25 Oct 2008
المحكم والمنسوخ، ومختلف الحديث
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (ثُمَّ المَقْبُولُ إِنْ سَلِمَ مِنَ المُعَارَضَةِ فَهُوَالمُحْكَمُ.
وَإِنْ عُورِضَ بِمِثْلِهِ فَإِنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ فَمُخْتَلِفُ الحَدِيثِ.
أَوْ لاَ وَثَبَتَ المُتَأَخِّرُ فَهُوَ
النَّاسِخُ، وَالآخَرُ المَنْسُوخُ.
وَإِلاَّ فَالتَّرْجِيحُ.
ثُمَّ التَّوَقُّفُ).
نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (وجميعُ ما تقدَّمَ من أقسامِ الْمَقْبُولِ تَحْصُلُ فائِدةُ تقْسِيمِه باعْتِبَارِ مَرَاتِبِه عندَ المُعَارَضَةِ، واللهُ أَعْلَمُ. (1) (ثُمَّ المَقْبُولُ)يَنْقَسِمُ أيضًا إلى: - مَعْمُولٍ بِهِ. - وغيرِ مَعْمُولٍ بِهِ؛ لأنَّه (إِنْ سَلِمَ مِنَ المُعَارَضَةِ) أي: لم يأتِ خبرٌ يُضَادُّهُ (فَهُوَ المُحْكَمُ) وأمْثِلَتُهُ كثيرةٌ. (2) (وَإِنْ عُورِضَ) فلا
يخلو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعارِضُه مَقْبولاً مِثْلَهُ، أو يكونَ
مَرْدُودًا، فالثَّانِي لا أثرَ لهُ؛ لأنَّ القَوِيَّ لا تُؤَثِّرُ فيه
مُخَالَفَةُ الضَّعِيفِ. وإن كانت المُعَارَضَةُ (بِمِثْلِهِ) فلا يخلو إمَّا أنْ يُمْكِنَ الجَمْعُ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِمَا بغيرِ تَعَسُّفٍ أو لا. (فَإِنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ فـ) هو النَّوْعُ المُسَمَّى (مُخْتَلِفَ الحَدِيثِ) ، ومَثَّلَ لَهُ ابْنُ الصَّلاَحِ بحَدِيثِ: ((لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ وَلا غُولَ)). مع حَدِيثِ: ((فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ)) وكِلاهما
في الصَّحِيحِ وظاهِرُهُما التَّعارُضُ، ووجهُ الجمْعِ بَيْنَهما أنَّ
هَذِهِ الأمراضَ لا تُعْدِي بطَبْعِها، لكنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى جعلَ
مُخَالَطَةَ المريضِ بِها للصَّحِيحِ سببًا لإعْدَائِهِ. ثم
قد يتَخَلَّفُ ذَلِكَ عَن سببِه كما في غيرِه من الأسبابِ، كذا جَمَعَ
بَيْنَهما ابْنُ الصَّلاَحِ تَبَعًا لغيرِه، والأَوْلَى في الجمْعِ
بَيْنَهما أن يُقَالَ: إنَّ نَفيَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
للعَدْوَى باقٍ على عُمُومِه، وقد صحَّ قولُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا))،
وقولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَن عارَضَهُ بأنَّ البعيرَ
الأجربَ يكونُ في الإبِلِ الصَحِيحَةِ، فيُخالِطُها فَتَجْرَبُ حيثُ ردَّ
عليه بقولِه: ((فَمَنْ أَعْدَى الأولَ))؟ يعني أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى ابْتَدَأَ ذَلِكَ في الثَّانِي، كما ابْتَدَأَ الأولَ، وأَمَّا
الأمرُ بالفِرَارِ من المَجْذُومِ فمِن بابِ سدِّ الذَّرائِعِ؛ لئلاَّ
يَتَّفِقَ للشَّخْصِ الذي يُخالِطُه شيءٌ من ذَلِكَ بتقديرِ اللهِ تعالى
ابْتِدَاءً لا بالعَدْوَى المَنْفِيَّةِ، فيَظُنُّ أنَّ ذَلِكَ بسببِ
مُخالطَتِه فيَعْتَقِدُ صحَّةَ العدْوى فَيَقَعُ في الْحَرَجِ، فَأَمَرَ
بتَجَنُّبِه حَسْمًا للمادَّةِ، واللهُ أَعْلَمُ. (3)(أو لاَ) فإنْ عُرِفَ. (وَثَبَتَ المُتَأَخِّرُ)به أو بِأَصْرَحَ منه. (فَهُوَ النَّاسِخُ وَالآخَرُ المَنْسُوخُ) والنَّسْخُ: رفعُ
تعلُّقِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بدليلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ عنهُ،
والنَّاسِخُ:ما يدُلُّ على الرَّفْعِ المذْكورِ، وَتَسْمِيَتُهُ ناسِخًا
مَجَازٌ؛ لأنَّ النَّاسِخَ في الحَقيقَةِ هو اللهُ تعالى. ويُعْرَفُ النَّسْخُ بأمورٍ أَصْرَحُها ما: وَرَدَ في النَّصِّ كحَدِيثِ بُرَيْدَةَ في (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ)). ومنها:ما يَجْزِمُ الصَّحَابِيُّ بأنَّه مُتَأَخِّرٌ كقولِ جَابِرٍ: ((كَانَ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ)) أَخْرَجَهُ أصحابُ (السُّنَنِ). ومنها:
ما يُعْرَفُ بالتَّارِيخِ وهو كثيرٌ، وليس منها ما يَرْوِيهِ
الصَّحَابِيُّ المُتأخِّرُ الإسلامِ مُعارِضًا للمُتقَدِّمِ عليهِ
لاحْتِمالِ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ من صَحابِيٍّ آخَرَ أَقْدَمَ من
المُتَقَدِّمِ المذْكُورِ أو مِثْلِهِ فَأَرْسَلَهُ، لَكِنْ إنْ وقعَ
التَّصْريحُ بسَماعِه لهُ من النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَيَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ ناسِخًا بشرْطِ أَنْ يَكُونَ المُتَأَخِّرُ لم
يَتَحَمَّلْ من النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئًا قبلَ
إِسلامِهِ. وأَمَّا
الإجماعُ؛فليسَ بِناسِخٍ بل يدُلُّ على ذَلِكَ وإن لم يُعْرَف
التَّارِيخُ، فلا يخلو إمَّا أنْ يُمكنَ ترجيحُ أحدِهما على الآخَرِ
بِوَجْهٍ من وُجوهِ التَّرْجيحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بالمَتْنِ، أو
بالإِسْنَادِ، أو لا. فإن أمكنَ التَّرجيحُ تَعَيَّنَ المصيرُ إليه. (4) (وَإِلاَّ) فلا.فصارَ ما ظاهِرُه التَّعارُضُ واقعًا على هَذَا التَّرتِيبِ: الجَمْعُ إن أمْكَنَ، فاعْتِبارُ النَّاسخِ والمنْسُوخِ. (فَالتَّرْجِيحُ) إن تَعَيَّنَ. (ثُمَّ التّوَقُّفُ) عَن العملِ بأحدِ الحَدِيثينِ. والتَّعبيرُ
بالتَّوَقُّفِ أَوْلَى من التَّعبيرِ بالتَّساقُطِ؛ لأنَّ خَفاءَ ترجيحِ
أحدِهما على الآخَرِ إِنَّمَا هو بالنِّسبَةِ للمُعتَبِرِ في الحالةِ
الرَّاهِنَةِ مع احتمالِ أنْ يَظهَرَ لغيرِه ما خَفِيَ عليهِ، واللهُ
أَعْلَمُ).
نظم الدرر لفضيلة الشيخ: إبراهيم اللاحم
قال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: ( (1)7- المُحْكَمُ وَمُخْتَلَفُ الحديثِ:
انْتَقَلَ الحافظُ إلى موضوعٍ مُهِمٍّ جِدًّا، وَسَبَبُ أَهَمِّيَّتِهِ:
1-كَثْرَةُ وُجُودِه في الأحاديثِ.
2- أَهَمِّيَّتُهُ تَبْرُزُ مِن نَاحِيَةِ العملِ والأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَهُ تَعَلُّقٌ كَبِيرٌ بِها.
وهذا الموضوعُ هو المعروفُ بِتَعَارُضِ الأحاديثِ، وبعضُ المُتَحَدِّثِينَ عن هذا الموضوعِ يُفَضِّلُ إِضَافَةَ كَلِمَةِ (ظَاهِرًا) ، لأَنَّهُ يقولُ: ما يَصْفُو من الأحاديثِ المُتَعَارِضَةِ فِعْلاً إِنَّمَا هو قَلِيلٌ وَنَادِرٌ؛ فَنُعْطِي الحُكْمَ لِلأَغْلَبِ ونقولُ: (مَا ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ).
وهذا الموضوعُ في أَصْلِهِ وَجُمْلَتِهِ تَعَلُّقُهُ فِي الحقيقةِ بِأُصُولِ الفِقْهِ، وَيُسَمُّونَهُ تَعَارُضَ الأَدِلَّةِ، فهو إذًا ليس مَبْحَثًا خَاصًّا بالحديثِ، إلاَّ أَنَّ له صِلَةًّ قَوِيَّةً بِعِلْمِ المُصْطَلَحِ.
قال الحافظُ: (النَّصُّ الذي ليسَ له مُعَارِضٌ يُسَمَّى المُحْكَمَ).
ثم قال: النَّصُّ إذا كانَ لهُ مُعَارِضٌ فهو على أَقْسَامٍ:
إنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ فَمُخْتَلَفُ الحَدِيثِ، كذا قال، وَنُنَبِّهُ هنا إلى أَنَّ كُلَّ تَعَارُضٍ بينَ الأحاديثِ مَهْمَا كانتْ نَتِيجَتُهُ فَيَدْخُلُ تحتَ موضوعِ مُخْتَلَفِ الحديثِ، سواءً أَمْكَنَ الجَمْعُ، أو لَجَأْنَا إلى النَّسْخِ، أو لَجَأْنَا إلى التَّرْجِيحِ؛ فالإمامُ عندَمايؤلِّفُ كِتَابًا -
كالشَّافِعِيِّ الذي أَلَّفَ كتِاَبَ: (اخْتِلاَفُ الحَدِيثِ) ، وابنِ قُتَيْبَةَ الذي أَلَّفَ: (تَأَوْيِلَ مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ) - فالنتائجُ مَبْنِيَّةٌ على البَحْثِ، فهو أَوَّلاً يَعْرِضُ التَّعَارُضَ، ثم يُعْطِينَا النتيجَةَ، سَوَاءً كانتْ جَمْعًا أو نَسْخًا أو تَرْجِيحًا، فَمُخْتَلَفُ الحَدِيثِ هو التَّعَارُضُ بينَ الأحاديثِ بِغَضِّ النَّظَرِ عن النَّتِيجَةِ، ولا أَدْرِي لِمَ قَصَرَهُ الحافظُ على مَا أَمْكَنَ الجَمْعُ بينَهُمَا.
نحن الآنَ قَصَرْنَا هذا الموضوعَ على ما ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ مِن الأحاديثِ، لَكِنَّكَ قد تَقْرَأُ في كتابِ ابنِ قُتَيْبَةَ وهو مِن أَشْهَرِ مَن كَتَبَ في مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ - وإنْ كانَ لِلأَئِمَّةِ عليهِ مُلاَحَظَاتٌ - فَتَجِدُهُ قد اسْتَعْمَلَ مُصْطَلَحَ (مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ) بِمَعْنًى أَوْسَعَ، وهذا لاَ بَأْسَ بهِ، فَاسْتَعْمَلَهُ بما يُعْرَفُ عندَ الأَئِمَّةِ: بِمُشْكِلِ الحَدِيثِ، فَكِتَابُ ابنِ قُتَيْبَةَ (تَأْوِيلُ مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ) أَقْرَبُ ما يكونُ أَنْ يكونَ كتابًا في مُشْكِلِ الحديثِ.
وَمَعْنَاهُ:الأحاديثُ التي تَأْتِي وتَحْتَاجُ إلى نَظَرٍ، إِمَّا لِمُعَارَضَتِهَا لآيةٍ أو لإِجْمَاع، أو حتَّى العَقْلِ، والنَّظَرِ؛ لأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَلَّفَ هذا الكتابَ لِيُحَاجَّ بهِ المُعْتَزِلَةَ، وَالمُتَكَلِّمِينَ في طَعْنِهِمْ على أَهْلِ الحديثِ لِرِوَايَتِهِمْ أَحَادِيثَ إمَّا مُتَنَاقِضَةً كما يقولونَ، أو مُعَارِضَةً لآياتٍ، أو إجماعٍ، أو عَقْلٍ، فَجَمَعَ هذا كُلَّهَ وَسَمَّاهُ (تَأْوِيلُ مُخْتَلَفِ الحديثِ) ، وهذا مِن بابِ التَّوَسُّعِ.
قال الحافظُ: (إنَّ الموقفَ مِن الحَدِيثَيْنِ إذا اخْتَلَفَا التَّدَرُّجُ في النَّظَرِ بينهما، فإنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ فهو أَوْلَى) لأَنَّ فيه إِعْمَالاً لِكِلاَ الحَدِيثَيْنِ، وكما يقولونَ في الأُصُولِ: إِعْمَالُ كِلاَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِن إِهْمَالِ أَحَدِهِمَا، وهذا المَسْلَكُ هو أَوْسَعُ المَسَالِكِ التي دَخَلَ منها الأَئِمَّةُ إلى النَّظَرِ في مُخْتَلَفِ الحديثِ، حتى قال ابنُ خُزَيْمَةَ: (كُلُّ مَن لَدَيْهِ حديثانِ مُتَعَارِضَانِ فَلْيَأْتِنِي لأُوَفِّقَ بينهما)، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لاَ تَعَارُضَ أَصْلاً بينَ الأحاديثِ، ومِن الأمورِ التي يُنَبَّهُ عليها هُنَا أَنَّ الأَئِمَّةَ قد يَتَّفِقُونَ على الجَمْعِ بينَ الأحاديثِ والنصوصِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، ولَكِنْ يَخْتَلِفُونَ في أَوْجُهِ الجَمْعِ، ومِن هُنَا كَانَ هذا أَحَدَ الأسبابِ في الاختلافِ في الأحكامِ الشَّرْعِيَّةِ وغيرِها.
- مثالُ ذلكَ: أحاديثُ النَّهْيِ عن استقبالِ القِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عندَ قضاءِ الحَاجَةِ، معَ أحاديثِ الرُّخْصَةِ، مِن الأَئِمَّةِ مَن يقولُ: نَجْمَعُ بينهما بِجَعْلِ النَّهْيِ في الصَّحارِي والرُّخْصَةِ في البُنْيَان.
- ومنهم مَن يقولُ: نَجْمَعُ بينهما بِطَرِيقَةٍ ثَانِيَةٍ، وهي أَنْ نَحْمِلَ النَّهْيَ على التَّنْزِيهِ والكَرَاهَةِ، وحديثَ ابنِ عُمَرَ على أَنَّهُ لبيانِ الرُّخْصَةِ والجَوَازِ، فَكِلاَهُمَا جَمَعَا بينَ الحَدِيثَيْنِ، ولَكِن اخْتَلَفَا فِي وَجْهِ الجَمْعِ.
ومَثَّلَ الحافظُ للجمعِ بِحَدِيثِ: ((لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)).
- وحديثِ: ((فِرَّ مِن المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِن الأَسَدِ)) ، مع أحاديثَ فِي نَفْيِ العَدْوَى مثلِ: ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ))، وقد سَلَكَ الأَئِمَّةُ في الجَمْعِ بينَ هذه الأحاديثِ التي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً، ذَكَرَ الحافظُ منها وَجْهَيْنِ:
1- جَمْعُ ابنِ الصلاحِ: الأحاديثُ التي فيها إثباتٌ لِعَدْوَى مثلَ الحَدِيثَيْنِ الأوَّلَيْنِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ اللهَ جَعَلَ العَدْوى سَبَبًا لانْتِقَالِ المَرَضِ، والأحاديثُ مثلُ: ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ)) الغَرَضُ منها قَطْعُ دَابِرِ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ هذا يُعْدِي بِطَبْعِهِ دونَ تَقْدِيرِ اللهِ لهُ، فَكَأَنَّ هذا مِن بابِ التَّأْكِيدِ على قَضِيَّةِ القضاءِ والقَدَرِ وهذا الجَمْعُ ضَعَّفَهُ ابنُ حَجَرٍ.
2-جَمْعُ ابنِ حَجَرٍ: نَفْيُهُ لِلعَدْوَى بَاقٍ على عُمُومِهِ وأنَّ المَرَضَ لاَ يُعْدِي، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((فِرَّ مِن المَجْذُومِ))، و((لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ)) ؛ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قد يَتَّفِقُ أَنَّ الصَحِيحَ يُمْرِضُ وهو بِجِوَارِ السَّقِيمِ فَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذلكَ بِسَبَبِ العَدْوَى وقد نَفَتْهَا الأحاديثُ فَيَقَعُ فيما نَهَى عنهُ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا القولُ لَهُ وَجْهٌ، وَلَكِن الثَّابِتَ خِلاَفُهُ وأَنَّ المَرَضَ يُعْدِي وأَنَّهُ يَنْتَقِلُ، وأنَّ اللهَ خَلَقَهُ على هذه الطبيعةِ، وذلكَ لا يُعَارِضُ القضاءَ والقَدَرَ فاللهُ خَلَقَهُ وهو مُقَدِّرُ السببِ والمُسَبِّبِ.
وهناكَ وُجُوهٌ أُخْرَى للجمعِ بينَ الحديثَيْنِ ذَكَرَ بعضَها ابنُ قُتَيْبَةَ واسْتَوْعَبَهَا ابنُ القَيِّمِ في كِتَابِهِ (مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ) ، وَتَعَرَّضَ لِقَضِيَّةِ الطبِّ النَّبَوِيِّ وهل هو تَشْرِيعٌ أو مِن الأمورِ الدُّنْيَوِيَّةِ التي قَالَ عنها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْتُمْ أَدْرَى بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ))؟
ثم قال الحافظُ:(إنْ لمْ يُمْكِن الجمعُ فإنْ ثَبَتَ المُتَأَخِّرُ فَيَلِي الجَمْعَ النَّسْخُ) فإنْ لم يَثْبُت المُتَأَخِّرُ وَلَمْ يُمْكِن الجَمْعُ فحينئذٍ يُلْجَأُ إلى التَّرْجِيحِ، وحينَ يَتَكَلَّمُ الأُصُولِيُّونَ في التَّرْجِيحِ فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ وُجُوهًا لِلتَّرْجِيحِ أَوْصَلَهَا السِّيُوطِيُّ في (الأَشْبَاهُ والنَّظَائِرُ) إلى مِائَةِ وَجْهٍ.
منها:في الأسانيدِ.
ومنها:في المُتُونِ، فَإِنْ لمْ يُمْكِن الجَمْعُ، ولا النَّسْخُ، ولا التَّرْجِيحُ؛ فالتَّوَقُّفُ بالنِّسْبَةِ للمُجْتَهِدِ، قالَ ابنُ حَجَرٍ: (والتعبيرُ بالتَّوَقُّفِ أَوْلَى مِن التعبيرِ بالتَّسَاقُطِ) ، ذلكَ أَنَّ بعضَ الأصوليينَ رُبَّمَا عَبَّرَ عن هذه الحالةِ بِتَسَاقُطِ الدَّلِيلَيْنِ، فقالَ الحافِظُ: (إنَّ التعبيرَ بالتَّوَقُّفِ أَوْلَى مِن التعبيرِ بالتَّسَاقُطِ)؛ لأنَّ المجتهدَ الذي لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْمَعَ ولا أَنْ يُثْبِتَ النَّسْخَ ولا أَنْ يُرَجِّحَ فالتَّوَقُّفُ يكونُ خاصًّا بهِ، وقد يُوَفَّقُ غيرُه لأحدِ الأَوْجُهِ السابِقَةِ.
- وقالَ بعضُهم: التعبيرُ بكلمةِ (تَسَاقُط) غيرُ لاَئِقَةٍ، وَالأَفْضَلُ والأَوْلَى التعبيرُ بِالتَّوَقُّفِ.
وَلِي هُنَا تَنْبِيهٌ على كلامِ الحافظِ حينَ ذَكَرَ أَنَّهُ لاَ يُلْجَأُ إلى النَّسْخِ إلاَّ إذا تَعَذَّرَ الجَمْعُ، ذلكَ أَنَّهُ عدَّ في الأشياءِ التي يَثْبُتُ بها النَّسْخُ وُرُودَهُ في الحديثِ نفسِهِ.
- مثلَ قولِهِ: ((كُنْتُ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ)) ، وكما نُلاَحِظُ فهذا الحديثُ لا نَلْجَأُ فيهِ إلى الجَمْعِ بلْ إلى النَّسْخِ ابتداءً وإنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ، فإذا ثَبَتَ النَّسْخُ فهو مُقَدَّمٌ على الجَمْعِ، ولا إِشْكَالَ في ذلكَ، وإِنَّمَا يُلْجَأُ إلى الجَمْعِ أو التَّرْجِيحِ إذا كانَ النَّسْخُ غيرَ ثَابِتٍ، ولاَ سِيَّمَا دَعْوَى كثيرٍ مِن الفقهاءِ أو مُحَدِّثِي الفُقَهَاءِ في النَّسْخِ إذا احْتُجَّ عليهم بِدَلِيلٍ، ومَثَّلَ ابنُ رجبٍ بِالطَّحَاوِيِّ فَإِنَّهُ كَثِيرُ القولِ بالنَّسْخِ، فهُنَا يُقَالُ: إنَّ الأَوْلَى الابتداءُ بالجمعِ، لكنْ إذا ثَبَتَ النَّسْخُ فَلاَ شَكَّ أَنَّهُ يُبْدَأُ بهِ ويُقَدَّمُ على الجَمْعِ، واللهُ أَعْلَمُ.
(2) ثم تَحَدَّثَ الحافظُ عن كيفَ يُعْرَفُ النَّسْخُ؟
وذَكَرَ أشياءَ مَكَانَهَا في أُصُولِ الفِقْهِ، وتَحَدَّثَ عن قَضِيَّةِ الاستدلالِ على النَّسْخِ بِتَأَخُّرِ إسلامِ الصحابيِّ، فقال: إنَّ تَأَخُّرَ إسلامِ الصحابيِّ ليسَ دائِمًا دليلاً على تَأَخُّرِ النَّصِّ، وهذا صحيحٌ لاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الصحابيُّ سَمِعَهُ مِن صَحَابِيٍّ مُتَقَدِّمِ الإسلامِ، وهذا كثيرٌ مثلَ حديثِ أَنَسٍ في قِصَّةِ الإسراءِ، فَهُنَا نَقْطَعُ بأنَّ أَنَسًا مَا حَضَرَهَا وَلاَ سَمِعَهَا في وَقْتِهَا، وإِنَّمَا سَمِعَهَا مِن صحابيٍّ آخَرَ، أو حَدَّثَ بها رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بعدُ، وأشياءَ كثيرةً يُجْزَمُ بِهَا بِأَنَّ الصحابيَّ ما حَضَرَ القِصَّةَ وإِنَّمَا سَمِعَهَا بِوَاسِطَةٍ.
- ومِمَّا يُنَبَّهُ عليه هنا قولُ الحافظِ:
ومنها:ما يَجْزِمُ الصحابيُّ بأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ كقولِ جابرٍ ((كانَ آخِرُ الأمرَيْنِ مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ)) أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ (السُّنَنِ).
أوَّلاً:هذا الحديثُ عندَ أَكْثَرِ الأَئِمَّةِ المُتَقَدِّمِينَ مَعْلُولٌ بهذا اللفظِ، رَوَاهُ شُعَيْبُ بنُ أبي حَمْزَةَ، عن ابنِ المُنْكَدِرِ، عن جابرٍ، وقالَ الأَئِمَّةُ: إنَّ هذا مِمَّا وَهِمَ فيهِ شُعَيْبٌ، فقد رَوَاهُ الثقاتُ مثلَ ابنِ جُرَيْجٍ، وابنِ عُيَيْنَةَ، عن ابنِ المُنْكَدِرِ، عن جابرٍ بلفظِ: ((إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدِّمَ لَهُ لَحْمٌ وَخُبْزٌ فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَامَ إلى الصَّلاَةِ - أيِ الأُخْرَى - وَلَمْ يَتَوَضَّأْ)).
- يقولونَ: إنَّ شُعَيْبًا رَوَاهُ بالمعنى، فَأَبْعَدَ عن اللفظِ الأوَّلِ، فهذا الحديثُ يُسَمِّيهِ الأَئِمَّةُ الشاذَّ؛ لأنَّ شُعَيْبًا ثِقَةٌ لَكِنْ في حديثِهِ عن ابنِ المُنْكَدِرِ كلامٌ، وقدْ خَالَفَ الثقاتِ فَيُسَمُّونَهُ شَاذًّا، وَيُسَمُّونَهُ مُنْكَرًا، كَمَا تَقَدَّمَ.
ثانيًا:قَوْلُ الحافِظِ: (أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ) ، عَادَةً إِذَا قِيلَ: (أصحابُ السُّنَنِ) ؛ فَإِنَّهُ يُرَادُ بهِ أصحابُ السُّنَنِ الأربعةِ، فَمُحَقِّقُ الكتابِ ذَكَرَ أَنَّ مُرَادَ الحافظِ أبو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ واسْتَدَلَّ على ذلكَ بأنَّ التِّرْمِذِيَّ، وابنَ مَاجَه لم يَرْوِيَاهُ، وهذا استدلالٌ قويٌّ، لكنْ يُعَارِضُهُ أَنَّ الاصطلاحَ جَارٍ على أَنَّهُ إذا قيلَ: أصحابُ السُّنَنِ فَيُرَادُ بهِ (أصحابُ السُّنَنِ الأربعةِ) ، وفوقَ ذلكِ كُلِّهِ أَنَّ ابنَ حَجَرٍ عندَما ذَكَرَهُ بهذا اللفظِ في (التَّلْخِيصِ الحَبِيرِ) نَصَّ وقال: (رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ)، فهنا يُرِيدُ الأربعةَ بقولِهِ: أصحابُ السُّنَنِ.
- وعَزَوهُ إلى الأربعةِ، وهو لمْ يُخْرِجْهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَه، يَصِحُّ أَنْ نقولَ فيهِ: سَهَا الحافِظُ، أو وَهِمَ، ولكن الذي يَنْبَغِي هو الاعتذارُ عن الأَئِمَّةِ دائمًا وتأخيرُ كلمةِ (وَهِمَ) أو (سَهَا)، والْتِمَاسُ الأعذارِ لاَ سِيَّمَا في التخريجِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ في نُسْخَتِهِ كذا أو نحوَ ذلكَ، وهنا يُقَالُ - واللهُ أَعْلَمُ - لَعَلَّهُ يُريدُ أصلَ الحديثِ، فإنَّ الحديثَ بهذا اللفظِ ليس في التِّرْمِذِيِّ ولا ابنِ مَاجَه، ولكن أصلُ الحديثِ موجودٌ في التِّرْمِذِيِّ وابنِ مَاجَه، وباللفظِ الذي رَوَاهُ الجماعةُ عن ابنِ المُنْكَدِرِ.
سُؤَالٌ: مَا صِلَةُ التَّعَارُضِ بالمُصْطَلَحِ؟
نقولُ: لهُ صِلَةٌ قَوِيَّةٌ وهي ما يُعْرَفُ عندَ الأَئِمَّةِ بِنَقْدِ المُتُونِ، فَنَجِدُ في كلامِ بعضِ المتأخرينَ كلامًا ساقِطًا لا يُؤْبَهُ لهُ، وهو أَنَّهُم يقولونَ: إنَّ المُحَدِّثِينَ اهْتَمُّوا بالأسانيدِ وغَفَلُوا عن نَقْدِ المُتُونِ، وهذا كلامٌ لا يُلْتَفَتُ إليهِ، فإنَّ المُحَدِّثينَ اهْتَمُّوا بِنَقْدِ المُتُونِ كاهْتِمَامِهِمْ بِنَقْدِ الأسانيدِ، وقضيةُ نَقْدِ المُتُونِ موضوعُها في الغالبِ تَعَارُضُ الأحاديثِ.
بلْ قالَ أحدُ الباحثِينَ - الشيخُ عبدُ اللهِ السَّعْدُ -: (إنَّ اهْتِمَامَ أَئِمَّةِ الحديثِ بالمُتُونِ أَكْبَرُ مِن اهتمامِهم بالأسانيدِ)، ونحنُ نقولُ دائمًا: المُتُونُ نفسُهَا ليسَ فيها عِلَلٌ من حيثُ هيَ، وإِنَّمَا تكونُ عِلَلُ المُتُونِ دليلاً كاشِفًا لِعِلَلٍ تَقَعُ في الإسنادِ، فلهذا فالمُحَدِّثونَ إذا قَامَتْ عِلَّةٌ في المَتْنِ نَقَدُوا السَّنَدَ، فصارَ الظاهِرُ أَنْ نَقْدَهُم مُتَّجِهٌ إلى الإسنادِ، ولكنْ في الحقيقةِ فإنَّهُم يَنْقُدُونَ المُتُونَ كما يَنْقُدُونَ الأسانيدَ.
والخلاصةُ:
أَنَّهُ في كثيرٍ من الأحيانِ يكونُ نَقْدُ الإسنادِ طريقُهُ نقدُ المَتْنِ، فَيَسْتَدِلُّونَ على ضَعْفِ الرِّوَايَةِ بِمُخَالَفَتِهَا لرِوَايَةٍ أُخْرَى، وهذا كثيرٌ لا يُحْصَى، سواءً في الأحكامِ الشرعيَّةِ، أو التاريخِ، أو الوفيَّاتِ، أو أسماءِ الصحابةِ، أو غيرِ ذلكَ، وهو موضوعٌ شَيِّقٌ يَحْسُنُ جَمْعُهُ، مع أَنَّ هذا الأمرَ ليس خاصًّا بالمُحَدِّثِينَ، بلْ الذي سَنَّهُ وابتدَأَهُ هُم الصحابةُ، فعندَما يَرْوِي صحابيٌّ حديثًا لصحابيٍّ آخَرَ يَتَوَقَّفُ فيه الثاني لِظَنِّهِ أَنَّهُ يُعَارِضُ نَصًّا آخَرَ، كما تَوَقَّفَ عُمَرُ وعائشةُ رضي اللهُ عنهما في حديثِ فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ في المُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا: ((لاَ سُكْنَى لَهَا وَلاَ نَفَقَةَ))، وتوَقَّفَتْ عائشةُ في حديثِ: ((تَعْذِيبِ المَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ))، وفي حديثِ ((قَطْعِ المَرْأَةِ والحِمَارِ والكَلْبِ الأَسْوَدِ لِلصَّلاَةِ))، وَكَثِيرٌ مِن الصحابةِ يَتَوَقَّفُونَ في بعضِ الأحاديثِ، وكلُّهُم حالُهُ حالُ عائشةَ لمَّا تَوَقَّفَتْ في حديثِ ((المَيِّتِ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ)) قالتْ: إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَ عن غيرِ كاذِبينَ ولا مُكَذَّبِينَ - تعني عُمَرَ وابنَهُ عبدَ اللهِ - ولكنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ، هي لمْ تَطَّلِعْ على خَطَأِ السَّمْعِ، ولكنَّهَا اسْتَدَلَّتْ على ذلكَ بمُعَارَضَةِ ذلكَ لنصوصٍ أُخْرَى، فابتداءً مِن الصحابةِ وحتى كِبَارِ الأَئِمَّةِ كالإمامِ أحمدَ - الذي هو مِن أَشْهَرِ مَن عُرِفَ عنهُ نَقْدُ المُتُونِ - كانتْ هذه الحالُ بالنِّسْبَةِ للنصوصِ المُتَعَارِضَةِ.
الذي يُؤَكَّدُ عليهِ هنا أَنَّ تَعَارُضَ النصوصِ لهُ صِلَةٌ بمصطلحِ الحديثِ مِن جهةِ أَنَّهُ كَاشِفٌ لِعِلَلِ الأسانيدِ، وهذا الموضوعُ فيه حساسيةٌ ودِقَّةٌ ويحتاجُ إلى تَبَصُّرٍ، فليسَ الأمرُ بالْهَيِّنِ، ويَنْبَغِي أَنْ يُلاَحَظَ فيه ما يلي:
1-أحيانًا
يَكُونُ مَيْلُ الناقِدِ إلى مُحَاوَلَةِ تصحيحِ الجميعِ، فَيَتَكَلَّفُ
لهذا وُجُوهًا من الجَمْعِ، وغرضُهُ نبيلٌ وهو تَبْرِئَةُ الرُّوَاةِ من
الخَطَأِ، فدائِمًا نَسْمَعُ أَنَّهُ يُحْمَلُ الاختلافُ على تَعَدُّدِ
القِصَّةِ، حتى إِنَّهُ في قصةِ الإسراءِ لمَّا وَرَدَتْ ألفاظٌ مختلفةٌ -
كما قال ابنُ القَيِّمِ - ذَهَبَ بعضُ الأَئِمَّةِ إلى جَعْلِهِ وَقَعَ
عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وهذا المَسْلَكُ فيهِ ضَعْفٌ؛ لأَنَّهُ وإنْ سَلِمَ لكَ
في بعضِ الأحيانِ لكنْ في أحيانٍ أُخْرَى لا يُمْكِنُ الجمعُ، وفي مقابلِ
ذلكَ يَنْبَغِي للشخصِ ألاَّ يُسْرِفَ في قضيَّةِ تَعَارُضِ الأحاديثِ
وتعليلِ الأحاديثِ بهذا التعارُضِ، والمَسْلَكُ الوَسَطُ أَنْ نقولَ: نعمْ،
نَسْلُكُ مَسْلَكَ تَبْرِئَةِ الرُّوَاةِ مِن الخطأِ متى كان هذا
مُمْكِنًا، فإذا لم يكنْ مُمْكِنًا، وكانَ الراجحُ خلافَهُ فلا مانِعَ مِن
تَخْطِئَةِ الرُّوَاةِ؛ لأنَّنَا في مقابلِ تَخْطِئَةِ الرُّوَاةِ نَحْمِي
جانبَ النصوصِ، وهذا المَسْلَكُ الوَسَطُ، هو الذي يحتاجُ إلى دِقَّةٍ
ونَظَرٍ وتَأَنٍّ.
2-التَّجْوِيزُ العقليُّ في الجمعِ بينَ النصوصِ لا يَنْبَغِي، ولاَ سِيَّمَا في الرَّدِّ على كلامِ الأَئِمَّةِ، مثلَ حديثِ: ((كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّت النَّارُ))، فإنَّ هذا الحديثَ أَعَلَّهُ أبو دَاوُدَ، وأبو حاتمٍ، وابنُ حِبَّانَ، وقالوا: إنَّ هذا الحديثَ مَرَدُّهُ إلى الحديثِ المُفَصَّلِ كما تَقَدَّمَ قريبًا، ولا مَانِعَ عَقْلاً أَنْ يكونا حَدِيثَيْنِ، ومثلَهُ حديثُ: ((الخاتَمِ)) الذي تَقَدَّمَ أيضًا، فالتَّجْوِيزُ العقليُّ في دَفْعِ عِلَلِ الأحاديثِ التي يُبْدِيهَا كبارُ الأَئِمَّةِ مَنْهَجٌ غيرُ سليمٍ، بلْ يَنْبَغِي تَجَنُّبُهُ لِئَلاَّ يَقَعَ الباحثُ في جانبٍ آخَرَ أَخْطَرَ منهُ، وهو تَخْطِئَةُ الأَئِمَّةِ والرَّدُّ عليهم.
- ففي قضيَّةِ التَّعَارُضِ بينَ الأحاديثِ قد يُعَلِّلُ إمامٌ حديثًا بأَنَّهُ يُعَارِضُ حديثًا آخَرَ، فيأتي بعضُ المتأخِّرِينَ ويقولُ: بلْ هُمَا حديثانِ، أو لا مَانِعَ أَنْ يَحْدُثَ كذا وكذا، ونحنُ نقولُ: لا مَانِعَ، لكنَّ المُحَدِّثينَ يَحْكُمُونَ بالعِلَلِ أو بِتَرْجِيحِ إِحْدَى الروايتَيْنِ بقرائنَ مَبْنِيَّةٍ على غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَعِلْمُ السُّنَّةِ قائمٌ على ذلكَ.
مثالُ ذلكَ:حديثانِ ظاهِرُهُمَا التَّعَارُضُ:((إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فُكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ))، والروايةُ الأُخْرَى تقولُ: ((إنَّ ابنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فُكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ بِلاَلٌ))، الأَئِمَّةُ يُعِلُّونَ الروايةَ الثانيةَ وَيَجْعَلُونَهَا مِن المَقْلُوبِ، لكنْ لو دَخَلَ بابُ التَّجْوِيزِ العقليِّ لَقُلْنَا: إنَّ هذا يُؤَذِّنُ مَرَّةً بِلَيْلٍ.
والثانيَ:يُؤَذِّنُ كذلكَ مَرَّةً أُخْرَى، كما قال ابنُ خُزَيْمَةَ: (لَعَلَّ الأذانَ كانَ بينهما نُوَبًا) ، وجاءَ ابنُ حِبَّانَ وحَذَفَ كلمةَ (لَعَلَّ) مِن قولِ ابنِ خُزَيْمَةَ وقال: كانَ الأذانُ بينهما نُوَبًا، وهذا في العَقْلِ جائزٌ ولكنَّهُ على طريقةِ المُحَدِّثِينَ غيرُ جائزٍ؛ فإنَّهُم يَلْجَأُونَ إلى التعليلِ بِقَرَائِنَ كما تَقَدَّمَ آنِفًا).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: سعد بن عبد الله الحميد قال الشيخ سعد بن عبد الله الحميد: ( (1) قولُهُ: (ثمَّ
الْمَقبولُ إنْ سَلِمَ مِن الْمُعارَضَةِ فهوَ الْمُحْكَمُ، وإنْ عُورِضَ
بِمِثْلِهِ فإنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فمُخْتَلَِفُ الْحَدِيثِ) الْحَدِيثُِ الذي يُعْمَلُ بهِ (صحيحاً أوْ حَسَناً) إمَّا
أنْ يكونَ فيهِ مُعَارَضَةٌ أوْ لا يكونَ فيهِ مُعَارَضَةٌ؛ فالأحاديثُ
التي ليسَ فيها معارَضَةٌ هيَ الأكثَرُ، وهيَ الغالِبُ مِنْ أحاديثِ
النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فهذهِ الأحاديثُ منها يُسَمَّى
حديثاً مُحْكَماًً. فالْحَدِيثُ المحْكَمُ: هوَ الْحَدِيثُ السالِمُ مِن الْمُعَارَضَةِ. والْحَدِيثُ الذي فيهِ معارَضَةٌ، ويُمْكِنُ الجمْعُ بينَها؛ فهذا يُسَمَّى مُخْتَلِفَ الْحَدِيثِ. فمُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ: هوَ الْحَدِيثُ الذي اختَلَفَتْ طُرُقُهُ معَ إمكانِ الجمْعِ بينَها. مِثالُ ذلكَ: مَثَّلَ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ بحديثِ: ((لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هَامَةٌَ وَلا صَفَرَ)) معَ حديثِ ((فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ)). وأحاديثُ العَدْوَى كثيرةٌ، كلُّها تَدُورُ على هذا الاختلافِ الْمَذكورِ.فمِنها:أحاديثُ تُثْبِتُ العَدْوَى. ومنها:أحاديثُ
تَنْفِي العَدْوَى، فمَثَلاً قولُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ
للإِبِلِ يَجْرَبُ الواحدُ منها فتَجْرَبُ بَقِيَّةُ الإِبِلِ، فقالَ: ((فَمَنِ الَّذِي أَعْدَى الأَوَّلَ؟!)). ومِثلُهُ أنَّهُ عليهِ السلامُ أَكَلَ معَ الْمَجذومِ وقالَ: ((بِسْمِ اللَّهِ تَوَكُّلاً عَلَى اللَّهِ))، وحديثُ
النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في البلَدِ التي يَقَعُ فيها
الطَّاعونُ، فهوَ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ فَرَّقَ فيما إذا كانَ
الرجُلُ دَاخِلَ البَلَدِ أوْ خارِجَهُ، فإنْ كانَ وَقَعَ الطاعونُ وهوَ في
البَلَدِ نفْسِهِ فنَهَاهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عن
الخُروجِ مِن البلَدِ التي وَقَعَ فيها الطاعونُ، وإنْ كانَ خارجَ البَلَدِ
أمَرَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ لا يَدْخُلَ إلى البَلَدِ التي
وَقَعَ فيها الطاعونُ. اختَلَفَ العُلماءُ في هذهِ الأحاديثِ التي ظَاهِرُها التَّعَارُضُ (أحاديثُ تَنْفِي العَدْوَى وأحاديثُ تُثْبِتُ الْعَدْوَى): فالحافظُ ابنُ حَجَرٍ يَرَى أنَّهُ ليسَ هناكَ تَعَارُضٌ أصْلاً، ويَحْمِلُ الأحاديثَ التي فيها إثباتُ العَدْوَى على أنَّها مِنْ بابِ سَدِّ الذَّريعةِ. فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ))،
ليسَ معنى هذا الْحَدِيثِ أنَّ هناكَ عَدْوَى، ولكنْ سَدًّا للذَّريعةِ،
خَشيَةَ أنْ يُصابَ بالْمَرَضِ أصلاً مِن اللَّهِ بدُونِ عَدْوَى،
فيَظُنَُّّ أنَّ الذي أصابَهُ بسَبَبِ العَدْوى؛ فيَقَعَُ فيهِ إشكالٌ في
مُعْتَقَدِهِ. ولا يَسْلَمُ لهُ هذا التوجيهُ، والتوجيهُ الصحيحُ ما ذَكَرَهُ ابنُ الْقَيِّمِ في شرْحِ (سُنَنِ أبي دَاوُدَ)، حيثُ يقولُ: الجميعُ كُلُّهُ مِن اللَّهِ؛ الذي حَصَلَ أوَّلاً والذي حَصَلَ بسببِ انتقالِ العَدْوَى، فالعَدْوَى سَبَبٌ، وليستْ هيَ الفاعِلَةَُ. الكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ في مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ: 1-كتابُ (اختلافُ الْحَدِيثِ)للشافعيِّ. 2-كتابُ (تَأْوِيلُ مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ)لابنِ قُتَيْبَةَ. 3-كتابُ (مُشْكِلُ الآثارِ)للطَّحَاوِيِّ. وكلُّ هذهِ الكتُبُِ مَطبوعةٌ. (2) قولُهُ: (أوَّلاً، وثَبَتَ الْمُتَأَخِّرُ فهوَ الناسِخُ، والآخَرُ المنسوخُ). وإنْ
لم يَكُنِ الجمْعُ فلا يَخْلُو إمَّا أنْ يُعرَفَ التاريخُ أوْ لا، فإنْ
عُرِفَ وثَبَتَ المتأَخِّرُ بهِ أوْ بأَصْرَحَ منهُ فهوَ الناسِخُ والآخَرُ الْمَنسوخُ. تعريفُ ناسِخِ الْحَدِيثِ ومَنسوخِهِ: هوَ رَفْعُ الشارعِ حُكْماً مُتَقَدِّماً بحُكْمٍ آخَرَ مُتَأَخِّرٍ عنهُ. وللعُلماءِ في ناسِخِ الْحَدِيثِ ومَنسوخِهِ جُهودٌ كبيرةٌ، ومنهُم مَنْ بَرَعَ فيهِ كالإمامِ الشافعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، حتَّى إنَّ الإمامَ أحمدَ كانَ يُثْنِي على الشافعِيِّ في
هذا البابِ أكثَرَ مِنْ غيرِهِ، وهوَ مِن الأمورِ الضرورِيَّةِ، وخاصَّةً
لِمَنْ أَرادَ أنْ يَتَفَقَّهَ في الأحاديثِ، وهوَ موجودٌ الاهتمامُ بهِ
مِنْ وَقتِ الصحابةِ، فأَذْكُرُ في حادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ أنَّ عليًّا رَضِيَ
اللَّهُ عنهُ مَرَّ على رَجُلٍ يَعِظُ الناسَ ويُذَكِّرُهم أوْ
يُعَلِّمُهم، فقالَ: (هلْ تَعْلَمُ ناسِخَ الْحَدِيثِ ومَنسوخَهُ؟ فقالَ: لا، فقالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ). ما يُعْرَفُ بِهِ النَّسْخُ: يُعْرَفُ النَّسْخُ بأمورٍ: القِسْمُ الأَوَّلُ: وهوَ أَصْرَحُها، ما وَرَدَ في النصِّ، كحديثِ بُرَيْدَةَ في (صحيحِ مُسْلِمٍ): ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ)). القِسْمُ الثاني: ما يَجْزِمُ الصحابِيُّ بأنَّهُ مُتَأَخِّرٌ، كقولِ جابِرٍ: ((كانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ)). القِسمُ الثالث: وهوَ الأَكْثَرُ - ما يُعْرَفُ بالتاريخِ. ويُمَثِّلُونَ لهذا بأَمْثِلَةٍ كثيرةٍ، وهيَ مَوجودةٌ في كُتُبٍ مِثْلِ: (الناسِخُ والمنسوخُ مِن الآثارِ)للحازِمِيِّ. لكنَّ هناكَ مِن العُلماءِ مَنْ يُنازِعُ في التسليمِ في كَوْنِ الْحَدِيثِ ناسخاً، والآخَرِ مَنْسُوخاً في بعضِ الأحاديثِ، ومِن الأَمْثِلَةِ التي قدْ يُنَازَعُ في كونِها ناسِخاً والآخَرِ مَنْسُوخاً: 1-حديثُ ((أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ)). وحديثُ: ((أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ احْتَجَمَ وهوَ صائمٌ)). فهذانِ الْحَدِيثانِ ظاهِرُهُما التَّعَارُضُ، قالُوا: حديثُ ((أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ)) كانَ في فَتْحِ مَكَّةَ، وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ))كانَ
في السنَةِ التي فيها حَجَّةُ الوَدَاعِ، فهذا الْحَدِيثُ يُعْتَبَرُ
مُتَأَخِّراً عن الْحَدِيثِ الأَوَّلِ، فيُعْتَبَرُ ناسخاً لهُ (هذا من
جِهةِ الأَقْوَالِ التي قِيلَتْ، والمسألةُ خِلافيَّةٌ، والخِلافُ فيها
طَويلٌ). 2-الْمِثالُ الثاني: وهوَ أَوْضَحُ مِن الْمِثالِ الأَوَّلِ: حديثُ بُسْرَةَ بنتِ صَفوانَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ)). وحديثُ: طَلْقِ بنِ عليٍّ أنَّهُ سَأَلَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ عنْ مَسِّ الذَّكَرِ، فقالَ: ((إِنَّمَا هُوَ بُضْعَةٌ مِنْكَ)). فهذانِ الْحَدِيثانِ ظاهِرُهُمَا التعارُضُ، فأحَدُهما يَدُلُّ على أنَّهُ ناقِضٌ للوُضوءِ، والآخَرُ لا يَدُلُّ على أنَّهُ نَاقِضٌ. فنقولُ:حديثُ بُسرةَ ناسخٌ لحديثِ طلْقِ بنِ علِيٍّ؛ فحديثُ طَلْقِ بنِ عَلِيٍّ عندَما
سأَلَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عنْ هذا الحكْمِ، وهوَ قادِمٌ
مِن اليَمامةِ؛ فقَدِمَ المدينةَ والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ
في أوَّلِ قُدُومِهِ للمدينةِ، وهوَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ، فساعَدَ النبيَّ
صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ في بِناءِ الْمَسجدِ، فسألَهُ عنْ هذا
الْحُكْمِ. وحديثُ بُسرةَ بنتِ صَفوانَ (وهيَ مِن الْمُهاجِراتِ بعْدَ ذلكَ)، فيكونُ حديثُها متَأَخِّراً عنْ حديثِ طَلْقِ بنِ عليٍّ، ويكونُ حديثُ بُسْرَةَ هوَ الذي يَنْبَغِي أنْ يُعْمَلَ بهِ، وحديثُ طلْقِ بنِ عليٍّ هوَ الذي يَنبغِي أنْ يُتْرَكَ العمَلُ بهِ. (وليسَ معنَى هذا أنَّ الرأيَ مُسَلَّمٌ بهِ بينَ العُلماءِ، بلْ هناكَ مَنْ يُنَازِعُ). ومِن القَرائنِ التي يُعْرَفُ بها الْمُتَقَدِّمُ مِن الْمُتَأَخِّرِ: إسلامُ الصحابيِّ، فلوْ جاءَ حديثٌ يَرويهِ أبو هُريرةَ، وحديثٌ آخَرُ يَرويهِ صحابيٌّ آخَرُ إسلامُهُ قديمٌ، ونحنُ نَعرِفُ أنَّ أبا هُريرةَ إسلامُهُ كانَ في السنةِ السابعةِ والصحابيّ
الآخَرَ إسلامُهُ متقَدِّمٌ، فقالُوا: هذهِ قَرينةٌ، هيَ أنَّ إسلامَ
الصحابيِّ المتأخِّرَِ قَرينةٌ تُفيدُ أنَّ هذا الْحَدِيثَ يُعْتَبَرُ هوَ
المتأخِّرَ، والآخَرَ هوَ الْمُتقَدِّمَ. وهذهِ
القَرينةُ فيها نَظَرٌ؛ لأنَّ الصحابيَّ الذي إسلامُهُ متأَخِّرٌ قدْ
يكونُ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ صحابيٍّ آخَرَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ
علَيْهِ وسَلَّمَ، والصحابةُ كانَ يَرْوِي بعضُهم عنْ بعْضٍ، وكان يَرْوِي
بعضُهم عنْ بعضٍ حتَّى لوْ لم يُصَرِّحْ بأنَّهُ أخَذَ الْحَدِيثَ عنْ هذا
الصحابيِّ. -
لكنْ يَرُِدُُّ على هذا إشكالٌ، وهوَ لوْ قالَ الصحابيُّ: (سَمِعْتُ رسولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ)، وهوَ صحابيٌّ متَأَخِّرُ
الإسلامِ، فهذا يَدُلُّ على أنَّهُ أَخَذَ الْحَدِيثَ متَأَخِّراً؟ قالُوا: لا، فيُمكِنُ أنْ يكونَ أخَذَ الْحَدِيثَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ قبلَ أنْ يُسْلِمَ هوَ. ويرَُدُّ عليهِ أيضاً: لوْ كانَ هذا الصحابيُّ لمْ يَلْقَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ إلاَّ بعْدَ أنْ أَسْلَمَ! ويَرِدُّ عليهِ إشكالٌ أيضاً: هلْ
هذا يَدُلُّ على أنَّ الصحابيَّ الآخَرَ، الذي إسلامُهُ قَديمٌ قدْ سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ في القديمِ، فقدْ
يكونُ سَمِعَهُ بعدَما سَمِعَ الصحابيُّ هذا الْحَدِيثَ، فإذا كانَ هذانِ
الصحابِيَّانِ عاشَا بعدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ
فَتْرَةً، وعاشَ كِلاهُما الفَترةَ الأخيرةَ مِنْ حَياةِ النبيِّ صَلَّى
اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ؛ أيْ: أنَّ أحدَهما أسْلَمَ والنبيُّ صَلَّى
اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ في مكَّةَ، ثمَّ استَمَرَّا وعاشَا بعدَ وَفاتِهِ
عليهِ السلامُ ثلاثينَ سَنَةً، والآخَرَ لم يُسْلِمْ إلاَّ في السنَةِ
السابعةِ، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ تُوُفِّيَ في السنةِ
العاشرةِ أو الحاديَةَ عشرةَ، فهناكَ ثلاثُ سنواتٍ للصحابيِّ المتأخِّرِ
الإسلامِ، والصحابيُّ الأوَّلُ قدْ يكونُ سَمِعَ الْحَدِيثَ في مُدَّةِ
الثلاثِ سَنواتٍ، فما الذي يَدُلُّ على أنَّهُ سَمِعَ الْحَدِيثَ قبْلَ أنْ
يُسْلِمَ ذلكَ الصحابيُّ؟! فما يَرويهِ الصحابيُّ المتأَخِّرُ الإسلامِ لا يَدُلُّ على أنَّ حديثَهُ هوَ المتأَخِّرُ إلاَّ بقَرينةٍ أُخْرى مثلِ:أنْ يَرِدَ وفي نفْسِ الْحَدِيثِ أنَّ ذلكَ المُعارِضَ عَرَفَ بقَرينةٍ أُخْرَى أنَّ
ذلكَ الصحابيَّ تَلَقَّاهُ مِن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ
قبلَ إسلامِ هذا الصحابيِّ، كأنْ يكونَ تَحَدَّثَ عنْ هذا الْحَدِيثِ على
أنَّهُ في وَقعةِ بَدْرٍ، أوْ وَقعةِ أُحُدٍ، وهُما
قدْ وَقَعَتَا في السنَةِ الثانيَةِ والثالثةِ، وإسلامُ ذلكَ الصحابيِّ
كانَ في السنَةِ السابعةِ مِن الْهِجرةِ؛ فهنا قَرينةٌ تَدُلُّ على أنَّ
أحَدَ الْحَدِيثَيْنِ مُتَقَدِّمٌ والآخَرَ مُتَأَخِّرٌ، أوْ يكونُ ذلكَ
الصحابيُّ صَرَّحَ بأنَّهُ تَلَقَّى الْحَدِيثَ مِن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ
علَيْهِ وسَلَّمَ حينَما كانَ في مكَّةَ، وهذا لا إِشكالَ فيهِ. أمَّا إذا لم يُعْرَفِ التاريخُ فهُنا يَقَعُ الإشكالُ. فنقولُ: لا يُمْكِنُ أنْ يكونَ الصحابيُّ المتأخِّرُ الإسلامِ يَدُلُّ على نَسْخِ حديثِ المتقدِّمِ الإسلامِ. ومِن القَرائنِ: أنْ يكونَ صَحَابِيُّ الْحَدِيثِ تُوُفِّيَ قَبْلَ إسلامِ صَحابِيِّ الْحَدِيثِ الآخَرِ. فمثلاً: الذي رَوَى الْحَدِيثَ المُعارِضَ تُوُفِّيَ في السنَةِ السادسةِ مِن الْهِجرةِ (في أحَدِ الغَزَوَاتِ)، مثلُ: سعدِ بنِ مُعاذٍ، فهنا نَعْرِفُ أنَّ حديثَ المتأخِّرِ مثلُ: حديثِ أبي هُريرةَ يَنْسَخُ حديثَ المتقدِّمِ. الكتُبُ المؤلَّفَةُ في ناسِخِ الْحَدِيثِ ومَنسوخِهِ: 1-(الاعتبارُ في ناسِخِ الْحَدِيثِ ومَنسوخِهِ) للحازِمِيِّ. 2-(ناسخُ الْحَدِيثِ ومَنْسُوخُهُ)لابنِ الْجَوْزِيِّ. 3- (ناسخُ الْحَدِيثِ ومَنسوخُهُ) لابنِ شاهينَ. وإنْ لمْ يُعْرَفِ التاريخُ فلا يَخْلُو: إمَّا
أنْ يُمْكِنَ تَرجيحُ أحدِهما على الآخَرِ بوجْهٍ مِنْ وُجوهِ الترجيحِ
المُتعلِّقَةِ بالْمَتْنِ والإسنادِ أوْ لا، فإنْ أمْكَنَ الترجيحُ
تَعَيَّنَ الْمَصيرُ إليهِ. ووُجوهُ الترجيحِ بلَغَتْ مائةَ وَجْهٍ، لكنْ نَذْكُرُ منها: 1-أنْ يكونَ أحَدُ الْحَدِيثَيْنِ أقْوَى مِن الْحَدِيثِ الآخَرِ في الصِّحَّةِ. 2-أنَّ الْحَدِيثَ الناقلَ عن الأَصْلِ مُقَدَّمٌ على الْحَدِيثِ الْمُبْقَى الْمُبْقِي على الأَصْلِ. 3-أنَّ الْحَدِيثَ المُحرِّمَ مقَدَّمٌ على الْحَدِيثِ الْمُبِيحِ. ولوْ فَرَضْنَا أنَّنا لم نَسْتَطِعْ أنْ نُرَجِّحَ فالْحَدِيثانِ مُتساويانِ في القُوَّةِ. فيقولونَ: إنَّنا نَتَوَقَّفُ عن الحكْمِ بأيٍّ مِن الْحَدِيثَيْنِ؛ لأنَّنا نَفتَقِدُ الْمُرَجِّحَ بأَحَدِهما على الآخَرِ. وعَبَّرُوا
بعِبارةِ التوَقُّفِ تَأَدُّباً معَ حديثِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ؛ لأنَّ بعضَ العُلماءِ قالَ: يَتَسَاقَطُ الْحَدِيثانِ، وهذا فيهِ
سُوءُ أدَبٍ معَ حديثِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ؛ لأنَّها
لا تَسْقُطُ. وأيضاً
فالْحَدِيثُ قدْ لا يَتَّضِحُ إمَّا التوفيقُ، أو الترجيحُ لِلَّذِي
نَظَرَ فيهِ؛ فيَتَّضِحُ الأمْرُ لإنسانٍ آخَرَ، فيكونُ الْحَدِيثُ في
حقيقةِ الأمْرِ لم يَسْقُطْ، ولكنَّهُ لم يَتَبَيَّنْ لهُ الوجهُ الصحيحُ
لهذا الْحَدِيثِ. 4-النافِي مُقَدَّمٌ على الْمُثْبِتِ. 5-القَوْلُ مُقَدَّمٌ على الفِعْلِ. 6-المنطوقُ مقَدَّمٌ على الْمَفهومِ. 7-الموافِقُ لِمَقَاصِدِ الشريعةِ يُقَدَّمُ على غيرِهِ. 8-تَعَدُّدُ القِصَّةِ، مثلُ: حديثِ أبي هُريرةَ في قِصَّةِ حِفْظِهِ للزَّكَاةِ ومَجيءِ الشيطانِ لأَخْذِ التَّمْرِ، وأبو هُريرةَ يُمْسِكُهُ ثلاثَ ليالٍ، حتَّى عَلَّمَهُ آيَةَ الكُرْسِيَِّّ وفيها: ((أَنَّهُ لا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ)). وَرَدَتْ في الطُّرُقِ أنَّها وَقَعَتْ لأُبَيِّ بنِ كعبٍ، ووَرَدَتْ أنَّها وَقعتْ لأَبِي أيُّوبَ الأنصاريِّ، فيُمكِنُ أنْ يُقالَ: الأسانيدُ إذا صَحَّتْ فهذا يُحْمَلُ على أنَّ القِصَّةَ وَقعتْ لأبي هُريرةَ، وأُبَيٍّ، وأَبِي أَيُّوبَ).
العناصر
المحكم ومختلف الحديث
أهمية دراسة (المحكم) و(مختلف الحديث)
(المحكم) و(مختلف الحديث) مما ينبغي لطالب علم الحديث أن يهتم بهما
تعريف المحكم
تعريف مختلف الحديث
مثال لمختلف الحديث
أقسام معارضة المحكم:
القسم الأول: مقبولة
القسم الثاني: مردودة
كل تعارض بين الأحاديث يدخل في (مختلف الحديث)
تنبيه: ابن قتيبة استعمل مختلف الحديث بمعنى أوسع في كتابه (تأويل مختلف الحديث)
المراد بمشكل الحديث
المؤلفات في مختلف الحديث
الفرق بين (مختلف الحديث) و(الناسخ والمنسوخ)
الناسخ والمنسوخ
تعريف (الناسخ والمنسوخ)
مثال (الناسخ والمنسوخ)
أهمية علم الناسخ والمنسوخ
أقسام النسخ في الحديث:
القسم الأول: أن ينص على النسخ في نفس الحديث
مثال القسم الأول
القسم الثاني: ما يتبين فيه النسخ بدلالة قول الصحابي
مثال القسم الثاني
القسم الثالث: ما يكون فيه النسخ بمعرفة التاريخ
مثال القسم الثالث
كيفية معرفة الناسخ والمنسوخ
المؤلفات في الناسخ والمنسوخ
مسألة: هل ينسخ بالإجماع ؟
إذا ثبت النسخ فلا يصار إلى الجمع
التعارض والترجيح
(التعارض):
أهمية معرفة مبحث تعارض الأدلة
صلة مبحث التعارض بالمصطلح
أكثر الأحاديث لم يعارضها معارض
الترجيح:
تعريف الترجيح لغةً واصطلاحا
أمثلة على الترجيح
ذكر بعض أوجه الترجيح:
أن يكون أحد الحديثين أصح من الآخر
الحديث الناقل عن الأصل مقدم على المبقي على الأصل
الحديث المثبت مقدم على الحديث النافي
إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر
رواية صاحب القصة مرجحة على رواية غيره
المؤلفات في الترجيح
أسئلة س1: بين أهمية دراسة باب (المحكم ومختلف الحديث).
س2: عرف (المحكم) و (مختلف الحديث).
س3: مثل لمختلف الحديث.
س4: اذكر بعض المصنفات في (مختلف الحديث).
س5: ما الفرق بين (مختلف الحديث) و (الناسخ والمنسوخ)؟
س6: عرف (الناسخ والمنسوخ) مع التمثيل.