25 Oct 2008
المقبول والمردود
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (وَكُلُّهَا - سِوَى الأَوَّلِ - آحَادٌ.
وَفِيهَا المَقْبُولُ وَالمَرْدُودُ؛ لِتَوَقُّفِ الاسْتِدْلالِ بِهَا عَلَى البَحْثِ عَنْ أَحْـوَالِ رُوَاتِهَا دُونَ الأَوَّلِ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَـا مَا يُفِيدُ العِلْمَ النَّظَرِيَّ بِالقَرَائِنِ عَلَى المُخْتَارِ).
نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): ( (1) (كُلُّهَا)
أي: الأَقْسَامُ الأَرْبَعَةُ المَذْكُورَةُ (سِوى الأولِ) وَهُو المُتَواتِرُ (آحَادٌ) وَيُقَالُ لِكُلٍّ
منها خَبَرُ وَاحِدٍ. وَخَبَرُ الوَاحِدِ فِي اللُّغَةِ: مَا يَرْوِيه شَخْصٌ وَاحِدٌ
وَفِي الاصْطِلاَحِ:مَا لَمْ يَجْمَعْ شُرُوطَ المُتَوَاتِرِ
. (2) (وَفيها) أي: فِي الآحَادِ، (المَقْبُولُ) وَهُو مَا يَجِبُ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ الجُمْهُورِ.
(وَ) فيها، (المَرْدُودُ) وَهُو الذي لَمْ يَتَرَجَّحْ صِدْقُ المُخْبِرِ بهِ.
(لِتَوَقُّفِ الاسْتِدْلاَلِ بِهَا عَلَى البَحْثِ عَن أَحْوَالِ رُوَاتِهَا دُونَ الأولِ) وَهُو المُتَوَاتِرُ، فَكُلُّهُ مَقْبُولٌ؛ لإِفَادَتِهِ القَطْعَ بِصِدْقِ مُخْبِرِهِ بِخِلافِ غَيرِهِ مِنْ أَخْبَارِ الآحَادِ. لَكِنْ إِنَّمَا وَجَبَ العَمَلُ بِالمَقْبُولِ منها؛ لأنَّها: - إمَّا أَنْ يُوجَدَ فيها أَصْلُ صِفَةِ القَبُولِ، وَهُو ثُبُوتُ صِدْقِ النَّاقِلِ. - أو أَصْلُ صِفَةِ الرَّدِّ، وَهُو ثُبُوتُ كَذِبِ النَّاقِلِ. - أو لا. فَالأولُ: يَغْلِبُ عَلَى الظّنِّ ثُبُوتُ صِدْقِ الخَبَرِ؛ لِثُبُوتِ صِدْقِ نَاقِلِهِ فَيُؤخَذُ بِهِ. وَالثَّانِي:يَغْلِبُ عَلَى الظّنِّ كَذِبُ الخَبَرِ؛ لِثُبُوتِ كَذِبِ نَاقِلِهِ فَيُطْرَحُ. وَالثَّالِثُ:إِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تُلْحِقُهُ بِأَحَدِ القِسْمَيْنِ التَحَقَ، وَإِلاَّ فَيُتَوَقَّفُ فيه. وَإِذَا
تُوُقِّفَ عَن العَمَلِ بِهِ صَارَ كَالمَرْدُودِ لاَ لِثُبُوتِ صفةِ
الرَّدِّ، بَلْ لِكَونِهِ لَمْ تُوجَدْ فيه صِفَةٌ تُوجِبُ القَبُولَ،
وَاللهُ أَعْلَمُ. (3) (وَقَدْ يَقَعُ فيها)أي: فِي أَخْبَارِ الآحَادِ المُنْقَسِمَةِ إِلَى مَشْهورٍ وَعَزِيزٍ وَغَرِيبٍ. (مَا يُفِيدُ العِلْمَ النَّظَرِيَّ بِالقَرَائِنِ عَلَى المُخْتَارِ) خِلافًا لِمَن أَبَى ذَلِكَ. وَالخِلاَفُ
فِي التَّحْقِيقِ لفظيٌّ؛ لأنَّ مَن جَوَّزَ إِطْلاقَ العِلْمِ قَيَّدَهُ
بِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا، وَهُوَ الحَاصلُ عَلى الاسْتِدلالِ، وَمَن أََبَى
الإِطْلاقَ خَصَّ لَفظَ العِلْمِ بِالمُتَواتِرِ، وَمَا عداهُ عندَهُ
كُلُّهُ ظَنِّيٌّ، لَكِنَّهُ لا يَنْفِي أَنَّ مَا احْتَفَّ بِالقَرَائِنِ
أَرْجَحُ مِمَّا خَلا عَنْهَا. وَالخَبَرُ المُحْتَفُّ بِالقَرائِنِ أَنْواعٌ: أ- منها:مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِما مِمَّا لَم يَبلُغْ حَدَّ المُتواترِ؛ فإنَّهُ احْتَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ، منها: - جَلالَتُهُما فِي هَذَا الشَّأنِ. - وَتَقدُّمُهُمَا فِي تَمْييزِ الصَّحِيحِ عَلَى غَيرِهِمَا. - وَتلقِّي العُلَماءِ كِتَابَيهِمَا بِالقَبُولِ. وَهَذَا
التّلَقِّي وَحْدَهُ أَقْوَى فِي إِفَادَةِ العِلْمِ مِن مُجَرَّدِ
كَثْرَةِ الطُّرقِ القَاصِرَةِ عَن التَّوَاتُرِ؛ إِلاَّ أَنَّ هَذَا
مُخْتَصٌّ بِمَا لَم يَنْقُدْهُ أَحَدٌ مِن الْحُفَّاظِ مِمَّا في
الكِتابَيْنَ، وَبِما لَم يَقَع التَّجَاذُبُ بَيْنَ مَدْلُولَيهِ مِمَّا
وَقَعَ فِي الكِتَابَيْنِ، حَيْثُ لا تَرْجِيحَ لاسْتِحَالةِ أَنْ يُفيدَ
المُتَنَاقِضانِ العِلْمَ بِصِدْقِهِمَا مِن غَيرِ تَرجِيحٍ لأَحَدِهِمَا
على الآخَرِ. ومَا عَدَا ذَلِكَ فَالإِجْمَاعُ حَاصِلٌ عَلَى تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ. فَإنْ قِيلَ:إِنَّما
اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ العَمَلِ بِهِ لا على صِحّتَه منَعْناهُ،
وَسَنَدُ المَنْعِ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ العَمَلِ بِكُلِّ
مَا صَحَّ وَلَو لَم يُخْرِجْهُ الشَّيْخَانِ؛ فَلَم يَبْقَ للصَّحِيحينِ
فِي هَذَا مَزِيَّةٌ. وَالإِجْماعُ حَاصلٌ على أَنَّ لَهُما مَزِيَّةً فيما يَرجِعُ إِلَى نَفْسِ الصِّحَّةِ. وَمِمَّن صَرَّحَ بِإفَادَةِ مَا خَرَّجَهُ الشّيْخَانِ العِلْمَ النَّظَرِيَّ: -الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِسْفرَايينيُّ. -وَمِن أَئِمَّةِ الحَدِيثِ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ، وَأَبُو الفَضْلِ بْنُ طَاهرٍ، وَغَيْرُهُمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: المَزِيَّةُ المَذْكُورَةُ كَونُ أَحَادِيثِهِمَا أََصَحَّ الصَّحِيحِ. ب- وَمنها:المَشْهورُ
إِذَا كَانَتْ لَهُ طُرقٌ مُتَبَايِنَةٌ سَالِمَةٌ مِن ضَعْفِ الرُّوَاةِ،
وَالعِلَلِ، وَمِمَّن صَرَّحَ بِإفَادَتِه العِلْمَ النَّظَرِيَّ
الأُسْتاذُ أَبُو مَنْصُورٍ البَغْدَادِيُّ، وَالأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ
بنُ فَوْرَكٍ وَغَيْرُهُمَا. ج- وَمنها:المُسَلْسَلُ بِالأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ المُتْقِنينَ، حَيثُ لا يَكُونُ غَريبًا. كَالحَدِيثِ
الذي يَرْوِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبلٍ مثلاً، ويُشَارِكُهُ فيه غَيرُه عَن
الشّافِعِيِّ، وَيُشَارِكُهُ فيه غَيْرُهُ عَن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ؛
فإنَّه يُفِيدُ العِلْمَ عِنْدَ سَامِعِهِ بِالاسْتدلالِ مِن جِهَةِ
جَلاَلةِ رُوَاتِهِ، وَأَنَّ فيهمْ مِن الصِّفاتِ اللائِقةِ المُوجِبَةِ
للقَبُولِ مَا يَقُومُ مَقامَ العَدَدِ الكَثِيرِ مِن غَيرِهِم. وَلا
يَتَشَكَّكُ مَن لَهُ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ بِالعِلْمِ وَأَخْبَارِ
النَّاسِ، أَنَّ مَالِكًا مَثلاً لَو شَافَهَهُ بِخَبَرٍ أنَّهُ صَادِقٌ
فيه؛ فَإذا انضَافَ إِليهِ مَن هُو فِي تِلكَ الدَّرجَةِ ازْدَادَ قُوَّةً
وبُعْدًا عَمَّا يُخْشَى عَلَيْهِ مِن السَّهْوِ. وهَذِهِ
الأَنْواعُ التي ذَكَرْنَاهَا لا يَحْصُلُ العِلْمُ بِصِدْقِ الخَبَرِ
منها؛ إلاَّ لِلعَالِمِ بِالحَديثِ المُتَبَحِّرِ فيه، العَارِفِ بِأَحوالِ
الرُّوَاةِ، المُطَّلِعِ عَلى العِلَلِ. وَكَونُ
غَيرِهِ لا يَحْصُلُ لَهُ العِلْمُ بصِدقِ ذَلِكَ؛ لِقُصورِهِ عَن
الأوصَافِ المَذْكُورَةِ لا يَنْفي حُصُولَ العِلْمِ لِلمُتَبَحِّرِ
المَذْكُورِ. وَمُحَصَّلُ الأَنْواعِ الثَّلاَثةِ التي ذَكَرْنَاها: أَنَّ الأولَ:يَخْتَصُّ بِالصَّحِيحَينِ. وَالثَّانِي:بِمَا لَه طُرقٌ مُتعدِّدَةٌ. وَالثَّالِثُ:بِما رَوَاهُ الأَئِمَّةُ. وَيُمكِنُ اجتِمَاعُ الثَّلاثَةِ في حَديثٍ وَاحِدٍ؛ فَلا يَبْعُدُ حِينئذٍ القَطْعُ بِصِدقِهِ، واللهُ أَعْلَمُ).
نظم الدرر لفضيلة الشيخ: إبراهيم اللاحم
قال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: ( (1) ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ هنا القسمَ الثالثَ مِن أَقْسَامِ خبرِ الآحادِ، وهو الغريبُ، وَعَرَّفَهُ، ثم فَصَلَ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بينَ كلامِهِ في الغريبِ، وبينَ كلامِهِ في العزيزِ بكلامٍ يَتَعَلَّقُ بمسألةِ تقسيمِ الأخبارِ مِن حيثُ القَبُولِ والردِّ، فقال: (إنَّ المتواترَ مقبولٌ كلُّهُ.
-وإِنَّ خبرَ الآحادِ في اللُّغَةِ: هو ما رواهُ شخصٌ واحدٌ.
-وأَنَّهُ في الاصْطِلاَحِ:ما لمْ يَبْلُغْ حدَّ التواترِ، وسُمِّيَ الجميعُ خبرَ آحادٍ وإنْ كان يَرْوِيهِ ثلاثةٌ أو أكثرُ -لأنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الخبرِ الذي يَرْوِيهِ الواحدُ، وقال: إنَّ أخبارَ الآحادِ تَنْقَسِمُ إلى مقبولٍ وإلى مردودٍ.
فالمقبولُ:ما ثبتَ صِدْقُ الناقلِ فيهِ، أو في أَقَلِّ الأحوالِ تَرَجَّحَ صِدْقُ الناقلِ فيهِ.
والمردودُ:هو ما ثبتَ كَذِبُ الناقلِ فيهِ، أو في أقلِّ الأحوالِ تَرَجَّحَ عدمُ صِدْقِ أو خَطَأُ الناقلِ فيهِ.
ثم ذَكَرَ نوعًا ثالثًا ليس من المقبولِ، لا جَزْمًا، ولا تَرْجِيحًا، ولا مِن المردودِ لا جَزْمًا ولا تَرْجِيحًا، وهو نَادِرٌ في الأحاديثِ، وهو ما تَتَكَافَأُ فيه الأدلةُ عندَ الباحثِ، فلا يُرَجِّحُ القَبُولَ، ولا يُرَجِّحُ الردَّ، فإنْ وَجَدْتَ فيه قرينةً تُلْحِقُهُ بأحدِ القِسْمَيْنِ الْتَحَقَ، وإلا فسبيلُهُ التوقُّفُ فيهِ؛ فإذا تُوُقِّفَ فيهِ فالحكمُ فيهِ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بالمردودِ، فكأَنَّهُ قال: إنَّمَا يُقْبَلُ ما ثَبَتَ صِدْقُ الناقلِ فيهِ، أو ما تَرَجَّحَ بِقَرَائِنَ، ولو لمْ نَجْزِمْ بِصِدْقِ الناقلِ فيهِ أو صَوَابِهِ.
وأُنَبِّهُ هُنَا عندَ قولِهِ: (وفيها -أي الآحادِ- المقبولُ، وهو ما يَجِبُ العملُ بهِ عندَ الجمهورِ) إلى أَنَّهُ سَيَأْتِي أنَّ المقبولَ مِن خبرِ الآحادِ يَنْقَسِمُ إلى:
- صحيحٍ وحَسَنٍ. وأنَّ الصحيحَ يَنْقَسِمُ إلى: - صحيحٍ لذاتِهِ، وصحيحٍ لغيرِهِ. وأنَّ الحسنَ يَنْقَسِمُ إلى: - حَسَنٍ لذاتِهِ، وحَسَنٍ لغيرِهِ. وَلَكِنَّ الحسنَ لغيرِهِ وإنْ أُدْرِجَ في أنواعِ المقبولِ فإنَّهُ يُتَوَقَّفُ في إطلاقِ وجوبِ العملِ بهِ كما سَيَأْتِي. وقولُهُ: (عندَ الجمهورِ) رَاجِعٌ لقَبُولِ خبرِ الآحادِ بصورةٍ مُجْمَلَةٍ، وذكْرُ الجمهورِ يُشِيرُ إلى الخلافِ في قَبُولِ خبرِ الواحدِ؛ إذ إنَّ المُعْتَزِلَةَ وبعضَ الطوائفِ لا تَقْبَلُ خبرَ الواحدِ. تَطَرَّقَ
ابنُ حَجَرٍ إلى قضيةٍ مِن القضايا التي لا ارْتِبَاطَ لَهَا ارْتِبَاطًا
قَوِيًّا بعلومِ الحديثِ، فالمُحَدِّثُ يقومُ بدراسةِ الإسنادِ وتصحيحِ
الحديثِ وتضعيفِهِ، وما يَتَعَلَّقُ بمثلِ هذه المسائلِ. لكنْ هذه المسألةُ: ما الذي يُفِيدُهُ خبرُ الآحادِ؟ فإنَّ
لها تَعَلُّقًا بِأُصُولِ الفقهِ، لهذا فهو يَنْقُلُ عن الأستاذِ ابنِ
فوركٍ، وأبي إِسْحَاقَ الاسْفَرَايِينِيِّ وغيرِهِمْ، وكلُّهُمْ مِن
المُتَكَلِّمِينَ والأَشَاعِرَةِ، لا مِن المُحَدِّثِينَ، فَيَبْحَثُونَ
هذه المسألةَ في أصولِ الفقهِ، وأحيانًا يَبْحَثُونَهَا في كُتُبِ الكلامِ. وخلاصةُ الكلامِ في هذه المسألةِ، وعنوانُهُا: ماذا يُفِيدُ خبرُ الواحدِ - وقد عَرَفْنَا أنَّ خبرَ الواحدِ في الاصطلاحِ: ما لم يبلغْ حَدَّ التواترِ-أنَّ في هذهِ المسألةِ لِلأَئِمَّةِ ثلاثةَ أقوالٍ ذَكَرَ الحافظُ في كلامِهِ مَضْمُونَهَا:الأولُ:قولُ ابنِ حَزْمٍ الظاهريِّ، ويُقَالُ: إنَّهُ رِوَايَةٌ عن أحمدَ: أنَّ خبرَ الواحدِ العَدْلِ
عن مثلِهِ يُفِيدُ العلمَ، ومعنى إفادةِ العلمِ أنَّنَا نَجْزِمُ جَزْمًا
أكيدًا بصحةِ هذا الخبرِ، ولا يكونُ هناكَ احتمالٌ آخَرُ بوقوعِ كَذِبٍ أو
خَطَأٍ فيهِ، ونَصَرَ هذا الرأيَّ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وأطالَ
البحثَ فيه في كتابِهِ (الصواعقُ المُرْسَلَةُ). ثانيًا:وهو في مُقَابِلِ القولِ الأولِ، وهو عن المتكلمينَ، وهو أنَّ خبرَ الواحدِ وإنْ
كَثُرَتْ طُرُقُهُ ما دامَ أَنَّهُ لم يَبْلُغْ حَدَّ التواترِ فهو
يُفِيدُ الظنَّ، ومعنى إفادةِ الظنِّ أنَّنَا نُصَدِّقُ بهِ، ولكنْ معَ
احتمالِ أنْ لا يكونَ صِدْقًا، أو أن يكونَ فيه خطأٌ، ونَصَرَهُ مِن
المُحَدِّثين النَّوَوِيُّ في كِتَابَيْهِ (الإرشادُ) و(التقريبُ) ، وَنَسَبَ هذا الكلامَ إلى المُحَقِّقِينَ، وفي هذه النسبةِ نَظَرٌ. ثالثًا:اخْتِيَارُ
ابنِ حَجَرٍ،وهو أنَّ خبرَ الواحدِ في أصلِهِ يُفِيدُ الظنَّ، ولكنْ قد
تَحِفُّ بهِ قرائنُ تَرْفَعُهُ إلى إفادةِ العلمِ اليَقِينِيِّ. وذَكَرَابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ثلاثَ قَرَائِنَ: القرينةُ الأولى:إخراجُ
الشَّيْخَيْنِ للحديثِ، وسَبَقَهُ إلى ذِكْرِ هذه القرينةِ ابنُ الصلاحِ،
وابنُ تَيْمِيَّةَ، وجماعةٌ نَقَلَ عنهم ابنُ تَيْمِيَّةَ هذا الرأيَ، وهو
أنَّ أحاديثَ البخاريِّ ومسلمٍ مقطوعٌ بِصِحَّتِهَا إلى النبيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واسْتَثْنَى ابنُ الصلاحِ أحاديثَ في (الصحِيحَيْنِ) انْتَقَدَهَا
الأَئِمَّةُ، وهذا معناهُ أنَّنَا لا نقطعُ بها، وليس معناهُ أنَّهَا
ليستْ صحيحةً، فإنْ رَجَّحَ قومٌ أحاديثَ مُتَكَلَّمٍ بها في
البخاريِّومسلمٍ إلا أنَّ كلامَ الآخَرِينَ فيها يكونُ قد أَثَّرَ في
مسألةِ إفادتِهَا اليقينَ. وأضافَ ابنُ حَجَرٍ على هذا الكلامِ فقال: (إنَّ هناكَ أحاديثَ في الكتابيْنِ يقعُ التجاذبُ بينَ مَدْلُولَيْهِمَا فلا يُمْكِنُ القطعُ بأنَّ كُلاًّ منهما صحيحٌ). مثالٌ:كَوْنُ
النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صلاةَ الكُسُوفِ
رَكْعَتَيْنِ، في كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ، وهذا مشهورٌ في (الصحِيحَيْنِ) أَنَّهُ كان يومَ ماتَ إبراهيمُ، ووَرَدَ كذلكَ في (صحيحُ مسلمٍ) أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى في كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلاَثًا، وفي بعضِ الرِّوَايَاتِ صلى أَرْبَعًا،
ووَرَدَ في بعضِ هذه الرواياتِ أنَّ هذا كان يومَ ماتَ إبراهيمُ، فَلاَ
بُدَّ أنْ يكونَ الصوابُ واحدًا، فَمِثْلُ هذه الأخبارِ التي يَقَعُ فيها
التجاذُبُ اسْتَثْنَاهَا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ مِن الأحاديثِ التي تُفِيدُ
القطعَ في الصحيحيْنِ). القرينةُ الثانيةُ:كثرةُ طُرُقِ الحديثِ، وسلامتُهُ مِن الشُّذُوذِ والعِلَلِ، وضعفِ الرجالِ. القرينةُ الثالثةُ:رِوَايَةُ أَئِمَّةٍ حُفَّاظٍ مَشْهُورِينَ للحديثِ، كأحمدَ والشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَتَسَلْسُلُ إسنادِهِ بهؤلاءِ وأمثالِهِمْ. لَكِنْ في نَظَرِي -واللهُ أَعْلَمُ - أنَّ هاتينِ القرينتَيْنِ تَعُودَانِ إلى القرينةِ الأولى؛
لأَنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَا مِن حَدِيثٍ تَعَدَّدَتْ
طُرُقُهُ، وَسَلِمَ مِن ضعفِ الرُّوَاةِ، ومِن الشُّذُوذِ والعِلَلِ؛ إلاَّ
وهو موجودٌ في البخاريِّ ومسلمٍ، فهذه القرينةُ دَخَلَتْ في الأولى، وكذلك القرينةُ الثالثةُ تدخلُ في الأُولى، ولهذا اقْتَصَرَ كثيرٌ مِن الحُفَّاظِ على إفادةِ خبرِ الواحدِ اليقينَ بما هو في (صَحِيحَيِ البخاريِّ ومسلمٍ) إلاَّ ما اسْتُثْنِيَ. بَقِيَ علينا أنْ نُعَقِّبَ بِأَمْرٍ: عَرَفْنَا أنَّ القولَ بأنَّ خبرَ الواحدِ عن
مثلِهِ يُفِيدُ العلمَ هو قولُ ابنِ حزمٍ، ويقالُ: إنَّهُ روايةٌ عن
أحمدَ، ولا بُدَّ أنْ نَتَحَقَّقَ مِن أَنَّهُ روايةٌ عن أحمدَ؛ لأنَّ هذا
الإطلاقَ فيه نَظَرٌ كبيرٌ، ويُلاحَظُ على أخبارِ الآحادِ أنَّهَا وإنْ
رَوَاهَا ثقاتٌ وصارَ الإسنادُ كلُّهُ ثقاتٍ، إلا أَنَّهُ رُبَّمَا
يَتَكَشَّفُ أنَّ أحدَ هؤلاءِ الثقاتِ قد غَلِطَ، وأيضًا نَرَى الأَئِمَّةَ
يُنَقِّبُونَ عن أحاديثِ الرواةِ وإنْ كانوا ثِقَاتٍ، وَنَرَى أيضًا
الأَئِمَّةَ ومنهم الصحابةُ يَأْتِيهِم الخبرُ رُبَّمَا عن صحابيٍّ،
فَيَحْصُلُ مِن بعضِهِمْ تَوَقُّفٌ فيهِ، فإطلاقُ أنَّ خبرَ الواحدِ يُفِيدُ العلمَ، هذا فيه نَظَرٌ. وَقَدْ طَبَّقَهُ ابنُ حزمٍ في كُتُبِهِ، ولاَ سِيَّمَا في (المُحَلَّى) ،
لَكِنَّهُ وَقَعَ في شَيْءٍ انْتُقِدَ فيهِ كثيرًا رَأْيُه هذا أنَّ خبرَ
الواحدِ يُفِيدُ العلمَ أَضَرَّ بهِ مِن جهةٍ أُخْرَى، وهو أَنَّهُ صارَ
يَنْظُرُ في رجالِ كُلِّ حديثٍ، فإذا كانوا ثقاتٍ وَإِسْنَادُهُ
مُتَّصِلاً؛ فَإِنَّهُ يَقْبَلُهُ مُطْلَقًا، وعلى هذا الأساسِ صارَ يقبلُ
الزياداتِ في الأحاديثِ، مما أَدَّى إلى نَسْفِ عِلَلِ المُحَدِّثِينَ
كُلِّهَا. فمثلاً:إذا صَحَّ الإسنادُ عندَهُ برفعِ الحديثِ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وخبرُ الواحدِ عندَهُ
يُفِيدُ العلمَ- فإنَّهُ يقبلُ الحديثَ، والمُحَدِّثُونَ يقولونَ في هذا
الحديثِ إنَّ القرائنَ دَلَّتْ على أنَّ هذا الثقةَ أَخْطَأَ فيهِ، وأنَّ
الحديثَ ليسَ مَرْفُوعًا، لكنَّ ابنَ حزمٍ لا يَلْتَفِتُ إلى هذا، وكذلكَ
زياداتُ الثقاتِ في المُتُونِ، فَإِنَّهُ يَقْبَلُهَا وإنْ كانتْ عندَ
المُحَدِّثِينَ مُعَلَّلَةً أو ضَعِيفَةً. فهذا
القولُ وإنْ كان قد قَوَّاهُ جماعةٌ ولكنَّهُ في نَظَرِي -واللهُ أعلمُ-
أنَّهُ على إطلاقِهِ فيه خَلَلٌ كَبِيرٌ، وَيُؤَدِّي الالتزامُ بهِ إلى ما
أَدَّى إليهِ صنيعُ ابنِ حزمٍ.وفي المُقَابِلِ فإنَّ مَنْ قالَ: إنَّ
أحاديثَ الآحادِ
كُلَّهَا تُفِيدُ الظنَّ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ وَمَرْجُوحٌ؛ لأَنَّ
المُحَدِّثَ مع خبرتِهِ في البحثِ في الأحاديثِ وجَمْعِ الطُّرُقِ وصفاتِ
الرُّوَاةِ وتراجِمِهِمْ يَصِلُ في كثيرٍ من الأحاديثِ إلى القَطْعِ الذي
لا يُخَامِرُهُ شَكٌّ أنَّ هذا الحديثَ صحيحٌ، وهذا هو إفادةُ العلْمِ. وحينئذٍ فالرَّاجحُ الذي تُؤَيِّدُهُ الأدلةُ والواقعُ هو القولُ الوَسَطُ الذي اختارَهُ ابنُ حَجَرٍ، وابنُ تيميَّةَ، وَغَيْرُهُمَا، وهو أنَّ خبرَ الواحدِ يُفِيدُ
الظنَّ في أصلِهِ، ولكنْ تَحِفُّ بهِ قرائنُ تَجْعَلُهُ يُفِيدُ العلمَ،
وهذا ما يُسَمِّيهِ بعضُ الأَئِمَّةِ: التواترَ الخاصَّ، وقد مَرَّ بِنَا
ذِكْرُهُ في مبحثِ (المتواترِ). وهذه القضيةُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ الخلافُ فيها لا ثَمَرَةَ لهُ كبيرةً، لاتِّفَاقِهِمْ على مُؤَدَّىً واحِدٍ، فَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ على أنَّ خبرَ الواحدِ وإنْ
أفادَ الظنَّ يجبُ العملُ بهِ في الأحكامِ، ويجبُ الأخذُ بهِ في العقائدِ،
وَإِنَّمَا الخلافُ مع المُتَكَلِّمُينَ الذين يقولونَ: إنَّ خبرَ الواحدِ يُفِيدُ
الظنَّ ما لمْ يتواترْ، وإذا أفادَ الظنَّ فلا نأخذُ بهِ في العقائدِ؛
لأنَّ العقائدَ يَلْزَمُ بها الجزم،ُ ونحوَ هذا الكلامِ الذي لا أساسَ لهُ،
ولهذا نَصَرَ النَّوَوِيُّ كَلاَمَ المُتَكَلِّمِينَ في أنَّ خبرَ الواحدِ يُفِيدُ
الظنَّ، وَلَكِنَّهُ عندما أَتَى إلى العقائدِ قال: إنَّهُ وإنْ أفادَ
الظنَّ فإنَّهُ يجبُ الأخذُ بهِ في العقائدِ؛ لأنَّنَا كُلِّفْنَا العملَ
بِغَلَبَةِ الظنِّ، سواءً في الأحكامِ أو العقائدِ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: سعد بن عبد الله الحميد
قال الشيخ سعد بن عبد الله الحميد: ( (1)- وأخبارُ الآحادِ
(الغريبُ - المشهورُ- العزيزُ) لا يَلْزَمُ أنْ تكونَ صَحيحةً أو ضَعيفةً، وإنما يَتَوَقَّفُ الأمْرُ على النظَرِ في حالِ سَنَدِها.
مسألةٌ:
الْمُتَوَاتِرُ يُفيدُ العِلْمَ، لكن اخْتَلَفَ العُلماءُ هل يُفيدُ العلْمَ الضَّرُورِيَّ، أو العلْمَ النَّظَرِيَّ؟ - العلمُ الضَّرُورِيُّ: هو
العلْمُ الذي لا يَحتاجُ البَحْثَ عن أحوالِ رُوَاتِهِ، بل الأمرُ
يَتَوَجَّبُ التصديقَ الجازِمَ دونَ البحْثِ عن رُواتِه، ودُونَ البَحْثِ
عن سَنَدِه مُطْلَقاً. - العلْمُ النَّظَرِيُّ: هو العلْمُ الذي يَتَوَقَّفُ على النظَرِ في حالِ السنَدِ. ماذا يُفِيدُ خَبَرُ الآحَادِ؟ أهْلُ السنَّةِ متى صَحَّ الْحَدِيثُ عندَهم تَلَقَّوْهُ بالقَبولِ والتسليمِ. (2)والحافِظُ ابنُ حَجَرٍ يَرَى أنَّ أحاديثَ الآحادِ قد تُفِيدُ العلْمَ النَّظَرِيَّ بالقَرائنِ. وهذه القرائنُ أنواعٌ: القَرينةُ الأُولَى: ما أَخْرَجَه البُخاريُّ ومسْلِمٌ في (صَحِيحَيْهِمَا) مِمَّا
لم يَبْلُغْ حدَّ التواتُرِ، ويُسْتَثْنَى مِن ذلكَ الأحاديثُ التي
انتُقِدَتْ مِن قِبَلِ بعضِ الْحُفَّاظِ، وبعْضِ عُلماءِ الْحَدِيثِ على
البُخاريِّ ومُسْلِمٍ؛ فإذا نُحِّيَتْ هذه الأحاديثُ على قِلَّتِهَا
بَقِيَت الأحاديثُ الكثيرةُ مِن (الصحيحينِ) ؛ فهذه الأحاديثُ تُفِيدُنا العلْمَ الذي تَحَصَّلَ لنا مِن خِلالِ النظَرِ، وقد احْتَفَّ بهذا الْحَدِيثِ قَرائنُ: 1-جَلاَلَتُهُمَا في هذا الشأنِ. 2-تَقَدُّمُهُمَا في تَمييزِ الصحيحِ على غَيْرِهما. 3- تَلَقِّي العُلماءِ كِتَابَيْهِمَا بالقَبولِ. القرينةُ الثانيةُ: أنْ يكونَ الْحَدِيثُ مَرْوِيًّا مِن طُرُقٍ كثيرةٍ، لكنَّه لم يَبْلُغْ حَدَّ التَّوَاتُرَِ، وهو ما يُسَمَّى (الْمَشْهُورَ). فهذه الطُّرُقُ إذا كانت صَحيحةً؛ فكُلُّ واحدةٍ منها
إذا انْضَمَّتْ لأُِخْرَى؛ تَحَصَّلَ لنا مِن جَرَّاءِ ذلك علْمًٌ
نَظَرِيٌّاً؛ فهذه الطُّرُقُ بِمَجموعِها كَوَّنَتْ في نفْسِ الناظِرِ فيها
عِلْماً يُسَمَّى عِلْماً نَظَرِيًّا. القرينةُ الثالثةُ: الْحَدِيثُ الْمُسَلْسَلُ بالأئِمَّةِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِيَن حيثُ لا يكونُ غريباً. قولُه: (لاَ يكونُ غَرِيباً) لا مَعْنى له إلاَّ أنْ يَقْصِدَ مَرْتَبَةً وَسَطاً بينَ هذه القَرينةِ والقَرينةِ السابِقَةِ. ويَقْصِدُ
الحافظُ ابنُ حَجَرٍ أنَّ الْحَدِيثَ قد لا يَصِلُ إلى دَرجةِ الشُّهْرَةِ
بحيثُ يَكونُ عَزيزاً؛ فيكونُ مَرْوِيًّا مِن طريقينِ مَثَلاً، لكنْ هذانِ
الطريقانِ يَرْوِيهِمَا الأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ. فمَثلاً:لو
وَرَدَ الْحَدِيثُ مِن طَريقينِ؛ طَريقٍ يَرْوِيهِ الإمامُ أحمدُ، عن
الشافعِيِّ، عن مالِكٍ، عن نَافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، وطُرُقٍ أُخْرَى
يَرْوِيهَا مَثَلاً عن ابنِ عمرَ،ابنُه سالِمٌ، وعن سالِمٍ، يَرْوِيهِ
عُبيدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وعن عُبيدِ اللهِ، يَرويهِ سُفيانُ الثَّوْرِيُّ،
وعن سُفيانَ الثَّوْرِيِّ، يَرويهِ وَكيعٌ؛ فالْحَدِيثُ عندَ الْحَافِظِ
قد أُضِيفَتْ قَرينةًٌ إلى مُجَرَّدِ الصحَّةِ، بحيثُ يُفِيدُ الْحَدِيثُ
العلْمَ النَّظَرِيَّ. القَرينةُ الرابعةُ: صِحَّةُ الإسنادِ؛ فإنَّ صِحَّةَ الإسنادِ تَجْعَلُنا نقولُ: إنَّ الْحَدِيثَ يُفِيدُنا العلْمَ النَّظَرِيَّ. مسألةٌ: فإن قيلَ:هل صحيحٌ أنَّ أبَا بكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهما لم يَكُونَا يَقْبَلاَنِ الْحَدِيثَ إلا بشَاهِدٍ؟ وأنَّ
عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه كان يَسْتَحْلِفُ عندَ سَماعِ الْحَدِيثِ مِن
مُحَدِّثِهِ أنه سَمِعَه مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ أَلَيْسَ في هذا طَعْنٌ في الصحابةِ وعَدَمُ الوُثوقِ بهم؟ فأقولُ:
هذه المسألةُ تَحتاجُ إلى تَفصيلٍ قليلٍ؛ فهذه الأمورُ مِن الأَدِلَّةِ
التي يَسْتَدِلُّ بها مَن لا يَرَى حُجِّيَّةَ أحاديثِ الآحادِ. فالجوابُ
بكُلِّ سُهولةٍ أنْ يُقَالَ له: أنتَ الآنَ خَلَّطْتَ في المسألةِ؛ فهَلْ
إذا جاءَكَ الْحَدِيثُ مِن طَريقينِ، كما تَزْعُمُ الآنَ عن أبي بَكْرٍ
وعمرَ وعن عَلِيٍّ؟ أو جاءَكَ أحَدٌ واسْتَحْلَفْتَهُ، أو وَجَدْتَ أنه حُلِّفَ فحَلَفَ على ذلك الْحَدِيثِ يَنْتَهي الأمرُ وتَقْبَلُهُ؟ فتَجِدُ
أنه يَقولُ: لا؛ لأنَّ الْحَدِيثَ ما يَزالُ عندَه بتلك الصُّورةِ حديثَ
آحَادٍ، لكنه كالذي يَصْطَادُ في الماءِ العَكِرِ؛ فهو يُريدُ مِن هذه
الأمورِ أنْ يَطْعَنَ فقط، ولا يُريدُ أنْ يَسْتَدِلَّ بها. فنقولُ:إمَّا أنْ تَأْخُذَ هذه الأحاديثَ برُمَّتِهَا، وإمَّا أنْ تَدَعَهَا برُمَّتِهَا؛ فهي لَيْسَتْ مِن اخْتِصَاصِكَ. أمَّا الجوابُ عن هذه الأحاديثِ على التفصيلِ: فنقولُ: -حديثُ: أبي
بكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنه لم يَقْبَلْ حديثَ الْمُغِيرَةِ ابنِ شُعبةَ،
في تَوريثِ الْجَدَّةِ إلاَّ بعْدَ أنْ شَهِدَ مَعه مُحَمَّدُ بنُ
مَسْلَمَةَ الأنصاريُّ؛ فهذا الْحَدِيثُ حديثٌ ضَعيفٌ. -وأمَّا
حديثُ:عمرَ بنِ الْخَطَّابِ، الذي طَلَبَ فيه مِن أبي مُوسى
الأَشْعَرِيِّ، أنْ يَأتيَهُ بشَاهِدٍ يَشهَدُ معه في حديثِ
الاسْتِئْذَانِ؛ فعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه كانَ وَالِياً، وكانَ يُريدُ أنْ
يُؤَكِّدَ على الصحابةِ، وهذا مَنْهَجٌ لهم مَعروفٌ، وهو أنهم
يَتَحَرَّزُونَ في رِوايةِ الْحَدِيثِ عن الرسولِ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّمَ. وأيضاً هو قد تَعَجَّبَ عَجَباً تامًّا؛ إذ
كيف أنه كان مُلازِماً للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفاتَتْهُ هذه
السُّنَّةُ العَمَلِيَّةُ طِيلَةَ السنواتِ ولم يَحْفَظْهَا فأَرَادَ أنْ
يَتَوَثَّقَ؟! والدليلُأنه في نِهايةِ الْحَدِيثِ قالَ لأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنه: (إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ). وإذا
نَظَرْنَا إلى عمرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه؛ فَنَجِدُ أنَّ هذا
ليس مَنْهَجاً مَوجوداً عندَه في جميعِ الأحيانِ؛ فهو قد قَبِلَ حديثَ عبدِ
الرحمنِ بنِ عَوْفٍ فقط في الطاعونِ -وهو فَرْدٌ- ولَمْْ يَطْلُبُْ منه
شاهدًا ولا بَيِّنَةًَ. - وقَبِلَ حديثاً أيضاً في مَسألةِ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ على الْمَجُوسِ، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قالَ: ((سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ)) ، ولم يأتِ بهذا الْحَدِيثِ إلا عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ. وهكذا في أحاديثَ كثيرةٍ فيها أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قَبِلَ أحاديثَ بعضِ الصحابةِ، ولم يَسْتَحْلِفْهم، ولم يَطْلُبْ منهم البَيِّنَةَ. وأمَّا حديثُ: عليِّ بنِ أبي طالِبٍ أنه كان يَسْتَحْلِفُ؛ فهذا الْحَدِيثُ بنفْسِه حُجَّةٌ على مَن ذَكَرَه؛ لأنه قالَ: (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكرٍ)، ولم يَقُل: (اسْتَحْلَفْتُ أَبَا بَكْرٍ). في نفْسِ الْحَدِيثِ. وأيضاً الْحَدِيثُ في حَدِّ ذاتِهِ ضَعيفٌ، ويَدُلُّ على ضَعْفِه أنَّ عليَّ بنَ أبي طالِبٍ كان يَقْبَلُ حديثَ الواحِدِ؛ ففي حديثِ: الْمَذْيِ يقولُ: ((كُنْتُ
امْرَءًا مَذَّاءً؛ فَاسْتَحْيَيْتُ أنْ أَسألَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّمَ عن حُكْمِ الْمَذْيِ؛ لِمَكانِ ابْنَتِهِ مِنِّي...))إلى أنْ
قالَ: ((فَأَرْسَلْتُ الْمِقْدَادَ ابنَ الأسودِ، فسأَلَهَ فأَخْبَرَه بأنْ
أَغْسِلَ فَرْجِي وَأَنْضَِحَ)) إذَنْ قَبِلَ حديثَ الْمِقدادِ ابنِ الأَسْوَدِ، ولم يَسْتَحْلِفْهُ، ولم يُشَكِّكْ إطْلاَقاً في قَبولِ خَبَرِهِ. مسألةٌ: هل يُمْكِنُ أنْ نَقولَ: إنَّ حديثَ الآحادِ يُمْكِنُ أن لا يُفِيدَنَا إلاَّ الظنَّ؟ نَقولُ:
نعمْ، يُمْكِنُ أنْ يَأْتِيَ هذا في بعْضِ الأحوالِ الْمُتَنَازَعِ فيها؛
فإذا جاءنا الْحَدِيثُ مِن طَريقٍ واحدٍ، وفي بعضِ رُواتِه كلامٌ، ولكنَّ
هذا الكلامَ لا يُنْزِلُ حديثَه على دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وهو مَن خَفَّ
ضَبْطُهُ. وكذلك:لو جَاءنا مِن طَريقينِ كِلاهما ضَعٌيفٌ، لكن ارْتَقَى إلى دَرَجَةِ الحسَنِ لغَيْرِهِ. فهذه
الطُّرُقُ الْحُكْمُ عليها بالقَبولِ عندَ فِئَةٍ مِن العُلماءِ دُونَ
الْفِئَةِ الأُخْرَى؛ فهذا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنه لا يُفيدُ إلاَّ
الظنَّ. وقد يُفيدُ الظنَّ عندَ الناظِرِ فيه الذي حَسَّنَ الْحَدِيثَ لِذَاتِهِ أو لِغَيْرِهِ.
العناصر
تسمية الأقسام السابقة بالآحاد سوى المتواتر:
بيان معنى(الآحاد)
تعريف (الآحاد) لغةً
تعريف (الآحاد) اصطلاحًا
ما يفيده خبر الآحاد:
الخلاف في مسألة ما يفيده خبر الآحاد
القول الراجح في مسألة ما يفيده خبر الآحاد
ثمرة الخلاف في هذه المسألة
إطلاق القول بأن خبر الآحاد يفيد العلم مطلقاً فيه نظر
القول الراجح في إفادة خبر الواحد للعلم
مسألة: حجية خبر الآحاد
شبهات من أنكر حجية خبر الآحاد
الرد على من أنكر حجية خبر الآحاد
أقسام خبر الآحاد:
القسم الأول: المقبول، وهو الحديث الصحيح والحسن
تعريف الحديث المقبول
حكم العمل بالحديث المقبول
القسم الثاني: المردود، وهو الحديث الضعيف والموضوع
تعريف الحديث المردود
شروط إفادة خبر الآحاد العلم النظري
أنواع الخبر المحتف بالقرائن:
النوع الأول: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، مما لم يبلغ حد التواتر
ميزات ما أخرجه الشيخان:
جلالتهما في هذا الشأن
تقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما
تلقي العلماء لكتابيهما بالقبول
ذكر من صرح بإفادة ما أخرجه الشيخان العلم النظري
النوع الثاني: المشهور:
ذكر من صرح بإفادة المشهور العلم النظري
النوع الثالث: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين:
سبب تسمية هذا النوع بالحديث المسلسل
مثال على الحديث المسلسل
فائدة: قد تجتمع هذه الأنواع الثلاثة في حديث واحد
الأسئلة س1: بين معنى (الآحاد) لغة واصطلاحاً.
س2: بين ما يفيده خبر الآحاد.
س3: هل خبر الآحاد حجة؟
س4: اذكر أقسام خبر الآحاد من حيث القبول والرد.
س5: بين ما تتميز به أحاديث الآحاد التي أخرجها الشيخان.