مقدمات
قال أبو محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف ابن هشام الأنصاري (ت:761هـ): (مقدمات
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قال الشيخ الإمام العالم العامل جمال الدين بن هشام ـ نفع الله المسلمين ببركته ـ: أما
بعد حمد الله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا وعبده، محمد وآله من
بعده؛ فهذه فوائد جليلة في قواعد الإعراب، تقتفي، بمتأملها جادة الصواب،
وتطلعه في الأمد القصير على نكت كثير من الأبواب، عملتها عمل من طب لمن حب،
وسميتها بـ: (الإعراب عن قواعد الإعراب)
ومن الله أستمد التوفيق والهداية إلى أقوم طريق بمنه وكرمه. وتنحصر في أربعة أبواب.
نظم قواعد الإعراب لابن ظهيرة المكي
قال جمال الدين محمد بن عبد الله ابن ظهيرة المكي (ت: ٨١٧ هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم
يَقولُ رَاجِي رَحْمَةَ الإلَهِ = مُحمَّدٌ هو ابنُ عبدِ اللَّهِ
الحَمْدُ للَّهِ العَلِيمِ الفَاطِرِ = ثُمَّ الصَّلاةُ مِن مَلِيكٍ قَادِرِ
علَى النَّبِيِّ الهَاشِميِّ الهَادِي = وآلِهِ والصَّحْبِ والأَوْلادِ
وهَاكَ في قَواعِدِ الإعْرابِ = نَظْمَ الكِتابِ المُبْدِعِ الإعْرابِ
وأسْأَلُ اللَّهَ بهِ أَنْ يَنْفَعَا = قَارِئَهُ وسَامِعاً ومَن دَعَا
شرح قواعد الإعراب للعلامة: محمد بن سليمان الكافيجي قال محيي الدين محمد بن سليمان الكافيجي
(ت: 879هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم
رب زدني علما
الحمد لله الرافع لقواعد
الدين والإسلام، الناصب لرايات الهدى إلى دار الخلد والسلام، والصلاة
والسلام على الرسول محمد سيد الأنام، وعلى آله وأصحابه النجباء الكرام، ما
ركع الساجد مع الإمام، وأزهر النور في الأكمام.
أما بعد، فإن العبد المستمد من فيض فضل العزيز الوهاب، محمد بن سليمان المشهور بكافيجي بين الأصحاب، يقول:
لما رأيت الكتاب المسمى بـ
(الإعراب عن قواعد الإعراب) للشيخ الإمام جمال الدين أبي محمد، عبد الله
بن يوسف بن هشام ـ رزقه الله حسن المآب ـ في غاية حسن الوقع عند ذوي
الألباب، ونهاية عموم النفع لمن تأمله من الطلاب، لكنه غير مستغن عن شرح
يسفر عن وجوه مخدراته النقاب، ويبرز خفي مكنوناته من وراء الحجاب، استخرت
الله ـ تعالى ـ أن أرتب له شرحا يسهل بذلك أبيات شوارده الصعاب، ويكشف عما
أودع في قواعده لتحقيق شبه الشك والارتياب، ويجعل الخفي من لطائف مستودعاته
كالشمس مشرقة بعد تكشف السحاب، وأضفت إلى ذلك من المباحث التفسيرية وغيرها
ما يناسب سياق الكتاب، مستمسكا بحبل الصواب. وهو المعين ومفتح الأبواب.
قال الشيخ، اقتداء بكتاب الله الكريم: باسم الله الرحمن الرحيم. أقول: ههنا أبحاث، لا بد من التنبيه عليها.
فالأول: أن الباء حرف من
حروف المعاني، يؤتى بها لربط أمر بأمر، ومناها ههنا المصاحبة والملابسة،
كما في قوله تعالى: {تنبت بالدهن}. ويجوز أن تكون للاستعانة، كالباء في
قوله: كتبت بالقلم. فاعلم أن الأول يناسب الدراية، والثاني يناسب الرواية.
لكن الأول لما كان أظهر رجح على الثاني.
فإن قلت: إذا جاءت الحروف
على حرف واحد فالقياس أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو كاف
التشبيه. فما بال الباء بنيت على الكسر؟
قلت: لما كانت لازمة للحرف والجر اقتضت ذلك.
البحث الثاني: أن متعلق
الباء محذوف فعند البصريين تقديره ابتداء وكائن باسم الله فيكون المحذوف
حينئذ ثلاثة أشياء: المضاف والمضاف إليه والكون ـ وعند الكوفيين تقديره:
ابتدأت باسم الله. فيكون الجار مع المجرور في محل نصب متعلقا بالفعل
المحذوف، منصوب المحل.
قال صاحب (اللباب): قول
النحاة: (الجار مع المجرور في محل النصب) محمول على المسامحة، إذ لا شك أن
منصوب المحل هو المجرور فقط، بشهادة المعنى المستقيم، وبدلالة الذوق
السليم. أقول: يدل على ذلك إدخال كلمة (مع) على المجرور. فإنها تدل على
المتبوعية والأصالة. ألا ترى أنهم يقولون: جاء الوزير مع السلطان، ولا
يقولون: جاء السلطان مع الوزير؟
فإن قلت: الجار له تعلق
بمعنى الفعل، فالمجرور له به تعلق. فما الفرق بينهما؟ قلت: تعلق الجار من
جهة الإفضاء، وتعلق المجرور من جهة المعمولية. فمعلوم أن محل الإعراب إنما
يتصور في الجهة الثانية، فقط.
وعند صاحب (الكشاف) يقدره
(بسم الله أقرأ) كما إذا قال المسافر في وقت ارتحاله: (باسم الله) فإنه
يتعلق بـ (أرتحل)، أي: باسم الله أرتحل.
فإن قلت: إذا كان المتعلق
هو القراءة عنده فما معنى قوله: (على معنى: متبركا باسم الله أقرأ) ؟ فإن
المتبادر من هذا القول أن المتعلق هو التبرك لا القراءة، فلا يتم التقريب.
قلت: إن هذا ميل منه إلى جانب المعنى، لا بيان المتعلق. ألا ترى أنهم
يقولون: معنى كتبت بالقلم بمعنى كتبت مستعينا بالقلم، ومعنى سرت من البصرة
معنى سرت مبتدئا من البصرة؟ وأمثال هذا أكثر من أن تحصى.
ومن قال: (إن الجار مع
المجرور متعلق بالحمد، فيكون المتعلق مذكورا) فقد نفى. فإن ذلك بعيد من جهة
اللفظ والمعنى. فإن القصد ههنا إلى نفس الحمد، لا إلى تعلقه، كما لا يخفى
على ذوي الفطرة السليمة. هذا، وإن المحذوف ثابت لغة ، ساقط ذكرا. وإلا فلا
يكون الحذف من الأبحاث المتعلقة باللغة.
البحث الثالث: أن ما ذهب
إليه صاحب (الكشاف) ههنا هو المختار. فإن فيه قلة الحذف؛ رعاية بحق خصوصية
المقام، ودلالة على اختصاص القراءة باسم الله، وتعليما للمؤمنين بأن طريقهم
هو الحق والصواب، أو تعريضا للكفار بأن سبيلهم هو الخطأ والطغيان. فمعلوم
أن هذه الاعتبارات تناسب نظم القرآن: وتشهد بفصاحته وغاية إعجازه. وأما ما
ذهب إليه البصريون والكوفيون فهو خال عما ذكر. بل غاية جل أمره بيان
المتعلق من غير رعاية المقام. وأنت خبير بأن التقدير مهما كان أوجز كان
أولى، لاسيما مع تلك الدقائق اللطيفة.
فإن قلت: فلا يكون
الابتداء بـ (بسم الله) على ما اختاره، وقد ورد الحديث: ((كل أمر ذي بال لا
يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر)). قلت: الابتداء أمر عرفي، يعتبر ممتدا من
حين الأخذ إلى الشروع في البحث والمقصود، فيحصل الابتداء بـ (بسم الله).
وقول من قال: (إن المراد من الابتداء هو الفعل الذي يبتدأ به ويشرع فيه،
كالقراءة ونحوها) فهو مردود، لأنه يخالف المفهوم الظاهر من الحديث.
فإن قلت: يقدر المتعلق
(ابتدئ) يلائم مفتتح الكلام ويناسب منطوق الحديث. قلت: نعم لكن رعاية مقتضى
المقام أمر راجح، وشاهد يكشف أسرار بلاغة نظم القرآن.
البحث الرابع: أن قوله،
عليه السلام: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم)) يعارض قوله،
عليه السلام: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر)). فإن
الابتداء بأحدهما يفوت الابتداء بالآخر. فكيف التوفيق بينهما؟
قلت: الأصل أن الدليلين إذا تعارضا لا يتركان، مهما أمكن الجمع بينهما.
فإن الإعمال بينهما بقدر الإمكان أولى من الإهمال بالكلية، ومن الإعمال بأحدهما.
فحمل حديث التسمية على
ابتداء الكلام، بحيث لا يسبقه أمر من الأمور، وحمل حديث التحميد على ابتداء
ما عدا التسمية. فإن حديث البسملة أقوى، بكتاب الله الوارد على هذا
المنوال، وبالإجماع المنعقد عليه.
فإن قلت: أرى كثيرا من
الأمور يبتدأ فيه بـ (بسم الله) مع أنه لا يتم، وأرى كثيرا بالعكس. فما
المراد من الحديث؟ قلت: المراد منه ألا يكون معتبرا في الشرع. ألا ترى أن
الأمر الذي ابتدئ فيه بغير اسم الله غير معتبر شرعا، وإن كان تاما حسنا؟
هذا، وإن الاسم أصله (سمو)
عند البصريين، حذف آخره وبني أوله على السكون، وأدخل عليه مبتدأ به همزة
الوصل، لأن عادة العرب أن يبتدئوا بالمتحرك، ويقفوا على الساكن.
فإن قلت: الابتداء بالساكن
ممتنع أو ممكن؟ قلت: الحق ههنا هو التفصيل بأن يقال: إن كان السكون للساكن
لازما لذاته يمتنع، كالألف والألف، وإلا فيمكن. لكنه لم يقع في كلامهم،
لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة.
ومجيء (سمى) كهدى لغة فيه. قال:
والله أسماك سمى مباركا
فالاسم إن أريد به اللفظ
فغير المسمى، وإن أريد به ذات الشيء فهو عين المسمى. لكنه لم يشتهر بهذا
المعنى. فعلم من هذا إمكان حمل النزاع على النزاع اللفظي. قال الإمام
الرازي: إنا لم نجد شيئا معتدا به في النزاع أن الاسم هل هو عين المسمى أو
غيره؟
فإن قلت: كيف يفيد إضافة
الاسم إلى (الله) – تعالى- مع أنه اسم، ليس له اسم؟ قلت: إنها من قبيل
إضافة العام إلى الخاص، كخاتم فضة، إذ لا حجر عن ذلك. فإن اعتبار الخصوص
فيه إنما هو بحسب اللفظ، فقط، قيل: المضاف ههنا مقحم، دخوله وخروجه سيان،
جيء به لإرشاد حسن الأداء، مع دفع الالتباس وتوهم التخصيص. وقيل: إن الاسم
ههنا بمعنى التسمية. وقد يجاب بأن في الكلام حذف مضاف، تقديره: باسم مسمى
الله.
فإن قلت: لم لم يكتب الألف
على ما هو وضع الخط؟ قلت: حذفت الألف لكثرة الاستعمال، وطولت الباء عوضا
عنها. قال عبد الله بن درستويه: خطان لا يقاسان: خط المصحف، وخط العروض.
والله: علم دال على الذات المعبود بالحق، إذ لو لم يكن علما لما أفاد التوحيد. لكنه مفيد، فيكون علما.
فإن قلت: إفادة التوحيد
موقوفة على العلمية، والعلمية موقوفة على الإفادة، فيلزم الدور قلت:
الإفادة موقوفة على ذات العلم، بدون اعتبار كونه علما، وهي لفظ الجلالة.
والعلمية؛ أي: كون ذلك اللفظ علما، موقوفة على الإفادة. فلا دور، لاختلاف
الجهة. وأنت خبير بأن كون الشيء بديهيا لا يستلزم كون وصفه بديهيا.
فإن قلت: أليس هذا إثبات
اللغة بالاستدلال، وذا لا يجوز. فإن اللغة لم تبن على المشاحة؟ قلت: ليس
الأمر كذلك. بل هو في الحقيقة تصوير المنقول بالمعقول، ليرى أنه من المباحث
القطعية. قال الله، تعالى: {هل تعلم له سميا} ؛ أي: هل تعلم أحدا سمي بهذا
الاسم غيره؟ كذا روي عن الخليل وابن كيسان.
ولأجل هذا اختص الحمد بهذا
الاسم، لأنه لما كان علما للذات المستجمع لجميع الصفات كان تلبس الفعل به
في قوة تلبسه بجميع أسمائه وصفاته، من غير عكس. ألا ترى أن الإيمان أخص
بهذا الاسم، حيث قال النبي، صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس،
حتى يقولوا: لا إله إلا الله))، مع أن الإيمان بجميع الصفات واجب، لأنه اسم
للذات المستجمع؟
وقيل: إنه وصف مشتق من
الأله. وقيل: أصله (لا ها) بالسريانية، فعرب بحذف الألف الأخيرة وإدخال
الألف واللام عليه. وتفخيم لامه، إذا انفتح ما قبلها أو انضم، منه. وحذف
ألفه لحن. وقد جاء لضرورة الشعر:
ألا، لا بارك الله في سهيل إذا ما الله بارك في الرجال
وقد حققنا هذه الأبحاث في (جواب الأنظار).
والرحمن: فعلان، من (فعل)
بالكسر، كغضبان وسكران من غضب وسكر، صفة مشبهة، لكن بعد النقل إلى (فعل)،
أو بعد تنزيل المتعدي منزلة الفعل اللازم، كما في قولك: فلان يعطي.
فإن قلت: من أين علم أن
الرحمن ليس بعلم، مع أنه مختص استعماله؟ قلت: من جهة أنه يقع صفة، وأن
معناه المبالغ في الإنعام، لا الذات المخصوص. وأيضا لو كان علما لكان
قولنا: (لا إله إلا الرحمن) يفيد التوحيد، كقولنا لا إله إلا الله.
والرحيم: فعيل، من (رحم)
أيضا، كمريض من مرض. لكن في الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم، لما
تسمعهم يقولون: إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى. ومن ثم قيل: إن الرحيم
يتناول دقائق النعم ولطائفها، كما أن الرحمن يتناول جلائل النعم وعظائمها.
فإن قلت: ما معنى وصف الله
بالرحمة، ومعناها اللطف والحنو؟ قلت: هو مجاز عن الإنعام. قال الإمام
الرازي: (إذا وصف الله تعالى بأمر، ولم يصح وصفه به، يحمل على غاية ذلك
وملائمه. وهذه قاعدة مطردة في كل مقام). واستدل بعض المحققين باختصاص
الرحمن بالله -تعالى- على أن المجاز لا يستلزم الحقيقة.
وأما قول الشاعر، في مسيلمة:
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فليس بحجة، لأنه تعنت في الكفر.
ولما كان مفتتح كل كتاب
ينبغي أن يكون مرشحا بالحمد لله، مرتبا بالثناء على رسوله، قال الحمد لله.
هو الوصف بالجميل، على جهة التعظيم والتبجيل.
فإن قلت: ما معنى كون حمد
العباد لله تعالى، مع أن حمدهم حادث، ولا يجوز قيام الحادث بالله، تعالى؟
قلت: المراد منه تعلق الحمد به، ولا يلزم من التعلق القيام به، كتعلق العلم
بالمعلومات. فلا يتوجه الإشكال أصلا. وقد أجاب عنه بعض الفضلاء، بأن الحمد
مصدر بناء المجهول. فيكون النائب له هو المحمود به. وقيل: اللام ههنا
للتعليل، بمعنى أن الحمد ثابت لأجل الله تعالى، كما في قولك: الدار لفلان.
رب معناه: مالك. من ربه
يربه فهو رب. وقيل هو في الأصل بمعنى التربة_ وهي تبليغ الشيء إلى كماله
شيئا فشيئا_ ثم وصف به للمبالغة، كما وصف بالعدل والصوم. وهو اسم من أسماء
الله_ تعالى_ ولا يطلق على غيره إلا مقيدا، كقولهم: رب الدار، وقوله تعالى:
{ارجع إلى ربك}. وقد استعمل في الجاهلية للملك، لأنه لحفظه ما يملكه. قال
الشاعر:
وهو الرب، والشهيد على يوم الحوارين، والبلاء بلاء العالمين.
والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم، ثم غلب استعماله فيما يعلم به الصانع.
وإنما جمع، ليتحقق شموله كل جنس مما سمي به. وقيل هو اسم لذي العلم من الملائكة والثقلين، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع.
ثم لما وجبت الصلاة بالشرع
على النبي -صلى الله عليه وسلم-وكانت من سنة الخطبة قال: والصلاة-فعلة من
صلى إذا دعا. والمراد منه ههنا هو المعنى المجازي. والاعتناء بشأن المصلى
عليه، وإرادة الخير له- على محمد. سمي به لكثرة خصاله المرضية. قال حسان:
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
سيد-من ساد قومه سيادة فهو
سيد. وزنه: فعيل. فيكون أصله (سيود)، قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في
الياء- المرسلين. قيل: الرسول أخص في الشرع من النبي. فكل رسول نبي، من غير
عكس.
وعلى آله. أصله أهل، لمجيء تصغيره أهيلا. وأل الرجل أهله وعياله.
يقول: أهلت بالرجل، إذا أنست [به]. ومعنى قولهم: (أهلا) : أتيت أهلا.
فاستأنس ولا تستوحش. وقيل
أصله (أول) من آل إليه الأمر. وأهل الرجل آله، لأنه يؤول إليه. ويقال
لأتباع الرجل: آل، أيضا. ففي الشرع آل الرسول هو المؤمن التقي السالك
لشريعته.
قيل: الصلاة على غير النبي جائزة، على سبيل التبع. فإذا أفرد فلا، لئلا يتهم بالرفض.
وأصحابه: جمع صاحب. وقيل: جمع صحب. وله معنيان: أحدهما عرفي.
وهو من يكون كثير الصحبة، كما يقال: زيد خادم فلان، إذا كان كثير الخدمة له.
والآخر لغوي. وهو من يكون
مصاحبا، ولو كان ساعة. فلهذا اختلف الناس في تفسيره، فقال سعيد بن المسيب:
صاحب الرسول هو من أقام معه سنة أو سنين، نظرا إلى المعنى العرفي. وقال
[الآخرون: كل] من رأى النبي –عليه السلام – من المسلمين، اعتبارا بالمعنى
اللغوي.
أجمعين. ففي إيثاره التأكيد إشارة إلى طريقة السلف، وإلى رد أهل البدع والأهواء.
أما- كلمة فيها معنى
الشرط. ولذلك كانت الفاء لازمة لجوابها غالبا، كقولهم: أما زيد فمنطلق –
بعد أي: بعد زمن الفراغ، كقولهم: أما زيد فمنطلق – بعد أي: بعد زمن الفراغ
من الحمد والصلاة. حذف المضاف إليه، لكونه معلوما، وبني على الضم، ومحله
النصب، والعامل فيه (أما) لكونه نائبا مناب الفعل. فإن سيبويه قال: (قولهم:
أما زيد فمنطلق، معناه: مهما يكن من شيء فزيد منطلق). فيكون التقدير: مهما
يكن من شيء بعد الحمد والصلاة. وهو في الأصل من الجهات الست، لكنه ههنا
ظرف زمان، كما أشرنا إليه فهذه. الظاهر أن المشار إليه ههنا محقق، إجراء
للكلام على المتبادر، ولجري العادة بتأخير الخطبة عن سائر ما في الكتاب.
ويجوز أن يكون المشار إليه غير محقق. لكنه لما كان في صدد الوقوع وحاضرا في
الجملة، نزل منزلة الموجود المحقق، فعبر عنه باسم الإشارة.
فوائد: على وزن (فواعل) غير منصرف. وهي جمع فائدة من الفيد لا من الفود.
وهي في اللغة ما استفدت من
علم أو مال، وفي الاصطلاح ما يكون الشيء به أحسن حالا منه بغيره. والمراد
منها ههنا هو ما يكون فائدة الإعراب به أحسن قبولا منها لغيره.
وذلك ضبط الجمل التي لها
محل من الإعراب، والتي ليس لها محل منه، وتفصيل الإعراب في الجار والمجرور،
وفي الظرف، إلى غير ذلك الذي حصل من حسن رعاية القاعدة النحوية التي رتبها
على أحسن الترتيب. ويجوز أن يكون المراد ههنا العبارات المحررة، فتكون
القواعد عبارة عن المعاني، ويجوز أن يراد بالعكس. ويمكن حمل الكلام على
الإطلاق والتقييد. ولكن الظاهر هو الذي قدمناه.
جليلة: عظيمة كثيرة. يقال:
فلان جل أي: عظم قدره. ويقال: ما أجلني وما أدقني أي: ما أعطاني كثيرا ولا
قليلا. وسبب جلالة القدر كون وضع الكتاب على نظم أنيق، بحيث لم يسبق إليه
أحد غير الشيخ.
في قواعد: مأخوذة من قواعد
البيت. وهي أساسه. واشتقاقها من القعود بمعنى الثبات. مرفوع المحل، على
أنه صفة ثانية لـ (فوائد). وهي جمع قاعدة.
وهي في الاصطلاح قضية موضوعها كلي، ينطبق على جميع أحكام جزئياته، ليتعرف أحكامها منها.
والمراد ههنا ما يكون إحدى
مقدمتي الدليل، كقولنا: كل ما اشتمل على علم الفاعلية فهو مرفوع، وكل ما
اشتمل على علم المفعولية فهو منصوب، وكل ما اشتمل على علم المضاف إليه فهو
مجرور.
فإذ أردنا الاستدلال بصورة
القياس الاقتراني، على أن (زيد) في قولنا: (زيد قائم) مرفوع مثلا، فتقول:
زيد مشتمل على علم الفاعلية، وكل ما اشتمل على علم الفاعلية فهو مرفوع.
فزيد مرفوع. وإذا قصدنا الاستدلال بالقياس الاستثنائي عليه فنقول: كل ما لم
يكن زيد مرفوعا لم يشتمل على علم الفاعلية لكنه مشتمل، فيكون زيد مرفوعا.
وعلى هذا فقس.
الإعراب. وهو في اللغة:
الإبانة والتحسين. فتعدية الأول بكلمة (عن) وتعدية الثاني بالهمزة. وقيل:
هو مأخوذ من قولهم: امرأة عروب أي: محبوب كلامها. لا شك أن الإعراب إذا وجد
في آخر الكلمة يكون الكلام مقبولا عند المخاطب. وقيل أخذ من قولهم: عربت
معدة الفصيل أي: فسدت، وأعربتها أي: أزلت فسادها. فتكون الهمزة للسلب، كما
في أشكينه. وأنت خبير بإن الإعراب مزيل فساد التباس المعاني بعضها ببعض.
ألا ترى أنك لو قلت: (ما أحسن زيد) بلا إعراب لم يظهر عند السامع أن
المقصود من أي المعاني، من الاستفهام والتعجب والنفي؟ فلأجل ذلك يسمى
إعرابا.
هذا. ثم اختلف النحاة في
أن الإعراب في الاصطلاح معنوي أم لفظي، فذهب البعض إلى الأول ففسروه
باختلاف آخر الكلمة باختلاف العوامل، لفظا أو تقديرا. وهو ظاهر قول سيبويه،
واختار الأعلم. فيكون الحركات وما يقوم مقامها دلائل الإعراب عندهم. وذهب
الآخرون إلى أن الإعراب لفظي يعلم بالحس، فقالوا: الإعراب ما حصل به
الاختلاف المذكور. وهو مذهب أبي علي وابن الحاجب فتكون الحركات وما يقوم
مقامها نفس الإعراب عندهم.
لكن إذا رجعت إلى الإنصاف
والوجدان تجزم بأن الحق الحقيق بالقبول هو ما ذهب إليه ابن الحاجب -فإن
الاحتياج إلى الإعراب إنما هو لأجل ضرورة تمييز المعاني. فمعلوم أن التمييز
إنما يكون بالحركات، لا بالاختلاف-مع أنه خال عن التكليف. فإن قلت: ما
معنى قوله: (أما بعد فهذه فوائد) إلى آخره؟ فإن تعليق هذا الحكم بأول
الكلام غير ظاهر. قلت: الغرض منه الإعلام بأن تلك الفوائد أمر يهتم
بتحصيلها بعد الحمد، ترغيبا فيها واعتناء بشأنها، فيزداد نشاط الطالب
حينئذ، فيحصل السعي البليغ، فيفوز بالمطلوب.
تقتفي أي: تختار هذه
الفوائد- مأخوذ من قولهم: فلان اقتفى الأمر، إذا اختاره- لمتأملها. الضمير
المجرور فيه راجع إلى (فوائد)، أو إلى (قواعد). بل هو أولى وأحسن. فاللام
فيه للتعدية أو للتعليل. وقد وجد في بعض النسخ الباء في مقام اللام، ووجدنا
في بعضها (متأملها) بدون حرف الجر، على أنه فاعل (تقتفي). فحينئذ يكون
مأخوذا من قولهم: فلان اقتفى أثر فلان، إذا اتبعه. ومنه قوافي الشعر، لأن
بعضها يتبع أثر بعض. وأسند الفعل إلى الفوائد مجازا، لأجل المبالغة، كما في
قوله تعالى: {عيشة راضية}. ففي ذكر التأمل دون القراءة والحفظ، تنبيه على
أن العمدة العظمى في نيل تلك الفوائد هي التفكير لا مجرد القراءة والحفظ
كما هو دأب بعض الناس. يقال: تأملت الشيء إذا نظرت إليه [متبينا له].
جادة-معظم الطريق. و جمعه الجواد. مأخوذ من قولهم: فلان جد فينا، إذا عظم
في أعينهم. وفي المثل (من سلك الجدد أمن العثار). فالمراد منه القواعد
المحررة على أحسن التحرير، فيكون استعارة-الصواب: نقيض الخطأ مطلقا. لكن
المراد منه نقيض الخطأ بمعنى الباطل فيكون بمعنى الحق. فلا جرم أن من سلك
الطريق المستقيم ليأمن من الضلال، ليفوز بالمطلوب. فمحل جملة (تقتفي)
مرفوع، على أنها صفة لـ (فوائد). فالمقصود من هذه [الأوصاف] التحريض
والترغيب في كتابه من جهات شتى. و: هي لعطف هذه الجملة على جملة (تقتفي)
-فالمناسبة بين الجملتين كالمناسبة بين الشجرة والثمرة-تطلعه أي: توقف تلك
الفوائد متأملها. من قولهم، أطلعت فلانا على سري، إذا أوقفته عليه. أي
تجعله مشاهدا على النكت الكثيرة فلأجل هذا اختاره على أن يقول: تعلمه. في
الأمد – يقع على المدة كلها، وعلى آخرها، وكذا الغاية والأجل. لكن المراد
منه ههنا جميع المدة أي: جميع وقت تحصيل هذا الكتاب. فتكون الألف واللام
للعهد. فاستعماله يتضمن المبالغة والإيهام. فتأمل- القصير في نفسه، أو
بالنسبة إلى وقت تحصيل غير هذا الكتاب. فالمقصود الزمن القليل والوقت
اليسير. على نكت: متعلق بـ (تطلع) جمع نكتة، كالنقط جمع نقطة. والنكتة في
اللغة: كل نقطة من بياض في سواد، وبالعكس. قال الجوهري: (النكت: أن تنكت في
الأرض بقضيب، أي: أن يضرب فيؤثر فيها). ونكت كل شيء: لطائفه. والمراد منها
ههنا الفوائد العلمية الدقيقة التي تستخرج بدقة النظر. ووقع في بعض النسخ:
(على كثير) مقام (على نكت). لكن الأولى هي أولى. كثيرة في نفسها، أو
بالنسبة إلى الغير. من الكثرة نقيض القلة. ولا تقل: الكثرة، بالكسر. فإنها
لغة رديئة. من الأبواب: جمع باب. وهو ههنا بمعنى النوع. فيكون المراد أنواع
الإعراب وقواعدها. فيكون صفة ثانية لـ (نكت)، فيكون (من) للبيان. فإن قلت:
النكت جمع كثرة. فلم وصف بجمع القلة؟ قلت: لأن جمع القلة ههنا مجازاً عن
الكثرة، بمعونة المقام، وفائدته إبهام الجمع بين المتقابلين ويجوز أن يكون
(من) ههنا بمعنى (في) فتكون (الأبواب) عبارة عن الأبواب الأربعة. فالألف
واللام حينئذ للعهد أيضا. فإن قلت: ما معنى إطلاع الفوائد على النكت؟ فإنها
عينها قلت: الفرق بينهما جلي. فإن المراد من الفوائد قواعد علم النحو، على
سبيل الضبط والاختصار، والمراد من النكت الدقائق التي استنبطها بجودة
قريحته، فتكون غيرها. ويجوز أن يكون الأمر الواحد معبرا عنه بعبارات
مختلفة، بحسب اختلاف الاعتبارات، كالقضية تعتبر تارة بالخبر وأخرى
بالنتيجة. فسمي المعاني بالفوائد لكونها مستفادة من الألفاظ، وأخرى بالنكت
لكونها مستنبطة بدقة نظر العقل. هذا ولما وصفها بالوصفين المذكورين أراد أن
يزيد الرغبة فيها، ويشبهها بأمر مقبول لذوي العقول، فقال: عملتها، بكسر
الميم. وأما عمل بالفتح فاسم رجل. يقال: رجل عمل بالكسر وعمول، إذا كان
مطبوعا على العمل. أي جعلت تلك الفوائد لطلبة العلم، كما جعل الطبيب الحاذق
الأدوية النافعة لمحبوبه. ويجوز أن يكون الضمير المنصوب راجعا إلى (النكت)
فإنه أقرب وأنسب للعمل. عمل من طب، في صرف غاية الجهد في تحصيل الأمر
بالإخلاص. وأما الغرض من التشبيه فتحصيل العلوم لهم، وإزالة الجهالات عنهم.
فإنها على النفوس كالأمراض على الأبدان. وأما فائدة حذف أداة التشبيه فقصد
المبالغة فيه، مع الاختصار. وأما (طب) فمأخوذ من الطب الذي هو علاج الداء.
فيكون إطلاق المطبوب على المسحور من باب إطلاق السليم على اللديغ. وقال
ابن الأنباري: (الطب من الأضداد. يقال لعلاج الداء: طب، وللسحر طب).
فالطبيب هو العالم بالطب، وكل حاذق طبيب، عند العرب. واللام في قوله: (لمن
حب) تتعلق بالعمل. ويجوز أن تتعلق بـ (طب)، كما جاء في المثل: (إن كنت ذا
طب فطب لعينك) فإن قلت: كيف يصح هذا، مع أن الأطباء قد قالوا: إن الأب لا
يطب ولده، والمحب لا يطب محبوبه، والعاشق لا يطب معشوقه؟ قلت: الغرض من هذا
القول بيان كمال شفقتهم لهم، لا الإخبار عن عدم علاجهم لهم. فإن ذلك خلاف
الواقع. فكيف لا، والحال أن العلاج يجب أن يرجى منه الشفاء نافع، لذيذ
يتضمن منافع، مع أن ترك المنافع الكثيرة، لأجل ضرر قليل، لشر كثير. وذا لا
يجوز. أو أن يكون المراد منه ينبغي ألا يصدر منهم العلاج لهم. وقيل:
التقدير عمل من طب، إن قدر فأصاب، لمن حب. أقول: هذا صحيح من جهة المعنى.
فإن المشبه به لا يحب أن يكون محقق الوجود في الخارج. لكنه لا يخلو عن تكلف
ارتكاب خلاف الظاهر. وأما (حب) فيجوز أن يكون مأخوذا من قولهم: حبه يحبه
بالكسر، فهو محبوب. قال الشاعر:
أحب أبا مروان، من أجل تمره*
فيكون العائد إلى الموصول
أو الموصوف محذوفا، والضمير المستتر فيه عائد إلى الموصول الأول. ويجوز أن
يكون مأخوذا من قولهم: حب يحب على تقديره بالضم، فيكون لازما، فالضمير
المستتر فيه راجع إلى التالي. وأما فائدة تغير الأسلوب، وترك العاطف على
تقدير أن يكون الضمير المنصوب راجعا إلى الفوائد، فهي التنبيه على أن العمل
على هذا النسج المقبول متقدم على الأوصاف المذكورة، لكنه قدمها عليه لكونه
أنسب بالمقام. فاعلم أن المحبة تتضمن معنى العشق والشوق. فلأجل هذا اختاره
ههنا. على أن في ذلك صنعة التجنيس، كما في قوله تعالى: {لكل همزة لمزة}.
ولما وصفت تلك الفوائد بما لا مزيد عليه، وكانت أمرا معتدا به، واستحقت أن
تسمى باسم مناسب لتدعى به عند الحاجة، قال: وسميتها أي: تلك الفوائد
بالإعراب مبالغة كما في قولهم: رجل عدل، لأن هذه الرسالة لها مزية اختصاص
بمعرفة الإعراب، كما يشهد لها مطالعة أبحاثها.
قوله: عن قواعد الإعراب:
متعلق بـ (الإعراب) باعتبار معناه اللغوي [الذي هو الإبانة، وإن لم يكن ذلك
المعنى مقصودا منه ههنا]. وأما المراد من الإعراب الثاني – أعني المضاف
إليه – فمعناه الاصطلاحي، بحسب اعتبار التركيب الإضافي. ففي هذا القول
رعاية صنعة الجناس التام اللفظي، مع رعاية الجناس الخطي، كما في قوله
تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة}. وقد وقع ههنا
في بعض النسخ: (بالإغراب) بالغين المعجمة، بدل قوله: (بالإعراب) بالعين
المهملة. واشتهر هذا، وحكي عن المصنف كذلك. فالأمر على هذا هين. فإن قلت:
لا شك أن المراد من المسمى بالإعراب أمر واحد شخصي، لكن المسمى به متعدد في
الواقع. فما تحقيق شخصته ووحدته؟ قلت: التحقيق أن لا تعتبر في تشخص الكتاب
خصوصية المحل. فحينئذ يكون المسمى به واحدا في الواقع. فتفكر. فإن قلت: كل
قاعدة من قواعد الإعراب مكتسبة من الجزئيات لأنها استقرائية، والجزئيات
مكتسبة منها، فتدور، قلت: هذه الشبهة غير واردة، لأنها تصادم الضرورة. فإنا
نعلم بالضرورة أن قواعد النحو واقعة، وكذا اكتساب أحكام الجزئيات منها.
فلو كان الدور واقعا ههنا لما حصل ذلك العلم الضروري.
على أنا نقول: نحن محتاجون
إليها في معرفة أحوال أقوالنا، لا في جزئيات كلامهم. [فإنهم] بسليقتهم عن
الاحتياج إليها، وعن وقوع الخطأ فيها، بمراحل. فهذه الجملة معطوفة على جملة
(عملتها). فالمناسبة بينهما ظاهرة، كنار على جبل. ثم لما كان تحصيل الأمور
مختصا بعون الله، وإرشاده، قال: و: هي للاعتراض، كما في قوله تعالى:
{وأنتم معرضون}، ويحتمل الحال، من الله، لا من غيره، قدم على عامله للحصر.
قال تعالى: {وما توفيقي إلا بالله}.
أستمد أي: أطلب المدد. فإن
قلت: إذا كان المدد مطلوبا فما الفائدة في كون التوفيق مطلوبا؟ قلت:
فائدته قصد سلوك إلى طريق التصريح بما علم ضمنا، إشعارا بأنه أمر جليل.
وقيل: الاستمداد استعمل ههنا لمجرد الطلب، مجازا. وإنما جيء بصيغة المضارع
لقصد استمرار طلب المدد، بقرينة احتياج العبد إلى مولاه. وأما فائدة
الإخبار عن الاستمداد ههنا فهي دفع توهم التبجح الحاصل بما سبق.
التوفيق: وهو في اللغة جعل
الأمر موافقا لآخر، وفي العرف جعل الله شأن عبده موافقا للحق والصواب.
وأما ما قيل من أنه تهيئة أسباب الخير وتنحية أسباب الشر، ومن أنه الأمر
المقرب إلى السعادة الأبدية، ومن أنه جعل الله – تعالى – أفعال عبده
الظاهرة موافقة لأوامره، مع بقاء اختياره فيها، مع جعل ثبات قلبه موافقا
لما يحبه، فمآله راجع إلى ما قلنا. والهداية: معطوف على (التوفيق) عطف
الخاص على العام كعطف جبريل على الملائكة. ويجوز أن يكون من قبيل عطف العام
على الخاص. وهي في اللغة الدلالة بلطف. ولذلك تستعمل في الخير. وأما قوله
تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} فوارد على طريق التهكم. ثم المشهور عند
أهل الحق، أن الهداية هي الدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب، سواء حصل
الوصول أو لم يحصل، وعند المعتزلة هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب. هذا.
فالظاهر أنه لا نزاع بينهم في الحقيقة، لأن الهداية تجيء تارة بمعنى خلق
الاهتداء، كما في قوله تعالى: {يهدي من يشاء}. فلذلك نفى الهداية في قوله
تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}. وأخرى تجيء بمعنى بيان طريق الحق والصواب.
فلهذا نسب الهداية إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله، تعالى: {إنك
لتهدي إلى صراط مستقيم}. فكل واحدة من الطائفتين قد قصدت معنى غير ما قصدته
الأخرى. إلى أقوم طريق أي: إلى طريق مستقيم. وهو سبيل الحق. وقد يتعدى
باللام، كما في قوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. فعومل في
قوله، تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} معاملة (اختار) في قوله، تعالى:
{واختار موسى قومه}. ففي هذا القول إشارة إلى أن الهداية هي الدلالة إلى
طريق الحق، وتلويح إلى أن الضلالة هي الدلالة إلى طريق الباطل. وأما جعل
هذا القول كناية عن سرعة الوصول إلى المطلوب، بناء على قاعدة أن الخط
المستقيم أقصر من الخط المنحني، فهو بعيد عن الفهم. نعم فيه إيماء إلى حصول
المطلوب، لكن الفرق بين المعنيين ظاهر.
بمنه: بإنعامه – مأخوذ من
قولهم: من عليهم منا، إذا أنعم. وأما المن الذي وقع في قول الزمخشري: (طعم
الآلاء أحلى من المن، وهو أمر من الألاء عند المن) فهو مأخوذ من قولهم: من
عليه منة، إذا امتن عليه. وهذا يصلح أن يكون من باب التنازع، وإعمال الثاني
على مذهب البصريين – وكرمه. هو نقيض اللؤم. وعطف هذا على المن عطف تفسير.
ثم لما قصد زيادة الحث للطالب، على تحصيل كتابه، قال: وتنحصر أي: تلك
الفوائد و القواعد. فإن قلت: الكلام في الفوائد لا في القواعد. فكيف يرجع
الضمير إليها؟ قلت: الفوائد هي عين القواعد في الحقيقة. ألا ترى إلى قوله:
(وسميتها بالإعراب عن قواعد الإعراب) ؟وهو من قبيل قول النبي صلى الله عليه
وسلم: ((الثيب تعرب عن نفسها)). وقد وقع في بعض النسخ (ينحصر) بالياء
التحتانية. فحينئذ يرجع الضمير إلى الكتاب. فإنه مذكور ضمنا، لأنه في صدد
تصنيفه وتأليفه. في أربعة أبواب. فهذا الانحصار هو انحصار الكل في أجزائه
مثل انحصار البيت في الجدران الأربع والسقف. فإن قلت حصر الكل في الأجزاء
لا يتصور، لأن الحصر هو جعل الشيء في محل محيط به. فالمحيط حاصر، والمحاط
به محصور مظروف، وشأن الكل مع أجزائه على العكس. فإن الكل محيط بالأجزاء.
فكيف يكون محصورا فيها؟ قلت المراد من الكتاب هو المفهومات، ومن الأبواب
الأربعة هو العبارات، بناء على أن الألفاظ قوالب المعاني وظروفها، ويجوز أن
يراد من انحصار الكتاب في الأبواب الأربعة انحصاره بحسب اعتبار أجزائه
فيها. على أن الحق هو أن يكون المراد من الانحصارالمذكور ههنا هو انحلال
الكل إلى ما منه تركيبه. وأنت خبير بأن المراد من انحصار الكتاب فيها
انحصار مقصوده فيها. فلا يضره خروج الخطبة عنها. ووجه الضبط هو أن يقال:
مقصود الكتاب لا يخلو من أن يكون متعلقا ببحث الجملة أو لا. فالأول في
الباب الأول. وإن كان الثاني فلا يخلو من أن يكون. متعلقا ببيان مكملات
الأفعال –أعني الجار والمجرور-أولا. فالأول هو الباب الثاني، والثاني لا
يخلو من أن يكون متعلقا بالكلمات، أو بالاصطلاحات. فالأول هو الباب الثالث،
والثاني هو الباب الرابع. وجملة (تنحصر) معطوفة على جملة (يقتفي).
موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب للشيخ: خالد بن عبد الله الأزهري
قال زين الدين خالد بن عبد الله بن أبي بكر الجرجاوي الأزهري (ت: 905هـ): (بسم
الله الرحمن الرحيم وبه نستعين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
الحمد لله الملهم لحمده، والصلاة على سيدنا محمد رسوله وعبده وعلى آله
وصحبه وجنده وبعد فيقول العبد الفقير إلى مولاه الغني، خالد بن عبد الله
الأزهري: هذا شرح لطيف على قواعد الإعراب سألنيه بعض الأصحاب يحل المباني
ويبين المعاني سميته (موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب) نافع إن شاء الله
تعالى.
(بسم الله الرحمن الرحيم). الباء متعلقة بفعل محذوف تقديره افتتح يقدر مؤخرا لإفادة الحصر عند البيانيين، والاهتمام عند النحويين.
(أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم، حرف فيه معنى الشرط، بدليل دخول الفاء في وجوبها.
(بعد)
بالنصب على الظرفية الزمانية، واختلفا في ناصبه فقيل: فعل محذوف وهو الذي
نابت عنه (أما) وقيل لنيابتها عن المحذوف، وهو ما ذهب إليه سيبويه، والأصل
عنده مهما يكن من شيء.
(بعد حمد الله) بدأ بالحمد تأدية لحق شيء مما وجب عليه. والجلالة اسم للذات المستجمع لسائر الصفات.
(حق حمده) أي واجب حمده الذي يتعين له، ويستحقه كمال ذاته، وقدم صفاته وتقدس أسمائه وعموم آلائه وانتصابه: على المفعولية المطلقة.
(والصلاة والسلام) بالجر عطفا على حمد الله.
(على سيدنا)
متعلق بالسلام على اختيار البصريين، ومعلق الصلاة محذوف تقديره عليه، ولا
يجوز أن يتعلق المذكور بالصلاة لأنه كان يجب ذكر المتعلق بالسلام على
الأصح، وفي نسخة (وعبده) وهو معطوف على سيدنا، وفيه من أنواع البديع المطابقة.
و(محمد) بدلا من سيدنا، لأن نعت المعرفة إذا تقدم عليها أعرب بحسب العوامل، وأعربت المعرفة بدلا فصار المتبوع تابعا كقوله تعالى: { إلى صراط العزيز الحميد الله } في قراءة الجر، نص على ذلك ابن مالك.
(وعلى آله) هم، كما قال الشافعي، أقاربه المؤمنين من بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف.
(من بعده) أي: من بعد محمد، وأشار بذلك إلى أن الصلاة على الآل مرتبة وتابعة للصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
(فهذه فوائد) جملة
مقرونة بالفاء على أنها جواب الشرط، وأشار بهذه إلى أشياء مستحضرة في
ذهنه. والفوائد جمع فائدة وهو ما يكون الشيء به أحسن حالا منه بغيره.
(جليلة) أي: عظيمة.
(في قواعد) جمع قاعدة وهي قضية كلية يتعرف منها أحكام جزئياتها.
(الإعراب) الاصطلاحي، تقتفي من القفو وهو الاتباع تقول قفوت فلانا إذا تبعت أثره، وضمنه معنى (تسلك) بمتأملها أي بالناطر فيها (جادة) بالجيم أي: معظم طريق (الصواب) وهو ضد الخطأ.
(وتطلعه) أي: توقفه (في الأمد) أي في الزمن (القصير) خلاف الطويل، ولو قال (القليل) بدل القصير كان أنسب لكثير في قوله: (على نكت كثير) بالإضافة والنكت بالمثناة جمع نكتة، وهي الدقيقة (من الأبواب) جمع باب وتجمع أيضا على أبوبة للازدواج كقول ابن مقبل:
هتاك أخبية ولاج أبوبة = يخالط البر منه الجد واللينا
(عملتها) بكسر الميم، (عمل) بفتحها، (من طب لمن حب) لغة في (أحب) والأصل كعمل من طب لمن أحب.
والمراد أني بالغت في النصح فجعلت هذه الفوائد لطلبة العلم كما يجعل الطبيب الحاذق الأدوية النافعة لمحبوبه.
والغرض من هذا التشبيه
بيان كمال الاجتهاد في تحصيل المواد وإلا فقد قال الأطباء: الأب لا يطب
ولده والمحب لا يطب حبيبته، والعاشق لا يطب معشوقه.
(وسميتها) أي الفوائد الجليلة، (بالإعراب) لغة: هو البيان (عن قواعد الإعراب) اصطلاحا وهو علم النحو، وفي هذه التسمية من البديع التجنيس التام: اللفظي والخطي.
(ومن الله أستمد) أي: أطلب المدد، قدم معموله عليه لإفادة الحصر (التوفيق): خلق قدرة الطاعة في العبد وضده الخذلان، (والهداية) الإرشاد والدلالة وضدها الغواية والضلالة، (إلى أقوم طريق)
قدم الصفة على الموصوف، وإضافتها إليه رعاية للسجع، والأصل إلى طريق أقوم
أي: مستقيم وهو كناية عن سرعة الوصول إلى المأمول لأن الخط المستقيم أقل من
المنحني (بمنه) أي: إنعامه ويطلق المن على
تعديد النعم الصادرة من الشخص إلى غيره كقوله: فعلت مع فلان كذا وكذا،
وتعداد النعم من الله تعالى مدح ومن الإنسان ذم، ومن بلاغات الزمخشري (طعم
الآلاء أحلى من المن وهو أمر من الآلاء عند المن) أراد بالآلاء الأولى
النعم وبالثانية الشجر المر، وأراد بالمن الأول المذكور في قوله تعالى {المن والسلوى} وبالثاني تعديد النعم.
(وكرمه) أي جوده يقال على الله تعالى: كريم ولا يقال: سخي، إما لعدم الورود وإما للإشعار بجواز الشح.
(وينحصر) تقرأ بالتحتانية على إرادة المصنف أو الكتاب=، وبالفوقانية على إرادة الفوائد الجليلة أو المقدمة.
(في أربعة أبواب)
من حصر الكل في أجزائه، وهي: الجملة وأحكامها والجار والمجرور وتفسير
كلمات، والإشارة إلى عبارات محررة وستمر بك هذه الأبواب بابًا، بابًا).
شرح نكتة الإعراب للشيخ عبد الله بن صالح الفوزان قال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان: (مقدمة الشارح مُقَدِّمَةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ ثِقَتِي
أهمية علم اللغة