازمُ المُطَابِقُ. وَهَذَا هُوَ المُعْتَمَدُ: أَنَّ
الخَبَرَ المُتَواتِرَ يُفيدُ العِلْمَ الضَّرُورِيِّ، وَهُو الذي
يُضْطَرُّ الإِنْسَانُ إِلَيهِ بَحَيْثُ لاَ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ. وَقِيلَ:لاَ يُفيدُ العِلْمَ إلاَّ نَظَرِيًّا، وَلَيسَ
بِشَيءٍ؛ لأنَّ العِلْمَ بِالتَّواتُرِ حَاصِلٌ لِمَن لَيسَ لهُ
أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ كَالعَامِّيِّ؛ إذ النَّظَرِ: تَرْتيبُ أُمُورٍ
مَعْلُومَةٍ أو مَظْنُونَةٍ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلى عُلومٍ أو ظُنُونٍ،
وَلَيسَ فِي العَامِّيِّ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ، فَلْو كَان نَظَرِيَّاً
لَمَّا حَصَلَ لَهُم.وَلاَحَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ الفَرْقُ بَيْنَ العِلمِ
الضَّرُورِيِّ، وَالعِلْمِ النَّظَرِيِّ: - إذ الضَّرُورِيُّ يُفِيدُ العِلْمَ بِلا استدِلالٍ. - وَالنَّظَرِيُّ يُفِيدُهُ لَكِنْ مَع الاسْتِدْلالِ عَلَى الإِفَادةِ. - وَأَنَّ الضَّرُورِيَّ يَحْصُلُ لِكُلِّ سَامِعٍ. - وَالنَّظَرِيَّ لا يَحْصُلُ إلاَّ لِمَن فيه أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ. وَإِنَّمَا
أَبْهَمْتُ شُرُوطَ المُتَواتِرِ فِي الأَصْلِ؛ لأنَّه عَلَى هَذِهِ
الكَيْفِيَّةِ لَيسَ مِن مَبَاحِثِ عِلْمِ الإِسْنادِ؛ إذْ عِلْمُ
الإِسْنَادِ: يُبْحَثُ فيه عَن صِحَّةِ الحَدِيثِ أو ضَعْفِهِ؛ لِيُعْمَلَ
بهِ أو يُتْرَكَ، من حَيْثُ صِفَاتُ الرِّجَالِ، وَصِيَغُ الأَدَاءِ. وَالمُتَواتِرُ لا يُبْحَثُ عَن رِجَالِهِ، بَل يَجِبُ العَمَلُ بِهِ مِن غَيْرِ بَحْثٍ. فَائِدَةٌ: ذَكَرَ ابْنُ
الصَّلاحِ أنَّ مِثَالَ المُتَواتِرِ عَلَى التَّفْسِيرِ المُتَقَدِّمِ
يَعِزُّ وُجُودُهُ؛ إلاَّ أَنْ يُدَّعَى ذَلِكَ في حَديثِ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) ،
وَمَا ادَّعَاهُ مِن العِزَّةِ مَمْنُوعٌ، وكَذا مَا ادَّعَاهُ غَيْرُهُ
مِن العَدَمِ؛ لأنَّ ذَلِكَ نَشَأَ عَن قِلَّةِ الاطِّلاعِ عَلَى كَثْرَةِ
الطُّرُقِ وَأَحْوالِ الرّجَالِ، وَصِفَاتِهِم المُقْتَضِيَةِ لإِبْعادِ
العَادَةِ أنْ يَتَوَاطَئُوا عَلَى كَذِبٍ، أو يَحْصُلَ منهم اتِّفَاقًا. وَمِن
أَحْسَنِ مَا يُقَرَّرُ بِهِ كَونُ المُتواتِرِ موجودًا، وُجودَ كَثْرَةٍ
فِي الأَحَادِيثِ أَنَّ الكُتُبَ المَشْهورَةَ المُتدَاوَلَةَ بَأيدي أَهلِ
العِلْمِ شَرْقًا، وَغَربًا، المَقْطُوعَ عِنْدَهُم بِصِحَّةِ نِسْبتِهَا
إِلى مُصَنِّفيها، إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى إِخْراجِ حَديثٍ وَتَعَدَّدتْ
طُرُقُهُ تَعَدُّدًا تُحِيلُ العَادَةُ تَوَاطُأَهُمْ عَلَى الكَذِبِ، إِلى
آخِرِ الشّرُوطِ أَفَادَ العِلمَ اليَقِينِيَّ بِصِحَّتِه إِلَى قَائِلِه،
وَمِثلَ ذَلِكَ فِي الكُتِبِ المَشْهورَةِ كثيرٌ).
نظم الدرر لفضيلة الشيخ: إبراهيم اللاحم قال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: (كُلُّ مَا سَبَقَ كانَ عِبَارَةً عن مُقَدِّمَةٍ قصيرةٍ، وسَيَدْخُلُ ابنُ حَجَرٍ الآنَ في موضوعِ الكتابِ. أَقْسَامُ الْخَبَرِ بِاعْتِبَارِ وُصُولِهِ إِلَيْنَا: (1) الأولُ: الْمُتَوَاتِرُ بدأ
الحافظُ رَحِمَهُ اللَّهُ كلامَهُ بأقسامِ الخبرِ باعتبارِ وصولِهِ
إِلَيْنَا، وهذا الابتداءُ مما خالفَ فيه ابنَ الصلاحِ؛ لأنَّ الموضوعَ
الذي بدأَ بهِ ابنُ حَجَرٍ وضعَهُ ابنُ الصلاحِ في ثنايا كتابِهِ. بدأَ
الحافظُ ابنُ حَجَرٍبالحديثِ عن المصطلحاتِ التي أَطْلَقَهَا علماءُ
الحديثِ على الأحاديثِ بالنظرِ إلى عددِ الطُّرُقِ، فَطُرُقُ الأحاديثِ: - إمَّاأنْ تكونَ محصورةً. - أوغيرَ محصورةٍ. فإنْ كانتْ غيرَ محصورةٍ فهي الْمُتَوَاتِرُ، وإنْ كانتْ محصورةً فهي خبرُ الآحادِ. وخبرُ
الآحادِ تحتَهُ تسمياتٌ بِعَدَدِ الطُّرُقِ التي وَرَدَ مِنْهَا، وهذا
الموضوعُ بتفاصيلِهِ مِن أَدَقِّ المباحثِ التي تُذْكَرُ في كُتُبِ علومِ
الحديثِ، ولكنْ معَ الأسفِ، فإنَّ الثمرةَ في كثيرٍ منها ليست ظاهرةً، ولا
سِيَّمَا في بحثِ المتواترِ، فَبَحْثُ المتواترِ مِن أَعْقَدِ مباحثِ علومِ
الحديثِ مع أنَّ الثمرةَ التي يَجْنِيهَا المُحَدِّثُ في تَخَصُّصِهِ في
عِلْمِ الحديثِ ليستْ ظاهرةً، ولهذا سَنَمُرُّ على مَبْحَثِ المتواترِ
بسرعةٍ؛ لأنَّ الكلامَ فيه كثيرٌ ومُتَشَعِّبٌ. ذَكَرَ الحافظُ رَحِمَهُ اللَّهُ أربعةَ شروطٍ يَجِبُ تَوَافُرُهَا في الخبرِ لِيَكُونَ مُتَواتِرًا: أوَّلاً: أنْ
يَرْوِيَهُ جماعةٌ عن جماعةٍ يَسْتَحِيلُ أنْ يَتَوَاطَؤُوا على الكَذِبِ،
وبعضُ الشُّرَّاحِ يَفْصِلُ هذا الشرْطَ إلى شَرْطَيْنِ، ومعنى استحالةِ
تواطُئِهِم على الكذبِ يُعْرَفُ بالعقْلِ، مثلاً: لو اجتمعَ جماعةٌ كثيرةٌ
تَجْمَعُهُم مصلحةٌ واحدةٌ في
قضيةٍ من القضايا، ثم خَرَجُوا وَأَعْلَنُوا خَبَرًا بينَ الناسِ،
فَمِثْلُ هذا لا يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُم على الكَذِبِ؛ لأنَّ مَشْرَبَهُم واحدٌ ، وَهَدَفَهُم واحدٌ ، وقد يكونُ لهم غَرَضٌ في نَشْرِ مثلِ هذا الخبرِ. لَكِنْ
لو صَلَّى جماعةٌ في مسجدٍ الجُمُعةَ، ثُمَّ خرَجوا، وكُلُّ شَخْصٍ
يُخْبِرُ عن حادثةٍ وقَعَتْ في المسجدِ، واتفقَ المخبرونَ على هذه
الحادثةِ، ففي العادةِ يَسْتَحِيلُ أنْ يَتَّفِقَ أهلُ المسجدِ على اختلاقِ
خَبَرٍ؛ لأنَّهُم لا غَرَضَ لهم يَجْمَعُهُمْ مِن اختلاقِهِ، وهذا الشرطُ
مُهِمٌّ جِدًّا، لأَنَّهُ قد يَقُولُ قائلٌ مثلاً: هناكَ مُؤْتَمَرَاتٌ
تُعْقَدُ وَتُعْلَنُ نَتَائِجُهَا مِن قِبَلِ جميعِ الحاضرينَ، ولكنْ
فِيمَا بعدُ يتَبَيَّنُ أنَّهَا كَذِبٌ، نقولُ: هُنَا العادةُ لا تُحِيلُ
تواطؤَهُمْ على الكَذِبِ؛ لأنَّ لهم غَرَضًا قد يَتَّفِقُونَ فيه على
الكَذِبِ في هذهِ القضيةِ بِعَيْنِهَا، لَكِنَّ أهلَ البلدِ أو جماعةَ
المسجدِ الجامعِ مثلاً لاَ يُمْكِنُ أنْ يَتَّفِقُوا على أنْ يَخْتَلِقُوا
قِصَّةً يَكْذِبُونَ فيها. وهناكَ
مثالٌ آخَرُ: هناكَ مُدُنٌ كثيرةٌ جِدًّا لم نَرَهَا، ولكنَّا كُلَّنَا
نُصَدِّقُ بِوُجُودِهَا، لا شكَّ أنَّ هذا الخبرَ جاءَ إلينا مِن أُنَاسٍ
عِدَّةٍ، وَكُلُّهُمْ لاَ غَرَضَ لَهُمْ مِن الاتِّفَاقِ على اسْمِ هذه
المدينةِ الفُلاَنِيَّةِ وَوُجُودِهَا، إذًا فَمَسْأَلَةُ التَّوَاتُرِ
ليستْ خاصةً بالأحاديثِ، وإنَّمَا في عُمُومِ الأخبارِ. ثانيًا:أنْ
تَكونَ هذه الجماعةُ في جميعِ طبقاتِ السنَدِ، ولا يعني هذا أنْ يُوجَدَ
نفسُ العددِ مِن كُلِّ طبقَةٍ، وإنَّمَا المقصودُ تَوَاجُدُ هذا الشرطِ وهو
استحالةُ تَوَاطُئِهِمْ على الكذبِ، وقد يقولُ قائِلٌ: أنتمْ تقولونَ:
إنَّ المتواترَ يُفِيدُ العِلْمَ، والنَّصَارَى يقولونَ: تَوَاتَرَ عندَنا
صَلْبُ المسيحِ، ونحنُ نعلمُ قَطْعًا أنَّ خَبَرَهُم هذا خَبَرٌ مَكْذُوب،ٌ
فَكَيْفَ هذا؟ يقولُ العلماءُ: نظرْنَا
فإذَا شَرْطٌ مِن شروطِ التواترِ قد اخْتَلَّ، وهو أنَّ الذينَ أَبْلَغُوا
في البدايةِ عن صَلْبِ المسيحِ لا يَسْتَحِيلُ في العادةِ تَوَاطُؤُهُمْ
على الكَذِبِ، فاخْتَلَّ شرْطٌ من الشروطِ في إحدى طبقاتِ السنَدِ، وإنْ
كان قدْ تَوَافَرَ في بعضِ الطبقاتِ. ثالثًا:أنْ
يكونَ مُسْتَنَدُ خَبَرِهِم الحِسَّ، ومعنى الحِسِّ أنْ يقولَ هؤلاءِ
الجماعَةُ: رَأَيْنَا أو سَمِعْنَا، بمعنى أنْ لاَ يكونَ خبرُهُم النظرَ
الْعَقْلِيَّ، إذ لا مَدْخَلَ للنظرِ العقليِّ في التواترِ. مثالٌ مَشْهُورٌ: أنَّ
النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى مِن نسائِهِ شَهْرًا
وَاعْتَزَلَهُنَّ، فجاءَ عُمَرُ وعَلِمَ بالخبرِ، وكان الذي أَخَبَرَهُ قد
قال له: إنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد طَلَّقَ
نساءَهُ، فجاءَ عمرُ، وإذا الناسُ يَبْكُونَ حولَ المِنْبَرِ، واشْتَهَرَ
في المدينةِ كلِّهَا أنَّ النبيَّ قدْ طَلَّقَ نساءَهُ، ولمْ يَقُلْ واحدٌ
منهم سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَهُنَّ. إذًا
فَمُسْتَنَدُ هذا الخبرِ النَّظَرُ العقلِيُّ، لأنَّهُمْ حَكَّمُوا
القَرَائِنَ، فَرَأَوْهُ قَدْ اعْتَزَلَ وَتَرَكَ نِسَاءَهُ، وكان في
السابقِ قدْ خَيَّرَهُنَّ، فتوقَّعَ عمرُ أنْ يَحْصُلَ الطلاَقُ منه،
لأَنَّهُ عَلِمَ مِن نِسَائِهِ ومِن حَفْصَةَ بالذاتِ أنَّهُنَّ يُغْضِبْنَ
النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَظَلُّ اليومَ الكاملَ وهو
غَضْبَانٌ، المُهِمُّ أنَّهُم اسْتَدَلُّوا بالقرائِنِ على طلاقِ النبيِّ
صلى الله عليه وسلم لِنِسَائِهِ، واشْتَهَرَ هذا الأمرُ في المدينةِ حتى
يُظَنَّ لأوَّلِ وَهْلَةٍ
أنَّ الأمرَ ثابِتٌ، وَتَبَيَّنَ فيما بعدُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، وأنَّ الذين يُخْبِرُونَ عن
الطلاقِ لم يَكُنْ مُسْتَنَدُ خَبَرِهِم الحِسَّ. رَابِعًا:أنْ
يكونَ هذا الخبرُ إذن وَرَدَ على السامعِ مُفِيدًا للعلْمِ، بمعنى أَنَّهُ
لاَ يَدَعُ في قلبِهِ مَجَالاً للشَّكِ في صِدْقِ هذا الخَبَرِ،
لِكَثْرَةِ المُخْبِرِينَ، واختلافِ مَشَارِبِهِمْ، وَتَعَدُّدِ أَوْقَاتِ
الإخْبَارِ ونحوَ ذلِكَ. وبعضُ
الشُّرَّاحِ يقولُ: إنَّ هذا الشرطَ الذي زَادَهُ ابنُ حَجَرٍ لا ضرورةَ
لَهُ، لأَنَّهُ عبارةٌ عن نتيجةٍ للشروطِ الثلاثةِ السابقةِ؛ لأَنَّهُ إذا
أَخْبَرَ جماعةٌ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الكَذِبِ عن مثلِهِمْ،
وَأَسْنَدُوهُ إلى شَيْءٍ مَحْسُوسٍ؛ فالخبرُ الآنَ ضرورةً يُفِيدُ
العِلْمَ للسامِعِ، وابنُ حَجَرٍ يقولُ: إنَّ هذا صحيحٌ ولكنْ أَحْيَانًا
قد تَتَخَلَّفُ إفادةُ العلمِ لمانعٍ، مع وجودِ هذه الشروطِ. وهذا الكلامُ في المتواترِ هلْ هو خاصٌّ بالسُّنَّةِ النبَوِيَّةِ أو في جميعِ الأخبارِ بهذه الشروطِ؟ إذا
تَمَعَّنْتَ وَجَدْتَ أَنَّهُ ليس خاصًّا بالسُّنَّةِ، وإِنَّمَا هو عامٌّ
في جميعِ الأخبارِ، وأنَّ مِنْهَا مَا يُفِيدُ التواترَ إذا تَوَافَرَتْ
فيه هذه الشروطُ. (2) قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا أَبْهَمْتُ شروطَ المتواترِ في الأصلِ) أيْ: أَبْهَمَهَا في (النُّخْبَةِ) ؛ لأَنَّهُ على هذه الصورةِ بشروطِهِ التي مَرَّتْ ليس مِن مباحثِ عِلْمِ الإسنادِ، فشروطُ المتواترِ ثلاثةٌ أو أربعةٌ، وليس
مِن بينِها الشروطُ التي اشْتَرَطَهَا علماءُ الحديثِ في قَبُولِ
الروايَةِ، فلمْ يُذْكَرْ في هذه الشروطِ أنْ يكونَ الرُّوَاةُ عُدُولاً،
ولا أنْ يكونوا ضَابِطِينَ، بل قَالَ بعضُهُم: ولا أنْ يكونوا مسلمينَ،
لأنَّ الخبرَ المتواترَ يُفِيدُ العِلْمَ، وإنْ كان المُخْبِرُ به غيرَ
مُسْلِمٍ. فقالَ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: لمْ أَذْكُرْهَا في (النُّخْبَةِ) لأَنَّهُ
ليس مِن مباحثِ علمِ الإسنادِ، فَعِلْمُ الإسنادِ يَبْحَثُ في أحوالِ
الرُّوَاةِ، وفي الاتصالِ والانقطاعِ وما إلى ذلك، والمتواتِرُ مقبولٌ
كُلُّهُ فَلاَ حاجةَ إلى البحثِ في رجالِهِ وأسانيدِهِ. وأمَّا ابنُ الصلاحِ فقالَ في (الُمَقَدِّمَةِ) :
إنَّ المتواترَ لمْ يَذْكُرْهُ علماءُ الحديثِ، وإنَّمَا الذينَ ذَكَرُوهُ
هم علماءُ الأصولِ والفِقْهِ، وإنَّ الذي نَقَلَهُ إلى كُتُبِ علومِ
الحديثِ هو الخطيبُ البغدادِيُّ. وقالَ
أيضًا: إنَّ كلامَ الخطيبِ يُشْعِرُ بأَنَّهُ تابعَ فيه غيرَ أهلِ
الحديثِ، بمعنى أَنَّهُ أَخَذَهُ مِن كلامِ الفقهاءِ والأصوليينَ،
وَيُفَسِّرُ ابنُ الصلاحِ سَبَبَ عَدَمِ ذِكْرِ عُلَمَاءِ الحديثِ
للمتواترِ في كُتُبِهِم بهذا المعنى الذي ذَكَرَهُ الأصوليونَ؛ لأَنَّهُ لا
يُوجَدُ في السُّنَّةِ النبويَّةِ بهذا المعنى، أي: لا يوجدُ خبرٌ واحدٌ
رَوَاهُ جماعةٌ عن جماعةٍ يستحيلُ تَوَاطُؤُهُم على الكَذِبِ،
وَأَسْنَدُوهُ إلى شيءٍ محسوسٍ، فإذًا لا حاجةَ للمُحَدِّثِينَ إلى
ذِكْرِهِ. في حين أنَّ ابنَ حَجَرٍ يقولُ: إنَّ المتواترَ بشروطِهِ ليس مِن مباحثِ علمِ الإسنادِ، فلهذا لم يَذْكُرْ شروطَهُ في مَتْنِ (النُّخْبَةِ) فأيُّ التَّعْلِيلَيْنِ أَقْرَبُ إلى الواقِعِ. لَوْ
أَخَذْنَا بتعليلِ ابنِ حَجَرٍ لَجاءَ إِشْكَالٌ، وهو أَنَّهُ يُوجَدُ في
السُّنَّةِ أحاديثُ متواترةٌ، لم يَبْحَثْهَا أَئِمَّةُ الحديثِ اعتمادًا
على كونِهَا متواترةً، وهذا الإشكالُ طُبِّقَ فِعْلاً بعدَ ابنِ حَجَرٍ،
ولذلكَ فَتَعْلِيلُ ابنِ الصلاحِ في عَدَمِ ذِكْرِ الخبرِ المتواترِ في
كُتُبِ الحديثِ هو الأقرَبُ، فابنُ الصلاحِ يقولُ: لا يُوجَدُ المتواترُ في
السُّنَّةِ، وسنَعْرِفُ الآنَ ماذا يُرِيدُ بالمتواترِ لَنَعْرِفَ أنَّ
كلامَهُ صحيحٌ. إذًا فَعِنْدَنَا رأيانِ: - رأيُ ابنِ الصلاحِ أنَّ المتواترَ غيرُ موجودٍ في السُّنَّةِ إلاَّ أنْ يُدَّعَى في حَدِيثِ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا)). -ورأْيُ
ابنِ حَجَرٍ أنَّ المتواترَ مَوْجُودٌ بكثرَةٍ، والخلافُ يكادُ يكونُ
لَفْظِيًّا، لأنَّ مرادَ ابنِ الصلاحِ بالمتواترِ هنا المتواترُ بالشروطِ
المذكورَةِ، وأنْ يكونَ متواترًا بِلَفْظِهِ، فهذا النوعُ بِهَذَيْنِ
الشَّرْطَيْنِ يَعِزُّ وُجُودُهُ، وما ذَكَرَهُ ابنُ حَجَرٍ في (النُّزْهَةِ) مِن
أنَّ دَعْوَى عِزَّةِ وُجُودِ المتواترِ نَشَأَتْ عن قِلَّةِ الاطلاعِ على
كثرةِ الطرقِ وأحوالِ الرجالِ وَصِفَاتِهِمْ المُقْتَضِيَةِ لإِبْعَادِ
العادةِ أنْ يَتَوَاطَؤُوا على كَذِبٍ أو يَحْصُلَ منهم اتِّفَاقًا،
والأمثلةُ التي يَذْكُرُونَهَا موجودةٌ في السُّنَّةِ هي مِن نوعِ
المتواترِ المَعْنَوِيِّ، أو مِن نوعِ التواترِ الخاصِّ، فأمَّا
المُتَوَاتِرُ المعنويُّ فهو الذي يُسَمُّونَهُ: تواترَ القدرِ
المُشْتَرَكِ، وهو أنْ تأتيَ أحاديثُ كثيرةٌ جِدًّا أَلْفَاظُهَا
وَسِيَاقُهَا مختلفٌ، لَكِنَّهَا تَتَّفِقُ على إثباتِ شيءٍ واحدٍ. مثالُ
ذلكَ:حَجَّةُ الوَدَاعِ، فيها عَشَرَاتُ الأحاديثِ، بعضُهَا يَذْكُرُ
الإهلالَ، وبعضُهَا يَذْكُرُ كيفَ رَمَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْجَمْرَةَ، وبعضُهَا يَذْكُرُ كذا وكذا، فكُلُّهَا تَتَّفِقُ
على إثباتِ حَجَّةِ الوداعِ، ولَكِنَّ ألفاظَهَا مُخْتَلِفَةٌ، بل أحيانًا
يكونُ بينَهَا تَعَارُضٌ، فيحتاجُ العلماءُ إلى الجَمْعِ بينَهَا، فهذا
النوعُ هو الموجودُ في السُّنَّةِ بكثرَةٍ. والمتواترُ المعنويُّ يحتاجُ إلى بحْثٍ في أسانيدِهِ، لأنَّ
كُلَّ حديثٍ مستقلٌّ بنفسِهِ، وحينئذٍ يَصِحُّ أنْ يُقالَ مَا قالَهُ ابنُ
الصلاحِ: إنَّ المتواترَ بالشروطِ المذكورةِ ليس مِن مباحثِ علومِ
الحديثِ، لأَنَّهُ لا يُوجَدُ في السُّنَّةِ النبويَّةِ إلا بالتواترِ
المعنويِّ، والتواترُ المعنويُّ:هو تواترُ القدرِ المشترَكِ، وهو وُرُودُ
أحاديثَ تَجْتَمِعُ على قضيَّةٍ واحدةٍ، ويختلفُ سياقُ كُلٍّ مِنْهَا وألفاظُهَا. وأمَّا
المتواترُ الخاصُّ فهو طريقةٌ لبعضِ العلماءِ في إثباتِ التواترِ في
السُّنَّةِ، يقولُ بعضُ العلماءِ: نحنُ وإنْ قلْنَا: إنَّ التواترَ الذي
ذَكَرَهُ أهلُ الأصولِ بهذه الشروطِ قليلٌ في السُّنَّةِ، لَكِنْ نَأْتِي
مِن بابٍ آخَرَ، وَنَجْعَلُ المتواترَ في السُّنَّةِ-سواءً المعنويُّ أو
اللفظيّ- كثيرًا جِدًّا، وهذه طريقةُ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وكلامُ
ابنِ حَجَرٍ في إثباتِ التواترِ الذي رَدَّ بهِ على ابنِ الصلاحِ يُمْكِنُ
إرجاعُهُ إليها، وإنْ كان قدْ قَرَّرَ المتواترَ على أَنَّهُ المتواترُ
العامُّ الذي يُفِيدُ العلمَ الضرورِيَّ، وهذه الطريقةُ خلاصَتُهَا ما
يُسَمُّونَهُ (التواترَ الخاصَّ)، وهو: أن يَأْتِيَ المُحَدِّثُ إلى الحديثِ، فإذا الحديثُ قد رَوَاهُ مثلاً أَنَسٌ، وأبو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، هؤلاءِ ثلاثَةٌ ، ولا يَسْتَحِيلُ في العادةِ أنْ يَتَوَاطَأَ الثلاثةُ على الكَذِبِ أو يَقَعَ مِنْهُم اتفاقًا، لكنْ إذا قرأْتَ تراجمَ هؤلاء الثلاثةِ وَعَرَفْتَ
سِيَرَهُم، فستقولُ: إنَّهُ يستحيلُ تَوَاطُؤُهُمْ على الكَذِبِ، ثم روَى
عن عائشةَ هذا الحديثَ مثلاً: عُرْوَةُ وعَمْرَةُ والقاسِمُ بنُ محمدِ بنِ
أبي بَكْرٍ، فهؤلاءِ ثلاثةٌ ،
ولا يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ على الكَذِبِ، لكنْ أيضًا إذا قَرَأْتَ
تَرَاجِمَهُمْ وَعَرَفْتَ حِفْظَهُمْ وضَبْطَهُمْ، فستقولُ: إنَّهُ
يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ على الكَذِبِ، وهكذا تَفْعَلُ بحديثِ أنسٍ وأبي
هُرَيْرَةَ. إذًا
أنتَ كَمُحَدِّثٍ تَوَصَّلْتَ إلى القطعِ بنسبةِ هذا الحديثِ إلى النبيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا وَصَلْتَ إلى درجةِ القطعِ
واليقينِ فهذا هو التواتُرُ، لكنَّ هذا التواترَ هو لِلْمُحَدِّثِينَ،
وَيُسَمُّونَهُ التواترَ الخاصِّ، وهذا هو الذي يَنْبَغِي أنْ يُرَكَّزَ
عليهِ في السُّنَّةِ النبويَّةِ، وهو الموجودُ بكثرَةٍ، حتى إنَّ بعضَ
العلماءِ يَقْطَعُ ولو كانَ الإسنادُ واحدًا، فأبو حاتمٍ مثلاً يقولُ:
مالكٌ عن نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ: إنَّمَا هو (تَرْفَعُ السِّتْرَ، فَتَنْظُرُ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) والإسنادُ واحِدٌ ، وعَرَفَ هذا مِن دراسةِ تراجمِ هؤلاءِ الرُّوَاةِ. وهذا النوعُ مِن التواترِ موجودٌ بكثرةٍ في المتواترِ اللفظيِّ، وليس المعنويَّ فقطْ مثلُ: ((وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِن النَّارِ))فهذا مُتواترٌ بلفظِهِ مِن النوعِ الخاصِّ، وحديثُ ((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا))، ولا يَصِحُّ أنْ يُقَالَ: لا يُبْحَثُ في رجالِهِ؛ لأنَّنَا ما عَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ إلاَّ بعدَ البحْثِ والنَظَرِ في أسانيدِهِ وَرُوَاتِهِ. وَأُحِبُّ أنْ أُنَبِّهَ إلى شَيْئَيْنِ: أولاً: حديثُ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا))قال عنه مُحَقِّقُ (النُّخْبَةِ)عليٌّ حسنٌ عليٌّ عبدُ الحميدِ: إِنَّهُ رُوِي عَن مِائَةٍ مِن الصحابَةِ، ويَذْكُرُ النَّوَوِيُّ في مقدمةِ شَرْحِهِ (لصحيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّهُ رُوِيَ عنْ مِئَتَيْنِ مِن الصحابَةِ، هذا المثالُ أولَ مَا نَبْدَأُ بِهِ، فكلمةُ مِائَتَيْنِ اعْتَذَرَ بعضُهُمْ عن النَّوَوِيِّ أنَّهَا تَصْحِيفٌ، فَلَعَلَّهَا تَصَحَّفَتْ مِن مِائَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يقولُ: لَعَلَّهَا تَصَحَّفَتْ مِن ثَمَانِينَ، وهذا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ عن مِئَتَيْنِ، ولا عن مِائَةٍ، وَلاَ عن ثَمَانِينَ ، ويقولُ العراقيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: إِنَّمَا يَصِحُّ مِن نحوِ عِشْرِينَ، معَ أنَّ ابنَ الْجَوْزِيِّ ذَكَرَهُ مِن حديثِ سِتِّينَ، والطَّبَرَانِيَّ جَمَعَهُ في جُزْءٍ، فَمِن أَيْنَ جَمَعُوا كُلَّ هذه الأحاديثِ؟ نقولُ: همُ دَخَلَ عليهم أحدُ شَيْئَيْنِ: كَثِيرٌ مِن هذه الأحاديثِ هي بِمُطْلَقِ الكَذِبِ، مثلَ حديثِ: ((إنَّ
الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى
الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ
الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ)). وهذا ليس بِلَفْظِ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا)). أحاديثُ جماعةٍ مِن الصحابةِ بلفظ:ِ ((مَنْ كَذِبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا))لا تَصِحُّ عنهم، لَكِنَّ العلماءَ في مجالِ الجمْعِ يَتَسَامَحُونَ، فإذا جاءَ النَّقْدُ مَيَّزُوا ما يَصِحُّ مِمَّا لا يَصِحُّ. الثاني:كلامُ
ابنِ حَجَرٍ الذي ذَكَرَهُ، وهو أنَّ المتواترَ لا يُبْحَثَ فيه عن
رُوَاتِهِ، وَلاَ عن عَدَالَتِهِمْ وَضَبْطِهِمْ، هذا الكلامُ فيه شيءٌ مِن
الخطورةِ، والسببُ في هذا أنَّ جماعةً قَلَّدُوا الحافظَ بنَ حَجَرٍ-ومنهم
تلميذُهُ السيُوطِيُّ- فَصَارُوا يَأْتُونَ إلى أحاديثَ ويَنْظُرون إلى
كثرةِ طُرُقِهَا، وَيَحْكُمُونَ عليها بالتواتُرِ بِنَاءً على أَنَّهُ لا
يَنْبَغِي النَّظَرُ في طُرُقِهَا وَأَسَانِيدِهَا، فنجِدُ أنَّ
السِّيُوطِيَّ حَشَا في كتابِهِ (الأزهارُ المُتَناثِرَةُ في الأخبارِ المُتواترةِ) أحاديثَ
كثيرةً لا تَصِحُّ عندَ العلماءِ، فَضْلاً عن أن تكونَ مُتَوَاتِرَةً، بل
إنَّ السِّيُوطِيَّ ادَّعَى التواترَ أو كادَ في حديثٍ مَوْضُوعٍ، وهو وإنْ
كانَ لم يَذْكُرْهُ في هذا الكتابِ، لَكِنَّهُ ادَّعَى فيه التواترَ في
مكانٍ آخَرَ، بِنَاءً على كثرةِ مَن رَوَاهُ، وهو حديثُ ((رَدِّ الشَّمْسِ لِعَلِيٍّ))، وهذا حديثٌ معروفٌ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ، ولكنَّ السِّيُوطِيَّ مع ذلك يَكَادُ يقولُ في (اللآلِئ): إِنَّهُ بَلَغَ مَبْلَغَ التواترِ.الخلاصةُ: أنَّ
مَبْحَثَ المتواترِ مُتَشَعِّبٌ، وَالأَلْصَقُ به هو عِلْمُ الأُصُولِ؛
لأَنَّ المُحَدِّثَ لا يَسْتَفِيدُ في فَنِّهِ شَيْئًا مِن هذا، لأَنَّهُ
مُضْطَرٌّ للبحثِ في كُلِّ إسنادٍ حتى ولو كان متواترًا، فلو ثَبَتَ
التواترُ فهو مُضْطَرٌّ للبحثِ في كُلِّ إسنادٍ مِن أسانيدِ الحديثِ التي
تَرِدُ، لأنَّ للمحدثينَ أَغْرَاضًا كثيرةً في البحثِ في الأسانيدِ، وإنْ
كانَ الأصلُ أو المَتْنُ صحيحًا. مثالُ ذلك: حديثُ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا)) ، يقولونَ: هذا هو الحديثُ الوحيدُ الذي اجْتَمَعَ على رِوَايَتِهِ العَشَرَةُ الْمُبَشَّرُونَ بالجَنَّةِ، تَصِحُّ هذه الكلمةُ إذا صَحَّت الطرقُ إلى جميعِ هؤلاءِ العَشَرَةِ ، لكنْ لوْ قُلْنَا: إنَّ المتواترَ لا يُبْحَثُ في رُوَاتِهِ؛ فمعنى هذا الكلامِ أنَّنَا نَأْخُذُ هذه الكلمةَ على إِطْلاَقِهَا. فَوَائِدُ مُتَفَرِّقَةٌ مِن إجاباتِ الأَسْئِلَةِ: ابنُ حَجَرٍ يقولُ: (إنَّهُ أَبْهَمَ شروطَ المتواترِ؛ لأَنَّهُ بهذا المعنى ليسَ مِن مباحثِ عِلْمِ الإسنادِ، لأنَّ المتواترَ مقبولٌ كُلُّهُ)،
وهو مِن العلمِ ومِن الفضلِ ومِن الإدراكِ بحيثُ لا يَخْفَى عليه أنَّ
كُلَّ ما ادُّعِيَ فيه أَنَّهُ متواترٌ قد بُحِثَ، وأَنَّهُ لا يَثْبُتُ
التواترُ بمجردِ كثرةِ الأسانيدِ، فيُسْتَغْنَى بها عن البحثِ، ولا
نَنْسِبُ إلى ابنِ حَجَرٍ أَنَّهُ يقولُ هذا، ولكنَّ كَلِمَتَهُ هذه
أَوْهَمَتْ. ابنُ حَجَرٍ يقولُ:(المتواترُ في أصلِهِ لا يُبْحَثُ) ، لكنْ عندما جاءَ يُقَرِّرُ المتواترَ في السُّنَّةِ، قَرَّرَ المتواترَ الذي يحتاجُ إلى بَحْثٍ. ابنُ الصلاحِ قَالَ: (إنَّ المتواترَ لا يُوجَدُ في كلامِ أهلِ الحديثِ) مع أنَّ البُخَارِيَّ مثلاً رُبَّمَا قالَ: (تواترَ الحديثُ الفُلاَنِيُّ) ، وكذا الطَّحَاوِيُّ، والحاكِمُ، وابنُ عبدِ البَرِّ، فَأَجَابَ العراقيُّ عن ذلك بقولِهِ: (إنَّ
استعمالَ المتواترِ هنا بِأَلْفَاظِهِم المرادُ بِهِ: التَّتَابُعُ، أي
كثرةُ وُرُودِ الأحاديثِ بهذا المعنى، وليس المرادُ الاصطلاحَ الذي
ذَكَرَهُ أهلُ الأصولِ، واشترطوا فيه الشروطَ المعروفةَ). العلمُ اليقينيُّ مقسومٌ إلى قِسْمَيْنِ: -ضَرُورِيٍّ. -وَنَظَرِيٍّ. وَيُقَابِلُ
العلمَ اليقينِيِّ الظَّنِّيُّ، فالعلمُ اليقينيُّ أنْ تَتَيَقَّنَ هذا
الشيءَ، وَتَقْطَعَ به، لكنْ تارةً يكونُ ضروريًّا لا تستطيعُ دَفْعَهُ،
ولا تَبْحَثُ عن شروطِ الناقلِ، وما إلى ذلك، وتارةً يكونَ مُكْتَسَبًا
بِنَظَرِكَ أَنْتَ، وَتَوَصَّلْتَ إلى اليقينِ عن طريقِ النظرِ
والاستدلالِ، وهو الذي نُسَمِّيهِ التواترَ الخاصَّ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: سعد بن عبد الله الحميد قال الشيخ سعد بن عبد الله الحميد: (أقسامُ الْخَبَرِ: فإذا كان له طُرُقٌ غيرُ مَحصورةٍ بعدَدٍ فهو الْمُتَوَاتِرُ. أ- الْمُتَـوَاتِـرُ: 1-تعريفُه:
ما رَوَاهُ جَمْعٌ كثيرٌ في كُلِّ طَبَقَةٍ مِن طَبَقَاتِ السَّنَدِ،
بحيثُ تُحِيلُ العادَةُ تَوَاطُؤَهُمْ على الكَذِبَ، وأَسْنَدُوهُ إلى شيءٍ
محسوسٍ، وأفادَ العلْمَ اليَقِينِيَّ. فيَتَلَخَّصُ لنا مِن خِلالِ التعريفِ شُروطُ الْمُتَوَاتِرِ، وهي: 1-أنْ يَرْوِيَهُ جَمْعٌ كثيرٌ. 2-أنْ تَكونَ هذه الكَثرةُ في جَمِيعِ طَبَقَاتِ السَّنَدِ، فلو اخْتَلَّتْ في طَبَقَةٍ مِن الطَّبَقاتِ فلا يَتحقَّقُ في هذا الْخَبَرِ وَصْفُ التَّوَاتُرِ. 3-أنْ تُحِيلَ العادَةُ تَوَاطُؤَهُمْ على الكَذِبِ. وهو
مُرْتَبِطٌ بالشَّرْطِ الخامسِ، وهو إفادتُه للعِلْمِ، فلو أنَّ هناك
عَشرةً مِن الناسِ أَخْبَرُوني بخَبَرٍ مِن الأخبارِ؛ فرُبَّمَا تَحَصَّلَ
لي مِن خَبَرِ هؤلاءِ العَشرةِ في قَرارةِ نَفْسِي علْمٌ جَازِمٌ، لا
يُمْكِنُ أنْ يَتَطَرَّقَ إليَّ الشكُّ في أنَّ هؤلاءِ العَشرةَ قد
صَدَقُوا في ذلك الْخَبَرِ، وأنهم لم يَخْتَلِقُوا هذا الخبرَ، ولم
يَتَّفِقُوا على وَضْعِه وكَذِبِهِ. وهناكَ قَرائنُ دَلَّتْ على هذا العِلْمَِ: منها:تَنَوُّعُ بُلْدَانِ وأماكنِ هؤلاءِ العَشرةِ. ومنها:أنَّ كلَّ واحدٍ منهم لا يَعْرِفُ الآخَرَُ. ومنها:أنَّ كلَّ واحدٍ منهم موصوفٌ بالصدْقِ، إلى غيرِ ذلك مِن القرائنِ التي اجْتَمَعَتْ؛ فأَفَادَتْنِي هذا العلْمَ. ولو
عَرَفْتُ أنَّ هؤلاءِ العشرةَ قَامُوا مِن مَجْلِسٍ واحدٍ، ثم جاءونِي،
وأَخْبَرَنِي كلٌّ منهم بالخبَرِ لَمَا حَصَلَ لي مِن العلْمِ ما حَصَلَ
لِي مِن عِلْمِ أولئكَ العشرةِ الذينَ ذُكِروا آنِفاً؛ وذلك لاحتمالِ أنْ
يَكُونُوا جَميعُهُم سَمِعُوهُ مِن شَخْصٍ واحدٍ؛ فيُصْبِحُ هذا الْخَبَرُ
في أَصْلِه خَبَراً وَاحداً. أو
يكونَ هؤلاءِ العشرةُ اتَّفَقُوا على اختلاقِ هذا الخبَرِ ووَضَعُوهُ؛ فما
دامَ أنَّ هذا الاحتمالَ قد يَرِدُ فلا يُفِيدُنِي هذا الخبرُ العِلْمَ؛
ولذلك لا يُسَمَّى هذا الخبَرُ مُتَوَاتِراً. 4-أنْ يكونَ مُسْتَنِداً إلى شيءٍ مَحسوسٍ،وهذا
شَرْطٌ إضافِيٌّ لتَمييزِ الخبَرِ الذي يكونُ مَسموعاً، أو مُشَاهَداً، عن
خبرٍ يُمْكِنُ أن يكونَ مِن جَرَّاءِ الاستنباطِ العقليِّ، كأنْ يقولَ
الرَّاوِي: سَمِعْتُ فُلاناً قالَ كذا، مِثْلَما يقولُ الصحابيُّ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قالَ كذا وكذا، أو رأيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَفعَلُ كذا وكذا. فهذا يُسَمَّى الإسنادَ إلى شيءٍ مَحْسُوسٍ؛إمَّا إلى حاسَّةِ السَّمْعِ، أو إلى حاسَّةِ البَصَرِ، أو إلى حاسَّةِ اللَّمْسِ، أو غيرِ ذلك مِن الحواسِّ التي يُمْكِنُ أنْ يُخْبَرَ بواسِطَتِها. 5-إفادتُه للعِلْمِ. ويُؤْخَذُ على تَعريفِ التواتُرِ: قولُهم في التعريفِ: (تُحِيلُ العادةُ إلى تَوَاطُئِهِمْ على الكَذِبِ): لا يَلِيقُ هذا الكلامُ بصَحابةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ؛ لأنهم لا يُمْكِنُ أن يَتَوَاطَئُوا على الكَذِبِ. فإمَّا أنْ يُرادَ بهذه اللَّفْظَةِ: (تُحِيلُ العَادَةُ تَوَاطُؤَهُمْ على الكَذِبِ)، جميعَُ طَبقاتِ السَّنَدِ، وطَبقةُ الصحابةِ هي إحدى طبقاتِ السنَدِ؛ فهذه اللَّفْظَةُ مُسْتَبْشَعَةٌ، ويَنْبَغِي أن تُبْعَدَ. وإمَّا أن يُقالَ: ما عَدَا طَبقَةَُالصحابَةِ، فتُسْتَثْنَى مِن هذا التَّعْرِيفِ. استدراكٌ تابِعٌ لشُروطِ التَّوَاتُرِ: 1-أنْ يَرْوِيَهُ جَمْعٌ كَثيرٌ. مَسْأَلةٌ:هل لهذا الجمْعِ حَصْرٌ بعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، أو ليس له حَصْرٌ؟ أشارَ الحافِظُ في شَرْحِ (النُّخْبَةِ) إلى أنَّ هذه المسألةَ اخْتُلِفَ فيها: فمنهم مَن شَرَطَ عددَ: الأربعةِ. ومنهم مَن قالَ: خمسةٌ. ومنهم مَن قالَ: اثنا عَشَرَ. ومنهم مَن قالَ: عِشرونَ. ومِنهم مَن قالَ: أَربعونَ. ومنهم مَن قالَ: سَبعونَ. أدِلَّةُ بعضِ هذه الأقوالِ: 1-مَن قالَ: إنه يُشْتَرَطُ أن يَكونوا اثْنَيْ عَشَرَ: قالوا: إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ذَكَرَ أنَّ الأسباطَ الذين اختارَهم مُوسَى اثْنَا عَشَرَ، {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً}. 2-مَن قالَ: إنه يُشْتَرَطُ أنْ يَكونوا أَربعينَ: قالوا: إنَّ عَددَ الأربعينَ هو الذين لا تَقومُ الْجُمُعَةُ إلاَّ بهم. 3-مَن قالَ: إنه يُشْتَرَطُ أنْ يَكونوا سَبعينَ: استَدَلُّوا بقولِه تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا}. 4-مَن قالَ: إنه يُشْتَرَطُ أن يَكونوا ثَلاثَمائةٍ. استَدَلُّوا بأنَّ أهلَ بَدْرٍكانوا ثلاثَمِائةٍ. ومِن خِلالِ هذه الاستدلالاتِ يَظْهَرُ لنا ضَعْفُ اشتراطِ العددِ، وهناك مَن اختارَ أنهم عَشرةٌ كالسُّيُوطِيِّ في (تدريبُ الراوِي). ومِنهم مَن رَجَّحَ عَدَمَ اشتراطِ العددِ،كالحافظِ ابنِ حَجَرٍ. مسألةٌ:هل يُشْتَرَطُ في الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ أنْ نَنْظُرَ في رجالِ سَنَدِه، أو لا يُشْتَرَطُ؟ مُعْظَمُ الذين تَكَلَّموا في هذه المسألةِ قالوا: لا يُبْحَثُ في رجالِ الأسانيدِ، ولعلَّهُمْ يَقْصِدُونَ أنه لا يُبْحَثُ في ضَبْطِهم، وأمَّا عدالتُهم فلا
بُدَّ مِن البَحْثِ فيها، وهذا إنما هو في الكلامِ على حديثِ النبيِّ
صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، والآثارِ الواردةِ عن الصحابةِ، والتابعينَ. والصحيحُ أنه لا بُدَّ مِن مَعرفةِ عدالةِ الرُّواةِ الذين يَرْوُونَ تلك الطرُقَ، وأمَّا الضبْطُ فيُمْكِنُ
أنْ يُتَسَامَحَ فيه؛ لأنه إذا جاءَنا الْحَدِيثُ مِن طُرُقٍ
مُتَعَدِّدَةٍ؛ فكلُّ واحدةٍ مِن هذه الطرُقِ تُؤَيِّدُ الأُخْرَى
وتُعَاضِدُها؛ فيَتَقَوَّى الْحَدِيثُ بمجموعِ هذه الطرُقِ؛ فإذا كَثُرَتْ
كثرةً ظاهرةً فَبِلاَ شَكٍّ أنَّ الْحَدِيثَ يُفِيدُ العلْمَ في هذه
الحالِ. اقسام المتواتر 1- مُتَوَاتِرٌ لَفْظِيٌّ: وهو ما تَوَاتَرَ لفْظُه ومعناهُ. وليس معنى قولِهم: ما تَوَاتَرَ لفْظُه ومَعناهُ، أن
يكونَ اللفظُ مَنقولاً حَرْفاً بحَرْفٍ كما يُنْقَلُ إلينا كِتابُ اللهِ،
وإنما المقصودُ الإتيانُ بألفاظٍ مُتَقَارِبَةٍ تُؤَدِّي إلى نفْسِ ذلك
المعنى، وتُشْعِرُ بأنَّ الْحَدِيثَ هو نَفْسُ الْحَدِيثِ. ومِثالُ ذلك: حديثُ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))، فالْحَدِيثُ وَرَدَ بهذا اللفظِ، ووَرَدَ بألفاظٍ أُخْرَى مِثْلِ:((مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْهُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). 2- مُتَوَاتِرٌ مَعْنَوِيٌّ: مِثلُ أحاديثِ: رَفْعِ اليدينِ في الدعاءِ، كرَفْعِهِ ليَدَيْهِ في غَزوةِ بَدْرٍ للدعاءِ على المشرِكينَ، ورَفْعِه لِيديهِ لطَلَبِ الاستسقاءِ... إلخ. بعضُ
العُلماءِ قالَ: يُشْتَرَطُ أنْ يكونَ التواتُرُ عن كلِّ راوٍ مِن
الرُّواةِ؛ فمَثَلاً الْحَدِيثُ رَواهُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّمَ عَشرةٌ مِن الصحابةِ؛ فلا بُدَّ أن يكونَ كلُّ واحدٍ من الصحابةِ
قد تَوَاتَرَ عنه هذا الْحَدِيثُ. وهذا القولُ مَردودٌ،ويَبْقَى الأصلُ، وهو الالتفاتُ إلى كلِّ طَريقٍ مِن هذه الطُّرُقِ. مسألةٌ:قالَ بعضُ أهلِ العِلْمِ: إنه بالنظَرِ إلى هذه الشُّروطِ لا يُوجَدُ حديثٌ مُتواتِرٌ إطلاقاً؟ رَدَّ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ وقالَ: (إنَّ وُجودَ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ كثيرٌ). ومِن أَمْثِلَةِ ذلك:((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهَ مِنَ النَّارِ))؛ فهذا الْحَدِيثُ رُوِيَ عن جُملةٍ مِن الصحابةِ، مِن جُملتِهم العشرةُ الْمُبَشَّرُونَ بالجنَّةِ، وأَوْصَلَها بعضُهم كابنِ الْجَوزِيِّ في كتابِ (الْمَوضوعاتُ) إلى ثَمانٍ وتِسعينَ طريقاً. وبعضُهم زَادَها حتى أَوْصَلَها إلى مِائتينِ، لكن ليس كلُّ طَريقٍ مِن هذه الطُّرُقِ تُعْتَبَرُ صَحيحةً، بل الذي جاءَ في عِدادِ الْمَقْبُولِ مِن الصحيحِ والحسَنِ حَوَالَيْ ثلاثٍ وثلاثينَ طَريقاً، والبَقِيَّةُ فيها أحاديثُ ضَعيفةٌ، وفيها أحاديثُ ساقطةٌ. وليس هذا الْحَدِيثُ فقط، بل هناك عِدَّةُ أحاديثَ يُمْكِنُ أنْ يُطْلَقَ عليها وَصْفُ التَّوَاتُرِ. مِثلُ: أحاديثِ الْحَوْضِ، والشَّفَاعَةِ، ورَفْعِ اليدينِ في الصلاةِ، وأَوْصَلَها بعضُهم إلى مِائةِ حديثٍ. وبعضُهم زادَها إلى حَوَالَيْ ثلاثِمائةٍ. لكنْ قد يُنَازَعُ في هذه الأحاديثِ على كَثْرَتِها).
العناصر أقسام الخبر باعتبار وصوله إلينا: أول من عرف أنه تكلم عن الحديث المتواتر الخطيب البغدادي إذا صح الحديث وجب العمل به وإن لم يكن متواتراً رد الحافظ ابن حجر على من ادعى استحالة وجود الحديث المتواتر شروط المتواتر: استحالة تواطئهم على الكذب تعرف بالعقل شرح الشرط الرابع شرح الشرط الخامس هذه الشروط ليست خاصة بالأحاديث النبوية معنى سرقة الحديث مثال على حديث مسروق أهمية معرفة عدالة الرواة أقسام الحديث المتواتر: أمثلة على المتواتر المعنوي القسم الثاني: علم نظري معنى العلم النظري رد الحافظ على من قال: بأن المتواتر يفيد العلم النظري
القسم الأول: (المتواتر)
تعريف (المتواتر): هو ما له طرق بلا عدد معيَّن
ابتدأ ابن حجر بالكلام على الحديث المتواتر خلافاً لابن الصلاح
مبحث المتواتر ليس من علم المصطلح وإنما من علم الأصول
المحدثون القدامى ليس لهم كلام عن المتواتر إطلاقاً
سبب عدم ذكر علماء الحديث المتواتر بهذا المعنى في كتبهم
كثرة مباحث المتواتر مع قلة ثمرتها
تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد لم يكن معروفاً عند علماء الحديث
الشرط الأول: أن يرويه جمع كثير
شرح الشرط الأول
ذكر الخلاف في عدد الجمع
الصواب عدم اشتراط عدد معين
لا يشترط في الحديث المتواتر أن يتواتر عن كل راوٍ فيه
شرح الشرط الثاني
الشرط الثالث: أن تحيل العادة تواطئهم على الكذب
شرح الشرط الثالث
ما يؤخذ على الشرط الثالث
الصحابة لا يتصور تواطؤهم على الكذب
مثال على خبر متواتر غير صحيح لانتفاء هذا الشرط
إذا تخلف هذا الشرط فهو مشهور فقط
سبب إبهام ابن حجر لشروط المتواتر
الكتب المصنفة في الحديث المتواتر
نقد كتاب (الأزهار المتناثرة)
مسألة: البحث في رجال الحديث المتواتر
لا يبحث عن ضبطهم أما عدالتهم فلا بد من التحقق منها
بعض الأصوليين يرى أنه لا يبحث حتى عن عدالتهم
تأثر الأصوليين بالمباحث الكلامية
قصة صلب المسيح عليه السلام لا يمكن أن نعتبرها متواترة
مسألة سرقة الحديث
القسم الأول: المتواتر اللفظي
المراد بالمتواتر اللفظي
مثال على المتواتر اللفظي
الفرق بين المتواتر اللفظي والمعنوي
الخبر المتواتر يفيد العلم اليقيني بشروطه:
معنى العلم اليقيني
أقسام العلم اليقيني:
القسم الأول: علم ضروري
معنى العلم الضروري
الأسئلة س1: عدد أقسام الخبر باعتبار وصوله إلينا.
س2: عرف (المتواتر) لغة واصطلاحاً.
س3: هل التواتر شرط لصحة الحديث؟
س4: عدد شروط المتواتر.
س5: اذكر بعض الكتب المصنفة في الأحاديث المتواترة.
س6: ما سبب إبهام ابن حجر لشروط المتواتر؟
س7: اذكر الخلاف بين المحدثين والأصوليين في مسألة البحث في رجال الحديث المتواتر.
س8: بين مع التمثيل معنى سرقة الحديث.
س9: اذكر مع التمثيل أقسام الحديث المتواتر.
س10: بين بالتفصيل هل يفيد الخبر المتواتر العلم اليقيني.
س11: ما الفرق بين العلم الضروري والعلم النظري؟