المقدمة
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (الحَمْدُ
للَّهِ الذي قَصُرَتْ عِبارةُ البُلَغَاءِ عن الإحاطَةِ بِمَعَانِي
آياتِهِ، وعَجَزتْ ألْسُنُ الفُصَحَاءِ عنْ بَيانِ بَدائِعِ مَصْنُوعاتِهِ،
والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى مَنْ مَلَكَ طَرَفي البلاغَةِ إطْنابًا
وإيجازًا، وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِه الفَاتِحِينَ بِهَدْيهِم إلى
الحَقِيقَةِ مَجَازًا.
وبَعْدُ،
فهَذَا كتابٌ في فُنونِ البَلاغَةِ الثلاثةِ، سَهْلُ المَنالِ، قَرِيبُ
المَأْخَذِ، بَرِيءٌ مِنْ وَصْمَةِ التَّطْوِيلِ المُمِلِّ، وعَيبِ
الاخْتِصَارِ المُخِلِّ؛ سَلَكْنَا في تَأْلِيفِهِ أسْهَلَ التَّرَاتِيبِ،
وأوْضَحَ الأَسَاليبِ، وجَمَعْنا فِيهِ خُلاصةَ قَواعِدِ البلاغَةِ،
وأمَّهاتِ مَسَائِلِهَا، وتَرَكْنَا مَا لا تَمَسُّ إليهِ حَاجَةُ
التلامذةِ مِن الفَوائِدِ الزَّوائِدِ؛ وقُوفًا عِندَ حَدِّ اللازِمِ؛
وحِرْصًا عَلَى أوْقاتِهِم أنْ تَضِيعَ في حَلِّ مُعقَّدٍ، أوْ تَلْخِيصِ
مُطَوَّلٍ، أوْ تَكْمِيلِ مُخْتَصَرٍ، فَتَمَّ بهِ معَ كُتُبِ الدُّروسِ
النَّحْويَّةِ سُلَّمُ الدِّراسَةِ العَرَبيَّةِ، في المَدَارِسِ
الابْتِدَائيَّةِ والتجْهِيزيَّةِ.
والفَضْلُ
في ذَلكَ كُلِّهِ للأميريْنِ الكَبِيريْنِ نُبلًا، والإنْسَانَينِ
الكَامِلَينِ فَضْلًا، نَاظِرِ المَعَارِفِ، المُتَجَافِي عَن مِهَادِ
الرَّاحَةِ فِي خِدْمَةِ البلادِ، الواقِفِ فِي مَنْفَعَتِهَا عَلَى قَدَمِ
الاسْتِعْدَادِ، صَاحِبِ العَطُوفَةِ مُحَمَّدِ زكي باشا، ووكِيلِهَا ذِي
الأيادِي البَيْضَاءِ فِي تَقَدُّمِ المَعَارِفِ نَحْوَ الصِّرَاطِ
المُسْتَقِيمِ، وإدارَةِ شُئُونِهَا عَلَى المِحْوَرِ القَوِيمِ، صَاحِبِ
السَّعادَةِ يَعْقُوبَ أرتينَ باشا. فَهُمَا اللذَانِ أَشَارَا عَلَيْنَا
بِوَضْعِ هذا النِّظامِ المُفِيدِ، وسُلوكِ سَبِيلِ هذا الوَضْعِ
الجَدِيدِ؛ تَحْقِيقًا لرَغَائِبِ أَمِيرِ البلادِ، ووليِّ أَمْرِهَا
النَّاشِئ فِي مَهْدِ المَعَارِفِ، العَارِفِ بِقَدْرِهَا، مُجَدِّدِ
شُهْرَةِ الدِّيارِ المِصْرِيَّةِ، ومُعِيدِ شَبِيبَةِ الدَّولَةِ
المُحَمَّدِيَّةِ العَلَوِيَّةِ، (مَوْلاَنَا الأَفْخَمِ عَبَّاسِ حِلْمي
باشا الثاني)، أدامَ اللَّهُ سُعُودَ أمَّتِهِ، وأقرَّ بِهِ عُيونَ آلِهِ
ورِجَالِهِ وسَائِرِ رَعَيَّتِهِ، آمِينَ.
حفني ناصفٍ - محمَّدُ ديابٍ - سلطانُ محمَّدٍ - مصطفى طَمُومٍ).
الحواشي النقية للشيخ: محمد علي بن حسين المالكي
قال الشيخ محمد علي بن حسين بن إبراهيم المالكي (ت: 1368هـ): (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الحواشــي النقيَّــةُ
علــــى كتابِ البلاغةِ
البــلاغـــةُ
______________
(1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أمَّا بعدُ، أحمْدُ
اللَّهَ الملْهِمَ بيانَ بديعِ المعاني لأبلَغِ مَن أوْضَحَ مَحَجِّةَ
الحقيقةِ والشريعةِ بأَبلَغِ المباني صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
وعلى آلِه وصحبِه وكَرَّمَ. فهذه حواشٍ نقيَّةٌ، وتقييداتٌ جَلِيَّةٌ،
وَفِيَّةٌ، لما انْبَهَمَ على الطالِبينَ من كتابِ البلاغةِ لنُخبَةِ
الأفاضلِ الأزهريِّينَ. ولحسْنِ وقْعِها وافَقَ كمالُ جَمْعِهَا ابتسامَ
ثَغْرِ النهضةِ العربيَّةِ، بمُعيدِ شبيبةِ مَجْدِ الدولةِ العربيَّةِ
الهاشميَّةِ، صاحبِ الشَّوْكَةِ والجلالِ والعِزِّ الأبديِّ مولانا الملكُ
الحسينُ الأوَّلُ بنُ عليٍّ، أَدامَ اللَّهُ سُعودَ أُمَّتِه بتأييدِ
دولتِه، ووَفَّقَ أنجالَه وعُمَّالَه ووزراءَه الْمَيامينَ بتشييدِ دعائمِ
العلْمِ، وإظهارِ معالمِ الشريعةِ المطهَّرَةِ والدينِ، آمينَ آمينَ
اللَّهمَّ آمينَ).
دروسُ البلاغةِ الصُّغْرى
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (مقدِّمَةٌ في الفصاحةِ والبلاغةِ).
حسن الصياغة للشيخ: محمد ياسين بن عيسى الفاداني
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (البـَـلاَغَةُ
مُقَدِّمَةٌ (1) في (2) الفَصَاحَةِ والبَلاَغَةِ (3)
_____________________
قال الشيخ علم الدين محمد ياسين بن محمد عيسى الفاداني المكي (ت: 1410هـ): ( ( 1 ) مقدمةٌ
تُقَالُ هذه الكلمةُ لِمَعْنَيَيْنِ:-
أَحَدُهُمَا: معانٍ يَتَوَقَّفُ عليها
الشروعُ فِي العلمِ، وهي المبادئُ العَشَرَةُ المشهورةُ جميعُها أو بعضُها,
وتُسَمَّى مقدمةَ عِلْمٍ.
والثاني: أَلْفَاظٌ قُدِّمَتْ أمامَ المقصودِ لارتباطٍ لهُ بها وانتفاعٍ بها فيهِ، وتُسَمَّى مقدمةَ كتابٍ، وهذه هي المُرَادَةُ هنا.
( 2 ) ( في ) بيانِ معنى
( 3 ) ( الفصاحةِ والبلاغةِ ) وانحصارُ عِلْمِ البلاغةِ فِي المعاني والبيانِ).
شموس البراعة للشيخ: أبي الأفضال محمد فضل حق الرامفوري
قال الشيخ أبو الأفضال محمد فضل
حق الرامفوري (ت: 1359هـ): (كتابُ شُمُوسِ البَرَاعَةِ
الحمدُ
للَّهِ الذي أَلْهَمَنَا بدائعَ المعاني، وَغَرَائِبَ البَيَانِ،
وَعَلَّمَنَا دقائقَ الْمَثَانِي، وَعجائبَ التِّبْيَانِ، والصلاةُ
والسلامُ على مَن اصْطَفَاهُ بالإرسالِ إلى كافَّةِ الْخَلْقِ من الإنْسِ
والجانِّ، وَأعطاهُ من الْكِتَابِ ما أَفْحَمَ بهِ فُصَحَاءَ عَدْنَانَ،
وَبُلَغَاءَ قَحْطَانَ، ومن الحكمةِ ما مَزَّقَ بهِ حِكَمَ اليُونَانِ،
وعلى آلهِ وأصحابِه الذينَ حازُوا قَصَبَ السبْقِ في كلِّ مَيْدَانٍ،
وبعدُ:
فيقولُ
أَحْوَجُ الْخَلْقِ إلى الْغَنِيِّ البَارِي أبو الأفضالِ محمَّدُ فضل
حقٍّ الرَّامفُورِيُّ أصْلَحَ اللَّهُ حالَه، وأَحسَنَ مآلَه: لَمَّا
رَأَيْتُ كتابَ دروسِ البلاغةِ الذي أَلَّفَهُ جماعةٌ من الذينَ لهم
الْيَدُ الطُّولَى في العلومِ جُلِّها، ولا سِيَّمَا العلومَ العربيَّةَ،
والفنونَ الأدبيَّةَ؛ لتعليمِ طَلَبَةِ العلْمِ في الجامعِ الأزهَرِ
الواقعِ في مِصْرَ، نَظَرْتُ بعَيْنِ التأمُّلِ فيهِ فَوَجَدْتُهُ حاويًا
معَ اختصارِه لِمَا حَوَاهُ مُطَوَّلَاتُ فَنِّ البلاغةِ من الأصولِ
والقواعدِ، وخاليًا معَ كَثْرَةِ مسائلِه من الْمُنَاقَشَاتِ والزوائدِ،
وواقعًا على ترتيبٍ حَسَنٍ لم يُعْهَدْ في كُتُبِ المتأخِّرِينَ، كما
يَعْرِفُه مَنْ طَالَ نظَرُه في كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ ولذا اشْتَهَرَ
اشتهارَ الشمسِ على نِصْفِ النهارِ، وَطَارَتْهُ القَبُولُ والدَّبُورُ إلى
الأقطارِ، وَجَعَلَهُ أُولو العِلْمِ والبصيرةِ من الكُتُبِ التي
تُقَرَّرُ دِراستُها في أكَثْرِ مَدَارِسِ الهِنْدِ مِنْ عِلْمِ البلاغةِ،
وهوَ وإنْ كانَ جَزْلَ العِبَارَةِ فَصيِحَ البيانِ إلَّا أنَّ عامَّةَ
الْمُحَصِّلِينَ في هذا الزمانِ يَحْتَاجُونَ في كَشْفِ ودائعِه إلى
الشرْحِ والإيضاحِ، وَلم يَقَعْ لهُ شَرْحٌ إلى الآنَ؛ فلِذَا تَوَاتَرَ
عَلَيَّ التماسُ جماعةٍ منْ طُلَّابِ الْعِلْمِ والكمالِ، بلسانِ الحالِ
والمقالِ، أنْ أكْتُبَ لهُ شَرْحًا يُذَلِّلُ صِعَابَه، وَيَكْشِفُ عنْ
وُجوهِ فرائدِه نقابَه، فأَخَذْتُ في شرْحِه، بعد أنْ قَدَّمْتُ رِجْلًا
وأخَّرْتُ أخرى، لَمَّا رأيتُ الإقدامَ عليهِ أَحْرَى، وَشَرَعْتُ فيهِ
مقتفيًا أثَرَ الْمُصَنِّفِ في الإيجازِ والاختصارِ، وَمُعْرِضًا عن
التَّعَرُّضِ لِمَا لا مَدْخَلَ لهُ في حَلِّ الكتابِ من الْمَبَاحِثِ
والأنظارِ، فجاءَ بحمْدِ اللَّهِ تعالى في زمانٍ يسيرٍ، كما اسْتَحْسَنَهُ
الأحبَّاءُ، وارْتَضَاهُ الأولياءُ .
اللَّهُمَّ
اختِمْ على ما عَمِلْتُهُ بخِتَامِ الرِّضاءِ والثوابِ، وَلا تَجْعَلْهُ
عُرْضَةً لِكُلِّ طَعَّانٍ ومُغْتَابٍ، وَاجْعَلْهُ ذُخْرًا لي يومَ
الحسابِ، إنَّكَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وبإجابةِ الدعاءِ جديرٌ).
شرح دروس البلاغة للشيخ: محمد الحسن الددو الشنقيطي (مفرغ) قال الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي: (بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على
نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين ,
أما بعد سقاك أبو بكر بكأس روية ......... فأنهلَك المأمون منها وعلَّك فكان
أبو بكر من مشاهير الخطباء، وكان عبد الله بن الزبير بن العوام وأمه أسماء
بنت أبي بكر يشبَّه بأبي بكر في خطابته وفصاحته، وحين فتح الله إفريقية
على المسلمين جاء عبد الله بن الزبير بشيراً إلى عثمان أمير المؤمنين يخبره
بذلك , فأمره عثمان أن يصعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يبشر
الناس بالفتح العظيم الذي فتحه الله عليهم، فوقف عبد الله وحمد الله وأثنى
عليه، فبكى الناس حين تذكروا خطبة أبي بكر , فكأنما بُعث أبو بكر، وكذلك
فإن عثمان رضي الله عنه أول ما وقف على المنبر خطيبا عندما تولى الخلافة،
تذكر أنه يقف في المكان الذي كان يقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
أن حمد الله وأثنى عليه , وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم , ارتج عليه ,
فلم يستطع أن يتكلم لهول المقام؛ لأن المنبر كان ثلاث درجات، فالدرجة
العليا هي التي كان يخطب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما تولى
أبو بكر الخلافة نزل عنها فخطب على الدرجة التي تليها، فلما تولى عمر
الخلافة نزل عنها، فكان يخطب على أدنى الدرجات، فلما جاء عثمان رأى أنه
لابد من الرجوع إلى الدرجة الأولى التي كان يخطب عليها رسول الله صلى الله
عليه وسلم لئلا يبقى الخلفاء ينزل كل واحد درجة فينتهي المنبر فلما وقف فاستوت رجلاه في المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف فيه ارتج عليه , فسكت طويلا ثم قال: (وأنتم إلى أمير فعَّال أحوج منكم إلى أمير قوَّال، ولئن بقيتُ لتأتينكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد عسرٍ يسرا). واستغفر ونزل. فما سمعت خطبة أقصر منها ولا أبلغ، (أنتم إلى أمير فعَّال أحوج منكم إلى أمير قوَّال، ولئن بقيتُ لتأتينكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد عسرٍ يسرا). أصمُّ أم يسمع غطريف اليمن...... أم فاز لمَّ به شأو العنن يا فاصل الخطة أعيت من ومن........ أتاك شيخ الحي من آل قطن وأمه من أل ذيب بن حجن ....... أبيض فضفاض الرداء والبدن تحملني وجن وتهوي بي وجن ....... رسول قيل الفرس في أرض اليمن
فنظر إليه وقال: (عبد
المسيح على جمل مشيح جاء إلى سطيح , وقد أهوى على الضريح، أرسلك ملك بني
ساسان لخمود النياران , وتصدع الإيوان , ورؤيا الموبذان، رأى خيلا عرابا ,
تقود إبلا صعابا , قد قطعت دجلة وتفرقت فيما ورءها , يا عبد المسيح إذا
كثرت التلاوة , وظهر صاحب الهرواة , فليست شاما لسطيح الشام، يملك منهم
ملوك وملكات بعدد الشرفات , وكل ما هو آتٍ آت).
مات
(كلام غير مسموع) فرجع عبد المسيح إلى كسرى , فكانت الرؤيا كما أخبره
فالموبذان رأى فعلا خيلاً تقود إبلاً قد قطعت دجلة وملكت العراق وسواده،
فهو بين له أنه سيملك منهم , أي الفرس , ملوك وملكات , بعدد الشرفات التي
تساقطت من الإيوان , وكانت أربع عشرة شرفة، ففي هذه الفترة اليسيرة من مولد
النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح فارس ملك من ملوك الفرس أربعة عشر ملكاً
وملكة , كان بعضهم يقتل بعضاً , ولم تستقر أمورهم، فعندما كثرت التلاوة ,
تلاوة القرآن، وظهر صاحب الهراوة. والهراوة
العصا الصغيرة، والمقصود به عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقد كان في
يده درة، والدرة العصا القصيرة يؤدب بها الناس، وهذا معنى ظهر صاحب
الهراوة. فيزول ملك الفرس حينئذ. كذلك
منهم من كان يعتمد على الإيجاز؛ بأن يكون اللفظ اليسير يتضمن المعنى
الخطير، فيجتمع كثير من المعاني تحت ألفاظ يسيرة قليلة، ومن هؤلاء أكثم بن
صيفي , فكان يقول الكلمة الواحدة البليغة فتحوي معاني كثيرة , قال: القتل
أنفى للقتل، القتل أنفى للقتل. معناه أنه إذا كان القاتل يعلم أنه سيقتل
فإنه سيتوقف عن قتله ولن يقتل، فإذا أقيمت الحدود وأقيم القصاص فسيتوقف
القتل وتتوقف موجبات الحدود أصلا؛ لأن الإنسان إذا علم أنه إن قتل سيقتل
فلن يقدم على القتل، فلذلك يكون القتل أنفى للقتل، وهكذا. فكلماته من هذا
النوع تكون مختصرة بليغة مؤثرة. فلما
اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكُتَّاب كانت كتبه تتضمن هذا النوع من
الكلام الجامع، وقد أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا، فمن
كلماته صلى الله عليه وسلم الجامعة: ((إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى)). ومنها كذلك: ((البينة على المدعي , واليمين على من أنكر)). ومنها كذلك كتبه إلى الملوك , فهي جامعة لكثير من المعاني , في كتابه إلى هرقل الذي قال فيه: ((بسم
الله الرحمن الرحيم , من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أدعوك
بدعاية الإسلام، أسلم تسلم , ويؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك
إثم الأريسيين {يا أهل
الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به
شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا
مسلمون}. وكذلك
كتابه إلى المنذر بن ساوا , وكتابه إلى كسرى , وكتابه إلى النجاشي، وكتابه
إلى (كلام غير مسموع) وغيرها من كتبه صلى الله عليه وسلم , فكانت غاية في
البلاغة واختصار المعاني الكثيرة، وكذلك كتابه لعمرو بن حزم الأنصاري في
القضاء الذي تضمن الحدود والقصاص وغير ذلك. وكذلك
كتاب أبي بكر رضي الله عنه الذي كتب لأنس بن مالك في الزكاة , وفصل له
نُصبها ومقاديرها، فهو من أبلغ الكتب، وكذلك كتاب عمر بن الخطاب رضي الله
عنه الذي كتب به إلى أبي موسى الأشعري في القضاء، وهو من أشهر الكتب أيضا
وأبلغها، وكذلك خطب علي رضي الله عنه التي كتبت، كخطبته بعد صفين عندما قام
في الناس خطيبا فقال: (يا أهل العراق , لقد عصيتموني
حتى قال الناس: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب , ووالله
إني لجذيلها المحكك وعذيقها المرجب ولكن لا رأي لمن لا يطاع، فأبدلني الله
خيراً منكم , وأبدلكم شرا مني). فهذه
من أبلغ الخطب وأشهرها. لكن لم توضع قواعد لذلك؛ وإنما كان الناس يتناقلونه
فيما بينهم، وكانوا يحفظون الخطب، فقد كان الناس يحفظون خطبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالخطبة
كما في حديث جابر:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب كأنه منذر جيش
يقول: ((صبحكم مساكم)) , وكان إذا خطب علا صوته
واحمرت عيناه، فكأنه منذر جيش، ولذلك كانت خطبته تسمع من البلاط، والبلاط
خمسمائة متر من المسجد، نصف كيلو، فكان الناس يحفظون خطبته من نصف كيلو من
دون مكبر. وكذلك
كانت خطب الخلفاء الراشدين تسمع من بعيد، فكان الناس من خارج المسجد
يسمعون خطبة عمر فيحفظونها، واشتهرت خطب بعد هذا كخطبة زياد المشهورة
بالبتراء، وخطبة الحجاج كذلك التي خطب بها على منبر الكوفة أول ما ولي على
العراق، عندما دخل المسجد وقد تعمم عمامة غطى بها أكثر وجهه , وتقلد سيفا
وتنكب قوساً واستلم رمحا بيده، فجلس على المنبر وسكت سكوتا طويلا والناس
ينتظرون كلامه , حتى قال لهم: عمير بن (كلام غير مسموع) قبح الله بني أمية؛
يولون مثل هذا على العراقين , دعوني أحصبه لكم. أحصبه أي أرميه بالحصباء.
عندئذ قام الحجاج خطيباً فألقى خطبته المشهورة المؤثرة، ثم قال في آخرها:
يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين. فقرأ الغلام كتاب عبد الملك فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم، من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى أهل
الكوفة , السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فلم يرد عليه أحد! واستمر
الغلام في القراءة , فقال الحجاج: اسكت. ثم قال: هذا أدب ابن نهية والله
لأؤدبنكم غير هذا الأدب , ألا تردون السلام على أمير المؤمنين. ثم قال: يا
غلام اقرأ الكتاب، فقرأ الغلام من أول الكتاب، فلما قال السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام
ورحمة الله وبركاته. فذلك من تأثير كلام الحجاج. أول
من اعتنى بجمع قواعد في البلاغة هو عبد الحميد الكاتب، وكان من كتاب دولة
بني أمية، وقد اصطفاه مروان ابن محمد بن عبد الملك بالكتابة، وقد قتل معه ,
مع مروان , في يوم الهاشمية، وهو اليوم الذي زالت فيه دولة بني أمية, وقتل
فيه مروان بن محمد، هو آخر أمرائهم، ثم بعده اشتهر عبد الله بن المقفع ,
وكان في الأصل شابا نصرانيا , لكنه كان من أبلغ الناس، فاشتهر بالخطابة
والبلاغة وبالكتابة للملوك والأمراء، ثم كان بعد هذا الخلفاء والأمراء
يتخذون كتاباً من البلغاء والمؤثرين يكتبون لهم رسائلهم وتوقيعاتهم، وكان
لهم أساليب في ذلك تدرس في الكتاتيب. وبعد
هذا اعتنى بعض الخلفاء بجمع بعض الأساليب المؤثرة، فأمر المأمون بجمع بعض
أمثال العرب , فجمعت في زمانه، وأمر كذلك بجمع أبيات المعاني من الأبيات
المؤثرة فجمعت، ثم بدأ الناس في جمع الأبيات المؤثرة، فألف أبو تمام
الحماسة، وألف البحتري بعدها الحماسة كذلك , ورتبها على الأبواب، على أبواب
الشعر بحسب التأثير , ثم جاء أمير المؤمنين عبد الله بن المعتز فألف كتاب
طبقات الشعراء المحدَثين، وجاء بعده ابن سلام فألَّف طبقات فحول الشعراء،
وألَّف ابن المعتز كذلك كتاباً في غرائب التشبيهات، اسمه غرائب التنبيهات
على عجائب التشبيهات، في التشبيه العجيب في شعر العرب ونثرهم. فبعد
هذا جاء عبد القاهر الجرجاني , فكان أول من وضع كتاباً جامعاً في البلاغة،
فكتب إعجاز القرآن، وكتب كتابه الآخر أسرار البلاغة , ومن عهد عبد القاهر
الجرجاني تطور هذا العلم , وكثرت المؤلفات فيه، وحاول السكاكي جمع شتات هذا
العلم في الجزء الثالث من كتابه المفتاح، وقد جمع فيه ثلاثة علوم، فخصص
جزءاً منه لجمع شتات البلاغة من الكتب المؤلفة قبله، ثم جاء القزويني فألف
كتاب الإيضاح في البلاغة، ثم اختصره ولخصه في كتاب التلخيص، فأصبح التلخيص
أهم كتب البلاغة , واعتنى به الناس عناية بالغة، فوضع عليه كثير من الشروح
والاختصارات، ونظمه السيوطي في ألفيته عقود الجمان, وألَّف العباسي معاني
التنصيص في شرح شواهد التلخيص في شرح شواهده، ثم أصبح الناس بعد هذا
يقتطعون منه ويختصرون. وهذا
المؤلف الذي لدينا هو دروس من البلاغة اختصرها بعض الأساتذة المصريين بناء
على طلب بعض أمراء البيان في زمانه، وهو في الواقع اختيار لبعض أبواب
التلخيص بأسلوب معاصر سهل، فلهذا اختارت الوزارة أن تكون الكتاب المقرر في
هذه الدورة. فأما
المقدمة الأخرى فهي: مستمد علم البلاغة.. أقصد موضوع علم البلاغة، فموضوع
علم البلاغة الأساليب العربية، قد عرفناه بالأمس أن موضوع علم النحو
المفردات , الألفاظ المفردة عندما تركب، أما البلاغة فهي: الأساليب ,
وموضوعها أساليب العربية، فأنت تعرف في النحو أن الجملة تنقسم إلى قسمين:
جملة إسمية وجملة فعلية، وتعرف أن الاسم قد يكون اسما ظاهرا وقد يكون
ضميرا , وتعرف أن الفعل يكون ماضياً ويكون مضارعاً ويكون أمراً، لكن لا
تعرف لماذا هذا التنويع؛ إنما تعرف ذلك بالبلاغة , فتعرف المقام الذي ينبغي
أن يؤتى فيه بالضمير , والمقام الذي ينبغي أن يؤتى فيه بالاسم ظاهر،
والمقام الذي يؤتى فيه بالجملة الإسمية، والمقام الذي يؤتى فيه بالجملة
الفعلية، والمقام الذي يحذف فيه المفعول، والمقام الذي يثبت فيه المفعول،
والمقام الذي يقع فيه التقديم، والمقام الذي يقع فيه التأخير، تعرف هذا
بالبلاغة ولا تعرفه بالنحو، النحو إنما هو حصر لشتات اللغة العربية،
والبلاغة تصنيف لذلك الشتات , وتوزيع له؛ لتعرف موضع كل أسلوب، المكان الذي
ينبغي أن تظهر فيه، والمكان الذي ينبغي أن تختصر فيه , المكان الذي ينبغي
أن تطول فيه، هذا هو الذي يعرف بالبلاغة. أما
مستمد علم البلاغة فهو من الكتاب والسنة , وآثار الخلفاء الراشدين ,
والخطباء المشهورين، وأشعار العرب وآدابهم، وربما دخلها بعض الأمور
المترجمة؛ فإن المسلمين قد بدأت عنايتهم بالتدوين في أيام المأمون , وفي
أيامه نشطت الترجمة، فترجموا علوم الأمم الأخرى , وللأمم الأخرى بعض
العناية بالبلاغة، فقد كان للرومان والإغريق بعض العناية بالبلاغة , فلذلك
ربما أُخذ بعض الأساليب مما لم يكن عند العرب , وإنما هو مستورد منقول،
وهذا النوع لا شك فيه صناعة وتكلف لا بالظاهر مثل (كلام غير مسموع) في
الشعر , ومثل أن تكون القصيدة الواحدة تقرأ في عدة أبحر من الشعر، ونحو هذا
لا شك فيه تكلف، مثل القصائد التي تكون من الحروف غير الموصولة، مثل: (أرى
زوره دواء (كلام غير مسموع) جود من سار (كلام غير مسموع)) هذه القصيدة كلها
من الحروف غير الموصولة التي لا يكتب منها حرفان متصلان، وكذلك القصائد
التي تكون من الحروف غير المنقوطة، الحروف المهملة أو الحروف المنقوطة
كلها، هذا النوع لا شك فيه تكلف وصعوبة، فليس هو من آداب العرب في العادة
وإنما يأتي به المحدثون، وكذلك ما كان فيه بعض التكرار الذي تكرر فيه
الكلمة الواحدة بمعانٍ متعددة , والحريري في مقاماته , وبديع الزمان
الهمذاني كذلك بالغا في هذا النوع , فمثلا الحريري يقول: سمسمة تحمد آثارها واشكر....... لمن أعطى ولو سمسمة والمكرمة ما استطعت لا تأتيه...... لتقتفي السؤدد والمكرمة والمهر مهر الحور وهو التقى....... لازمه قبل الشيب والمهرمة (كلام غير مسموع)) وهكذا، فهذا النوع فيه تكلف , ونظيره في أشعار المتأخرين وآدابهم كثير كما كتب أحدهما: (للحسنين
أحساء ولأحساء الحسنيين حسان، ولحسان أحساء الحسنيين إحسان، ولإحسان حسان
أحساء الحسنيين أحسن من إحسان حسان أحساء المحسنين) ونظير هذا لا شك فيه تكلف خارج عن عادة العرب في كلامها , لكنه مع هذا من مستمد البلاغة. أما
فضل هذا العلم، فهو أنه يوصلك إلى هذه النتيجة المحمودة , وهي إدراك إعجاز
كتاب الله تعالى، بالإضافة إلى تقويم لسانك أنت؛ حتى يمكن أن تؤثر في
الآخرين، فلا شك أن كل إنسان لديه عقل , له أفكار يحب أن يوصلها إلى
الآخرين، وله آراء يحب أن يتقبلها الآخرون، والأساليب المؤثرة هي التي تجعل
الآراء يتقبلها الناس، فذلك مما يدل على فضل هذا العلم وأثره. أما
حكمه؛ فإن حكم تعلم هذا العلم فرض كفاية على الأمة، إذ هو من العلوم
النافعة وكلها فرض كفاية، وإنما لم يتعلمه الصحابة والتابعون في لغناهم عنه
بسليقتهم وأصل فطرتهم، وإنما أرسيت قواعده من كلامهم , فكما لم يتعلموا
علوم التكنولوجيا الحديثة؛ إذ لم يحتاجوا إليها , فكذلك لم يتعلموا مثل هذه
العلوم لعدم حاجتهم إليها، أما نحن فمحتاجون إلى ذلك غاية الاحتياج ,
فلهذا كان فريضة كفائية في حقنا. أما
اسمه فهو علم البلاغة , وقد يسمى بعلم البيان؛ تسمية للشيء باسم جزئه ,
كتسمية الإنسان بالرقبة، تحرير رقبة معناه تحرير إنسان , لكن سمي الإنسان
بالرقبة تسمية له باسم جزئه، فكذلك يسمى هذا العلم في بعض الأحيان علم
البيان؛ تسمية له بأحد أقسامه، فهو ثلاثة أقسام: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع , فيسمى باسم بعضه في بعض الأحيان. أما فائدته:
فقد وصفت مما سبق في فضله، فإدراك تفاوت الأساليب , وأن يقتدر الإنسان على
أداء المعاني المختلفة من ألفاظ متفاوتة، فيعرف المكان الذي ينبغي فيه
التصريح، والمكان الذي تنبغي فيه الكناية، والمكان الذي ينبغي فيه التشبيه،
والمكان الذي تنبغي فيه الاستعارة , فيعرف المكان الذي ينبغي فيه الإضمار،
والمكان الذي ينبغي فيه الإظهار، والمكان الذي ينبغي فيه الإيجاز، والمكان
الذي ينبغي فيه الإطناب، والمكان الذي تطلب فيه المحسنات، كالابتداء
والنهاية والتخلص، والمكان الذي لا تطلب فيه المحسنات , وإنما ينساق فيه
الإنسان وراء فطرته وسجيته , كل هذا من فائدة علم البلاغة. كذلك
فإن من فائدة علم البلاغة، ما ينجم عنه من تحسين الذوق، فالإنسان محتاج إلى
التأديب, وتأديبه منه تأديب لسانه، ومنه تهذيب جنانه , فتأديب لسانه هو
بتحسين ذوقه في اللغة؛ حتى يعرف الكلمات التي ينبغي أن يتحاشاها ,
والأساليب التي لا ينبغي أن يقولها، ويعرف أيضا مستوى من يخاطبه؛ فإن بشار
بن برد خاطب جارية له بأبيات يمدحها بها فيقول فيها: رباب ربة البيت ...... تخلط السمن بالزيت لها سبع دجاجات....... وديك حسن الصوت فحضره
أحد الشعراء فلامه قال: كيف تقول مثل هذا الشعر الرديء , وأنت أشعر
الشعراء؟! فقال: إن هذا أجود عندها من (كلام غير مسموع) أحسن عندها هي من
(كلام غير مسموع) هذا مستواها , وهذا الذي تفهمه. ولذلك
يقول المازني يرحمه الله: دخلت على المتوكل الخليفة في ليلة قد سهر فيها ,
فقال: يا بكر روح عني ببعض ما تحفظه من الشعر. وبكر هو أبو عثمان المازني،
قلت: في أي معنى يرغب أمير المؤمنين؟ فقال: اختر لي. فبدأت بالرثاء
فأنشدته مرثية أبي لؤيد لأولاده: (يا
(كلام غير مسموع) المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتم من يجزع) فلم يطرب
لها، فأنشدته مرثية الأعشى التي مطلعها: (إني أتتني (كلام غير مسموع) لا
أسر بها (كلام غير مسموع)) فلم يعجب بها، فأنشدته مرثية الخنساء التي
مطلعها: فلم يعجب بها، فأنشدته مرثية ابن مناذر لعبد المجيد التي مطلعها: قذى بعينك أم بالعين عوَّار وأم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار (كل حي لاقي الحمى من ما لحي مؤمل من خلود لا تهاب المنون شيئا ولا ترعى على والد ولا مولود) فلم يعجب بها، فأنشدته مرثية مروان بن أبي حفصة لمعن بن زائدة التي مطلعها: مضى لسبيله معن وأبقى....... مكارم لن تبيد ولن تنال كأن الشمس يوم أصيب معن....... من الإظلام ملبسة جلال فلم يعجب بها، فعرفت أن الخليفة ليس لديه ذوق في الشعر , فأنشدته قول عبد الملك بن المعذل: ألا يا قضية البصرة ....... قومي فارقصي قطرة فضحك حتى استلقى وأعجب بذلك. فكل إنسان بحسب ما يناسب ثقافته ومستواه يخاطب. أما مسائل هذا العلم فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: علم المعاني فيختلف تعريفها باختلاف هذه الثلاثة).
فإن
من العلوم اللغوية المهمة علم البلاغة , وهو العلم الذي يُعرف به إعجاز
القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى ما أرسل رسولا إلى البشرية إلا بعثه بمعجزة
يمكن أن يؤمن عليها البشر جميعا لو شاهدوها , أو نقلت إليهم تواترا، ولذلك
أخرج البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما
من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر , وإنما كان الذي
أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم
القيامة)).
وقد
حقق الله رجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل الرسل السابقين كانت
معجزاتهم مادية , لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها أو نقلت إليه تواترا؛
لأن الله سبحانه وتعالى علم أن ما جاؤوا به من الدين مرحلي , يصلح لمرحلة
من الزمن , فإذا تجاوزتها البشرية لم يعد ذلك الدين صالحاً ؛ فينسخ بشريعة
جديدة، فلما انتهت شرائع الله، وخاضت البشرية كل التجارب، بعث الله محمدا
صلى الله عليه وسلم بالشريعة الحقة , التي لا يمكن أن يتعداها البشر مهما
تطوروا، فتصلح لكل الظروف ولكل الأزمنة والأمكنة، فكانت معجزتها هذا القرآن
الذي تقوم به الحجة على كل من بلغه إلى أن تقوم الساعة، إلى أن يرفعه
الله، فليس مثل المعجزات الأخرى كناقة صالح، أو عصا موسى أو نحو ذلك، وتلك
إنما تقوم بها الحجة على عدد محدود من البشر الذين شاهدوها , أو الذين نقلت
إليهم تواترا، أما هذا القرآن فإن الله تحدى به الثقلين؛ الإنس والجن , أن
يأتوا بسورة من مثله، وأقصر سورة فيه هي سورة الكوثر، وتحدى الله بها
البشر أن يأتوا بسورة مثلها، فلم يستطع البشر ولا الجن حتى ولو اجتمعوا
وكان بعضهم لبعض ظهيرا أن يأتوا بمثل هذه السورة، ولن يستطيعوا ذلك أبدا،
لكن ما وجه الإعجاز هنا في هذا القرآن؟
هذا
الذي سندرسه في علم البلاغة، فإعجاز القرآن منه ما هو لفظي يتعلق بنظمه،
ومنه ما يتعلق كذلك بمعانيه , فقد تضمن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة، ومنه
ما يتعلق بتشريعه؛ فقد شرع الله فيه أفضل الشرائع، ومنه ما يتعلق بما
تضمنه من العلوم التي لا يعرفها الناس وقت نزوله، والذي يسمى بالإعجاز
العلمي، ومن إعجازه كذلك ما فيه من الإخبار عن المغيَّبات والأمور التي
ستأتي، كل ذلك من أوجه إعجاز هذا القرآن المتحدى به، والإعجاز اللفظي إنما
يعرف بهذا العلم الذي هو علم البلاغة، فلذلك أصبح هذا العلم ذا ارتباط
بالعقيدة؛ لأن العقيدة هي التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من
عند الله، وهذا التصديق لا ينفع فيه مجرد التقليد , أن يقول الرجل: سمعت
الناس يقولون شيئا فقلته، بل لابد أن يكون قناعة راسخة في نفس المؤمن.
ومن
وسائل رسوخ هذه القناعة في نفس المؤمن أن يطَّلع على المعجزة , وأن يعرف
إعجازها، فالاطلاع على المعجزة حاصل؛ لأن هذا القرآن قامت به الحجة على
الناس، لكن إدراك وجه الإعجاز هو الذي يتفاوت الناس فيه، فلابد لطالب العلم
أن يدرك وجه الإعجاز، فالناس جميعا يعلمون أن معجزة محمد صلى الله عليه
وسلم هذا القرآن، لكن ما وجه إعجازه؟ هذا الذي يحتاج طالب العلم إلى تدبره
وتفهمه , ولا يمكن أن يعرف إلا من خلال البلاغة.
لذلك
أصبح هذا العلم من العلوم المهمة , التي اعتنى بها الناس قديما وحديثا، فقد
كان الناس قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم يميزون من كان من أهل البلاغة
والفصاحة , ويجعلون البيان من صفات المدح , وكان النبي صلى الله عليه وسلم
أبلغ الناس , وكان كذلك يقدم من كان من أهل البلاغة في المواقف، فقد اختار
ثابت بن قيس بن شماس خطيبا يجيب عنه وفود العرب، وكان بليغا خطيبا، وكان
يولِّي الأمراء كذلك فيعلمهم الخطابة، فقد ولّى عتاب بن أسيد على مكة بعد
أن فتحها الله عليه، وولى علي بن أبي طالب على اليمن , ثم ولى بعده معاذاً
وأبا موسى الأشعري، وولى الضحاك بن سفيان على المشرق، وولى عدداً من الولاة
على الجهات الأخرى، وكل ولاة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من الخطباء
المشهورين المؤثرين.
ونوه
كذلك بمستوى هذه الخطابة والبلاغة في يوم الحديبية عندما قال له عمر: يا
رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل لا يقم عليك خطيبا بعد اليوم، وسهيل بن
عمرو كان من خطباء قريش في الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((دعه فعسى أن يقوم لك مقاماً تحمده))،
فلما ارتدت العرب عند موت النبي صلى الله عليه وسلم قام سهيل خطيبا في أهل
مكة، فكان من ضمن خطبته أن قال: يا أهل مكة لا تكونوا آخر العرب إسلاماً
وأوله ردة. فقال كلاماً بليغاً ثبت الله به أهل مكة , فلم يرتد أحد منهم عن
الإسلام، فهذا هو المقام الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة
سهيل بن عمرو.
وكان
خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم الراشدون من أبلغ الخطباء، فقد اشتهر أبو
بكر رضي الله عنه حتى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ببلاغته وفصاحته،
وكان العرب يعرفونه بذلك , ولهذا قال كعب بن زهير في أبياته التي يخاطب بها
أخاه بجيراً:
وكذلك
كان أئمة الإسلام في كل الأزمنة الماضية يؤثرون في الناس؛ لحسن بلاغتهم
وتأثيرهم اللفظي، فكان علي ابن أبي طالب رضي الله عنه من أخطب الناس، وكان
إذا خطب لم يستطع الصبيان البكاء لتأثرهم بصوته، الصبيان الذين لا يفهمون
لا يبكون وقت خطبته لتأثرهم بصوته، وقد وقف ذات يوم على المنبر خطيبا فقال:
(الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى وإليه المآب والرجعي - فقال له رجل:
يا أمير المؤمنين هالك عن زوجة وأبوين وابنتين؟ - فقال: صار ثمنها تسعا).
واستمر في خطبته، فهذه التركة التي عرضت عليه مسألتها أصلها من أربعة
وعشرين لاجتماع الثلثين والثمن فيها، ولكنها عالت من أربعة وعشرين إلى سبعة
وعشرين، فللبنتين الثلثان ستة عشرة، وللأبوين الثلث لكل واحد منهما السدس
ثمانية , فتمت أربعة وعشرون , وللزوجة ثلاثة وهي الثمن من أربعة وعشرين،
فتضاف الثلاثة إلى أربعة وعشرين فتصير سبعة وعشرين، فنصيب الزوجة ثلاثة ,
كانت ثمناً من أربعة وعشرين وصارت تسعاً من سبعة وعشرين؛ لأن مقام الثلاثة
من سبعة وعشرين هو التسع وليس الثمن، فالسبعة وعشرين فيها ثلاثة كم مرة؟
تسع مرات، وأربعة وعشرين فيها الثلاثة ثمان مرات، فالثمن الذي هو ثلاثة
نصيب الزوجة كان ثمناً، الثلاثة التي هي نصيب الزوجة كانت ثمنا لما كانت من
أربعة وعشرين، وقد صارت تسعا لما صارت من سبعة وعشرين، وقد استشهد هذا وهو
في سرد خطبته لم يقطع الخطبة , ولم يحتج إلى تغيير الأسلوب ولا تغيير
قافية الخطبة.
وكذلك
كان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه خطيباً مؤثرا، وكان ربما خطب جالسا
فيؤثر في الناس، مع العلم أن الخطيب أبلغ ما يكون تأثيرا إذا كان قائماً،
ومع ذلك فأول من جلس في خطبة معاوية رضي الله عنه، كان ربما خطب جالسا
ويؤثر تأثيرا بالغاً في جلوسه، وكذلك كان عبد الملك بن مروان وابن أخيه عمر
بن عبد العزيز – رحمه الله – فكان هؤلاء من مشاهير الخطباء المؤثرين.
وكذلك
قادة الجيوش الذين فتحوا الأمصار في أغلبهم , إنما كان تأثيرهم في تحميس
جيوشهم بالخطابة والبلاغة، فقد اشتهر مسلمة بن عبد الملك بقوة خطابته،
واشتهر كذلك محمد بن القاسم الثقفي، والحجاج بن يوسف، والمهلب بن أبي صفرة،
وقتيبة بن مسلم، اشتهر كل واحد من هؤلاء بقوة تأثيره في الخطابة، وكذلك
موسى بن نصير، وطارق بن زياد، اشتهر هؤلاء بتأثيرهم في الجيوش، عندما يخطب
أحدهم يتحمس الجيش ويقدم إقداما عجيباً، ولهذا قال طارق بن زياد لجيشه حين
عبر بهم البحر إلى أوروبا للجهاد في سبيل الله قال لهم: (البحر وراءكم والعدو أمامكم , فاختاروا إحدى الميتتين) فكان هذا ذا أثر بالغ في نفوس الناس , وفي شجاعتهم في الجهاد في سبيل الله.
سنتكلم إن شاء الله عن المقدمات العشر في علم البلاغة , وأولها: الحد، وهو التعريف فنقول فيه:
إن البلاغة في اللغة:
فعالة من بلُغ إذا بُولغ في بلوغه للغاية، فيقال: هذا بالغ إذا وصل، إذا
أردت المبالغة في ذلك قلت: هذا بليغ، فبَلَغ بمعنى وصل، وبَلُغ مبالغة في
البلوغ. وهي في الاصطلاح: ملكة يقتدر بها الفصيح على مخاطبة كل الناس على
مستوى حالهم، ملكة يقتدر بها الفصيح على مخاطبة كل الناس على مستوى حالهم،
فالناس فيهم الأذكياء والأغبياء والمتوسطون، وفيهم الكبار والصغار، وفيهم
من يلزم معه الأدب وفيهم من لا يلزم معه الأدب، فالقدرة اللغوية والملكة
العقلية التي تجعل الإنسان يعبر عن الغرض الواحد الذي لديه باختلاف
المواقف، فلكل مقام مقال، إذا خاطب الكبير خاطبه بألفاظ مؤدبة، وإذا خاطب
الصغير خاطبه بألفاظ فيها رحمة، وإذا خاطب النظير خاطبه كذلك بألفاظ فيها
التماس واعتدال، وإذا خاطب العدو خاطبه بالشدة والفظاظة والغلظة، وإذا خاطب
الصديق خاطبه بالرحمة واللين. هذه الملكة هي التي تسمى بالبلاغة في عرف
اللغويين.
وتعريف هذا العلم، أي
إضافة إلى ما ذكر، العلم بوسائل الملكة التي يقتدر به الفصيح على مخاطبة
كل الناس على مستوى حالهم، فيقال: العلم بالوسائل التي يقتدر بها الفصيح.
أما المقدمة الثانية: فهي واضع هذا العلم، والواقع أن وسائل هذا العلم هي من إلهام الله تعالى وتعليمه لآدم عليه السلام {وعلم آدم الأسماء كلها}
لكن اكتشاف نوامسها وقوانينها ووضع قواعدها للناس، هو الذي كان من وضع
البشر، وقد كانت العناية بالبلاغة قديمة , فأساليب البلغاء من قديم الزمان
يتناقلها الناس، فخطباء أهل الجاهلية مشاهير كـقس بن ساعدة الإيادي , وأكثم
بن صيفي التميمي , وكعب بن لؤي جد النبي صلى الله عليه وسلم , هؤلاء خطباء
الجاهلية المشاهير في العصور القديمة، وفي كل زمان يشتهر المؤثرون من
الخطباء، لكن هذه الوسائل إنما كانت ملكات يتناقلونها , ولكل فرد منهم
أسلوبه في التأثير، فمنهم من يركز على الألفاظ فيأتي بالسجع المؤثر , كما
كان قس بن ساعدة يعتمد في خطبه على ذلك، وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم
خطبته بسوق عكاظ فقال: (أيها الناس اسمعوا وعوا ,
وإذا وعيتم فانتفعوا , من عاش مات , ومن مات فات , وكل ما هو آتٍ آت، أقسم
قسُّ قسماً لا كاذبا فيه ولا مخلِفا , إن لله لدينا هو خير من دينكم الذي
أنتم عليه ) إلى آخر خطبته.
فهذا
كان اعتمادا على السجع في الألفاظ، وهذا السجع يؤتى به , وقد اشتهر في
الجاهلية الذين يخالطون الجن بملكة السجع وهم الكهان، لكن سجع الكهان فيه
تكلف واضح؛ لأنه ليس على الطبيعة , وإنما هو من إيحاء الجن، ولهذا حذر منه
النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج مسلم في الصحيح أن امرأتين اقتتلتا
فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط فألقت جنينها، فاحتكموا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم , فحكم فيه بغرة عبد أو أمة , فقال: الذي حُكم عليه: كيف
أدي من لا شرب ولا أكل , ولا نطق ولا استهل , فمثل هذا بطل، أو فمثل هذا
يطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسجعا كسجع الكهان)).
وهذا
تحذير منه صلى الله عليه وسلم من هذا السجع المتكلف، وسجع الكهان هو نظير
ما قال سطيح كاهن اليمن عندما أتاه عبد المسيح يسأله عن الرؤيا التي أزعجت
كسرى الفرس , فيذل الأموال لمن يحل له تلك الرؤيا بعد أن نسيها صاحبها،
فصاحب الرؤيا هو المربذان الفارسي وقد نسي رؤياه التي أزعجته , وبعد أن
استيقظ وجد أن إيوان كسرى قد تصدع , وأن نار الفرس قد خمدت، فعرف أن لذلك
تعلقا برؤياه , لكنه لم يتذكر شيئا من الرؤيا , فبذل كسرى الأموال لمن
يأتيه بتلك الرؤيا، فخرج عبد المسيح إلى سطيح فأتاه فوجده مريضاً فقال:
شرح دروس البلاغة الكبرى للدكتور محمد بن علي الصامل (مفرغ)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح دروس البلاغة الكبرى
لفضيلة الدكتور محمد الصامل حفظه الله
الدرس الأول
القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
الدرس الأول:
قال المؤلفون رحمهم الله تعالى:-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله الذي قصرت عبارة البلغاء عن الإحاطة بمعانـي آياته، وعجزت ألسن الفصحاء
عن بيان بدائع مصنوعاته ، والصلاة والسلام على من ملك طرفي البلاغة
إطناباً وإيجازاً ، وعلى آله وأصحابه الفاتحين بهديهم إلى الحقيقة مجازاً
.... وبعـد :
فهذا
كتاب في فنون البلاغة الثلاثة ، سهل المنال ، قريب المأخذ برئ من وصمة
التطويل الممل ، وعيب الاختصار المخل ، سلكنا في تأليفه اسهل التراتيب ،
وأوضح الأساليب ، وجمعنا فيه خلاصة قواعد البلاغة وأمهات مسائلها ، وتركنا
ما لا تمس إليه حاجة التلامذة من الفوائد والزوائد وقوفاً عند حد اللازم
وحرصاً على أوقاتهم أن تضيع في حل معقد ، أو تلخيص مطول ، أو تكميل مختصر ،
فتم به مع كتب الدروس النحوية سلم الدراسة في العربية في المدارس
الابتدائية والتجهيزية).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين ... أما بعـد :
ففي هذا الدرس يبدأ شرح
كتيب دروس البلاغة الكبرى للمؤلفين حفني ناصف ، ومحمد دياب ، وسلطان محمد ،
ومصطفى طموم، وهو كتاب كما وصفه مؤلفوه : سهل المنال قريب المأخذ ، يؤلف
لمن يرغب على الإطلاع على فهم علم البلاغة وما يهدف إليه هذا العلم ،
والأبواب التي تندرج فيه ن وبعض اللطائف التي يمكن أن تستنبط من أساليبه
وموضوعاته وأبوابه .
سلك المؤلفون – رحمهم الله
– مسلك السابقين في مقدمتهم حيث استعملوا بعض المصطلحات البلاغية في
مقدماتهم ، فحينما بدأوا بالحمد لله – عز وجل – قالوا (الحمد لله الذي
قصرت عبارة البلغاء) وهذا مما يذكره البلاغيون مما يدخل في براعة اسهتلال
كما سيأتي – إن شاء الله – في شرح أحد دروس البديع حينما ينظر إلى عبارة
(قصرت عبارة البلغاء عن الإحاطة بمعاني آياته ، وعجزت ألسن الفصحاء) فيلحظ
البلغاء والمعاني والفصحاء إلى آخر ذلك من الألفاظ التي يسميها البلاغيون
التورية بمصطلح بلاغي، فهنا كأنه إشارة إلى مضمون الكتاب وأنه سيتحدث عن
البلاغة والفصاحة والبيان . ولذلك جاء بعد التصلية على الرسول صَلّى اللهُ
عَلَيهِ وسَلَّم ، والصلاة والسلام على من ملك طرفي البلاغة إطناباً
وإيجازاً ؛ الإطناب : لون من ألوان البلاغة والإيجاز كذلك. ثم : (وعلى آله
وأصحابه الفاتحين بهديهم إلى الحقيقة مجازاًً) وهكذا بقية مقدمتهم فهم
يلجأون إلى مثل ذلك.
ولعلي أخالف منهجية الشرح
في هذه المقدمة لأخرج إلى وضع مقدمة لم تتضمنها مقدمة المؤلفين – رحمهم
الله – لبعض القضايا التي أريد تنبيه المتلقي الكريم عليها:
أولاً :
أن هذا العلم – علم البلاغة- نشأ في رحاب كتاب الله –تعالى- فحينما يتتبع
المؤرخون نشأة هذا العلم يجدون أنهم يتوقفون عند ملحوظات العلماء على بعض
المسائل التي تتعلق بفهم كتاب الله – عز وجل – ولذلك القصة الشهيرة التي
أوردها ياقوت في معجم الأدباء كما حصل في مجلس الفضل بن الربيع عندما سأله
الفيلسوف الكندي وكان بحضور أبي عبيدة – رحمه الله – قال : أنتم تقولون أن
القرآن نزل بلغة العرب وخاطب القرآن العرب بغير ما يعرفون فقال الله – عز
وجل - : {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} فسأل
الفيلسوف الكندي وهل رأت العرب رؤوس الشياطين؟ حتى يخاطبهم الله – عز وجل –
بمثل ذلك ، ففتح الله على أبي عبيدة في ذلك المجلس بالرد عليه وقال : إنما
نزل القرآن طريقة العرب وسننهم في الكلام فهم عندما يريدون أن يهولوا من
أمر الشيء يصفونه ببعض الأوصاف التي اتفقوا عليها وإن لم يكونوا رأوها
ولذلك يقول امرئ القيس :
أيقتلـنــي والمشـرفـيُّ مضاجعي ......... ومسنونةٌ رزقٌ كأنياب أغـوال
وهل رأت العرب أنياب الأغوال ، إذاً هو لون من تشبيه صورة بصورة ، صورة تعبير القرآن في: {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} ، وصورة تعبير امرئ القيس بأنياب الأغوال ، إذاً العرب حينما نزل القرآن عليهم لم يتساءلوا وما رؤوس الشياطين إنما جاء ذلك الفيلسوف باعتبار أنه لم تكن لغته العربية على سليقتها بحيث يدرك ما يدركه العرب السابقون ولذلك من هذه القصة ومن مثيلاتها نشأ البحث في البلاغة العربية ولهذا تكتسب البلاغة العربية قيمتها من قيمة الميدان الذي تبحث فيه . فهي تبحث في أوجه بلاغة القرآن الكريم وبيان أوجه الإعجاز التي أجمع عليها العلماء نظراً لأن البلاغة العربية قد تختلط عند بعض السامعين والمتلقين الكرام ببعض علوم العربية الأخرى فإنني اذكر أيضاً مما سأذكره في هذه المقدمة ما يعين على الفضل في علوم العربية وترتيبها وتركيب بعضها من بعض قبل أن أعرض إلى المراحل التي مرت بها البلاغة العربية في نشأتها .
لو أن القارئ الكريم يتصور أي لغة في الدنيا فهي تتكون من أصوات محددة اللغة الصينية لها أصواتها ، اللغة اليابانية لها أصواتها الإنجليزية لها أصواتها ، واللغة العربية قبل ذلك وبعده لها أصواتها الخاصة بها.
الأصوات التي تسمع في الأذن هي الحروف التي تكتب باليد، ما يكتب في اليد من حروف هي رموز تدل على تلك الأصوات التي يسمعها المتلقي في أذنه لو أننا حصرنا الأصوات من خلال رموزها سنجد أنها ثمانية وعشرين صوت في العربية كل صوت له رمز يخصه لا تخرج اللغة العربية عن هذه الأعداد لو جاء صوت آخر ليس داخلاً فيها يقال حينئذٍ ليس صوتاً عربياً.
هذه الأصوات لا يتعامل معها على أنها أصوات منفصلة؛ بل لابد أن تتكرب هذه الأصوات لتشكل وحدات لغوية منفصلة ، كل مجموعة من الأصوات يمكن أن تلتحم أو تقترب ببعض لتمثل بناءً لغوياً مفرداً وهو ما نسميه الكلمة.
إذاً الأصوات هي المرحلة الأولى من بناء اللغة ، تليها بعد ذلك الكلمات، والكلمات عبارة عن أخذ صوت من هنا ومن هنا ومن هنا وجمعه إلى غيره فيتكون في هذه الحالة وحدة لغوية نسميها الكلمة.
اللغة العربية فيها خمس أبنية بناء ثنائي ، وثلاثي ، ورباعي ، وخماسي وسداسي لا يزيد عن ذلك فيمكن أن تجتمع من هذه الأصوات مجموعات كبيرة من الكلمات فهذه الحروف لو جربنا أن نأخذ حرفاً تجريبياً عشوائياً نأخذ حرف من هنا ومن هنا ومن هنا ونركبه مع غيره بحيث مرة يكون ثنائي وثلاثي إلى سداسي لا يزيد عن ستة ولا يقل عن اثنين سنلحظ أمراً مهماً جداً وهو أن هذه الكلمات تؤخذ من خلال الأصوات تركب منها الوحدات اللغوية بعضها يكون واضحاً مفهوماً مستعملاً له معنى وبعضها لا يكون مفهوماً ولا معروفاً فالعلم الذي يهتم بهذا إذا كان العلم الأول هو علم الأصوات يخرج لنا ما لا يدخل في اللغة العربية من أصوات فالعلم الثاني هو علم اللغة العام أو ما يسمونه الآن العلم المعجمي علم المعاجم ، العلم الذي يرشدك إلى هذه الكلمة أهي مستعملة عند العرب تذكر في معاجم اللغة.
لست مستعملة يمكن أن تذكر يقال هذه كلمة مهملة بمعنى هي تتركب من أصوات عربية ولكن العرب أهملوها ولا يستعملونها؛ لأنها لا تحتمل معنىً محدداً ، إذاً هذا الجانب الأول وهو جانب علم اللغة العام.
إذاً المرحلة التي يحتاجها الناظر هنا أن يتأمل هذه الكلمات ليعرف أهي مستعملة عند العرب وإذا كانت مستعملة ما المعاني التي تحملها ، العلم الذي يرشده إلى هذا هو علم اللغة العام أو العلم المعجمي.
وبعد ذلك تأتي مرحلة من العلوم وهي مرحلة انضباط هذه الكلمات بمعيار اللسان العربي بمعنى أن الكلمات يطرأ عليها بعض التعديل إذا تغيرت بعض مواقع الحروف فيها.
فمثلاً: حينما تتكلم عن القول : القول هو ما يصدر عن اللسان من كلام فلو تغير القول الآن وأردنا أن ننسب حدوثه إلى شخص صدر منه فنحن نقول قول فلان أو نقول قال فلان فكيف نقول كيف تغيرت من قول إلى قال هذا علم يهتم بجانب البناء الخاص بالكلمة وهو ما يسمونه بالميزان الصرفي والعلم الذي يعتني بهذا هو علم الصرف وهو العلم الذي يهتم ببناء الكلمة وصياغتها وفق الطريق التي اعتاد العرب على نطقها.
إذاً تكون عندنا كلمات وفق المعيار الميزان العربي في النطق وهو الصرف ثم قبل ذلك هي كلمات مستعملة ولها معاني وعلم اللغة العام ثم قبل ذلك الأصوات التي تتكون منها هذه الكلمة هي أصوات عربية ، إذاً صارت عندنا الآن : كلمات صحيحة موافقة للغة العرب في استعمالها ولطريقة العرب في نطقها فهل الناس يتخاطبون مع بعضهم بكلمات مفردة؟
لا يتكلمون مع بعضهم بجمع هذه الكلمات إلى بعض أو ما يسمونه نظام الجملة؛ نظام الجملة هو : عبارة عن جمع بعض المفردات إلى بعض وتركيبها بطريقة معينة ، العلم الذي يعنى بذلك هو علم النحو أو ما يمكن تسميته علم صياغة الجملة أو نظم الجملة أو طريقة تركيب الجملة وهو يخص النحو فإذا جاءت الجملة في بدايتها اسم تكون لها مواصفات خاصة، فعل تكون لها مواصفات خاصة ، إذا وقع الاسم في هذا المكان يكون له طريقة محددة يمكن أن نشبهه بالعلم مثل ما يهتم رجل المرور بتنظيم حركة السيارات في المواقع في الشوارع والمواقف وغير ذلك فعلم النحو يتهم بحركة الكلمات في الجملة إلى هذا الحد تكون علوم العربية قد اكتملت في إعطاء المتكلم القدرة على صياغة الجمل والتراكيب التي يمكن أن يتفاهم ويتخاطب معها مع غيره بها فهذه المرحلة تسمى علوم الصحة لابد أن تتوافر هذه العلوم في الكلام حتى يكون صحيحاً.
بعد ذلك تأتي مرحلة أخرى وهي مرحلة ما فوق الصحة ، ومرحلة التفاضل في الكلام ، ومرحلة الجودة الحسن هو كلام صحيح لكن هنا ما هو أحسن منه يجتمع كلامان صحيحان وأحدهما أحسن من الآخر ما المعيار للحكم بالأفضلية وبالأحسنية على أحدهما؟
هذا ما يخص علم البلاغة بعلومه الثلاثة ، فإذا كانت القضية تتصل بتركيب الكلام كما سيأتـي –إن شاء الله- في الدرس القادم أو الذي بعده، تتصل بتركيب الكلام من تقديم وتأخير ، وذكر وحذف ووصل وفصل وإطلاق وتقييد ، وإيجاز وإطناب فهذا يدخل في علم المعاني .
وإذا كان الموضع يتصل بقضية طريقة تأدية المعنى ، سواء كان طريق التأدية المباشرة، الوصف المباشر، التشبيه بالاستعارة ، الكناية فهذا عن طريق علم البيان أو يكون عن طريق تحسين الكلام فيكون عن طريق التحسين اللفظي أو التحسين المعنوي وهذا ما يختص به علم البديع ، إذاً علم البلاغة هو علم يمثل مرحلة عليا من علوم العربية لأنه لا يبحث في قضية الصحة والخطأ فهذه مرحلة تسبقه وإن كان لا يستغنى عنها؛ لأن البلاغيين جعلوا مقدمة سموها الحديث عن الفصاحة والبلاغة هي تختصر على ما سميته قبل قليل علوم الصحة ، تتناول بعض الجزئيات التي تهيئ الكلام ليدخل في ساحة البلاغة ثم بعد ذلك يبحث عن دلالاته وتفاضل أجزائه هذا ما يتصل بتحديد منزلة علوم البلاغة من علوم العربية.
مرت البلاغة بأطوار عديدة كما أشرت قبل قليل في مسألة التأليف فيها وذكر تاريخها أنها عبارة عن ملحوظات متناثرة في مجالس العلماء وفي كتبهم ثم بعد ذلك والأقوال المتناثرة كلام الرواة وكلام العلماء تتمثل في الرسالة العذراء لابن المدبر ، أو صحيفة بشر بن المعتمر أو كتاب الكامل للمبرد أو كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة وإن كان مجاز القرآن لأبي عبيدة يمثل مرة أخرى وهي مسألة التأليف الذي ينطلق من قضية بلاغية وقصة كما ألمحت إليها قبل قليل ، وهذه بدء التأليف لكنها تأليف عام ليس منضبطاً بمعنى واحد إنما هو كلام عام .
مجاز القرآن لأبي عبيدة تتبع فيه بعض طرق القرآن في التعبير وكلمة مجاز لا تعني عند أبي عبيدة المعنى الذي يعرف الآن وهو مقابل الحقيقة وإنما تعني تفسير القرآن أي تفسيـره عند أبي عبيدة وإن كانت تتضمن في بعض مواضعها المعنى المعروف الآن .
ثم يأتي بعد ذلك كتاب (أدب الكاتب) لابن قتيبة وقد أشار فيه إلى مسألتين مهمتين هي : تقويم اليد وتقويم اللسان ؛ تقويم اليد هذا يتم في قضايا معالجة الكتابة وهي ما نسميها القضايا الإملائية في عصرنا الآن.
وتقويم اللسان وهو ما يقع فيه الكتّاب من أخطاء في كلامهم فيقومه وقد ذكر مجموعة من القضايا تتصل بهذا الجانب ثم يأتي المرحلة الثالثة من بدء التأليف عند الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) الذي أشار فيه إلى كثير من القضايا التي تخص بلاغة الكلام وسواء كان عند الأمم السابقة أو بعض ما يقع في حكايا الأعراب أو ما يقع في مجالس العلم .
تأتي بعد ذلك المرحلة الثالثة وهي مرحلة تأليف كتب خاصة تبدأ هذه المرحلة بكتاب (البديع) لابن المعتز ألفه سنة 274 وهو متوفي سنة 296 وربما أضاف إليه قبل وفاته أشياء كثيرة ثم بعد ذلك (مشكل تأويل القرآن) لابن قتيبة يختلف عن مجاز القرآن لأبي عبيدة لأن مشكل تأويل القرآن اعتمد على قضية ما يشكل على القارئ من بعض أساليب القرآن وطريقة القياس على أساليب العرب وقد تضمن موضوعات بلاغية كثيرة جداً في هذا الكتاب.
ثم قواعد الشعر لثعلب وإن كان بلاغياً ولكنه نحى نحو الشعر ورصد ما يخص الشعر من جوانب متعددة . ثم كتاب الصناعتين صناعة الشعر وصناعة لأبي هلال العسكري.
تأتي بعد ذلك المرحلة الرابعة ومرحلة النضج نضج التأليف البلاغي ويجعلها البلاغيون منحصرة عند عبد القاهر الجرجاني المتوفي سنة 470 في كتابيه ( دلائل الإعجاز) و(وأسرار البلاغة) .
ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الخامسة وهي مرحلة التبويب ، يعني إن عبد القاهر قد أوصل البلاغة إلى مرحلة النضج في أفكارها في أغراضها في أهدافها في تحليله للأساليب إلا أن مرحلة عبد القاهر تشكو من عدم الترتيب والتبويب والتنظيم لأن القضية عند عبد القاهر يمكن أن تتناول في مواضع كثيرة في كتابيه.
جاءت مرحلة التبويب المرحلة الخامسة عند الفخر الرازي في كتابه (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) حيث قام باختصار أو بتلخيص كتابي عبد القاهر (الأسرار) و(الدلائل) ووضعها في كتابه (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) .
ثم جاء بعد ذلك أبو يعقوب السكاكي وألف كتاب (مفتاح العلوم) لعلوم العربية كلها لكن الجانب البلاغي كان هو الأبرز في هذا المفتاح ولذلك شاع أكثر من شيوعه في النحو، وفي العروض وفي غيرها.
مفتاح العلوم اتكأ على كتاب (نهاية الإيجاز) واستفاد منه وصنف وبوب وجل ما في نهاية الإيجاز موجود عند عبد القاهر الجرجاني وجل ما في مفتاح العلوم موجود عند الرازي في نهاية الإيجاز لكن لأن مفتاح العلوم كان بعلوم العربية كلها ونظراً لثقل أسلوبه وصعوبة طريقة المؤلف فيه احتاج الأمر إلى تلخيصه فقام الخطيب القزويني المتوفي سنة 739 بتلخيص كتاب المفتاح في كتاب سماه تلخيص المفتاح وهذا الكتاب هو الذي صار مركز التأليف البلاغي عند المتأخرين حيث يرجعون إليه كثيراً لكن التلخيص لأنه حرص على الإيجاز فيه فقد كانت عبارته غامضة مكثفة احتاج إلى إيضاح قام المؤلف نفسه وهو الخطيب القزويني بإيضاحه بإيضاح التلخيص فألف الإيضاح وهو أوسع من التلخيص فصار كتاباً في البلاغة والمرجع في المؤلفات البلاغية التي تمثل مرحلة الاستقرار في التاليف البلاغي.
ولذلك يمكن تقسيم مدارس التأليف البلاغي بعد المرحلة التاريخية التي سردتها قبل قليل إلى مدرسة تنحى في تأليفها منحى دراسة إعجاز القرآن ومظاهر البلاغة النبوية وهذه نسميها مدرسة الإعجاز.
ومدرسة تعنى بتلمس الظاهرة الإبداعية في النص وهذه تسمى المدرسة الأدبية .
المرحلة الأولى مرحلة الإعجاز ربما تتمثل عند ابن قتيبة – رحمه الله – عند الباقلاني في إعجاز القرآن عند عبد القاهر الجرجاني في الدلائل عند المفسرين عند السكاكي ، عند الزمخشري في كشافه عند غيره من المفسرين الذين ينحون التحدير والتدوير لابن عاشور –مثلاً – المتوفي في هذا العصر أو قبل هذا العصر بقليل.
مدرسة الإعجاز كما قلت الأسماء التي ذكرتها آنفاً ، المدرسة، المدرسة الأدبية تتمثل عند ثعلب في قواعد الشعر عند أبي هلال في كتاب الصناعتين عند ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة عند ابن رشيق في العمدة عند ابن الأثير في المثل السائر .
المدرسة العقلية هي مدرسة المتكلمين التي تبدأ في الرازي في نهاية الإيجاز والسكاكي في مفتاح العلوم والقزويني في التلخيص والإيضاح ومن تبعهم بعد ذلك.
تأتي بعد ذلك مدرسة رابعة نسميها اصطلاحي المدرسة البديعية وهي المدرس التي تعتمد على إشاعة الموضوع ومحاولة الجمع بين ميزات المدرسة الأدبية والمدرسة العقلية.
ميزات المدرسة الأدبية أنها تعنى بالتحليل وبيان مراد النص أكثر من عنايتها بالترتيب والتنظيم ، والمدرسة العقلية تعنى بالتنظيم والتبويب والتقسيم والتعريف والتحديد أكثر من عنايتها بالتحليل ولذلك لكل مدرسة من هذه المدارس ميزة . المدرسة البديعية حاولت الجمع بين ميزات المدرسة الأدبية والمدرسة العقلية ولعل رأس هذه المدرسة يمكن أن ينسب لأبي الأصبع المصري في كتابه (تحرير التحيير) وكتابه (بديع القرآن) وإن كان بديع القرآن يمكن تصنيفه إلى مدرسة الإيجاز.
إذاً هذه لمحة عامة عن نشأة البلاغة العربية والمصنفات فيها واتجاهات هذه المصنفات وقبل أن أختم الحديث في هذا الدرس أريد أن أنبه إلى دراسة البلاغة يمكن أن تثري الدارس في معرفة الغاية العظمى التي جعل كثير من العلماء إعجاز كتاب الله عز وجل فيها ويه إعجاز القرآن في بلاغته كيف عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن مع أن كلماته هي كلماتهم ، وحروفه هي حروفهم وطريقة نظمه هي طريقة نظمهم وكيف لم يستطع العرب الإتيان بمثل القرآن؟ الذي يجيب عن هذا السؤال هو تتبع أبواب البلاغة ومعرفة كيف يصاغ الكلام وكيف يعرف التفاضل بين أساليبه؟
أنصح المتلقي الكريم والدارس لمثل هذا العلم استصحاب النية الطيبة في دراسة البلاغة ؛ لأن الدراسة إذا صحبتها النية الطيبة تكون آثارها حسنة – بإذن الله عز وجل -.
أنبه أيضاً إلى ارتباط القضية العقيدية في التأليف البلاغي والبلاغيون الذين أسهموا في التأليف البلاغي كثير منهم ليس على منهج أهل السنة والجماعة ولذلك استطاعوا أن يخدموا اتجاهاتهم العقدية من خلال هذا العلم ، هذا العلم وسيلة هم امتطوها لتحقيق مآربهم وأهدافهم بينما أهل السنة أحجم كثير منهم عن الدخول في مثل هذا العلم لما يعتبره من كثير الأمور التي فيها إشكالات يمكن – بإذن الله- عز وجل – لمن ينوي النية الحسنة ويتتبع أن يجد أن التأليف البلاغي الموافق لفطرة العرب ولطريقة العرب ، وللغة العرب السليمة على سليقتهم هو موافق لمنهج أهل السنة والجماعة – بإذن الله - عز وجل – في هذا الجانب ولذلك أعزوا عزوف كثير من أهل السنة والجماعة إلى ما أثاره أو أثارته بعض القضايا ذات الصلة الوثيقة بالتأليف البلاغي مثل قضية المجاز بالعزوف عن التأليف في البلاغة والبعد عنه مع أن أهل السنة إذا تحدثوا في مثل هذا الجانب أبدعوا أيما إبداع والمتأمل لأقوال ابن القيم الجوزية – رحمه الله – في كثير من تحليله لأساليب القرآن أو لأساليب الكلام بعامة يجد عقلاً متفتحاً عقلاً بلاغياً مفصحاً عن الدلالات التي تحملها التراكيب.
وادعوا الله – عز وجل – لجميع الدارسين لهذا العلم والمستمعين لهذه الدروس ادعوا لهم أن يوفقهم الله –عز وجل- لما فيه الخير في الدنيا والأخرى كما آمل لكل سامع لمثل هذه الدروس أن يدعو للمتكلم ولوالديه ولجميع المسلمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
* الأسـئـلة:
س: فضيلة الشيخ: ما هي الكتب التي تنصحون المبتدئ بقراءتها في علم البلاغـة ؟
ج: المبتدئ في علم البلاغة يحسن أن يبدأ بدروس البلاغة الكبرى التي اختارتها هذه المؤسسة التي نسأل الله عز وجل التوفيق ؛ لأنه كما ذكر مؤلفوه وهو تقريب لهذا العلم للناشئة ، للذي يرغب على الإطلاع على هذا العلم ثم يتدرج بعد ذلك ليصل غلى بعض المؤلفات التي تحتاج إلى مزيد من العمق والإدراك في متابعة جزئياتها .
المؤلفات البلاغية تنقسم قسمين مثل بقية العلوم:
1- فيها متون .
2- وفيها شروحها فيها تلخيصات وغير ذلك.
والمتون هي أيضاً هي متون نثرية وفيها متون شعرية . من المتون النثرية التي تجمع جل أبواب البلاغة كما ذكرت كتاب التلخيص؛ تلخيص الخطيب القزويني للمفتاح والكتاب الذي شاع وانتشر وجمع قضايا البلاغة بعد استقرارها .
وهناك مجموعة من المتون الأخرى ككتاب الإيضاح للقزويني كذلك وكتاب التبيان في علم البيان للطيبي وهو أكثر شمولاً من كتاب الإيضاح للقزويني ولكنه لعالم أخف مخالفاتٍ مما لدى القزويني – رحمه الله – لأن القزويني عنده اعتزاليات كثيرة.
كذلك أنصح أو من لديه قدرة على الحفظ أن يحفظ في البلاغة متين عقود الجمان للإمام السيوطي – رحمه الله- فقد ألف منظومة جمع فيها علوم البلاغة منطلقاً من التلخيص أو من ما ورد في تلخيص الخطيب القزويني .
س2: بارك الله فيكم: فضيلة الشيخ من المهم أن يتعرف طالب العلم على معالم هذا العلم ومن أهم ذلك أئمة هذا العلم المأمونين في توخيهم العقيدي ؟
ج2: الحقيقة أن هذا السؤال من أهم الأسئلة التي أعني إشاعتها والحديث عنها وتقديم النصح للراغبين في دراسة البلاغة العربية في هذا المجال يحزنني أن أقول إن المؤلفات القديمة قل أن يخلو مؤلف بلاغي من مخالفات عقدية لكنها تقل وتكثر وأغلب الذين ألفوا في البلاغة العربية هم من المعتزلة ومن أصحاب المذهب الأشعري أو الماتريدي وقل أن تجد كتاباً لعالم من علماء أهل السنة ولذلك حاولت أن أنهض بهذه المهمة فألفت كتاباً سميته (المدخل إلى دراسة بلاغة أهل السنة) ورصدت فيه ما ورد عند علماء البلاغة مما يوافق منهج أهل السنة وأشرت إلى ما يخالف منهجهم ونبهت عليه وبفضل الله عز وجل أصبح ما قدمته من دعوة في هذا الكتاب مجالاً رحباً للدارسين وألفت بعد ذلك مجموعة من الكتب التي أتمنى لها الطبع والخروج إلى يد القراء ومن ذلك رسالة نفيسة في قيمتها رائعة في إعدادها مهمة في موضوعها لأنها توازن بين علمين من أهم أعلام المفسرين في الجانب البلاغي وهذه الرسالة بعنوان : (التوجيه البلاغي لآيات العقيدة بين الطبري والزمخشري) الطبري لأنه من أئمة أهل السنة والزمخشري لأنه إمام المعتزلة والذي يعزو إليه كثير من البلاغيين مسألة التوفق والإبداع في الجانب البلاغي هذه الرسالة رسالة ماجستير تقع في مجلدين كبيرين أعدها الباحث الجاد الأخ الفاضل / سيلمان بن عبد العزيز الربعي وكنت مشرفاً على هذه الرسالة وقد نوقشت في نهاية شهر شعبان من عام 1423هـ وأعلم أن صاحبها يعني قد طلبت منه عدداً من دور النشر طبع هذه الرسالة فأسأل الله عز وجل أن يعجل بنشرها.
رسالة أخرى لا تقل عن الرسالة السابقة في أهميتها ولكنها تنحو منحى آخر هو أشبه ما يكون برصد ما في مؤلفات البلاغة وهذه الرسالة نفيسة في موضوعها ورائعة في مضمونها بعنوان : (التوجيه البلاغي في المؤلفات البلاغية في القرنين السابع والثامن الهجريين) للباحث يوسف بن عبد الله العليوي ، وقد أعدت هذه الرسالة بإشراف زميلي وأخي / ناصر بن عبد الرحمن الخنين وأعدها كما قلت : يوسف بن عبد الله العليوي وفقه الله لكل ، وقد أشتركت في مناقشة هذه الرسالة النفيسة لأنها تذكر كل إن كنت أنا في كتابي مدخل إلى بلاغة أهل السنة قد أشرت إلى المخالفات دون تفصيل في وجه المخالفة ومدى موافقتها ولكني نبهت لأني اخترت عنوان مدخل إلى بلاغة أهل السنة ليكون مدخلاً للباحثين من بعدي فقد وفق الباحث الأخ / يوسف العليوي جزاه الله خيراً بالوقوف عند هذه المخالفات وبيان ما يخالفها في منهج أهل السنة والجماعة في هذا الجانب ، فأسال الله عز وجل أن يوفق الباحث وغيره لخدمة هذا العلم الذي نحتاج إلى نشره وتوزيعه لكثرة حاجة الناس إليه ولا يعني هذا أن المؤلفات البلاغية كلها فيها ما يخالف منهج أهل السنة ، أنا قلت في كثير منها هناك قمت على تحقيقه لكنه يختص بواحد من علوم البلاغة هو : (القول البديع في علم البديع) ليوسف بن مرعي الحنبلي العالم الشهير المتوفي سنة 1033هـ وقد لاحظت عليه بعض المخالفات اليسيرة في هذا الجانب.
كتاب السيوطي : (عقود الجمان) سواء في شرح السيوطي لها ، أو في شرح المرشدي العمري أيضاً من الكتب القيمة.
كتاب التبيان في علم البيان وهو للطيبي وهو من الكتب الجيدة في البلاغة التي يمكن أن يستفاد منها لكن الكتاب يتضمن بعض المخالفات اليسيرة من المؤلفات المعاصرة التي يحتاجها القارئ من أفضل المؤلفات في البلاغة فنونها وأفنانها للدكتور م فضل حسن عباس وهو من الكتب الجيدة التي قربت البلاغة بأسلوب معاصر للراغبين في دراستها.
وكذلك كتاب بعنوان: (البلاغة العربية أسسها وغايتها) لعبد الرحمن الميداني وهذه من الكتب الكثيرة التي تنتشر غير أني أنبه أن من أراد العمق وأراد القدرة في التحليل وفي التأهيل فعليه الرجوع إلى كتب شيخنا الوقور الدكتور محمد محمد أبو موسى الأستاذ في جامعة أم القرى حفظه الله ووفقه هو خير من يفهم أساليب البلاغيين فقد ألف رسالته الدكتوراه عن البلاغة في تفسير الزمخشري وإن كان الدكتور – وفقه الله – له بعض الرؤى التي يشجع أبناءه على مخالفته فيها وهو ما يتصل بقضية التمحيص في مسألة الجانب العقدي في المؤلفات البلاغية أسال الله – عز وجل – له ولجميع الدارسين الخير والتوفيق والفلاح).
القارئ: (أثابكم الله وبارك فيكم ونفع بعلمكم).