الدروس
course cover
تفاوت رتب الحديث الصحيح
25 Oct 2008
25 Oct 2008

6067

0

0

course cover
شرح نخبة الفكر

القسم الأول

تفاوت رتب الحديث الصحيح
25 Oct 2008
25 Oct 2008

25 Oct 2008

6067

0

0


0

0

0

0

0

تفاوت رتب الحديث الصحيح

قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (وَخَبَرُ الآحَادِ: بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ مُتَّصِلَ السَّنَدِ غَيْرَ

مُعَلَّلٍ وَلاَ شَاذٍّ؛ هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ.

وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ بِتَفَاوُتِ هَذِهِ الأَوْصَافِ.

وَمَنْ ثَمَّ قُدِّمَ

(صَحِيحُ البُخَارِيِّ).

ثُمَّ مُسْلِمٌ).

- ثُمَّ شَرْطُهُمَا).

هيئة الإشراف

#2

27 Oct 2008

نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني

قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): ( (1) (وَتَتَفَاوتُ رُتَبُهُ)

أي: الصَّحِيحُ (بِـ) سَبَبِ (تَفَاوُتِ هَذِهِ الأوصَافِ) المُقْتَضِيَةِ للتَّصْحِيحِ فِي القُوَّةِ، فَإنَّها لَمَّا كَانتْ مُفِيدةً لِغَلَبَةِ الظّنِّ الذي عَلَيهِ مَدَارُ الصِّحَّةِ، اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ لَهَا دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا فَوقَ بَعْضٍ بِحَسَبِ الأُمُورِ المُقَوِّيَةِ، وَإذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا يَكُونُ رُوَاتُهُ في الدَّرَجَةِ العُلْيَا مِن العَدَالَةِ، وَالضَبْطِ، وَسَائرِ الصِّفَاتِ التي تُوجِبُ التَّرْجِيحَ، كَانَ أَصَحَّ مِمَّا دُونَهُ.


فَمِن المَرْتَبَةِ العُلْيا فِي ذَلِكَ:

مَا أََطْلَقَ عَلَيهِ بَعْضُ الأَئِمَّةِ أنَّهُ أَصَحُّ الأَسَانِيدِ:

كَالزُّهْرِيِّ، عَن سَالمِ بْنِ عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَن أَبِيهِ، وَكَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَن عَبِيدَةَ بْنِ عَمْرٍو السَّلْمَانِيِّ، عَن عَلِيٍّ.

وَكَإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَن عَلْقَمةَ، عَن ابْنِ مَسعودٍ.

-وَدُونَهَا فِي الرُّتْبَةِ كَرِوَايةِ بُرَيْدِ بْنِ عَبدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَن جَدِّهِ، عَن أَبِيهِ أَبِي مُوسى.

وَكَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ،عَن ثَابتٍ، عَن أَنَسٍ.

وَدُونَها فِي الرُّتْبَةِ

كَسُهَيلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَن أَبِيهِ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَكَالعَلاَءِ بْنِ عَبدِ الرّحْمَنِ،

عَن أَبِيهِ، عَن أَبِي هُرَيرَةَ.

فَإِنَّ الجَمِيعَ يَشْمَلُهُم اسمُ

(العَدَالةِ وَالضَّبطِ) ، إِلاَّ أَنَّ لِلمَرْتَبةِ الأولَى مِن الصِّفَاتِ المُرَجِّحَةِ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ رِوَايتِهِم عَلَى التي تَلِيهَا، وَفِي التي تَلِيهَا مِن قُوَّةِ الضَبْطِ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَهَا عَلَى الثَّالِثَةِ، وَهِي مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايةِ مَن يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حَسَنًا كَمُحمَّدِ بْنِ إِسحاقَ، عَن عَاصمِ بْنِ عُمَرَ، عَن جَابِرٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ عَن أَبِيهِ، عَن جَدِّهِ، وَقِسْ عَلى هَذِهِ المَرَاتِبِ مَا يُشْبِهُهَا.

وَالمَرْتَبَةُ الأولى: هِيَ التي أَطْلَقَ عَلَيْهَا بَعْضُ الأَئِمَّةِ أَنَّهَا أَصَحُّ الأَسَانِيدِ، وَالمُعْتَمَدُ عَدمُ الإطْلاقِ لِتَرْجَمَةٍ مُعَيَّنَةٍ منها.

نَعَمْ يُسْتَفَادُ مِن مَجْمُوعِ مَا أَطْلَقَ الأئِمَّةُ عَلَيهِ ذَلِكَ أَرْجَحِيَّتُهُ عَلَى مَا لَم يُطلِقُوه.

ويَلْتَحِقُ بِهَذَا التّفَاضُلِ:

مَا اتَّفَقَ الشّيْخَانِ عَلَى تَخْريجِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا.

- وَمَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ.

لاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ بَعْدَهُمَا عَلى تَلَقِّي كِتَابَيْهِمَا بِالقَبُولِ، وَاختِلاَفِ بَعْضِهْم على أيِّهمِا أَرْجَحُ.

فَمَا اتَّفَقَا عَلَيهِ أَرْجَحُ مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ مِمَّا لَم يَتَّفِقَا عَلَيهِ.

- وَقَدْ صَرَّحَ الجُمْهُورُ بِتَقدِيمِ (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) في الصِّحَّةِ، وَلمْ يُوجَدْ عَن أَحَدٍ التَّصْرِيحُ بِنَقِيضِهِ.

وأَمَّا مَا نُقِلَ عَن أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ، أنَّه قَالَ: (مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ)؛ فَلَم يُصَرِّحْ بِكَونِهِ أََصَحَّ مِن (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) ؛ لأنَّه إِنَّمَا نَفَى وُجُودَ كِتَابٍ أَصَحَّ مِن كِتابِ مُسْلمٍ؛ إِذ المَنْفِيُّ إِنَّمَا هُو مَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ (أَفْعَلَ) مِن زِيادَةِ صِحَّةٍ فِي كِتَابٍ شَارَكَ كَتِابَ مُسْلِمٍ، فِي الصِّحَّةِ يَمْتَازُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَيهِ وَلَم يَنْفِ المُسَاواةَ.

- وَكَذَلِكَ:مَا نُقِلَ عَن بَعْضِ المَغَارِبَةِ أنَّه فَضَّلَ (صَحِيحَ مُسْلِمٍ) عَلَى (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) ، فَذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلى حُسْنِ السِّياقِ، وَجَوْدَةِ الوَضْعِ وَالتَّرْتِيبِ، وَلَم يُفْصِحْ أَحَدٌ منهمْ بِأنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الأَصَحِّيَّةِ، وَلَو أَفْصَحُوا لَرَدَّهُ عَلَيهِمْ شَاهِدُ الوُجُودِ.

- فَالصِّفَاتُ التي تَدُورُ عَلَيْهَا الصِّحَةُ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، أَتَمُّ منها فِي كِتَابِ مُسْلِم وَأَشَدُّ، وَشرطُه فيها أَقْوى وَأَسَدُّ.

- أَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيثُ:الاتِّصَالُ، فَلِاشْتِرَاطِهِ أَنْ يَكُونَ الرَّاوي قَد ثَبَتَ لَهُ لِقاءُ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَلَو مَرَّةً.

- وَاكْتَفَى مُسْلِمٌ بِمُطْلَقِ المُعَاصَرَةِ.

- وَأَلْزَمَ الْبُخَارِيَّ بِأَنَّهُ يَحتاجُ إلَى أَن لا يَقْبَلَ العَنْعَنَةَ أَصلًا.

وَما أَلْزَمَهُ بِهِ لَيسَ بِلاَزمٍ؛ لأنَّ الرَّاوي إِذَا ثَبَتَ لَهُ اللِّقَاءُ مَرَّةً لا يَجْرِي فِي رِوَاياتِهِ احْتِمَالُ أَنْ لا يَكُونَ سَمِعَ منه؛ لأنَّه يَلْزَمُ مِنْ جَرَيَانِهِ أَنْ يَكُونَ مُدَلِّسًا، وَالمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي غَيْرِ المُدَلِّسِ.

-وأَمَّا رُجْحَانُه مِن حَيثُ: العَدَالَةُ وَالضَّبْطُ؛ فَلأنَّ الرِّجَالَ الذينَ تُكُلِّمَ فيهم مِن رِجَالِ مُسْلِمٍ،أَكثرُ عَدَدًا مِن الرِّجَالِ الذينَ تُكُلِّمَ فيهم مِن رِجَالِ الْبُخَارِيِّ.

مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُكْثِرْ مِن إِخْرَاجِ حَدِيثِهِم، بَلْ غَالِبُهُمْ مِن شُيوخِه الذينَ أَخَذَ عَنْهُم ومَارَسَ حَدِيثَهُم، بِخِلافِ مُسْلِمٍ فِي الأَمْرَينِ.

-وأَمَّا رُجْحَانُهُ مِن حَيْثُ:

عَدَمُ الشّذُوذِ وَالإِعْلاَلِ؛ فَلأنَّ مَا انْتُقِدَ عَلَى الْبُخَارِيِّ مِن الأَحَادِيثِ أَقَلُّ عَدَدًا مِمَّا انْتُقِدَ عَلَى مُسْلِمٍ.

- هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ كَانَ أَجَلَّ مِن مُسْلِمٍ فِي العُلُومِ، وَأَعْرَفَ بِصِنَاعَةِ الحَدِيثِ منه.

- وَأَنَّ مُسْلِمًا تِلْمِيذُهُ وَخِرِّيجُهُ، وَلَم يَزَلْ يَسْتَفِيدُ منه وَيَتَتَبَّعُ آثَارَهُ حَتَّى قال الدَّارَقُطْنِيُّ: (لَولا الْبُخَارِيُّ لَمَا راحَ مُسلِمٌ وَلا جَاءَ).

(2) (وَمِنْ ثَمَّ) أي: مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ وَهِي أَرْجَحِيَّةُ شَرْطِ

الْبُخَارِيِّ عَلَى غَيْرِهِ.

(3) (قُدِّمَ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ)

عَلَى غَيْرِهِ مِن الكُتُبِ المُصَنَّفَةِ في الحَدِيثِ.

(4) (ثُمَّ) (صَحِيحُ مُسْلِمٍ) لِمُشَارَكَتهِ لِلبُخَارِيِّ، فِي اتِّفَاقِ العُلَمَاءِ عَلَى تَلَقِّي كِتَابِهِ بِالقَبُولِ أيضًا، سِوى مَا عُلِّلَ.

(5) (ثُمَّ) يُقَدَّمُ فِي الأَرْجَحِيَّةِ مِن حَيثُ الأَصَحِّيَّةُ مَا وافَقَهُ (شَرْطُهُمَا) لأنَّ المُرادَ بِهِ رُواتُهُمَا مَعَ بَاقِي شُرُوطِ الصَّحِيحِ، وَرُوَاتُهُمَا قَدْ حَصَلَ الاتِّفَاقُ عَلَى القَولِ بِتَعْدِيلِهِم بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، فَهُم مُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي رِوَاياتِهِم، وَهَذَا أَصْلٌ لا يُخْرَجُ عَنْهُ إلاَّ بِدَلِيلٍٍ.

فَإنْ كَانَ الخَبَرُ عَلَى شَرْطِهِمَا مَعًا كَانَ دُونَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أو مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى شَرْطِ أَحَدِهِمَا؛ فَيُقَدَّمُ شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَحْدَهُ، تَبَعًا لأَصْلِ كُلٍّ منهمَا.

فَخَرَجَ لَنَا مِن هَذَا سِتَّةُ أَقْسَامٍ تَتَفَاوتُ دَرَجَاتُهَا فِي الصِّحَّةِ، وَثَمَّةَ قِسْمٌ سَابِعٌ -وَهُو مَا لَيسَ عَلَى شَرْطِهِمَا اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا.

وَهَذَا التّفَاوتُ إِنَّمَا هُو بِالنَّظَرِ إِلَى الحَيْثِيَّةِ المَذْكُورَةِ.

أَمَّا لَو رُجِّحَ قِسْمٌ عَلَى مَا فَوقَهُ بِأُمُورٍ أُخْرَى تَقْتَضِي التَّرْجِيحَ؛ فإنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى مَا فَوقَهُ، إِذْ قَدْ يَعْرِضُ للمُفَوَّقِ مَا يَجْعَلُه فَائِقًا، كَمَا لَوْ كَانَ الحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مثلًا وَهُوَ مَشْهُورٌ قَاصِرٌ عَلَى دَرَجَةِ التَّوَاتُرِ، لَكِنْ حَفَّتْهُ قَرِينَةٌ صَارَ بِها يُفِيدُ العِلْمَ؛ فإنَّه يُقَدَّمُ عَلَى الحَدِيثِ الذي يُخْرِجُهُ الْبُخَارِيُّ إِذَا كَان فَرْدًا مُطْلَقًا، وَكَمَا لَوْ كَانَ الحَدِيثُ الذي لَمْ يُخْرِجَاهُ مِن تَرْجَمَةٍ وُصِفَتْ بِكَوْنِهَا أَصَحَّ الأَسَانِيدِ كَمَالِكٍ، عَن نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ؛ فإنَّه يُقَدَّمُ عَلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا مَثَلًا، لا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي إِسْنَادِهِ مَن فيه مَقَالٌ).

هيئة الإشراف

#3

27 Oct 2008

نظم الدرر لفضيلة الشيخ: إبراهيم اللاحم

قال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: (مَرَاتِبُ الصحيحِ بالنَّظَرِ إلى الإسنادِ:

(1) والحديثُ الصحيحُ ليس على مَرْتَبَةٍ واحدةٍ، وإنْ شَمَلَ الجميعَ اسمُ الصحيحِ، وقبلَ أنْ يَذْكُرَ

الحافظُ مَرَاتِبَ الصحيحِ ذَكَرَ سببَ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الصحيحِ، فقال: إنَّ الرُّوَاةَ وإنْ اتَّفَقُوا جميعًا في العدالةِ والضَبْطِ؛ إلاَّ أنَّ تَوَافُرَ هذينِ الشرطَيْنِ يَخْتَلِفُ من راوٍ لآخَرَ، فالراوي يَظَلُّ على تمامِ الضبْطِ، ولكنْ مع وجودِ أَغْلاَطٍ في حديثِهِ؛ إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يُشْتَرَطَ في الراوي أَلاَّ يَغْلَطَ أبدًا، أو لا يُعْرَفَ عنهُ الخطأُ.

والرُّوَاةُ الذين يَنْقُلُ عنهم العلماءُ أنَّهُمْ لا يَكَادُ يُعْرَفُ عنهم خطأٌ يُعَدُّونَ تقريبًا على الأصابعِ، ومع هذا فَلَهُمْ أخطاءٌ قليلةٌ جدًّا، فلو اشْتُرِطَ ألاَّ يُخْطِئَ الراوي أبدًا ما سَلِمَ من الرُّوَاةِ إلا القليلُ جِدًّا، أو ما سَلِمَ أحدٌ، وهكذا يُقَالُ بالنسبةِ للعدالةِ؛ فالرجلُ الذي اتُّفِقَ على عدالتِهِ واستفاضَتْ حتى يَعْرِفَهُ الخاصُّ والعامُّ مثلَ الأَئِمَّةِ الأربعةِ، وشُعْبَةَ، وسفيانَ الثوْرِيَّ، وسفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، فهؤلاءِ شُهْرَتُهُمْ طَبَّقَت الآفاقَ؛ إلاَّ أنَّ هناكَ من العلماءِ مَن ليسوا كذلكَ، وهناكَ مَن هو دونَ ذلكَ أيضًا مِمَّن قد يُتَكَلَّمُ في عدالتِهِ وإنْ لمْ يَثْبُتْ فيه شيءٌ، فلا يُجْعَلُ هذا في مَرْتَبَةِ مَن اتَّفَقَ الجميعُ على عدالتِهِ.

كذلكَ: يُمْكِنُ أنْ يُقَالَ هذا في اتِّصَالِ الإسنادِ، فهناكَ أسانيدُ لم يَخْتَلِف الأَئِمَّةُ على أنَّها مُتَّصِلَةٌ، وهناكَ أسانيدُ صُحِّحَتْ وأُخْرِجَتْ في (الصحيحيْنِ) أو في أحدِهِما وصَحَّحَهُمَا الأَئِمَّةُ، ولكنْ في سماعِ بعضِ الرُّوَاةِ مِن بعضٍ كلامٌ للأَئِمَّةِ، حتى وإنْ رُجِّحَ أنَّ فلانًا سَمِعَ مِن فلانٍ، وصُحِّحَ الحديثُ، وأُخْرِجَ في (الصحيحَيْنِ)؛ فلا يكونُ بِمَنْزِلَةِ ما اتَّفَقَ الأَئِمَّةُ على سماعِهِ واتصالِ الإسنادِ فيهِ، مثلاً: هناكَ صحابيٌّ اسْمُهُ عمرُو بنُ تَغْلِبَ، له أحاديثُ في البخاريِّ مِن روايةِ الحسنِ عنهُ، وجمهورُ الأَئِمَّةِ على أَنَّهُ قد سَمِعَ منهُ.

لكنَّ ابنَ المَدِينِيِّ وهو أَحَدُ الأَئِمَّةِ المُعْتَبَرِينَ في الجَرْحِ والتعديلِ يقولُ: (إنَّهُ لم يَسْمَعْ منهُ، فَمِثْلُ هذا الإسنادِ الذي وَقَعَ فيه الكلامُ في الاتصالِ لا يكونُ بِمَثَابَةِ ما اتُّفِقَ على أَنَّهُ مُتَّصِلٌ).

فَيَظْهَرُ من هذا الكلامِ أنَّ الحديثَ الصحيحَ وإنْ صُحِّحَ، وإنْ شَمِلَ الجميعَ اسمُ الصحيحِ فإنَّ له مَرَاتِبَ يَتَفَاوَتُ فيها، والفائدةُ من كُلِّ هذا:هو الترجيحُ عندَ الاختلافِ، ومعروفٌ أَنَّهُ قد وَرَدَ من الأحاديثِ ما يكونُ بينها اختلافٌ: إِمَّا اختلافٌ حقيقيٌّ بحيثُ يَلْزَمُ من قَبُولِ أحدِ النَّصَّيْنِ وَقْفُ قَبُولِ الآخَرِ، أو اختلافٌ ظاهرٌ وإنْ كانَ في الحقيقةِ ليس اختلافًا، فيُسْتَفَادُ من ذِكْرِ مراتبِ الحديثِ الصحيحِ فِي قضيَّةِ الترجيحِ فيما بَيْنَهَا لو ظَهَرَ الاختلافُ، والمراتبُ التي ذَكَرَهَا الحافظُ ويَذْكُرُهَا العلماءُ هي بالنظرِ إلى كُلِّ إسنادٍ لوحدِهِ، يعني: مُرَاعَاةَ الشروطِ الثلاثةِ للحديثِ الصحيحِ، وأمَّا الشُّذُوذُ والعِلَّةُ فلا يُمْكِنُ على وَجْهِ التحديدِ وَضْعُ مراتبَ بهذا الاعتبارِ.ذَكَرَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ ثلاثَ مراتبَ من مراتبِ الحديثِ الصحيحِ:

المرتبةُ الأولى:

ما قِيلَ فيه إنَّهُ أَصَحُّ الأسانيدِ، وَعَرَفْنَا أنَّ العِرَاقِيَّ عَدَّهَا ستةَ عَشَرَ إسنادًا، وَأَوْصَلَهَا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ بِحَسَبِ ما وَقَفَ عليهِ إلى عشرينَ إسنادًا، وقال: هذه الأسانيدُ تُعْتَبَرُ في الذُّرْوَةِ وفي المَرْتَبَةِ الأولى مِن الحديثِ الصحيحِ.

المَرْتَبَةُ الثانيةُ:

ذَكَرَهَا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ،

ويَظْهَرُ لي أنَّ قَبْلَهَا مَرْتَبَةً لَمْ يُشِرْ إليها على الرَّغْمِ مِن أنَّهَا أكثرُ وجودًا مِن المَرْتَبَةِ التي ذَكَرَهَا، فهو مَثَّلَ للمَرْتَبَةِ الثانيةِ بِبُرَيْدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبي بُرْدَةَ، عن جَدِّهِأبي بُرْدَةَ، عن أبيهِ أبي موسى الأَشْعَرِيِّ، وبحمادِ بنِ سَلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ.

والإسنادُ الأوَّلُ:

نُسْخَةٌ اتَّفَقَ عليها الشيخانِ، وفي بُرَيْدِ بنِ عبدِ اللهِ كلامٌ يَسِيرٌ لبعضِ الأَئِمَّةِ.

والثاني:

نُسْخَةٌ مِن أَفْرَادِ مسلمٍ، ولمْ يُخَرِّج البخاريُّ منها شيئًا، والسببُ في ذلك ما يوجدُ في هذينِ الإسنادينِ مِن كلامٍ، وإنْ كان الراجحُ فيهما هو تَصْحِيحَهِمَا.

أَقُولُ: هذه المَرْتَبَةُ الثانيةُ قبلَها مَرْتَبَةٌ،

وهي أنْ يُقَالَ: إنَّ هناكَ أسانيدَ لمْ يَقُلْ فيها أحدٌ من الأَئِمَّةِ: إنَّهَا مِن أَصَحِّ الأسانيدِ، ومع هذا فَرُوَاتُهَا في الذُّرْوَةِ مِن العدالةِ والضَّبْطِ، ولم يُتَكَلَّمْ فيهم، ولا في اتصالِ الإسنادِ، إلاَّ أنَّهَا لمْ يَقُلْ فيها أحدٌ من الأَئِمَّةِ: إنَّهَا أَصَحُّ الأسانيدِ، مثلَ:شُعْبَةَ، عن قَتَادَةَ، عن أنسٍ، والزُّهْرِيِّ، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ، ومثلَ هذين أسانيدُ أُخْرِجَ منها في (الصحيحَيْنِ)، واتَّفَقَ الأَئِمَّةُ على أنَّهَا صحيحةٌ، لكنْ لمْ يَقُلْ عنها أحدٌ من الأَئِمَّةِ: إنَّهَا أَصَحُّ الأسانيدِ، فَأَرَى - واللهُ أعلمُ - أنَّ هذه المَرْتَبَةَ تَصْلُحُ أنْ تكونَ المَرْتَبَةَ الثانيةَ.

المَرْتَبَةُ الثالثةُ: هي التي يَذْكُرُهَا الحافظُ على أنَّهَا المَرْتَبَةُ الثانيةُ، وهي ما تُكُلِّمَ في بعضِ رُوَاتِهَا بكلامٍ، الراجحُ جِدًّا فيها خلافُهُ، مثلَ: رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ، فيها كلامٌ بالنسبةِ لِعِكْرِمَةَ؛ لكنَّ الراجحَ كما حَرَّرَهُ جَمْعٌ من الأَئِمَّةِ واسْتَقَرَّ العملُ عليهِ، على ثقةِ عِكْرِمَةَ وعدالتِهِ.

المَرْتَبَةُ الرابعةُ:

وهي الثالثةُ التي ذَكَرَهَا الحافظُ: أسانيدُ تَكَلَّمَ الأَئِمَّةُ في بعضِ رُوَاتِهَا في حِفْظِهِمْ؛ لوجودِ أغلاطٍ في حَدِيثِهِمْ، ومع هذا فهذا الكلامُ من القِلَّةِ بحيثُ إنَّ أحاديثَهُم لم تَنْزِلْ عن رُتْبَةِ الصحيحِ، ولاَ سِيَّمَا أنَّ الأَئِمَّةَ يَتَجَنَّبُونَ ما غَلِطُوا فيه، فَيَبْقَى ما لمْ يَغْلَطُوا فيه يَشْمَلُهُ اسمُ الصحيحِ، وهذه الأسانيدُ غَالِبُهَا في (صحيحُ مسلمٍ).

مِثْلَ: سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، والعَلاءِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، كما أنَّ في (صحيحُ البُخَارِيِّ) ، بعضَ المَرْوِيَّاتِ التي تُعْتَبَرُ مِن أَدْنَى مراتبِ الحديثِ الصحيحِ.

وعندَما نقولُ:إنَّ شَرْطَ الصحيحِ أنْ يكونَ بروايةِ عَدْلٍ تامِّ الضبْطِ، فإنَّ هذا التمامَ لا يكونُ بدرجةٍ واحدةٍ ، ولا يمكنُ أنْ يكونَ هذا، فالناسُ يَتَفَاوَتُونَ في الضبْطِ، لكنَّ هذا الراويَ إذا لمْ يَكْثُرْ غَلَطُهُ بحيثُ يَنْزِلُ عن رُتْبَةِ الصحيحِ فإنَّهُ لا يَزَالُ يَصِحُّ أنْ يُطْلَقَ عليه بأَنَّهُ تامُّ الضبْطِ.

سؤالٌ:لو قيلَ: هذه المَرَاتِبُ الأربعةُ على سبيلِ الإجمالِ، أو على سبيلِ التفصيلِ؟

يعني مثلاً:المَرْتَبَةُ الأولى:

هلْ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا أو لا يُمْكِنُ؟

مَرَّ مَعَنَا أنَّ الحافظَ رَحِمَهُ اللَّهُ يقولُ: (إنَّهُ مِن المُمْكِنِ تَرْجِيحُ بعضِ هذه الأسانيدِ على بَعْضِهَا الآخَرِ بالنَّظَرِ إلى القائلِ بأنَّ هذا الإسنادَ هو أَصَحُّ الأسانيدِ)، معنى هذا أنَّ الأسانيدَ التي قِيلَ فيها: أَصَحُّ الأسانيدِ مِن المُمْكِنِ تَرْتِيبُهَا أو وَضْعُهَا على مَرَاتِبَ، وكذلكَ المَرْتَبَةُ الثانيةُ ، فَبَعْضُهَا تكونُ مشهورةً جِدًّا، وبعضُها غيرُ مشهورةٍ، وإنْ لم يُتَكَلَّمْ فيها.

فحينئذٍ يُقَالُ: إنَّ هذا الترتيبَ لِمَرَاتِبِ الصحيحِ هو ترتيبٌ إجماليٌّ، وليس تَفْصِيلِيًّا، فهذه المراتبُ يُمْكِنُ تفصيلُهَا وَوَضْعُهَا على مراتبَ أيضًا، ومَعْرِفَةُ هذا التفصيلِ ليس مُفِيدًا جِدًّا، إلاَّ إذا وَرَدَ حديثانِ مِن مَرْتَبَةٍ واحدةٍ، ونحتاجُ فيهما إلى ترجيحٍ، لكنْ عُمُومًا الإجمالُ أَهَمُّ مِن التفصيلِ، لأنَّ المُهِمَّ أنْ يَعْرِفَ الباحثُ أنَّ الحديثَ الصحيحَ على مراتبَ، وبالتالي سَيَعْرِفُ أنَّ كُلَّ مَرْتَبَةٍ يُمْكِنُ أنْ تكونَ أيضًا على مراتبَ، فإذا جاءَ حديثانِ مختلفانِ، وكِلاَهُمَا مِن مَرْتَبَةٍ واحدةٍ، واحتاجَ الباحثُ إلى الترجيحِ يَعْرِفُ أنَّ الحديثَ الصحيحَ على مراتبَ، وبِإِمْكَانِهِ حينئذٍ البحثُ عن مُرَجِّحَاتٍ.

سؤالٌ:بالنسبةِ للأحاديثِ المَرْوِيَّةِ بهذهِ المَرَاتِبَ: هذا التَّقْسِيمُ هل هو على التفصيلِ، بحيثُ يُقَالُ: إنَّ كُلَّ حديثٍ وَرَدَ من المَرْتَبَةِ الأولى مثلاً هو أَصَحُّ مِن كُلِّ حديثٍ وَرَدَ مِن المَرْتَبَةِ الثانيةِ؟

على ظاهرِ هذا التقسيمِ يُقَالُ: نَعَمْ، ولكنْ عندَ التحقيقِ فإنَّهُ ليس كذلكَ، فإنَّ هذا الترتيبَ إجماليٌّ، ويُقَالُ دائمًا: قد يَعْرِضُ للمفضولِ ما يَجْعَلُهُ في هذهِ المسألةِ المُعَيَّنَةِ فَاضِلاً، فَرُبَّ حديثٍ قِيلَ في إسنادِهِ: إنَّهُ مِن أَصَحِّ الأسانيدِ، ولكنْ يَتَرَجَّحُ عليه ما لم يَقُلْ فيه: إنَّهُ مِن أَصَحِّ الأسانيدِ، أو ما هو مِن المَرْتَبَةِ الثالثةِ مثلاً؛ لاَنَّنَا عَرَفْنَا الفَرْقَ بينَ تصحيحِ الإسنادِ وتصحيحِ الحديثِ:

-فتصحيحُ الإسنادِ يَتَطَلَّبُ وُجُودَ ثلاثةِ شُرُوطٍ.

-لكنَّ تَصْحِيحَ الحديثِ يَتَطَلَّبُ الخمسةَ كُلَّهَا، فَعِنْدَ نَظَرِكَ في الشرطِ الرابعِ، والخامسِ، قد يَتَخَلَّفُ التصحيحُ؛ فَهُنَا يُقَدَّمُ عليه الحديثُ الذي وَرَدَ بإسنادٍ لم يُذْكَرْ فيه أنَّهُ أَصَحُّ الأسانيدِ، وَتَوَافَرَ فيهِ خمسةُ شروطٍ ، ويَضْرِبونَ مِثَالاً لذلكَ في الأُصُولِ وفي كُتُبِ المَنْطِقِ بأنْ يُقَالَ: الرجالُ أَفْضَلُ مِن النساءِ، ولَكِنْ قد يُوجَدُ في النساءِ مَن هُنَّ أَفْضَلُ مِن كثيرٍ مِن الرجالِ، ولَكِنَّ هذا التفضيلَ بُنِيَ على سبيلِ الإجمالِ، بمعنى أنَّ الفاضِلَ في الرجالِ أَكْثَرُ منهُ في النساءِ، وهكذا يُقَالُ بالنسبةِ لأصَحِّ الأسانيدِ: الصحيحُ المرويُّ بِأَصَحِّ الأسانيدِ الخطأُ فيه أَقَلُّ مما لمْ يُقَلْ فيه: إِنَّهُ أَصَحُّ الأسَانِيدِ.

مَرَاتِبُ الصَّحِيحِ بِالنَّظَرِ إلى مَنْ أَخْرَجَهُ:

(2)ذَكَرَ الحافظُ هنا مراتبَ الحديثِ الصحيحِ لكنْ مِن حَيْثِيَّةٍ أُخْرَى غيرِ النظرِ في الأسانيدِ نفسِهَا، وهي أَسْهَلُ على طالبِ العلمِ؛ لأنَّهَا بالنظرِ إلى مَن أَخْرَجَ الحديثَ، وهو قَطْعًا أَسْهَلُ مِن النظرِ في الرُّوَاةِ وفي الأسانيدِ نفسِهَا.
هذا التقسيمُ ذَكَرَهُ ابنُ الصلاحِ، وقبلَهُ الحاكمُ في (علومُ الحديثِ).وَأَوْصَلُوا
المراتبَ بالنظرِ إلى مَن أَخْرَجَ الحديثَ إلى سبعِ مراتبَ:
المَرْتَبَةُ الأولى: الحديثُ الذي اتَّفَقَ عليه البخاريُّومسلمٌ،ومعنى اتَّفَقَا عليه، أيْ: أَخْرَجَا الحديثَ عن صحابيٍّ واحِدٍ.
مثالٌ:حديثُ ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))، هذا الحديثُ مُتَّفَقٌ عليه مِن حديثِ أَنَسٍ، فهذا الحديثُ مِن روايةِ أنسٍ، هو أَعْلَى المراتبِ من الصحيحِ بالنظرِ إلى هذه القسمةِ؛ لأنَّ البخاريَّ ومُسْلِمًا اتَّفَقَا عليه.
لِمَ كانَ ما اتَّفَقَ عليه البخاريُّ ومسلمٌ مِن أَعْلَى مراتبِ الصحيحِ؟
قال الحافِظُ: (لأنَّ العلماءَ تَلَقَّوْا كِتَابَيْهِمَا بالقَبُولِ، فصارَ ما اتَّفَقَا عليه في أَعْلَى مراتبِ الصحيحِ).
هناكَ قضيةٌ لم يَتَعَرَّضْ لها الحافظُ، ومن المناسبِ ذِكْرُهَا في هذا المَوْضِعِ:

نحنُ نقولُ في الاصطلاحِ: إنَّ المُتَّفَقَ عليه هو ما أَخْرَجَاهُ من حديثِ صحابيٍّ واحدٍ؛ فإذا اتَّفَقَا على إخراجِ المَتْنِ، لكنْ كُلٌّ منهما عن صحابيٍّ مُخْتَلِفٍ فإنَّهُ لا يُسَمَّى مُتَّفَقًا عليه في الاصطلاحِ، إلاَّ عندَ بعضِ الأَئِمَّةِ، وهذا بخلافِ الاصطلاحِ العامِّ.

والفرقُ بينَ (رَوَاهُ الشيخانِ) و(مُتَّفَقٌ عليهِ):

-أنَّ (رَوَاهُ الشيخانِ) أَعَمُّ.

إذ إنَّ (مُتَّفَقٌ عليهِ) هو ما اتَّفَقَا عليهِ مِن روايةِ صحابيٍّ واحدٍ.
أمَّا (رَوَاهُ الشيخانِ)؛ فهو يَصِحُّ أنْ يُطْلَقَ على ما أَخْرَجَاهُ مِن طريقِ صحابيٍّ واحدٍ، وعلى ما أَخْرَجَاهُ عن صَحَابِيَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وهذا كلُّهُ اصطلاحٌ، فلو خُرِجَ عنهُ - مع التنبيهِ عليهِ - فلا بأسَ بهِ؛ لأَنَّهُ يُقَالُ: لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاحِ، لكنْ مَتَى خرجَ الشخصُ عن الاصطلاحِ المشهورِ فَيَنْبَغِي عليه أنْ يُنَبِّهَ إلى أنَّ مرادَهُ بكذا: كذا.
-ثم إنَّ البخاريَّ إذا أَخْرَجَ حديثًا عن صحابيٍّ، ثم أَخْرَجَهُ مسلمٌ عن صحابيٍّ آخَرَ؛ فقد اجْتَمَعَ عندنا صحابيانِ رَوَيَا الحديثَ؛ فبالنظرِ إلى خُرُوجِ الحديثِ عن حَدِّ الفرديةِ أو الغرابةِ؛ فالذي رَوَاهُ الصحابيانِ أَرْجَحُ مِن الذي رَوَاهُ صحابيٌّ، وهذا يَنْبَغِي أنْ يأتيَ - في أَقَلِّ الأحوالِ - في المَرْتَبَةِ الثانيةِ بعدَ ما اتَّفَقَا عليهِ عن صحابيٍّ واحدٍ.

بلْ لقائلٍ أنْ يقولَ: لِمَ لاَ يكونُ هذا في المَرْتَبَةِ الأُولى مع أنَّ ذلك لمْ يُذْكَرْ في المراتِبِ؟
ولذا قال السَّخَاوِيُّ: (لاَ نَجْزِمُ بِحُكْمٍ عامٍّ، فقدْ يكونُ المُتَّفَقُ عليه أَرْجَحَ مِمَّا أخْرَجَاهُ مِن حديثِ صحابيَيْنِ، كأنْ يكونَ كُلُّ واحدٍ أخرجَهُ مِن حديثِ صحابيٍّ، لكنَّ الإسنادَ فيه شيءٌ مِن كلامٍ، لأجلِهِ تَجَنَّبَ أحدُ صَاحِبَي الصحيحِ إخراجَ الحديثِ، فَهُنَا يكونُ المُتَّفَقُ عليه أَرْجَحَ، أمَّا إذا أَخْرَجَا الحديثَ مِن حديثِ الصحابيَيْنِ، وليس فيه كلامٌ، لكنَّ كُلَّ واحدٍ تَرَكَ الحديثَ استغناءً بالحديثِ الذي أخرجَهُ؛ فهنا يكونُ ما أَخْرَجَاهُ مِن حديثِ صحابيَّيْنِ أَرْجَحَ).
فالمَرْتَبَةُ الأولى:مَا اتَّفَقَا عليهِ، لكنْ ما أَخْرَجَا مَتْنَهُ مِن حديثِ صحابِيَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَغْفَلَهُ الأَئِمَّةُ في هذا التقسيمِ، ونَقُولُ مِثْلَ ما ذَكَرَ بعضُ الأَئِمَّةِ: إِنَّهُ تارةً يكونُ المُتَّفَقُ عليهِ هو الأَرْجَحَ لاتِّفَاقِهِمَا على صِحَّةِ هذا الإسنادِ عن هذا الصحابيِّ، وتارةً يُخْرِجَاهُ مِن حديثِ صحابِيَّيْنِ، فإذا أَخْرَجَاهُ عن حَدِّ الغرابةِ، وسَلِمَ مِن الكلامِ فهنا يكونُ أرجحَ مِمَّا اتَّفَقَا عليهِ، وسَبَبُ كَوْنِ مَا اتَّفَقَ عليه البخاريُّ ومسلمٌ هي المَرْتَبَةَ الأولى؛ لأَنَّ الأُمَّةَ تَلَقَّتْ كِتَابَيْهِمَا بالقَبُولِ، فعلى هذا تكونُ.

المَرْتَبَةُ الثانيةُ:مَا انْفَرَدَ بهِ البخاريُّ عن مسلمٍ، وقدْ تَكَلَّمَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ، وَأَطَالَ في قضيَّةٍ يَظْهَرُ أنَّهَا خَارِجَةٌ عن الموضوعِ، لكنْ كأَنَّهُ يُجِيبُ عن إشكالٍ: قُلْتُمْ: إنَّ الأُمَّةَ تَلَقَّتْ الكتابَيْنِ بالقَبُولِ، وعلى هذا كان يَنْبَغِي أنْ تكونَ المَرْتَبَةُ الثانيةِ ما انْفَرَدَ بهِ واحدٌ منهما، لا ما انْفَرَدَ بهِ البخاريُّ، وأنتم جَعَلْتُمْ المَرْتَبَةَ الثانيةَ ما انْفَرَدَ بهِ البخاريُّ؛ فَشَرَعَ ابنُ حَجَرٍ في الكلامِ في تَقْدِيمِ البخاريِّ على مسلمٍ، فقالَ: إنَّ الأُمَّةَ وإنْ تَلَقَّت الكتابَيْنِ بالقَبُولِ، إلاَّ أنَّ لها كلامًا في المُوَازَنَةِ بين الكتابَيْنِ، فالجمهورُ على أنَّ (صحيحَ البخاريِّ) أَصَحُّ مِن (صحيحُ مسلمٍ)، ثم ذَكَرَ أَنَّهُ نُقِلَ عن بعضِ الأَئِمَّةِ أنَّ مسلمًا أَصَحُّ، ونُقِلَ عن بعضِهِمْ أَنَّهُ أَفْضَلُ؟
فَأَجَابَ:أمَّا ما نُقِلَ عنهُ الكلامُ بالأَصَحِّيَّةِ فليس صَرِيحًا، وهو عن أبي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ، وإِنَّمَا كلامُهُ (ما تَحْتَ أَدِيمِ السماءِ أَصَحُّ مِن كتابِ مسلمٍ)؛ فيقولُ الحافِظُ: (هو ذَكَرَ الأَصَحِّيَّةَ ولم يَنْفِ المساواةَ)؛ فكأَنَّهُ يقولُ: هناك فَرْقٌ بينَ نَفْيِ الأَصَحِّيَّةِ - أَفْعَل التفضيلِ - وبينَ نَفْيِ المُسَاوَاةِ، فهذا الإمامُ كأَنَّهُ يقولُ: هُمَا في درجةٍ واحدةٍ.

أمَّا الذي ذَكَرَ التفضيلَ فإِنَّمَا فَضَّلَ كتابَ مسلمٍ من جِهَةٍ أُخْرَى لا تَتَعَلَّقُ بالأَصَحِّيَّةِ، وهي قضيَّةُ الصناعةِ الحديثيةِ - وإنْ كانَ قولُهُمْ: إنَّهُ يَفُوقُ البخاريَّ من جهةِ الصناعةِ الحديثيةِ فيهِ نَظَرٌ أيضًا - وإِنَّمَا يمكنُ أنْ تُقَرِّرَ أفضليةَ (صحيحُ مسلمٍ) ، مِن جهةِ أَيُّهُمَا أَسْهَلُ للقارئِ وتبويبِ الأحاديثِ؛ لأنَّكَ بِمُجَرَّدِ أنْ تَعْرِفَ موضوعَ الحديثِ تَقِفُ عليه في مكانِهِ في (صحيحِ مسلمٍ) بِطُرُقِهِ وألفاظِهِ دونَ تَعَبٍ، فمِن هذهِ الحَيْثِيَّةِ فُضِّلَ (صحيحُ مسلمٍ)، وَيُرِيدُ ابنُ حَجَرٍ بهذا بيانَ أَنَّهُ لمْ يُؤْثَرْ عن أحدٍ تقديمُ (صحيحُ مسلمٍ) مِن جِهَةِ الأَصَحِّيَّةِ، فإذا تَلَقَّت الأمةُ الكتابَيْنِ بالقَبُولِ نَظَرْنَا في التفصيلِ فإذا الأمةُ مُمَثَّلَةٌ بِعُلَمَائِهَا تُرَجِّحُ (صحيحَ البخاريِّ) على (صحيحِ مسلمٍ).واسْتَطْرَدَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في بيانِ تقديمِ (صحيحُ البخاريِّ) على (صحيحُ مسلمٍ) وتَعَرَّضَ للتفاصيلِ، لا مِن جِهَةِ كلامِ الأَئِمَّةِ في التفضيلِ، وإِنَّمَا مِن جِهَةِ دراسةٍ نَقْدِيَّةٍ للأحاديثِ في الكتابَيْنِ، وذَكَرَ عددًا مِن الأمورِ فُضِّلَ بها (صحيحُ البخاريِّ) على (صحيحِ مسلمٍ)، بعضُهَا يَتَعَلَّقُ بالرجالِ، وبعضُهَا بالعِلَلِ، وبعْضُهَا بالاتصالِ، وهذه الموازنةُ مِن الحافظِ اسْتَخْلَصَهَا من كلامِ الأَئِمَّةِ من قبلِهِ.
وجملةُ ما ذَكَرَهُ أنَّ (صحيحَ البخاريِّ) يَتَرَجَّحُ على (صحيحِ مسلمٍ) مِن عِدَّةِ أَوْجُهٍ، وكلُّهَا تَعُودُ إلى درجةِ تَوَافُرِ الشروطِ الخمسةِ للحديثِ الصحيحِ، فقالَ:

1-ما يَتَعَلَّقُ بالرُّوَاةِ في عدالتِهِم وضَبْطِهِم: إنَّ ما انْتُقِدَ على مسلمٍ إخراجُ أحاديثِهِم أكثرُ مِمَّا انْتُقِدَ على البخاريِّ، كما أنَّ الذينَ انْتُقِدَ على البخاريِّ تَخْرِيجُ أحاديثِهِم غَالِبُهُم مِن شيوخِهِ، وَعَرَفَ أحاديثَهُم وانْتَقَى الصحيحَ منها، كما أنَّ ما انْتُقِدَ على البخاريِّ لم يُكْثِرْ من تخريجِ أحاديثِهِم، أمَّا بالنسبةِ لمسلمٍ فهو في ضِدِّ ذلك في الأمْرَيْنِ، فما انْتُقِدَ عليه غالِبُهُم في الطبقاتِ العليا، وهو مُكْثِرٌ أيضًا من تخريجِ أحاديثِهِم، هذا بالنسبةِ لعدالةِ الرُّوَاةِ وضبطِهِم.

2-بالنسبةِ: للاتصالِ؛ فكما هو معروفٌ تَحَدَّثَ مسلمٌ في مقدمةِ كتابِهِ عن شَرْطِهِ في اتصالِ الإسنادِ، وقال: إنَّ شرطَهُ في اتصالِ الإسنادِ أنْ يَتَعاصَرَ الراويانِ ويُمْكِنَ لقاءُ أحدِهِما للآخَرِ، وإنْ لمْ يَرِدْ في حديثٍ واحدٍ التصريحُ بأنَّ فلانًا سَمِعَ مِن فلانٍ، وقالَ مسلِمٌ: إنَّ ما قُلْتُهُ أو اخْتَرْتُهُ هو كالإجماعِ، وشَنَّعَ على مَن خَالَفَ ذلكَ، هذا الذي اخْتَارَهُ مسلمٌ.

اختارَ البخاريُّ ضِدَّهُ، فصارَ أَقْوَى مِنْهُ مِن هذهِ الجِهَةِ، فاشترطَ البخاريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لإثباتِ سماعِ راوٍ مِن راوٍ آخَرَ ولِصِحَّةِ هذا الإسنادِ: أنْ يَرِدَ ولو في حديثٍ واحدٍ التصريحُ بأَنَّهُ سَمِعَ منهُ، ولهذا رَحِمَهُ اللَّهُ طَبَّقَ منهجَهُ بِدِقَّةٍ في (الصحيحِ) ، وأيضًا خَارِجَ (الصحيحِ) (كالتَّاريخِ الكبيرِ).
وفي أَجْوِبَتِهِ عن أسئلةِ التِّرْمِذِيِّ، فهو يُعِلُّ الأحاديثَ بأنَّ فلانًا لا نَعْرِفُ لهُ سَمَاعًا مِن فلانٍ، ولا يَتَحَدَّثُ عن قضيَّةِ المعاصرةِ وإمكانِ اللُّقِيِّ ونحوِ ذلكَ، وهذا الشرطُ الذي اختارَهُ البخاريُّ وجَعَلَهُ شَرْطًا في اتصالِ الإسنادِ أقوى من شرْطِ مسلمٍ، وقد وُجِدَ لمسلمٍ بعضُ الأحاديثِ التي قِيلَ فيها: إنَّ فلانًا لا يَثْبُتُ لهُ سماعٌ من فلانٍ، وأَخْرَجَهَا مسلمٌ بِنَاءً على شرطِهِ.
وقولُ البخاريِّ في هذه المسألةِ هو قولُ الأَئِمَّةِ كلِّهِم تقريبًا، حتى كادَ ابنُ عبدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْقُلُ الإجماعَ عليهِ، بِضِدِّ ما قالَهُ مسلمٌ، وعلى هذا شُعْبَةُ، والقَطَّانُ، وابنُ المَدِينِيِّ، وأحمدُ، وأبو حاتمٍ، وأبو زُرْعَةَ.

وقدْ نَبَّهْتُ على هذا الأمْرِ؛ لأنَّ ابنَ رَجَبٍ قال: (كَثُرَ من المتأخرينَ ترجيحُ رَأْيِ مسلمٍ)، ويَقْصِدُ بالمتأخرينِ مَن قبلَهُ؛ لأَنَّهُ عاشَ في القرنِ الثامنِ، وهذا الاختيارُ مُنْتَشِرٌ أيضًا في المتأخرينَ في الوقتِ الحاضرِ، اسْتِئْنَاسًا بأنَّ مسلمًا حَكَى الإجماعَ أو ما يُشْبِهُهُ، لكن كلٌّ يُؤْخَذُ مِن قولِهِ ويُتْرَكُ إلاَّ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

3-ثم ذَكَرَ الحافظُ أنَّ (صحيحَ البخاريِّ) يَتَرَجَّحُ مِن جهةٍ ثالثةٍ وهي ما يَتَعَلَّقُ بالشُّذُوذِ والعِلَّةِ، فقال: إنَّ ما انْتُقِدَ على البخاريِّ من الأحاديثِ أَقَلُّ مِمَّا انْتُقِدَ على مُسْلِمٍ، انْتُقِدَ عليهما ما يَقْرَبُ من المائتينِ، اخْتَصَّ البخاريُّ منها بأَقَلَّ مِن الثمانينَ.

ويُضَافُ إلى كلامِ الحافظِ كلمةٌ لشيخِ الإسلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ في تَأْييدِ هذا الكلامِ، وهي مِن آرائِهِ الدقيقةِ جِدًّا في علومِ الحديثِ: (انْتُقِدَ على الشيخينِ أحاديثُ، وما انْتُقِدَ على البخاريِّ فالغالبُ أنَّ الصوابَ فيه مع البخاريِّ، والغالبُ أنَّ ما انْتُقِدَ على مسلمٍ الصوابُ فيه مع مَن انْتَقَدَهُ)، وهذا مِن مُرَجِّحَاتِ البخاريِّ، فالناظِرُ فيما انْتُقِدَ عليهما يَجِدُ كلامَ ابنِ تَيْمِيَّةَ ظاهِرًا.

4-ثم ذَكَرَ الحافظُ مِن مُرَجِّحَاتِ البخاريِّأمْرًا خارِجًا بالنَّظَرِ إلى المُوَازَنَةِ، أو المُقَارَنَةِ بينَ البخاريِّ ومسلمٍ، في نَفْسَيْهِمَا بِغَضِّ النَّظَرِ عن الكتابَيْنِ - فقال: إنَّ مسلمًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَخَرَّجَ على البخاريِّ واستفادَ منهُ، وهو إمامُهُ في هذا الشَّأْنِ وفي العِلَلِ، وأَنَّهُ لاَزَمَهُ لمَّا قَدِمَ نَيْسَابُورَ، وكلامُ العلماءِ كالدَّارَقُطْنِيِّوالتِّرْمِذِيِّ،فالتِّرْمِذِيُّ يقولُ: ما لَقِيتُ كَبِيرَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِعِلَلِ الحديثِ مِن الإمامِ البخاريِّ، وقد لَقِيَ رَحِمَهُ اللَّهُ الدَّارِمِيَّوأبا زُرْعَةَ وَسَأَلَهُمَا عَن العِلَلِ، ولَكِنَّهُ يُفَضِّلُ الإمامَ البخاريَّ.

فهذه جُمَلٌ تحتَها تفاصيلُ ولاَ سِيَّمَا ما يَتَعَلَّقُ بالرجالِ، والشُّذُوذِ، العِلَلِ، فكلُّهَا مُرَجِّحَاتُ (صحيحِ البخاريِّ) ،ولكنَّ بعضَ الناسِ رُبَّمَا يقولُ: إنَّ تَرْجِيحَنَا (لصحيحِ البخاريِّ) فيهِ شيءٌ مِن الغَضِّ مِن (صحيحِ مسلمٍ) ، كذا يقولُ، ولكنْ إذا حَسُنَت النِّيَّةُ، وصارَ الغَرَضُ بيانَ الحَقِّ، ولمْ يَكُنْ في الكلامِ تَجَنٍّ فلا بأسَ بذلكَ، وقدْ دَرَجَ الأَئِمَّةُ على إِجْرَاءِ الموازنةِ بينهما، ومِن الإنصافِ إعطاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.

المَرْتَبَةُ الثالثَةُ:ما انْفَرَدَ بِهِ مسلمٌ عن البخاريِّ، وعندَ الحديثِ في مثلِ هذا الكلامِ، لاَ بُدَّ مِن التَّنْوِيهِ (بصحيحِ مسلمٍ)، فالكلامُ السابقُ هو في المقارنةِ بينَهُ وبينَ (صحيحِ البخاريِّ) ، ولكنْ عندَ المقارنةِ بينَ (الصحيحينِ) وبينَ غيرِهِمَا تَجِدُ البَوْنَ شاسِعًا لأقْصَى درجةٍ، فَلاَ مقارنةَ مُطْلَقًا، حتى مَن التَزَمَ الصِّحَّةَ، أو افْتَرَضَ أَنَّهُ الْتَزَمَ الصِّحَّةَ مثلَ:ابنِ خُزَيْمَةَ، وابنِ حِبَّانَ، (فالصحيحانِ) كما قيلَ: أَصَحُّ الكُتُبِ بعدَ كتابِ اللهِ، ودرجةُ أَحَادِيثِهِمَا وانْتِقَائِهِمَا عاليةٌ جِدًّا، وَيَكْفِي أنْ تَتَأَمَّلَ كثيرًا مِن الأحاديثِ - بلْ النُّسَخِ - وقدْ صَحَّحَهَا الأَئِمَّةُ ومع ذلك فقد تَجَنَّبَهَا الشيخانِ، لِقُوَّةِ شَرْطَيْهِمَا وِشِدَّةِ تَحَرِّيهِمَا.

وفوقَ ذلكَ فإنَّ هناكَ أحاديثَ صَحَّحَهَا البخاريُّ، ومسلمٌ؛ إلا أَنَّهُمَا لم يُودِعَاهَا في (صَحِيحَيْهِمَا) ؛ لأنَّ الصحيحَ على درجاتٍ، وهما اشْتَرَطَا الدرجاتِ العُلْيَا من الصحيحِ في الجُمْلَةِ، ولكنْ أَبَى اللهُ أنْ يُتِمَّ إلاَّ كِتَابَهُ.

هذه هي الأسبابُ التي جَعَلَتْ ما انْفَرَدَ به البخاريُّ، أَقْوَى مِمَّا انْفَرَدَ به مسلمٌ.
المَرْتَبَةُ الرابعةُ:ما لمْ يُخْرِجَاهُ، وكانَ على شَرْطِهِمَا.

المَرْتَبَةُ الخامسةُ:ما لمْ يُخْرِجَاهُ، وكانَ على شَرْطِ البخاريِّ.
المَرْتَبَةُ السادسةُ:ما لمْ يُخْرِجَاهُ، وكانَ على شَرْطِ مُسْلِمٍ.
المَرْتَبَةُ السابعةُ:ما صَحَّ من الأحاديثِ مِمَّا ليسَ على شرطِهِمَا، ولا على شرطِ واحدٍ منهما.
هذه هي المراتبُ السبعُ بالنَّظَرِ إلى مَن أَخْرَجَ الحديثَ.
وهذا التقسيمُ على وجهِ الإجمالِ،
فليسَ كُلُّ حديثٍ أَخْرَجَهُ البخاريُّ، مُقَدَّمًا على كُلِّ حديثٍ انْفَرَدَ بهِ مسلمٌ، كما أَنَّهُ ليس كُلِّ حديثٍ قِيلَ فيهِ: مُتَّفَقٌ عليهِ، أقوى مِن كُلِّ حديثٍ انْفَرَدَ بهِ أحدُهُمَا، فقدْ يَعْرِضُ للمرجوحِ ما يَجْعَلُهُ راجِحًا.

شرطُ الشيخَيْنِ:
هناكَ قضيةٌ كثيرةُ الورودِ في كلامِ الأَئِمَّةِ، لاَ سِيَّمَا في كلامِ المتأخرينَ، وَتَتَعَلَّقُ بثلاثِ مراتبَ من السبعِ وهي:

-ما كانَ على شرطِهِمَا.
-ما كان على شرطِ البخاريِّ.
-ما كان على شرطِ مسلمٍ.
فقدْ أطالَ العلماءُ الكلامَ حولَ شرطِهِمَا،
فما المرادُ بشرطِهِمَا إذا أُطْلِقَ؟
أحيانًا يُطْلَقُ ويُرادُ بهِ: ما يَتَعَلَّقُ باتصالِ الإسنادِ
بأنْ يُقَالَ: هذا الحديثُ مُتَّصِلٌ على شرطِ البخاريِّ، بمعنى أَنَّهُ ثَبَتَ لفلانٍ أَنَّهُ سَمِعَ من فلانٍ.
وتارةً يُقَالُ: هذا مُتَّصِلُ الإسنادِ على شرطِ مسلمٍ، بمعنى أنَّ الراويَيْنِ مُتَعَاصِرَينِ، وَأَمْكَنَ لُقِيُّ بَعْضِهِمَا بعضًا، ولكنْ لمْ يَثْبُتْ سماعُ أحدِهِمَا مِن الآخرِ، وهذا استعمالٌ خاصٌّ في شرطٍ خاصٍّ، لكنَّ الاستعمالَ العامَّ لمصطلحِ شرطِ البخاريِّ، ومسلمٍ، أو شرطِ البخاريِّ، أو شرطِ مسلمٍ يُرَادُ بهِ شرطُهُمَا في جميعِ ما يَتَعَلَّقُ بشروطِ الصحيحِ.
وقد كَثُرَ الكلامُ في تحديدِ المُرَادِ بشرطَيْهِمَا، ثم اسْتَقَرَّ الاصطلاحُ على أنَّ المرادَ بشرطِ الشيخَيْنِ: أنَّ هذا الإسنادَ - من أوَّلِهِ إلى آخرِهِ وعلى هذهِ الصفةِ التي أمامَكَ - موجودٌ في (صحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ) إذا قُلْتُ: على شرطِهِما، أو في (صحيحِ البخاريِّ) إذا قُلْتُ: على شرطِ البخاريِّ، أو في (صحيحِ مسلمٍ) ، إذا قُلْتُ: على شرطِ مسلمٍ.
ولإيضاحِ الكلامِ السابقِ في المرادِ بشرطِ

الشيخَيْنِ حَسَبَ ما اسْتَقَرَّ عليهِ الاصطلاحُ أَذْكُرُ ما يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَطَرَّقَ إلى هذه الدَّعْوَى مِن خَلَلٍ عندَ إطلاقِهَا، وبهِ يَتَّضِحُ المرادُ.
فإذا قلتُ عن إسنادٍ مثلاً: إِنَّهُ على شرطِهِمَا، وفيه رجلٌ ليس مِن رجالِ الشيخَيْنِ، يكونُ الخَلَلُ في الكلامِ مِن جِهَةِ وجودِ رجلٍ لم يُخْرِجَا لَهُ، إذاً هذا الإسنادُ بِحَسَبِ الاصطلاحِ الذي اسْتَقَرَّ ليس على شرطِ الشيخَيْنِ، وإذا قُلْتُ: على شرطِهِمَا - وهناكَ راوٍ لم يُخَرِّجْ لهُ البخاريُّ - فيقالُ: ليس هذا على شرطِهِمَا، لأنَّ فُلانًا أَصْلاً ليس مِن رجالِ البخاريِّ، ومثلَهُ يُقَالُ في (صحيحِ مسلمٍ)، ويَكْثُرُ وجودُ هذا الخَلَلِ في كلامِ العلماءِ فيقالُ: على شرطِهِما؛ فَيَتَبَيَّنُ أنَّ بعضَ الرجالِ لمْ يُخَرِّجَا لهُ، ومَن يُكْثِرُ مِن ذلكَ الحاكمُ، لكنَّ الحاكمَ أصلاً لم يُتْقِن (المستدركُ) ؛ فَيُعْتَبَرُ هذا الخللُ مِن أَخَفِّ ما وَقَعَ في كتابِه، ويَكْثُرُ أيضًا في كلامِ النَّوَوِيِّ، وكلامِ بعضِ المُتَأَخِّرِينَ.
كذلكَ أيضًا: إذا قُلْتُ: على شَرْطِهِمَا، وكانَ بعضُ الرجالِ أَخْرَجَ لهم البخاريُّ، وبعضُهم أَخْرَجَ لهم مسلمٌ، فيكونُ هذا ليس على شرطِ أحدِهِمَا، وأحيانًا يكونُ الرجالُ كُلُّهُم في البخاريِّ، أو كُلُّهُم في مسلمٍ، أو كلُّهُم في الكتابَيْنِ، بِمَعْنَى أَنَّكَ إذا ذَهَبْتَ إلى (التقريبِ) ، أو إلى (تهذيبِ التهذيبِ) ، أو إلى الكُتُبِ التي تَرْمُزُ لمنْ أَخْرَجَ للراوي تَجِدُ رَمْزَ البخاريِّ، على جميعِ الرجالِ، لكنَّ البخاريَّ ومسلمًا أو أحدَهُمَا لمْ يُخَرِّجْ لهذا الراوي عن هذا الراوي؛ فحينئذٍ لم يُوجَد الإِسنادُ بتمامِهِ وعلى صفتِهِ هكذا في البخاريِّ، ومسلمٍ، أو في أحدِهِمَا، فقدْ يكونُ البخاريُّ ومسلمٌ، لم يُخَرِّجَا لفلانٍ عن فلانٍ، وكلُّ واحدٍ منهما ثقةٌ في نفسِهِ، ولكنَّ روايةَ هذا عن هذا فيها كلامٌ- ضعيفةٌ مثلاً- فحينئذٍ لا يكونُ الإسنادُ على شرطِهِمَا، ولا على شرطِ واحدٍ منهما.
ويَكْثُرُ جِدًّا أنْ يتركَ الشيخانِ أحاديثَ بعضِ الرُّوَاةِ في خصوصِ رواةٍ مُعَيَّنِينَ، لأنَّ هذا الراويَ لم يَضْبِطْ حديثَ شيخِهِ فلانٍ أو لم يُتْقِنْهُ، ويُمَثِّلُونَ لذلكَ بسفيانَ بنِ حُسَيْنٍ، في روايتِهِ عن الزُّهْرِيِّ، أو هُشَيْمِ بنِ بَشِيرٍ - وهو ثِقَةٌ من كبارِ الأَئِمَّةِ - لكنَّهُ في حديثِ الزُّهْرِيِّ ضعيفٌ، يقولونَ: هو سَمِعَ منه صحيفةً فلما خَرَجَ من عندِهِ هَبَّتْ ريحٌ فطارت الصحيفةُ ولم يُدْرِكْهَا، فصارَ يُحَدِّثُ مما عَلِقَ في ذهنِهِ من الصحيفةِ، فغَلِطَ في هذه الأحاديثِ، وانْتَبَهَ لهُ الأَئِمَّةُ وَضَعَّفُوا حديثَهُ عن الزُّهْرِيِّ.
- ومنزلةُ البخاريِّ ومسلمٍ عاليةٌ جِدًّا؛ فإذا قيلَ لهُ على شرطِهِما، أو شرطِ أحدِهِمَا، تَطْمَئِنُّ له النفسُ؛ لذا وَجَبَ التَّحَقُّقُ مِن قضيَّةِ شَرْطِهِمَا.
يقولُ العلماءُ:معروفٌ أنَّ رجالَ البخاريِّ ومسلمٍ؛ ليسوا على درجةٍ واحدةٍ:

- فمنهم مَن أخرجَ له الشيخانِ لكنْ ليس اعتمادًا.
وإِنَّمَا أَخْرَجَا لهُ أحاديثَ هي عندَهُمَا مِن طُرُقٍ أخرى؛ فحينئذٍ ليس الاعتمادُ على هؤلاءِ الراوةِ، وإِنَّمَا الاعتمادُ على غيرِهِمْ، لكنْ يَسُوقُونَ طُرُقًا أُخْرَى فيها هؤلاءِ الرُّوَاةُ المُتَكَلََّمُ فيهم؛ فإذا وَرَدَ عندَكَ إسنادٌ خارِجَ الكتابَيْنِ - فيه هذا الرجلُ الذي أَخْرَجَا له مِن غيرِ أنْ يَعْتَمِدَا عليهِ وإِنَّمَا أَخْرَجَا لهُ متابعةً، أو مقرونًا؛ فلا يَصِحُّ أنْ تَقُولَ إنَّ هذا الإسنادَ على شرطِ الشيخَيْنِ، إذا كان الحديثُ الذي مَعَكَ أصلاً يُعْتَمَدُ عليهِ.
مثلَ: محمدِ بنِ إسحقَ، ومحمدِ بنِ عَجْلانَ في (مسلمٍ).

- وعاصمٍ أبي النَّجُودِ في (البخاريِّ).

وكما لو لَقِيَ البخاريُّ أحدَ الراوةِ مرةً واحدةً فأَخَذَ عنهُ حديثًا وما عَرِفَهُ، ولكنَّهُ أَخْرَجَ له حديثًا مقرونًا بِغَيرِهِ بمعنى أَنَّهُ لم يَعْتَمِدْ عليهِ، وإِنَّمَا فعلَ ذلك لتكثيرِ الطُّرُقِ، ووافقَ أنَّ هذا الرجلَ كان مِن شَدِيدِي الضُّعَفَاءِ بلْ رُبَّمَا كُذِّبَ، ولكنْ لا التفاتَ إلى روايتِهِ، وإِنَّمَا الاعتمادُ على الروايةِ الأُخْرَى؛ فحينئذٍ لا يُقَالُ: إنَّ هذا الراويَ على شرطِ البخارِيِّ.

وَأَدَقُّ مِن هذا أنَّ هناك رجالاً أَخْرَجَا لهم في الأصولِ،

ولكنْ تَجَنَّبَا بعضَ أحاديثِهِم؛ لأنَّهُمَا عَرَفَا أنَّهُمْ أَخْطَأُوا في هذهِ الأحاديثِ، وَأَخْرَجَا مِن أحاديثِهِم ما عَرَفَا أنَّهُم قد أصابُوا فيهِ؛ فحينئذٍ يقولُ الأَئِمَّةُ: ما كانَ خارجَ الكتابَيْنِ عن هؤلاءِ الرُّوَاةِ المُتَكَلَّمِ فيهمِ ليسَ على شرطِ البخاريِّ ومسلمٍ، وهذا الاعتراضُ كثيرًا ما يَرِدُ على دعوى أَئِمَّةٍ كثيرينَ، أنَّ هذا الحديثَ المُعَيَّنَ على شرطِ البخاريِّ ومسلمٍ، ويُمَثِّلُونَ لهذا بِيَحْيَى بنِ أيُّوبَ، وإسماعيلَ بنِ أبي أُوَيْسٍ عندَهُمَا، وبِسُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ عندَ مسلمٍ، فما عُرِفَ أنَّ سُهَيْلاً مثلاً غَلِطَ فيه وَتَجَنَّبَهُ مسلمٌ لا يكونُ على شرطِهِ؛ لأَنَّهُ انْتَقَى مِن أحاديثِهِ، ومثلَ: أحاديثِ سِماكِ بنِ حَرْبٍ في مسلمٍ كذلِكَ.
وَأَدَقُّ مِمَّا تَقَدَّمَ كلِّهُ أَنَّهُ مَرَّ بنا أنَّ شروطَ الحديثِ الصحيحِ الرابعِ والخامسِ، هما الشُّذُوذُ والعِلَّةُ، فالإسنادُ أحيانًا يكونُ لا غُبَارَ عليهِ من جِهَةِ الرُّوَاةِ، ومِن جِهَةِ الاتصالِ، فيكونُ مثلاً على شرطِ البخاريِّومسلمٍ، ولكنْ تَقَدَّمَ أنَّ ما قيلَ فيهِ أَصَحُّ الأسانيدِ لاَ بُدَّ مِن التَّأَكُّدِ ألاَّ يكونَ شَاذًّا، وألاَّ يكونَ مُعَلَّلاً، ولهذا قد تَجِدُ حديثًا خَارِجَ (الصحيحَيْنِ) إسنادُهُ، أَخْرَجَا بمثلِهِ أحاديثَ في الأصولِ، ولكنْ تَجَنَّبَا هذا الحديثَ لأنَّ فيه عِلَّةً، وأحيانًا يَتْرُكَانِ من الحديثِ لفظةً؛ لأنَّهُمَا يَظُنَّانِ أنَّ الراويَ أخْطَأَ فيها وَيُخْرِجَانِ باقيَ الحديثِ؛ فلا تكونُ هذه اللفظةُ على شرطِهِمَا وإنْ كانا قد أَخْرَجَا باقيَ الحديثِ، وهذا مِن أَدَقِّ ما يكونُ. وكثيرًا ما يَقَعُ الأَئِمَّةُ وبعضُ الباحثينَ في إطلاقِ دَعْوَى أنَّ هذا الحديثَ على شرطِ الشيخَيْنِ، ويَتَطَرَّقُ إليها الخَلَلُ مِن هذه الجِهَةِ.
مثالُ ذلك:حديثٌ رَوَاهُ عبدُ الرزَّاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن زيدِ بنِ أَسْلَمَ، عن عطاءِ بنِ يَسارٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: ((لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلاَّ لِخَمْسَةٍ))، وهو حديثٌ مشهورٌ، هذا الإسنادُ رَوَى الشيخانِ بهِ أحاديثَ كثيرةً موجودةً في الكتابَيْنِ، لكنَّ هذا الحديثَ لا نقولُ: إنَّهُ على شرطِهِمَا، لأنَّ لَهُ عِلَّةً: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عن زيدِ بنِ أسْلَمَ فما ذَكَرُوا أبا سعيدٍ الخِدْرِيَّ، بمعنى أَنَّهُ عن عطاءٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلاً؛ فهذه عِلَّةٌ تَمْنَعُ مِن أنْ يَلْحَقَ هذا الحديثُ بشرطِ الشيخَيْنِ.
وَمِمَّنْ أَطَالَ البحثَ في هذا الموضوعِ الحافظُ في (نُكَتِهِ على ابنِ الصلاحِ) في كلامِهِ على (المُسْتَدْرَكِ) ومواضعَ أُخْرَى، وَيُنَبِّهُ عليه دائمًا في بعضِ كُتُبِهِ، وإنْ كانَ يَقَعُ أحيانًا فيما يُخَالِفُهُ عندَ التَّطْبِيقِ).

هيئة الإشراف

#4

27 Oct 2008

شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: سعد بن عبد الله الحميد

قال الشيخ سعد بن عبد الله الحميد: ( (1) قالَ الحافظُ: (وتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ بتَفَاوُتِ هذه الأَوصافِ) أيْ: تَتَفَاوَتُ رُتَبُ الْحَدِيثِ الصحيحِ بتَفَاوُتِ هذه الأَوْصَافِ: (اتِّصَالِ السنَدِ - العدالةِ - تمامِ الضبطِ- عدَمِ الشذوذِ - عَدَمِ العِلَّةِ)، وبخاصَّةٍ تَمَامُ الضبْطِ.

وبذلك تَتَفَاوَتُ رُتَبُ الْحَدِيثِ الصحيحِ:

بمعنى أنَّ هناك حديثاً صحيحاً مِن أعلى الدَّرَجَاتِ.

- وهناك حديثاً صحيحاً مِن أوْسَطِ الدرجاتِ.

وهناك حديثاً صحيحاً مِن أَنْزَلِ الدَّرَجَاتِ.

ومَثَّلَ الحافِظُ لهذا بأَمْثِلَةٍ:

(1) فالْحَدِيثُ الصحيحُ مِن أَعْلَى الدَّرَجاتِ هو ما يُسَمَّى: بأَصَحِّ الأسانيدِ، على اختلافٍ بينَهم:

أ- فبعضُهم قالَ: أَصَحُّ الأسانيدِ (السِّلسلةُ الذهبِيَّةُ): ما يَرْوِيهِ مالكٌ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، وهو قولُ البُخاريِّ.

ب- وبعضُهم قالَ: أَصَحُّ الأسانيدِ ما يَرويهِ: الزُّهْرِيُّ، عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، عن أبيهِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ.

ج_ وبعضُهم قالَ: أصَحُّ الأسانيدِ ما يَرويهِ: مُحَمَّدُ بنُ سِيرينَ، عن عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ.

د- وبعضُهم قالَ: أَصَحُّ الأسانيدِ ما يَرويهِ: إبراهيمُ النَّخَعِيُّ، عن عَلقمةَ بنِ قَيسٍ، عن ابنِ مَسعودٍ.

وللعُلماءِ مِن هذه الأقوالِ مَوْقِفٌ، فقالوا: كلُّ هذه الأسانيدِ مِن أصَحِّ الأسانيدِ، لكنَّ تفضيلَ بعضِها على بعْضٍ لا يَنْبَغِي، لكنْ نُقَيِّدُ إمَّا بالصحابِيِّ، أو بالبَلَدِ.

- فيُمْكِنُ أنْ أَقُولَ: أصَحُّ الأسانِيدِ عن: ابنِ مَسعودٍ: ما يَرويهِ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ، عن عَلقمةَ، عن ابنِ مَسعودٍ.

- ويُمْكِنُ أنْ أَقولَ: أَصَحُّ الأسانيدِ عن:أبي هُريرةَ: ما يَرويهِ محمَّدُ بنُ سِيرينَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ.

فإذا وُجِدَ للصحابِيِّ أكثَرُ مِن إسنادٍ كلُّها مِن أصَحِّ الأسانيدِ، مِثْلِ: ابنِ عمرَ؛ فمِنهم مَن قالَ: أَصَحُّ الأسانيدِ مالكٌ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عمرَ.- ومِنهم مَن قالَ: الزُّهْريُّ، عن سالِمٍ، عن أبيهِ.

- ومنهم مَن قالَ: غيرَ ذلك.

فنقولُ: لا نُفَاضِلُ، بلْ كُلُّهَا مِن أصَحِّ الأسانيدِ.

ومنهم مَن قالَ: يُمْكِنُ أنْ نُقَيِّدَ بالْجِهَةِ؛

فأقولَ مَثَلاً: أصَحُّ أسانيدِ الْمَكِّيِّينَ ما يَرْوِيهِ سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن عمرِو بنِ دِينارٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ.

(2) ودونَها في الرُّتْبَةِ: مَثَّلَ لها ابنُ حَجَرٍ برِوايةِ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ عن ثابتٍ الْبُنَانِيِّ عن أنَسِ بنِ مالِكٍ، أو بُرَيْدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبي بُرْدَةَ، عن جَدِّهِ، عن أبيهِ أبي مُوسَى.

وهذه الروايةُ والرواياتُ التي قَبْلَها لا تُعْتَبَرُ مِن الدَّرَجَةِ العُلْيَا مِن الصحيحِ؛ لأنَّ هناك مَن تَكَلَّمَ في مِثْلِ هؤلاءِ الرُّوَاةِ، فرِوايةُ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أنَسٍ، لم يُحْتَجَّ بها، وإنما اعْتَبَرُوهَا في الشواهِدِ والْمُتَابَعَاتِ، وأَمَّا مُسْلِمٌ فاحْتَجَّ بها.

(3) ودونَها في الرُّتْبَةِ: مثلُ: رِوايةِ سُهَيْلِ بنِ أبي صالِحٍ عن أبيهِ صالِحٍ السَّمَّانِ -واسمُه ذَكْوَانُ- عن أبي هُريرةَ.

أو ما يَرْوِيهِ العَلاءُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن أَبِيهِ، عن أبي هُريرةَ، وهاتانِ الرِّوايتانِ لم يَحْتَجَّ بهما البُخاريُّ، وإنما احْتَجَّ بهما مُسْلِمٌ.

قالَ الحافِظُ: (فإنَّ الجميعَ يَشْمَلُهُم اسمُ العَدالةِ) و(الضبْطِ) إلاَّ أنَّ للمَرْتَبَةِ الأُولَى مِن الصِّفَاتِ الْمُرَجِّحَةِ ما يَقتضِي تَقديمَ رِوايتِهم على التي تَلِيهَا، وفي التي تَلِيهَا مِن قُوَّةِ الضَّبْطِ ما يَقتضِي تقديمَ رِوايتِهم على الثالثةِ... إلخ.


دَرجاتُ الْحَدِيثِ الصحيحِ:

هناك دَرجاتٌ للحديثِ الصحيحِ غيرُ الدَّرَجاتِ التي سَبَقَتْ:

1- ما أَخْرَجَهُ البُخاريُّ ومسلِمٌ.

2- ما أَخْرَجَهُ البُخاريُّ.

3- ما أخْرَجَهُ مسلِمٌ.

4- الْحَدِيثُ الصحيحُ إذا كان رجالُه رجالَ البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ؛ فهو حديثٌ صحيحٌ على شَرْطِ البُخاريِّ ومُسْلِمٍ.

5- الْحَدِيثُ الصحيحُ على شرْطِ البُخاريِّ.

6- الْحَدِيثُ الصحيحُ على شرْطِ مُسْلِمٍ.

7- الْحَدِيثُ الصحيحُ، لكنْ ليس على شَرْطِهِمَا.

(2) قولُه: (ومِنْ ثَمَّ قُدِّمَ صَحيحُ البُخَارِيِّ، ثم مسلِمٍ، ثم شَرْطُهُمَا).

هذه المسألةُ تَكَلَّمَ عنها الحافِظُ في شَرْحِه (للنُّخْبَةِ) بما خُلاصتُه: أنه قد حَصَلَ نِزاعٌ بينَ العُلماءِ:

1- فجُمهورُ أهلِ الْحَدِيثِ على تَقديمِ البُخاريِّ على مسلِمٍ؛ والسببُ أنهم رَاعَوْا مَكَانَةَ البُخاريِّ بسببِ الأَصَحِّيَّةِ.

2- وهناكَ نَفَرٌ يَسيرٌ (مِن أهلِ الْمَغْرِبِ ومِن أهْلِ الْمَشْرِقِ) قَدَّمُوا صَحيحَ مسلِمٍ على البُخاريِّ، وحُكِيَ هذا القولُ عن أبي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ -رَحِمَه اللهُ- مِن أهْلِ الْمَشْرِقِ حينَما قالَ: (مَا تَحْتَ أَدِيمِ السماءِ أصَحُّ مِن صحيحِ مسلِمٍ).

فإنْ قِيلَ: كيفَ يُقالُ: إنه ليس بسببِ الأَصَحِّيَّةِ، وأبو علِيٍّ يَتكلَّمُ عن الصِّحَّةِ؟

بَيْنَمَا الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ في شَرْحِه (للنُّخْبَةِ) لم يَنْفِ وُجودَ مَن يُسَاوِي (صحيحَ مُسْلِمٍ) في الصحَّةِ، لكنه نَفَى أنْ يَكونَ هناك مَن هو أَعْلَى صِحَّةً مِن (صحيحِ مسلِمٍ).

وأمَّا ما نُقِلَ عن الْمَغَارِبَةِ؛ فالذي يَظْهَرُ أنهم قَدَّمُوا صحيحَ مسلِمٍ بسببِ تَرتيبِه، وسِيَاقِهِ للأسانيدِ.

ولكلٍّ مِن (صحيحِ البُخارِيِّ) ، و(صحيحِ مسلِمٍ) ، مَزِيَّةٌ ما عَدَا مسألةَ الصحَّةِ؛ فصحيحُ البُخاريِّ اعْتَنَى بالناحِيَةِ الفِقْهِيَّةِ، فهو يُقَطِّعُ الْحَدِيثَ ويُوَزِّعُهُ في أماكِنَ شَتَّى بحَسَبِ الاستنباطاتِ الفِقهيَّةِ التي يَستَنْبِطُهَا مِن ذلك الْحَدِيثِ.

وأمَّا مسلِمٌ -رَحِمَه اللهُ- فهو يَختارُ أَجْمَعَ الْمَواضِعِ لهذا الْحَدِيثِ، ويَسوقُ طُرُقَ الْحَدِيثِ بأسانيدِها الْمُتَعَدِّدَةِ في مَوْضِعٍ واحدٍ.

والصوابُ في هذه الْمَسألةِ: تقديمُ صحيحِ البُخاريِّ على مسلِمٍ؛ لأنَّ شرْطَ البُخاريِّ في رِجالِ الإسنادِ أَقْوَى مِن شَرْطِ مُسْلِمٍ.

فمَثَلاً: حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، في روايتِه عن ثابتٍ لم يَحْتَجَّ بها البخاريُّ؛ لأنَّ حَمَّادَ بنَ سَلَمَةَ، اخْتَلَطَ في آخِرِ عُمْرِه، وأمَّا مُسْلِمٌ؛ فاجْتَهَدَ وأَخْرَجَ هذه الروايةَ؛ فالبُخارِيُّ أكْثَرُ شِدَّةً مِن مسلِمٍ، فهو يَنتقِي أصَحَّ الصحيحِ، ويَجْتَنِبُ ما فيه أَدْنَى كَلامٍ.

ولذلك تَجِدُ الأحاديثَ الْمُنْتَقَدَةَ على البُخاريِّ أقلَّ مِن الأحاديثِ المنتَقَدَةِ على مسلِمٍ، فمَجموعُ الأحاديثِ التي انْتَقَدَهَا الدارَقُطْنِيُّ على البُخارِيِّ ومسلِمٍ 220 حديثاً.

منها: ما اتَّفَقَ البُخارِيُّ ومسلِمٌ على إخراجِها.

ومنها: أحاديثُ أَخْرَجَها البُخَارِيُّ.

ومنها: أَحاديثُ أَخْرَجَها مسلِمٌ فقط.

فالأحاديثُ التي اتَّفَقَ البُخاريُّ ومسلِمٌ على إخراجِها (110) حديثاً.

وانْفَرَدَ البُخاريُّ بـ(32) حديثاً، وانْفَرَدَ مُسلِمٌ بـ (78) حديثاً.

ومِن حيثُ اتِّصَالُِ السنَدِ:شَرْطُ البُخاريِّ أَقْوَى مِن شَرْطِ مُسْلِمٍ؛ فمسلِمٌ يَكتفِي بِمُجَرَّدِ المعاصَرَةِ، والبُخاريُّ يَشترِطُ أنْ يَكونَ الراوِي قد ثَبَتَ له لِقاءُ مَن رَوَى عنه ولو مَرَّةً، لكنْ هل مَذهبُ البُخاريِّ أَصَحُّ، أو مَذْهَبُ مُسْلِمٍ؟

والصوابُ - واللهُ أَعْلَمُ- التفصيلُ:

- فإنْ كان هناك قَرِينَةٌ يُمْكِنُ أنْ تُدَلِّلَ على أنَّ هذا الراويَ يُمْكِنُ أن يَسْمَعَ مِن ذلك الشيخِ، فالأصْلُ الاتِّصالُ.

- وإن لم يَكُنْ هناكَ قَرينةٌ قَوِيَّةٌ، فأنا أَتَوَقَّفُ على الْحُكْمِ على الْحَدِيثِ بالاتِّصالِ).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#5

27 Oct 2008

العناصر

مراتب الحديث الصحيح

تتفاوت رتب الحديث الصحيح بتفاوت أوصافه

أسباب تفاوت مراتب الحديث الصحيح

أمثلة لتفاوت مراتب الحديث الصحيح

فوائد معرفة تفاوت مراتب الحديث الصحيح

مراتب الحديث الصحيح باعتبار الإسناد:

المرتبة الأولى: ما قيل فيه: إنه أصح الأسانيد

المرتبة الثانية: أحاديث رواتها في الذروة من العدالة والضبط

المرتبة الثالثة: وهي ما تُكلم في بعض رواتها بكلام يسير، الصحيح خلافه

المرتبة الرابعة: أحاديث تكلم في رواتها بما لم ينزله عن رتبة الصحيح

مراتب الحديث الصحيح بالنظر إلى من خرجه:

المرتبة الأولى: ما اتفق عليه البخاري ومسلم

المرتبة الثانية: ما انفرد به البخاري عن مسلم

المرتبة الثالثة: ما انفرد به مسلم عن البخاري

المرتبة الرابعة: ما لم يخرجاه، وكان على شرطهما

المرتبة الخامسة: ما لم يخرجاه، وكان على شرط البخاري

المرتبة السادسة: ما لم يخرجاه، وكان على شرط مسلم

المرتبة السابعة: ما صح من الأحاديث مما ليس على شرطهما

الحاكم وابن الصلاح أول من قسما مراتب الحديث الصحيح بالنظر إلى من خرجه

الحديث المتفق عليه:

معنى الحديث المتفق عليه

الفرق بين قولهم: (رواه الشيخان) وقولهم: (متفق عليه)

سبب كون الحديث المتفق عليه من أعلى مراتب الحديث

المفاضلة بين الصحيحين:

صرح الجمهور بتقديم (صحيح البخاري) على (صحيح مسلم)

أوجه ترجيح (صحيح البخاري) على (صحيح مسلم):

الوجه الأول: أن ما انتقد على مسلم إخراج أحاديثهم أكثر مما انتقد على البخاري

الوجه الثاني: أن شرط البخاري في الاتصال أقوى من شرط مسلم

الوجه الثالث: أن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل مما انتقد على مسلم

الوجه الرابع: أن مسلمًا تخرج على البخاري، واستفاد منه

قول شيخ الإسلام في التفضيل بين البخاري ومسلم

رأي أبي علي النيسابوري في تفضيل (صحيح مسلم)

تفضيل المغاربة (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري)

الجواب على من فضل (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري) من جهة الصحة

قد يقدم (صحيح مسلم) في حسن التصنيف على (صحيح البخاري)

قد يقدم (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري) في بعض المواضع

الأحاديث المنتقدة على الصحيحين

الأحاديث المنتقدة على البخاري

الأحاديث المنتقدة على مسلم

شرط الشيخين:

المراد بشرط الشيخين

ما استقر عليه الاصطلاح في المراد بشرط الشيخين

يكثر الخلل عند بعض العلماء في تطبيق شرطي البخاري ومسلم

ذكر من يقع عنده الخلل في تطبيق شرطي البخاري ومسلم

ذكر بعض الأمثلة التي لم يتوفر فيها شرطا صاحبي الصحيحين

ليس كل من أخرج له الشيخان يكون على شرطهما

أمثلة لمن أخرج لهم الشيخان وليس على شرطهما ولكن لأمر آخر

البخاري يشترط اللقيا مع السماع في المعنعن أما غيره فيكتفي بالمعاصرة

وجه ترجيح شرط البخاري على مسلم

بيان أن (صحيح البخاري) أشد اتصالاً من (صحيح مسلم)

فائدة: أطال ابن حجر في ذكر شروط الشيخين في (النكت على ابن الصلاح)

أصح الأسانيد:

أصح الأسانيد إلى ابن عمر

أصح الأسانيد عند البخاري

المعتمد أن لا يقال إن هذا الإسناد من أصح الأسانيد

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

27 Oct 2008

الأسئلة

س1: عدد مراتب الحديث الصحيح باعتبار الإسناد.

س2: عدد مراتب الحديث الصحيح باعتبار من خرجه.

س3: ما الفرق بين قولهم: (متفق عليه) وقولهم: (رواه الشيخان)؟

س4: بين بالتفصيل مسألة المفاضلة بين الصحيحين.

س5: بين بالتفصيل مسألة شروط الشيخين.

س6: اذكر أصح الأسانيد إلى ابن عمر رضي الله عنهما.