29 Oct 2008
آداب الشيخ والطالب
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (وَمَعْرِفَةُ آدَابِ الشَّيْخِ وَالطَّالِبِ، وَسِنِّ التَّحَمُّلِ وَالأَدَاءِ).
نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): ( (1) (وَ) مِن المُهِمِّ أيضًا (مَعْرِفَةُ آدَابِ الشَّيْخِ وَالطَّالِبِ) ويشْتَرِكانِ في تصَحِيحِ النِّيَّةِ والتَّطْهِيرِ مِن أعراضِ الدُّنْيَا وتَحْسِينِ الخُلُقِ. وينْفَرِدُ الشَّيْخُ: - بأنْ يُسْمِعَ إذا احْتِيجَ إليهِ، ولا يُحَدِّثَ بَبِلَدٍ فيه [مَنْ هُوَ] أَوْلَى منه، بلْ يُرْشِدَ إليهِ. -ولا يَتْرُكَ إِسْمَاعَ أحدٍ لِنِيَّةٍ فاسدةٍ. - وأنْ يَتطهَّرَ ويَجْلِسَ بِوَقَارٍ. - ولا يُحَدِّثَ قَائِمًا ولا عَجِلاً، ولا في الطَّريقِ إلاَّ إن اضْطُرَّ إلى ذَلِكَ. - وأنْ يُمْسِكَ عَن التَّحْدِيثِ إذا خَشِيَ التَّغَيُّرَ أو النِّسْيَانَ لِمَرَضٍ أو هَرَمٍ. - وإذا اتَّخَذَ مجلسَ الإملاءِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُسْتَمْلٍ يَقِظٌ. ويَنْفَرِدُ الطَّالِبُ: - بأنْ يُوَقِّرَ الشَّيْخَ ولا يُضْجِرَهُ. - ويُرْشِدَ غَيْرَهُ لِمَا سَمِعَه. - ولا يَدَعَ الاسْتِفَادةَ لِحَيَاءٍ أو تَكَبُّرٍ. - ويَكْتُبَ ما سَمِعَهُ تامًّا. - ويَعْتَنِيَ بالتَّقْيِيدِ والضَّبْطِ. - ويُذَاكِرَ بمحفوظِهِ لِيَرْسَخَ في ذِهْنِهِ. (2) (وَ) مِن المُهِمِّ أيضًا معرفةُ (سِنِّ التَّحَمُّلِ وَالأَدَاءِ) والأَصَحُّ: اعْتِبَارُ سِنِّ التَّحَمُّلِ بِالتَّمْيِيزِ هَذَا في السَّمَاعِ. وقد
جَرَتْ عَادَةُ الْمُحَدِّثِينَ بِإِحْضَارِهِم الأَطْفَالَ مَجَالِسَ
الحَدِيثِ ويَكْتُبونَ لهم أنَّهم حَضَرُوا، ولا بُدَّ في مِثْلِ ذَلِكَ من
إِجَازَةِ المُسْمِعِ. والأَصَحُّ: في
سِنِّ الطَّالِبِ بِنَفْسِهِ أَنْ يَتَأَهَّلَ لذَلِكَ، ويَصِحُّ
تَحَمُّلُ الْكَافِرِ أيضًا إذا أَدَّاهُ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ، وكذا
الْفَاسِقُ مِن بَابِ أولى إذا أَدَّاهُ بعدَ تَوْبَتِهِ وثُبُوتِ
عَدَالَتِهِ. وأَمَّا الأَدَاءُ: فقدْ
تَقَدَّمَ أنَّهُ لا اخْتِصَاصَ لَهُ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ بلْ يُقَيَّدُ
بالاحْتِيَاجِ وَالتَّأَهُّلِ لذَلِكَ وهو مُخْتَلِفٌ باخْتِلاَفِ
الأَشْخَاصِ. وقال ابْنُ خَلاَّدٍ: (إذا بَلَغَ الْخَمْسِينَ، ولا يُنْكَرُ عندَ الأَرْبَعِينَ، وَتُعُقِّبَ بَمَنْ حدَّثَ قَبْلَهَا كَمَالِكٍ) ).
نظم الدرر لفضيلة الشيخ: إبراهيم اللاحم قال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: ( (1) وينبغي (معرفةُ
آدابِ الشيخِ والطالبِ، وسِنُّ التحمُّلِ وسِنُّ الأداءِ) وهذا كلُّه مِن
بابِ التاريخِ في الوقتِ الحاضرِ، وتَكَلَّمَ على صفِةِ كتابةِ الحديثِ
وعرضِه وسماعِه وإسماعِه والرحلةِ فيه، وهذا أيضًا مِن بابِ التاريخِ،
اللهمَّ إلا ما يتعلَّقُ بتحقيقِ المخطوطاتِ أو بمعرفةِ مصطلحاتِ الأئمَّةِ
المتقدِّمِينَ، هناكَ كتابٌ للقاضيِ عياضٍ اسمُه: (الإلماعُ بأصولِ
الروايةِ وتقييدِ السماعِ)، وهناك في العصرِ الحاضرِ بعضُ
المحقِّقِينَ يُدَوِّنُ ما مرَّ به مِن قواعدِ تحقيقِ المخطوطاتِ،
فَخَرَّجَ عَدَّةَ رسائلَ في قواعدِ تحقيقِ التُّراثِ منها لعبدِ السلامِ
هارونَ، وصلاحِ الدِّينِ المنجدِ، وَغَيْرُهُمَا كثيرٌ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: سعد بن عبد الله الحميد
قال الشيخ سعد بن عبد الله الحميد: (آدابُ الْمُحَدِّثِ وآدابُ طالِبِ الحديثِ:
الآنَ يَأْتِينَا مَبْحَثٌ آخَرُ، وهوَ مِن الْمَبَاحِثِ الْمُهِمَّةِ في مُصْطَلَحِ الحديثِ، لا لأنَّهُ يَنْبَنِي عليهِ تَصحيحٌ أوْ تَضعيفٌ وما أَشْبَهَ ذلكَ، لكنَّهُ مُهِمٌّ لطالِبِ العِلْمِ نفْسِهِ، وهوَ
مَعْرِفَةُ آدابِ الْمُحَدِّثِ، وآدابِ طالبِ الحديثِ، ويُقالُ: آدابُ الشيخِ والطالبِ. والحافظُ
هنا اخْتَصَرَهُ اختصاراً، وإلاَّ فكُتُبُ الحديثِ أضَافَتْ في هذا النوعِ
إضافةً كبيرةً، وهناكَ كُتُبٌ أُلِّفَتْ بِمُفْرَدِهَا عنْ هذا النوعِ
مِنْ أنواعِ الحديثِ، مثلُ: (الجَامِعُ لأخلاقِ الرَّاوِي وآدابِ السامعِ) للخَطيبِ
البَغداديِّ، وهناكَ أيضاً كتابٌ: للزرنُوجِيِّ بعُنوانِ (مُفَكِّرَةُ
الطالِبِ والْمُعَلِّمِ)، وهيَ رسالةٌ مُهِمَّةٌ لطالبِ العِلْمِ، ويَجِبُ
أيضاً أنْ يَتَدَارَسُوهَا، وكانَ العُلماءُ السابقونَ يَحُثُّونَ
تلاميذَهم على قِراءةِ مِثلِ هذهِ الرسالةِ. ومِن
الرسائلِ الْجَيِّدَةِ في هذا العَصْرِ، وتُعْتَبَرُ مُخْتَصَرَةً
ومُرَكَّزَةً (حِلْيَةُ طالِبِ العِلْمِ) للشيخِ بَكْرٍ أبو زَيْدٍ
حَفِظَهُ اللَّهُ، وأَنْصَحُ طالِبَ العلْمِ بقِراءَتِها، فهيَ لا تأخُذُ
سِوَى دَقائقَ مَعدودةٍ؛ لكونِها مُخْتَصَرَةً، لكنَّها مُرَكَّزَةٌ. وهذا
النَّوعُ مِنْ أنواعِ علومِ الحديثِ مُهِمٌّ؛لأنَّهُ يَدُلُّ طالِبَ
العلْمِ على الآدابِ التي يَجِبُ أنْ يُرَاعِيَها في مَجْلِسِ شَيْخِهِ،
وأيضاً تَدُلُّ الشيخَ على الآدابِ التي يَنبغِي أنْ يُرَاعِيَهَا في
مَجالِسِهِ معَ طُلاَّبِهِ ومُعاملتِهِ معَهُم، فهيَ مُفيدةٌ لهذا ولذاكَ،
ونَجِدُ أنَّ هذهِ الآدابَ منها آدابٌ مُشْتَرَكَةٌ بينَ الطالبِ وبينَ
الشيخِ، ومنها آدابٌ مُخْتَصَّةٌ بالشيخِ، ومنها آدابٌ مُخْتَصَّةٌ
بالطالِبِ. (1) آدابٌ مُشْتَرَكَةٌ بينَ الطالِبِ والشيخِ: فمِن الآدابِ الْمُشْتَرَكةِ بينَهما: - تصحيحُ النِّيَّةِ. - والتطَهُّرُ مِنْ أعراضِ الدُّنيا. - وحُسْنُ الْخُلُقِ. فهذهِ
آدابٌ مُشْتَرَكةٌ بالنِّسْبَةِ للأَوَّلِ والثاني، وكِلاهُما يَدُورُ
حولَ مِحْوَرٍ واحدٍ، وهوَ الإخلاصُ للَّهِ تعالى في الطَّلَبِ والتبليغِ. أمَّا
الإخلاصُ للَّهِ تعالى في الطَّلَبِ،فهوَ مُهِمٌّ جِدًّا لطالِبِ علْمِ
الحديثِ، ويَنبغِي لهُ أنْ يُرَاجِعَ حِساباتِهِ قَبْلَ أنْ يُبَادِرَ
بالطلَبِ، فيَنْظُرَ ماذا أَرادَ بهذا السبيلِ، وماذا قَصَدَ، هلْ يَطْلُبُ
هذا العلْمَ لِكَيْ يُنَافِسَ بهِ فلاناً وعِلاَّناً؟ هلْ يَطْلُبُ هذا العلْمَ لِكَيْ يَبْرُزَ بينَ الناسِ ويُشارَ إليهِ بالأَصَابِعِ؟ هلْ يَطْلُبُ العلْمَ لِكَيْ يَحْظَى بالْمَنْصِبِ الفُلانِيِّ أو الوظيفةِ الفُلانيَّةِ؟ فإنْ كَانَتْ هذهِ وأمثالُها هيَ مَقَاصِدَهُ فخَابَ وخَسِرَ حينَ ذاكَ. وأمَّا إنْ كانَ يَطْلُبُ العلْمَ لأهدافٍ عُلْيَا ومَقَاصِدَ سامِيَةٍ: -كأنْ يَسْتَغِلَّ هذا العلْمَ في الدعوةِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. - واقتيادِ الناسِ للمناهِجِ الصحيحةِ البَعيدةِ عن التَّخَبُّطِ في مَتاهاتِ الظُّلَمِ. - وتقويمِ اعْوِجَاجِ نفْسِهِ. - وأنْ
تكونَ عِبادتُهُ ومُعامَلاتُهُ كُلُّها مُتَّفِقَةً معَ ما جاءَ عن
اللَّهِ وصَحَّ عنْ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ. - أوْ
يَقْصِدُ مَثَلاً: حِفْظَ الدِّينِ على الأُمَّةِ، مِثلُ بعضِ العُلماءِ
الذي تَجِدُ الواحدَ فيهم يُعْنَى بالحِفْظِ والتَّدْوِينِ؛ فحَفِظُوا لنا
هذهِ الثروةَ الحَدِيثِيَّةَ التي أصْبَحَتْ مَناراً للسائرينَ مِمَّنْ
جاءُوا بعْدَهم، فهذهِ وأمثالُها مَقاصِدُ سامِيَةٌ، وإنْ كانَ هذا هوَ
الْمَقْصِدَ لطالِبِ العلْمِ فهيَ مَقَاصِدُ نَبيلةٌ ولا شَكَّ، وهذا هوَ
الْمُرَادُ بتصحيحِ النِّيَّةِ والتَّطَهُّرِ مِنْ أعراضِ الدُّنيا،
بمعْنَى أنْ يُريدَ اللَّهَ تعالى والدارَ الآخرةَ بهذا الطلَبِ، وأنْ
يكونَ مُعْرِضاً عنْ سَفَاسِفِ الأمورِ والحقيرِ مِنْ أعراضِ الدُّنيا. - ومِن
الآدابِ المشترَكَةِ بينَهم أيضاً تَحسينُ الْخُلُقِ؛ فالشيخُ يَنبغِي أنْ
يكونَ حَسَنَ الخُلُقِ معَ تلاميذِهِ، والطالبُ يَنبغِي أيضاً أنْ يكونَ
حَسَنَ الْخُلُقِ معَ شيخِهِ ومعَ أقرانِهِ أيضاً؛ فهذا العلْمُ يَنبغِي
أنْ يَظْهَرَ أثَرُهُ على السلوكِ، وقدْ حَثَّ دِينُ الإسلامِ على
مَحَاسِنِ الأخلاقِ، فأكثَرُ ما يُدْخِلُ الناسَ الْجَنَّةَ تَقْوَى
اللَّهِ وحُسْنُ الْخُلُقِ، فلا شَكَّ أنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِن الأمورِ
التي حَثَّتْ عليها النُّصُوصُ الشرعيَّةُ الكثيرةُ. - وطالبُ
العلْمِ يَنبغِي أنْ يكونَ عامِلاً بعِلْمِهِ، ومِن العمَلِ بالعلْمِ أنْ
يُحَسِّنَ أخلاقَهُ معَ مَشايِخِهِ ومعَ أقرانِهِ ومعَ الناسِ أَجْمَعِينَ،
بحيثُ يكونُ مِثالاً رائعاً وجَيِّداً لِمَنْ يَحْمِلُ هذا العلْمَ
الشريفَ؛ علْمَ الكتابِ وعلْمَ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ
وسَلَّمَ. لكنْ لوْ كانَ بالعَكْسِ، فلا شَكَّ أنَّ الناسَ سَيَنْفِرُونَ
ممَّا يَحْمِلُهُ مِن العِلْمِ؛ نَتيجةَ سُوءِ الْخُلُقِ الذي ظَهَرَ على
سُلوكِهِ ومُعاملاتِهِ معَ الناسِ. آدابٌ مُخْتَصَّةٌ بالشَّيْخِ: وهناكَ آدابٌ يَنْفَرِدُ بها الشيخُ، مِنْ جُملتِها: -أنْ
يُسْمِعَ إذا احْتِيجَ إليهِ؛ بمعنى أنَّهُ إذا وَجَدَ حاجةً دَاعيَةً إلى
أنْ يُسْمِعَ الناسَ، فيَجِبُ عليهِ أن يُسْمِعَ؛ لأنَّهُ إذا لم يُسْمِعْ
يكونُ كاتِماً لهذا العلْمِ، واللَّهُ عزَّ وجَلَّ أَخَذَ الْمِيثاقَ
علَيْنَا ألاَّ نَكْتُمَ هذا العلْمَ، ويقولُ تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عِمرانَ:187]، وَ((مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ))،
فلوْ كانت الحاجةُ داعيَةً لأَنْ يُحَدِّثَ هذا الْمُحَدِّثُ بعِلْمِهِ،
أوْ أنْ يَدْعُوَ إنسانٌ مُؤَهَّلٌ للدعوةِ، ويُبِيِّنَ للناسِ الطُّرُقَ
السَّوِيَّةَ، فأَعْرَضَ عنْ ذلكَ، فمَعْنَى ذلكَ أنَّهُ آثِمٌ بصَنيعِهِ
ذلكَ. ومِن
الأُمُورِ التي يَنبغِي أنْ يُرَاعِيَها الشيخُ -وهيَ مَربوطةٌ
بسَابِقَتِها- ألاَّ يُحَدِّثَ ببَلدٍ فيها مَنْ هوَ أَوْلَى منهُ؛ أيْ: إذا
كانَ هناكَ بلَدٌ فيها عالِمٌ مُتَصَدِّرٌ لإفتاءِ الناسِ وتعليمِهم
وإرشادِهم، فالَّذِي هوَ أقَلُّ مَنْـزِلَةً منهُ إذا لم تَكُنِ الحاجةُ
داعيَةً إليهِ، فعليهِ إذا جاءَهُ أحَدٌ يَطْلُبُ منهُ أنْ يُحَدِّثَهُ أوْ
يُلازِمَهُ، أنْ يُرْشِدَهُ إلى ذلكَ العالِمِ الأَفْقَهِ. وفي هذا فوائِدُ: لأنَّ هذا مِن التَّوَاضُعِ وإرشادِ الناسِ ونُصْحِهِم؛ فكأنَّهُ يقولُ: يا
أَخِي، ذاكَ أَعلَمُ مِنِّي، فأَنْتَ إنْ لازَمْتَنِي فَوَّتَّ عَلَى
نفْسِكَ فُرصةً ثَمينةً مِنْ حياتِكَ قدْ لا تُعَوَّضُ؛ قدْ يَفُوتُكَ
السماعُ مِنْ ذلكَ الشيخِ، فاذْهَبِ الآنَ ولازِمْهُ، فأنا يُمْكِنُ أنْ
تَأْتِيَنِي فيما بعدَ ذلكَ، فهذا مِن النُّصْحِ، وهوَ في حَدِّ ذاتِهِ
يُعْتَبَرُ تَوَاضُعاً أَيْضاً. وفي
هذا إغلاقٌ لبابِ التَّنَافُسِ الذي يَقَعُ في بعضِ الأحيانِ، فلَرُبَّمَا
كانَ هذا تِلميذاً لذلكَ الشيخِ، لكنْ حينَما يَرَى ذلكَ الشيخُ أنَّ
الناسَ قد انْصَرَفُوا إلى تِلميذِهِ، رُبَّما دَخَلَ عليهِ الشيطانُ مِنْ
مَدَاخِلَ وأَوْغَرَ صَدْرَهُ على ذلكَ التلميذِ. - فمِن الأَدَبِ الذي يَنبغِي أنْ يكونَ عندَ ذلكَ التلميذِ أنْ يُرْشِدَ الناسَ لذلكَ الشيخِ، ثمَّ إذا احْتِيجَ إليهِ فلا بَأْسَ. والحاجةُ
إِمَّا أنْ تكونَ بعدَ وَفاةِ ذلكَ الشيخِ، أوْ حتَّى في حالِ حَياتِهِ،
ككَوْنِ ذلكَ الشيخِ ليسَ مُسْتَعِدًّا للتَّصَدِّي للتعليمِ، أوْ
للتَّدْرِيسِ في كلِّ الأوقاتِ، بلْ لا يَستطيعُ مَثَلاً إلاَّ بعدَ
الْمَغْرِبِ، والناسُ في حاجةٍ إلى دُرُوسٍ في الصباحِ، فيُمْكِنُ لهذا
التلميذِ أنْ يَتَوَلَّى التدريسَ في الصباحِ؛ لأنَّ الحاجةَ داعيَةٌ إلى
ذلكَ، أوْ كانَ ذلكَ الشيخُ لهُ مُسْفَرَاتٌ في بعضِ الأحيانِ فتَبْقَى
البلَدُ خاويَةً، والحاجةُ قائمةٌ إلى هذا التلميذِ، فلا بَأْسَ حِينَذاكَ. قالَ الحافظُ: (ولا يَتْرُكُ إِسْمَاعَ أَحَدٍ لِنِيَّةٍ فاسِدَةٍ) فمِن
الأمورِ التي أَيْضاً يَنبغِي للشيخِ أنْ يُرَاعِيَها أنَّهُ أحياناً قدْ
يَنْفِرُ مِنْ طالبِ عِلْمٍ ما؛ إمَّا لكونِ القُلُوبِ أو الأرواحِ
جُنُوداً مُجَنَّدَةً، ورُوحُهُ لم تَتَّفِقْ معَ رُوحِ ذلكَ التلميذِ، أوْ
لكونِهِ مَثَلاً ظَهَرَ مِنْ ذلكَ التلميذِ في حَقِّهِ خَطَأٌ، أوْ ما إلى
ذلكَ، فلا يَنبغِي لهُ في هذهِ الحالةِ أنْ يَتْرُكَ إسماعَ ذلكَ التلميذِ
لأَجْلِ هذهِ النِّيَّةِ الفاسدةِ؛ لأنَّ مَدارَ كُلِّ هذا على أُمُورٍ
شَخْصِيَّةٍ نَفْسِيَّةٍ، فلا يَنبغِي في هذهِ الحالِ أنْ يَمْتَنِعَ مِنْ
إسماعِهِ، بلْ يَجِبُ عليهِ أنْ يُسْمِعَهُ؛ لأنَّهُ لو امْتَنَعَ فإنَّ في
هذا كِتْمَاناً للعِلْمِ. آدابٌ مُخْتَصَّةٌ بطالِبِ العِلْمِ: وهناكَ آدابٌ تَخْتَصُّ بطالِبِ العلْمِ،فقدْ
رَاعَى الْمُحَدِّثُونَ كِلا الْجَانِبَيْنِ، فوَجَّهُوا الكلامَ
للشَّيْخِ، ووَجَّهُوا الكلامَ للتلميذِ كذلكَ حتَّى يَسْتَوِيَ
الطَّرَفَانِ. قالَ: (وأنْ يَتَطَهَّرَ، ويَجْلِسَ بوَقارٍ)،
مُعْظَمُ الدُّرُوسِ التي كانتْ تُقامُ في السابقِ كانتْ تُقامُ في
الْمَسَاجِدِ؛ ولذلكَ يَنبغِي للشيخِ والتلميذِ على حدٍّ سَوَاءٍ إذا
جَاءَا المسجِدَ أنْ يكونَ الواحِدُ منهم مُتَطَهِّراً. أوَّلاً: ليُؤَدِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ. وأيضاً: إذا
كانَ جالساً في المسجِدِ؛ فالأَوْلَى أنْ يكونَ على طَهارةٍ؛ فقدْ تكونُ
هناكَ فُرْصَةٌ لأداءِ نافلةٍ، أوْ لقِرَاءةِ قُرآنٍ، أوْ لغيرِ ذلكَ مِن
الأمورِ. أمَّا إذا لمْ يَكُنِ الدرْسُ في الْمَسْجِدِ؛ فهذا يُعْتَبَرُ عِبادةً، وهذا بالنِّسبةِ للشيخِ والتلميذِ على حدٍّ سَوَاءٍ. قالَ: (ولا يُحَدِّثُ قائماً، ولا عَجِلاً، ولا في الطريقِ إلاَّ إذا اضْطُرَّ إلى ذلكَ). قالُوا:
لأنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يكونَ هناكَ اعتناءٌ بحديثِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ، وألاَّ يُؤْخَذَ هذا الأَخْذَ العَجِلَ الذي
يَدُلُّ على الاستخفافِ بِمِثْلِ هذا العلْمِ، بلْ يَنبغِي لهُ ألاَّ
يُحَدِّثَ إلاَّ وهوَ مُتَهَيِّئٌ للتحديثِ مُسْتَعِدٌّ لهُ، والنُّفُوسُ
أيضاً مُسْتَعِدَّةٌ، وأمَّا هكذا على عَجَلٍ فلا يَنْبَغِي. لكنْ
إذا اضْطُرَّ إلى ذلكَ، كأنْ يَلقاهُ إنسانٌ في الطريقِ، وهوَ مُحتاجٌ إلى
فَتْوَى، فلا بَأْسَ أنْ يُفْتِيَهُ ويَسْتَدِلَّ بحديثٍ عن النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ. مِن الأمورِ التي يَجِبُ أنْ يُرَاعِيَها الشيخُ أيضاً: (أنْ يُمْسِكَ عن التحديثِ إذا خَشِيَ التغيُّرَ أو النِّسيانَ لِمَرَضٍ أوْ هَرَمٍ)،
فإذا شَعَرَ في نفْسِهِ بنوعِ تَغَيُّرٍ، فيَنبغِي أنْ يُمْسِكَ عن
التحديثِ حتَّى تَسْلَمَ لهُ أحاديثُهُ، هذا في الزمَنِ الماضِي. أمَّا
في الزمَنِ الحاضِرِ، فلَرُبَّمَا أفْتَى الشيخُ فَتْوَى غيرَ
مُنْضَبِطَةٍ بسببِ ما حصَلَ لهُ مِن الاختلالِ في حِفْظِهِ، وما إلى ذلكَ،
فيَنبغِي أيضاً أنْ يُمْسِكَ عن الفَتْوَى وعن التعليمِ الذي يكونُ مِنْ
جَرَّائِهِ تعليمُ الناسِ أُمُوراً خاطِئَةً. أحياناً
نَجِدُ بعضَ الْمُحَدِّثِينَ لا يَتَنَبَّهُ هوَ بنَفْسِهِ إلى الاختلاطِ،
فَفِي هذهِ الحالةِ يَجِبُ على مَنْ كانَ وَلِيًّا لهُ مِنْ أولادِهِ أوْ
أخٍ لهُ أوْ غيرِ ذلكَ أنْ يَمْنَعُوا الناسَ مِن السَّمَاعِ لهُ في هذهِ
الحالِ؛ لِتَسْلَمَ لهُ أحاديثُهُ التي رَوَاهَا سَابقاً، فتكونَ صَحيحةً. قالَ: (وإذا اتَّخَذَ مَجْلِسَ الإملاءِ؛ أنْ يكونَ لهُ مُسْتَمْلٍ يَقِظٌ). فإذا
كانت الحلْقَةُ طويلةً، وصَوْتُ الشيخِ يَصِلُ إلى بُعْدِ عَشرةِ أمتارٍ،
وما بعدَ العشرةِ يَضْعُفُ الصوتُ، فيكونُ هناكَ بعدَ عَشرةِ أمتارٍ واحدٌ
يُقالُ لهُ: الْمُسْتَمْلِي، ويُفَضَّلُ أنْ يكونَ جَهُورِيَّ الصوتِ،
فيَسْمَعُ الحديثَ مِن الشيخِ، ويَرْفَعُ بهِ صوتَهُ؛ ليَسْمَعَهُ مَنْ
بَعْدَهُ. ورُبَّمَا
احتاجَ الْمَجْلِسُ إلى عِدَّةِ مُسْتَمْلِينَ، فيَنْقُلُ بعضُهم عنْ
بعضٍ، فقدْ كانت بعضُ المجالِسِ -وأظنُّهُ مَجْلِسَ يَزيدَ بنِ هارونَ-
كانَ يَحْضُرُ فيهِ مِائةُ ألْفٍ، فمِثلُ هذا يَحتاجُ إلى عَديدٍ مِن
الْمُسْتَمْلِينَ؛ لأنَّهُم لم تَكُنْ في أوقاتِهم مُكَبِّرَاتُ الصَّوْتِ. فإذا
اتَّخَذَ الشيخُ مُسْتَمْلِياً، فلا بُدَّ أنْ يكونَ هذا الْمُسْتَمْلِي
يَقِظاً عارِفاً فاهِماً، قالَ: ولا يكونُ كمُسْتَمْلِي يَزيدَ بنِ هارونَ،
قالَ: لأنَّهُ حينَما سُئِلَ مَرَّةً عنْ حَدِيثٍ مِن الأحاديثِ قالَ: هذا
الحديثُ حدَّثَنَا بهِ عِدَّةٌ، والمُسْتَمْلِي يَسْمَعُ، فَقَالَ: يا أبا
سعيدٍ، عِدَّةُ ابْنُ مَنْ؟ يَظُنُّ
أنَّهُ رَاوٍ، واسْمُهُ عِدَّةُ، بينَما المقصودُ عِدَّةٌ مِن الرُّواةِ؛
لِذَا قالُوا: لا يَنبغِي أنْ يكونَ الْمُسْتَمْلِي مثلَ مُسْتَمْلِي يزيدَ
بنِ هارونَ. مِن الآدابِ كذلكَ التي يَنْبَغِي أنْ يَتَفَرَّدَ بها الطالِبُ عن الشيخِ كما قالَ الحافظُ: (ويَنفرِدُ الطالبُ بأنْ يُوَقِّرَ الشيخَ ولا يُضْجِرَهُ). ونحنُ
نَعْرِفُ أنَّ الشيوخَ بَشَرٌ لهم نفُوسٌ تَمَلُّ، وأيضاً لا يَتَقَبَّلُ
الواحدُ منهم الإهانةَ أو الإعراضَ بالقَوْلِ أوْ ما إلى ذلكَ، فيَنبغِي
لطالِبِ العلْمِ أنْ يُراعِيَ تلكَ الأمورَ، فمَثَلاً إذا وَجَدَ أنَّ
شيخَهُ قدْ طالَ بهِ الْمَجْلِسُ، ورُبَّما كانَ مَشغولاً، أوْ كانَ لهُ
حاجةٌ يَقْضِيها أوْ ما إلى ذلكَ، فلا يَنْبَغِي لهُ أنْ يُلِحَّ في هذهِ
الأثناءِ، بلْ يَدَعُ المسألةَ أوْ يَدَعُ الاستفتاءَ في وقتٍ آخَرَ؛
خَشيَةَ أنْ يُضْجِرَ الشيخَ، فيَمَلَّهُ الشيخُ، ويَكْرَهَهُ ويَكْرَهَ
مُجَالَسَتَهُ، ويَكْرَهَ مُجالَسَةَ الطَّلَبَةِ. وهذهِ
المجالِسُ كذلكَ أيضاً يَنبغِي أن يُوَقَّرَ فيها الشيخُ وأنْ يُحْتَرَمَ،
لكنْ في حُدُودِ السُّنَّةِ؛ لأنَّنا نَعْرِفُ أنَّ هذهِ المسألةَ بُولِغَ
فيها عندَ طوائفَ مِن الناسِ كالصُّوفيَّةِ، فنحنُ نَرْفُضُ هذا وذاكَ،
فالتوقيرُ للمشايِخِ يَنبغِي أنْ يكونَ في حدودِ المعقولِ، كما كانَ
الصحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم يُوَقِّرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عليهِ وسَلَّمَ، بلْ أَقَلَّ؛ لأنَّ توقيرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عليهِ وسَلَّمَ فيهِ مِقدارٌ زائدٌ في بعضِ الأحيانِ، كذلكَ أيضاً مِثْلَما
كانَ العُلماءُ يُوَقِّرونَ شُيوخَهم. فمَثلاً: نَجِدُ
أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا كانَ جالساً في
أصحابِهِ لا يكونُ لهُ فضْلٌ عليهم، حتَّى إنَّ الداخِلَ لا يَعْرِفُ مَنْ
هوَ محمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا لم يَكُنْ
يَعْرِفُهُ سابِقاً، فلم يَكُن الصَّحَابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم
يُوَقِّرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ ويُعَظِّمُونَهُ
تَعظيماً زَائِداً؛ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ
يَنهاهُمْ عنْ ذلكَ، ويقولُ: ((لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ))، وَنَهَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ عن الْغُلُوِّ، فالمقصودُ هنا
أنْ يكونَ التوقيرُ والاحترامُ في حُدُودِ المعقولِ. قالَ أيضاً: (ويُرْشِدُ غيرَهُ لِمَا سَمِعَهُ)؛
أيْ: مِنْ أقرانِهِ وزُملائِهِ، ولا يَنبغِي أنْ يَكونَ الحسَدُ جارياً
بينَهم؛ لأنَّ هذا مِنْ أسبابِ حِرمانِ العلْمِ، ومِنْ أسبابِ مَحْقِ
بَركةِ العلْمِ، فالطُّلاَّبُ الذينَ لا يَنْفَعُ بعضُهم بعضاً هم
مَمْحُوقُو البَرَكَةِ؛ فيَنبغِي للطَّالِبِ أنْ يَنْفَعَ زُملاءَهُ
وأقرانَهُ بأَلاَّ يَبْخَلَ عليهم بشَيْءٍ، مِثْلُ أنْ يَكونَ الواحدُ
يُتَابِعُ الشيخَ، ويَكْتُبُ لكنَّهُ فاتَتْهُ لَفْظَةٌ، أوْ لم يَسْمَعْها
جَيِّداً فَلْيَلْتَفِتْ إلى زَميلِهِ، ويقولُ: هذهِ اللفظةُ صوابُها كذا،
أوْ يَسْتَفْسِرُ عنها إذا كانَ ذاكَ حُجِبَ عن الكتابِ، ولم يُسْمَحْ لهُ
بالْمُطالَعَةِ، فهنا يُعْتَبَرُ مِن الامتناعِ عن الإفادةِ. وأيضاً: (لا يَدَعُ الاستفادةَ لِحَيَاءٍ أوْ تَكَبُّرٍ)،
فأحياناً بعضُ الناسِ يكونُ عندَهُ سُؤَالٌ، فلا يَسْأَلُ، أوْ أُشْكِلَ
عليهِ الأَمْرُ، فلا يَسألُ، أوْ أَمْلَى الشيخُ كَلاماً، فتَجِدُهُ لا
يَسألُ، بلْ تَجِدُهُ كَتَبَ على التَّوَهُّمِ أوْ ما إلى ذلكَ، ورُبَّما
حُرِمَ كثيراً مِن العِلْمِ بسببِ الْحَياءِ أوْ بِسبَبِ التكبُّرِ،
وكِلاهما خُلُقَانِ مَذْمُومَانِ. ولا يُعْتَبَرُ الحياءُ في هذهِ الحالةِ مَحموداً، وقدْ عَلَّقَ البُخاريُّ في (صحيحِهِ) عنْ مُجَاهِدٍ مَجزوماً بهِ، وسَنَدُهُ صحيحٌ إلى مُجَاهِدٍ، وجاءَ عندَ غيرِ البُخاريِّ، أنَّهُ قالَ: ((لا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحٍ وَلا مُسْتَكْبِرٌ))،
وقد امْتَدَحَتْ عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عنْهَا نساءَ الأنصارِ بأَنَّهُنَّ
لم يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الحياءُ مِن التَّفَقُّهِ في دِينِ اللَّهِ جَلَّ
وعلا. وقدْ
جاءتْ أمُّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهَا وسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ عن المرأةِ إذا احْتَلَمَتْ، وقالَتْ: (إِنَّ الْحَيَاءَ لا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ) أوْ
كما قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عنهَا، فأَرْشَدَها أنَّ المرأةَ عليها
الغُسْلُ إذا رَأَتْهُ، وهذا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ على صِحَّتِهِ. قالَ: (ويَكْتُبُ ما سَمِعَهُ تامًّا، ويَعْتَنِي بالتَّقْيِيدِ والضَّبْطِ). كُلُّ
هذهِ مِن الآدابِ التي ذَكَرَها مِنْ أجْلِ ضَبْطِ الكتابِ وضَبْطِ
الْحِفْظِ، فيَنبغِي إذا سَمِعَ شيئاً أنْ يَكْتُبَهُ تامًّا بحيثُ لا
يَعتمِدُ على كثْرَةِ أطرافِ الحديثِ، بلْ يَنبغِي أنْ يَكتُبَهُ تامًّا،
ولا بأسَ لكَ إذا ما حَفِظَهُ أنْ يَتَّخِذَ لنَفْسِهِ كتاباً للأطرافِ؛
لأنَّ الأطرافَ دائماً تُستخْدَمُ للاستذكارِ؛ لكونِها أَخَفَّ. قولُهُ: (ويَعتنِي بالتَّقْيِيدِ والضبْطِ)؛ أيْ:
تقييدِ الحديثِ تَقييداً جَيِّداً، وضبْطِهِ أيضاً ضَبْطاً يُبْعِدُ عن
الإِشْكَالِ؛ لأنَّ الإشكالَ قدْ يَقَعُ أحياناً بسبَبِ قِلَّةِ الضبْطِ،
فلَرُبَّما مثلاً كانت الكلمةُ حَمَّالَةَ أوْجُهٍ بسبَبِ ضبْطٍ يَسيرٍ،
فإذا ضَبَطَها على وَجْهٍ أصْبَحَ مَعناها كذا، وإذا ضَبَطَها على وَجْهٍ
آخَرَ أَصْبَحَ مَعناها مُغَايِراً لذلكَ المعنى، فعليهِ أنْ يُعْنَى في
هذهِ الحالةِ بضَبْطِ الألفاظِ ضَبْطاً جَيِّداً، وإنْ ضَبَطَ الجميعَ فهذا
أَحْسَنُ وأَوْلَى. ومِن الآدابِ أيضاً التي يَنْبَغِي أنْ يُرَاعِيَها : كما قالَ: (ويُذاكِرُ بِمَحفوظِهِ لِيَرْسَخَ في ذِهْنِهِ)؛
أيْ: مِن الأحاديثِ، أمَّا المُذَاكَرَةُ فتكونُ معَ أقرانِهِ وزُملائِهِ؛
لأنَّ هذا مَدعاةٌ للحِفْظِ والاستذكارِ وتَرسيخِ الْحِفْظِ في الذهْنِ. تنبيهٌ: ولم
يَذْكُرِ الحافظُ هنا مَسألةَ: العملِ بالحديثِ، وهيَ مِن الأُمُورِ التي
نَصُّوا عليها في آدابِ طالِبِ الحديثِ، قالُوا: يَنبغِي أنْ يَعْمَلَ
بالحديثِ الذي يَسمَعُهُ، فإذا عَرَفَ مَثلاً في (صحيحِ البُّخاريِّ) حديثَ: ((كَلِمَتَانِ
خَفِيفَتَانِ فِي اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ
إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ
الْعَظِيمِ))، فمِنْ دَوَاعِي
الحفْظِ لهذا الحديثِ العملُ بهِ، فإذا كانَ يقولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ
وبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العظيمِ، فلا شَكَّ أنَّهُ سيَسْتَحْضِرُ
هذا الحديثَ الذي رَواهُ البُخاريُّ. (2) مَعرِفَةُ سِنِّ التَّحَمُّلِ وسِنِّ الأَدَاءِ: مِن
الْمُهِمِّ أيضاً مَعرِفَةُ سِنِّ التَّحَمُّلِ وسِنِّ الأداءِ، ومَسألةُ
سِنِّ التَّحَمُّلِ فيها أنَّ الطَّالِبَ يَبدأُ التَّحَمُّلَ متَى كانَ
مُمَيِّزاً فقطْ، وأمَّا تَحديدُ السِّنِّ، فليسَ هناكَ سِنٌّ راجِحٌ
تحديدُها وتَعيينُها، بل اخْتَلَفَتْ أقوَالُهم، فمِنهم مَنْ قَيَّدَها
بخَمْسِ سنينَ، ومِنهم مَنْ قَيَّدَها بسَبْعِ سِنينَ، ومِنهم مَنْ
قَيَّدَها بخمْسَ عشرةَ سنةً وهكذا، لكنَّ الصحيحَ في هذا أنَّهُ متَى ما
مَيَّزَ الطَّالِبُ فإنَّهُ يَصِحُّ تَحَمُّلُهُ حينَ ذاكَ، وهذا فقطْ مِنْ
أجْلِ التَّحَمُّلِ. أمَّا الأداءُ: فيقولُ الحافظُ: (وقدْ جَرَتْ عادةُ الْمُحَدِّثِينَ بإحضارِهم الأطفالَ في مجالِسِ الحديثِ ويَكْتُبُونَ لهم أنَّهُم حَضَرُوا) فقدْ
جَرَتْ عادةُ المحدِّثينَ -بخاصَّةٍ مِن المُتَأَخِّرِينَ- أنَّهُم إذا
حَضَرَ الشابُّ الصغيرُ سَأَلُوا عنْ عُمْرِهِ، فإنْ كانَ عُمْرُهُ خمسَ
سَنواتٍ فما فَوْقُ، ففي هذهِ الحالةِ يَكْتُبُونَ لهُ سَمَاعاً؛ لأنَّهُ
متى يَسمعونَ جُزءاً حَدِيثِيًّا مِن الأجزاءِ عن الشيخِ، فكُلُّ واحدٍ
يُريدُ أنْ يكونَ هذا الجُزْءُ مِنْ مَسموعاتِهِ يَرويهِ هوَ بسَنَدِهِ. وبعضُ
المحدِّثينَ يَحْرِصُ على الشيخِ، وابنُهُ ما زالَ صَغيراً، فيُريدُ أنْ
يَظْفَرَ بعُلُوِّ الإسنادِ لابنِهِ، فيأتِيَ بابنِهِ في مَجْلِسِ هذا
الشيخِ، فحينَ ذاكَ يَسألُهُ ذاكَ المُحَدِّثُ: كَمْ عُمْرُ ابْنِكَ؟ فإنْ
قالَ: خمسُ سنواتٍ، قالَ: اكْتُبُوا لهُ سَمَاعاً؛ أيْ: صَحَّ لهُ السماعُ
مِنْ هذا الشيخِ، فيُجِيزُهُ في هذهِ الروايَةِ، أوْ بذلكَ الجُزْءِ مِن
الحديثِ، لكنْ إذا كانَ أقَلَّ مِنْ خَمْسِ سنواتٍ قالُوا لهُ: اكْتُبُوا
لهُ حُضُوراً. وفَرَّقُوا
بينَ الحُضُورِ وبينَ السَّماعِ،فالسَّماعُ يُعْتَبَرُ سَماعاً صَحيحاً،
والحضورُ يَعتبرونَهُ حُضوراً فقطْ، بمعنَى أنَّ سَمَاعَهُ غيرُ صحيحٍ في
هذهِ الحالةِ، وأنا أَذْكُرُ أنَّ في (مُسْنَدِ ابنِ أبي أَوْفَى) كُنْتُ
قدْ أحْضَرْتُ جُزءاً صَغيراً مَوجوداً في الأسواقِ في آخِرِهِ، وكانَ
الحافِظُ العراقيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّنْ سَمِعَ هذا الجُزْءَ على
أَحَدِ مشايِخِهِ، فجاءَ بابْنَيْهِ، وهوَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ
مَحَبَّتِهِ للحديثِ وأَهْلِهِ سَمَّى ابْنَيْهِ وكَنَّاهُما أيضاً
بكُنْيَةِ إمَامَيْنِ مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ، فالأكبرُ كَنَّاهُ أَبَا
زُرْعَةَ، والأصغرُ كَنَّاهُ أبا حاتمٍ، فهذانِ الابْنَانِ أَحْضَرَهُما
العراقيُّ؛ لأَجْلِ سَمَاعِ (مُسْنَدِ ابنِ أبي أَوْفَى) في
مَجْلِسِ ذلكَ الشيخِ، فأَذْكُرُ أنَّهُ مِمَّنْ حَضَر زَيْنُ الدِّينِ
عبدُ الرحيمِ العراقيُّ، وابْنَاهُ أبو زُرعةَ أحمدُ وأبو حاتمٍ محمَّدٌ
حاضِرَانِ، وهما في الرابعةِ مِنْ عُمْرِهما، (أيْ: لا يَصِحُّ تَحَمُّلُهُما في هذهِ الحالةِ)، لكنْ
لوَفاةِ ذلكَ الشيخِ يَتَحَصَّلُ على الحديثِ بنُزُولٍ، إمَّا مِنْ شيخٍ
آخَرَ يَذْكُرُ هذا، ويَذْكُرُ أنَّهُ كانَ حاضراً في ذلكَ المجلِسِ؛ أيْ:
فيهِ نَوْعُ سَمَاعٍ، وإنْ لمْ يَكُنْ سَمَاعاً كَامِلاً. قالُوا: والأَصَحُّ
في سِنِّ الطالبِ أنْ يَتَأَهَّلَ لذلكَ؛أيْ: يكونَ مُمَيِّزاً، هذا هوَ
الأَصَحُّ. قالُوا: ويَصِحُّ أيضاً تَحَمُّلُ الكافرِ إذا أَدَّاهُ بعدَ
إسلامِهِ. وكذا: الفاسقُ مِنْ بابِ أَوْلَى إذا أَدَّاهُ بعدَ تَوْبَتِهِ وثُبوتِ عَدالتِهِ؛ أيْ: يُقاسُ على هذا، بلْ يكونُ مِنْ بابِ أَوْلَى. قالُوا: وأمَّا الأداءُ فتَقَدَّمَ أنَّهُ لا اختصاصَ لهُ بذلكَ بزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، بلْ تَقَيَّدَ بالاحتياجِ والتَّأَهُّلِ لذلكَ. لكنْ
يُشْتَرَطُ في حالِ الأداءِ أنْ يكونَ هناكَ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ لا
يُؤَدِّي قَبْلَها، وهنا اختلافٌ أيضاً بينَ الْمُحَدِّثِينَ، فيقولُ ابنُ
خَلاَّدٍ: (إنَّهُ يَنْبَغِي لهُ ألاَّ يُحَدِّثَ قبلَ الخمسينَ، وإنْ حَدَّثَ في الأربعينَ فلا بَأْسَ)؛ أيْ: أنَّهُ أَدْنَى حَدٍّ للتحديثِ، بمعْنَى أنَّ الذي قَبْلَ سِنِّ الأربعينَ لا يَنْبَغِي لهُ أنْ يُحَدِّثَ. ولا
شَكَّ أنَّ هذا الكلامَ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ هناكَ الكثيرَ مِن الأَئِمَّةِ،
بلْ مِن الصحابةِ، مَنْ حَدَّثَ قبْلَ هذا السِّنِّ بكثيرٍ، فالإمامُ
مالِكٌ على سبيلِ الْمِثالِ قالُوا: إنَّهُ حَدَّثَ ولهُ نَيِّفٌ وعِشرونَ سَنَةً. بلْ قيلَ: إنَّهُ
حَدَّثَ ولهُ سبعةَ عشرَ عاماً، وكذلكَ أيضاً الشافعيُّ، وشيخُ الإسلامِ
ابنُ تَيْمِيَةَ، وغيرُهم، فكُلُّ هؤلاءِ حَدَّثُوا وهم في مُقْتَبَلِ
العُمْرِ. ولكنْ
يُقَيَّدُ هذا بالاحتياجِ إليهِ، أمَّا إذا ما لم يُحْتَجْ إليهِ،
فيَنبغِي لهُ أنْ يُرَكِّزَ في هذهِ السَّنَوَاتِ الأُولَى على الطلَبِ).
العناصر آداب طلب علم الحديث: 1 - أن يُسمع إذا احتيج إليه . - أنه من التواضع . - فيه إرشاد الناس ونصحهم لما هو خير لهم. - ذكر بعض المصنفات في آداب الرواية والتحديث - كتب في آداب طالب علم الحديث ثانياً: معرفة سن التحمل والأداء:
أولاً: معرفة آداب الشيخ والطالب:
أ- الآداب المشتركة بين الشيخ وتلميذه:
1 - تصحيح النية :
بيان كيفية تصحيح النية.
2 - حسن الخلق.
ب- ما ينفرد به الشيخ من الآداب:
2 - أن لا يحدث في بلد فيه من هو أولى منه، وفي هذا فوائد من جملتها:
- دليل على عدم الحرص على التصدر.
3- أن لا يترك إسماع أحد لنية فاسدة .
4 - أن يتطهر ويجلس بوقار.
5 - أن لا يحدث قائمًا ولا عجلاً ولا في الطريق إلا إن اضطر إلى ذلك .
6 - أن يمسك عن التحديث إذا خشي التغير أو النسيان لمرض أو هرم .
7 - إذا اتخذ مجلسًا للإملاء فينبغي أن يكون له مستمل فطن .
ج: ما ينفرد به الطالب من الآداب:
1 - أن يوقر الشيخ ولا يضجره .
- توقير الشيخ واحترامه يكون في حدود السنة .
2 - أن يرشد الطالب غيره من أقرانه وزملائه لما سمعه .
3 - لا ينبغي له أن يدع الاستفادة لحياء أو تكبر.
4 - أن يكتب ما سمعه ويعتني بالتقييد والضبط .
5 - أن يذاكر ما حفظه من الأحاديث مع أقرانه وزملائه .
6 - أن يعمل بالحديث الذي يسمعه إذا كان صحيحاً.
- الخلاف في أقل سن التحمل.
- الراجح في تحديد سن التحمل أن مرجعه إلى التمييز.
- جرت عادة المحدثين بإحضار الأطفال مجالس الحديث وكتابة حضورهم.
- الفرق بين الحضور والسماع :
- يصح تحمل الكافر إذا أدى الرواية بعد إسلامه.
- يصح تحمل الفاسق إذا أدى الرواية بعد توبته وثبوت عدالته.
- بيان أن الأداء لا اختصاص له بسن معين.
الأسئلة س1: اذكر أهم الآداب المشتركة بين الشيخ والتلميذ.
س2: اذكر أهم الآداب المختصة بالشيخ.
س3: اذكر أهم الآداب المختصة بالتلميذ.
س4: اذكر بعض الكتب المؤلفة في آداب الرواية والتحديث.
س5: ما فائدة معرفة سن التحمل والأداء؟