10 Nov 2008
مواضع الوصل بالواو
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (مواضعُ الوصلِ بالواوِ
يَجبُ الوصْلُ في موضِعَيْنِ:
الأوَّلُ: إذا اتَّفقَت الْجُملتانِ،
خبَرًا أوْ إنشاءً، وكانَ بينَهما جِهَةٌ جامعةٌ، أيْ: مناسَبةٌ تامَّةٌ،
ولم يكُنْ مانعٌ من العطْفِ، نحوُ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}، ونحوُ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}.
الثاني: إذا أَوْهَمَ ترْكُ العطْفِ خِلاَفَ المقصودِ، كما إذا قُلْتَ: (لا، وشفاهُ اللَّهُ) جوابًا لِمَنْ يَسألُك: (هلْ بَرِئَ عليٌّ من المرضِ؟)، فترْكُ الواوِ يُوهِمُ الدعاءَ عليه، وغَرَضُكَ الدعاءُ له).(دروس البلاغة)
الحواشي النقية للشيخ: محمد علي بن حسين المالكي
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): ( (مواضعُ الوصْلِ بالواوِ)
يَجِبُ الوصْلُ في موضِعَيْن(1):
(الأوَّلُ): إذا اتَّفَقَت الجملتانِ خَبَرًا أو إنشاءً(2) وكان بينَهما
جهةٌ جامعةٌ، أي مناسَبةٌ تامَّةٌ، ولم يكن مانِعٌ من العطْفِ(3)، نحوُ:
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}، ونحوُ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}.
(الثانيةُ): إذا أَوْهَمَ ترْكُ العطْفِ(4) خلافَ المقصودِ، كما إذا قلتَ:
لا، وشَفاه اللهُ. جوابًا لمن يَسألُكَ: هل بَرِئَ عليٌّ من المَرَضِ؟
فتَرْكُ الواوِ يُوهِمُ الدعاءَ عليه، وغَرَضُكَ الدعاءُ له).
________________
قال الشيخ محمد علي بن حسين بن إبراهيم المالكي (ت: 1368هـ): ((1) قولُه: (يَجبُ الوصْلُ في موضعيْنِ)،
في عَروسِ الأفراحِ حيثُ قُلْنَا في هذا البابِ: يَجبُ الوصْلُ، أو
قُلْنَا: يَجبُ الفصْلُ، نُريدُ به الوجوبَ بحسْبِ البلاغةِ وتطبيقِ
الكلامِ على مُقتضى الحالِ، ولا نعني الوجوبَ بحسْبِ اللغةِ، إلاَّ في
مواضعَ يسيرةٍ نُنَبِّهُ عليها في مواضعِها إن شاءَ اللَّهُ تعالى ا.هـ.
ثمَّ قالَ بعدُ: واعلَمْ أنَّ الخبرَ والإنشاءَ المتمحِّضَيْنِ لا يُعطَفُ
أحدُهما على الآخَرِ، فيَجبُ الفصْلُ بلاغةً. وأمَّا لغةً فاختلَفوا فيه،
فالجمهورُ على أنَّه لا يَجوزُ، واختارَه ابنُ عُصفورٍ في شرْحِ الإيضاحِ،
وابنُ مالكٍ في بابِ المفعولِ معه في شرْحِ التسهيلِ، وجَوَّزَه الصفَّارُ
وطائفةٌ، ونَقلَ الشيخُ أبو حيَّانَ عن سِيبَوَيْهِ جوازَ عطْفِ
المختلِفيْنِ بالاستفهامِ والخبرِ، مثلَ: هذا زيدٌ، ومَن عمرٌو؟ وقد
تَكلَّفوا على ذلكَ في قولِه تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}،
وحاصِلُهُ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الْفَنِّ مُتَّفِقُونَ على منْعِه، وظاهرُ
كلامِ النُّحاةِ جوازُه، ولا خلافَ بينَ الفريقيْنِ؛ لأنَّه عندَ من
جوَّزَه يَجوزُ لغةً ولا يَجوزُ بلاغةً ا.هـ. وسيأتي ما فيه.
(2) قولُه: (إذا اتَّفَقت الجملتانِ خبرًا أو إنشاءً)، أي: معنًى ولفظًا، كما في مِثالَي الكتابِ، وذلكَ أنَّ الجملتيْنِ في نحوِ {إِنَّ الأَبْرَارَ}
إلخ خبريَّتانِ لفظًا ومعنًى، والجامعُ بينَهما التضادُّ بينَ
المُسْنَديْنِ والمُسْنَدِ إليهما؛ لأنَّ الأبرارَ ضدُّ الفجَّارِ، والكونَ
في النعيمِ ضدُّ الكونِ في الجحيمِ، والجملتانِ في نحوِ: فَلْيَضْحَكُوا
إلخ إنشائيَّتانِ لفظًا ومعنًى، والجامعُ الاتِّحادُ بينَ المُسْنَدِ
إليهما، وهي الواوُ التي هي ضميرُ المخاطَبيْنِ، وشِبهُ التضادِّ بينَ
المُسْنَدَيْنِ، أو معنًى فقطْ بأن كانتا إنشائيَّتيْنِ معنًى ولفظُهما
خبرٌ، نحوُ: الحمدُ للَّهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللَّهِ، أو لفظُ
الأُولى خبرٌ ولفظُ الثانيةِ إنشاءٌ، أو بالعكسِ، أو كانتا خبريَّتيْنِ
معنًى ولفظُهما إنشاءٌ، نحوُ: ألم آمُرْكَ بالتقوى، وألم آمُرْكَ بترْكِ
الظلْمِ؟ أو لفظُ الأُولى إنشاءٌ ولفظُ الثانيةِ خبرٌ، أو بالعكسِ.
ويُسَمَّى الاتِّفاقُ المذكورُ توسُّطًا بينَ الكماليْنِ، وإنما تَعَيَّنَ
الوصْلُ بالواوِ هنا لعدَمِ المانِعِ الذي هو وجودُ أحدِ الكمالَيْنِ مع
عدمِ الإيهامِ في كمالِ الانقطاعِ، ووجودِ شِبهِ أحدِهما. وقولُه: (وكان بينَهما)،
أيْ: بينَ طرَفَيْ كلٍّ من الجملتيْنِ جهةٌ جامعةٌ، إمَّا عقليَّةٌ، وهي
ثلاثةُ أقسامٍ: أحدُهَا الاتِّحادُ في التصوُّرُ، أيْ في مُتصَوَّرٍ من
مُتصوَّراتِ الجملةِ، وذلكَ إذا كان المُسْنَدُ إليه في الجملةِ الثانيةِ
هو عينُ المُسْنَدِ إليه في الجملةِ الأُولى، نحوُ: زيدٌ كاتبٌ وهو شاعرٌ.
والثاني التماثُلُ، بمعنى الاشتراكِ في وصْفٍ له مزيدُ اختصاصٍ وارتباطٍ
بالشيئيْنِ بحيثُ يُوجِبُ اجتماعَهما في المفكِّرةِ مع اشتراكِهما في
الحقيقةِ، لا مجرَّدَ اشتراكِهما في الحقيقةِ، كما إذا كان بينَ زيدٍ
وعمرٍو اشتراكٌ في الكرَمِ وقلْتَ: زيدٌ شاعرٌ وعمرٌو كاتبٌ. والثالثُ
التضايُفُ، وهو كونُ الشيئيْنِ بحيثُ لا يُمكِنُ تعقُّلُ كلٍّ منهما إلاَّ
بالقياسِ إلى تعقُّلِ الآخَرِ، كالتضايُفِ الذي بينَ مفهومِ العلَّةِ، وهو
كونُ الشيءِ سببًا، وبينَ مفهومِ المعلولِ، وهو كونُ الشيءِ مسبَّبًا عن
ذلكَ الشيءِ، كأن يُقالَ: العِلَّةُ أصْلٌ أو موجودةٌ، والمعلولُ فرعٌ أو
موجودٌ، أو بينَ مَاصَدَقَ العِلَّةِ وبينَ مَاصَدَقَ المعلولِ، باعتبارِ
مفهومِ العِلَّةِ ومفهومِ المعلولِ، كأن يُقالَ: حركةُ الخاتَمِ موجودةٌ أو
معلولةٌ، وحركةُ الإصبعِ موجودةٌ أو عِلَّةٌ، أو النارُ مُحرِقَةٌ والحطبُ
مُحرِقٌ، وإمَّا وهميَّةٌ، وهي ثلاثةُ أقسامٍ أيضًا: أحدُها شِبهُ
التماثُلِ، أي: الاتِّحادُ في النوعِ، وذلكَ بأن يكونَ بينَ الشيئيْنِ
تقارُبٌ وتشابُهٌ، باعتبارٍ وتبايُنٌ باعتبارٍ آخَرَ، كلَوْنَيْنِ هما
بياضٌ وصُفرةٌ، فيَصِحُّ العطْفُ في نحوِ: بياضُ الفِضَّةِ يُذهِبُ
الغَمَّ، وصُفرةُ الذهَبِ تُذهِبُ الهَمَّ. والثاني التضادُّ، وهو
التقابُلُ بينَ أمريْنِ وجوديَّيْنِ يَتعاقبانِ على مَحلٍّ واحدٍ، فمن
المحسوساتِ السوادُ والبياضُ، فيُقالُ: ذَهَبَ السوادُ وجاءَ البياضُ، أو
السوادُ لونٌ قبيحٌ، والبياضُ لونٌ حسَنٌ. ومن المعقولاتِ الإيمانُ
والكفْرُ بِناءً على أنَّ الكُفْرَ إنكارُ شيءٍ ممَّا عُلِمَ مجيءُ النبيِّ
صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ به بالضرورةِ، نحوُ: ذَهَبَ الكفْرُ وجاءَ
الإيمانُ، أو الإيمانُ حسَنٌ والكفْرُ قبيحٌ، وكذا الذواتُ المتصِّفةُ
بالمذكوراتِ فيُقالُ: الأسودُ ذَهَبَ والأبيضُ جاءَ، المؤمنُ حَضَرَ
والكافرُ غابَ، ومنهُ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}
إلخ. والثالثُ شِبهُ التضادِّ، بأن لا يكونَ أحدُ الشيئيْنِ ضِدَّ
الآخَرِ، ولا موصوفًا لضِدِّ ما وُصِفَ به الآخَرُ، ولكن يَستلزِمُ كلٌّ
منهما معنًى يُنافي ما يَستلزِمُه الآخَرُ، وهو قِسْمَانِ: ما يكونُ في
المحسوساتِ كالسماءِ والأرضِ، وما يكونُ في المحسوساتِ والمعقولاتِ
كالأوَّلِ والثاني، فيُقالُ: السماءُ مرفوعةٌ لنا والأرضُ موضوعةٌ لنا،
والأوَّلُ سابقٌ والثاني لاحِقٌ. ومن الجمْعِ بشِبْهِ التضادِّ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}،
فافْهَمْ. وإمَّا خياليَّةٌ، بأن يكونَ بينَ الشيئيْنِ تَقارُنٌ في
الخيالِ لأجْلِ أسبابٍ مؤدِّيةٍ إلى ذلكَ التقارُنِ وتلكَ الأسبابِ، وإن
كان مرجعُها إلى مخالَطَةِ ذواتِ تلك الصوَرِ الحسِّيَّةِ المقترِنَةِ في
الخيالِ، بمعنى أنَّ تلكَ المخالَطةَ مآلُ تلكَ الأسبابِ ومَنشَؤها، إلاَّ
أنَّ أسبابَ تلكَ المخالَطةِ مختلِفةٌ، فيُمكِنُ وجودُها عندَ شخصٍ دونَ
آخَرَ. مثلاً إذا كان المخاطَبُ صنعتُه الكتابةُ؛ فإنَّها تَقتضي مخالَطتَه
لآلاتِها من قلَمٍ ودواةٍ ومِدادٍ وقِرطاسٍ، فتَقترِنُ صوَرُ المذكوراتِ
بخيالِه، فيَصِحُّ أن يَعطِفَ بعضَها على بعضٍ فيقولَ: القلَمُ عندي
والدواةُ عندَكَ. وإذا كان من أهلِ التعَيُّشِ بالإبلِ مَثلاً أَوْجَبَ له
ذلكَ مُخالَطتَها وأمورَها من رَعْيِها في خَصْبٍ ناشئٍ عن المطرِ النازلِ
من السماءِ، ومن الإيواءِ بها إلى مَحَلِّ الرعْيِ والحفظِ كالجبالِ، ثم
إلى الانتقالِ بها إلى أرضٍ دونَ أُخْرى طلَبًا للكلإِ، فتَقترِنُ صُوَرُ
الإبلِ والسماءِ والجبالِ والأرضِ في خيالِ البَدَوِيِّ بحيثُ لو فُتِّشَ
فيه لوُجِدَتْ صوَرُ هذه الأشياءِ حاضرةً فيه على الترتيبِ المذكورِ،
فتَجتمِعُ كذلكَ عندَ المفكِّرةِ كما في قولِه تعالى: {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ
إلى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}،
فإذا عُكِسَ ترتيبُها كان وقْعُ العطْفِ في غيرِ الْقُرْآنِ بذكْرِ الأرضِ
أوَّلاً، ثم الجبالِ، ثم السماءِ، ثم الإبلِ، لم يَحسُنْ؛ لأنَّ صوَرَ
المذكوراتِ لم تَقتَرِنْ في خيالِ أصحابِها على هذا الوجهِ فلم تَتَّضِحْ
فيها كذلكَ. كما لا تَقْتَرِنُ صُوَرُها لا مع الترتيبِ المذكورِ، ولا مع
عدَمِه في خيالِ الحضَرِيِّ، فإذا تَلا الآيةَ المذكورةَ قبلَ الوقوفِ على
ما ذكَرْنَا ظَنَّ النَّسَقَ لجهلِه مَعيبًا، والمعتَبَرُ خيالُ السامعِ؛
لأنَّه الذي يُراعَى حالُه في غالبِ الخطابِ، لا خيالُ المتكلِّمِ.
وبالجملةِ فالجامعُ العقليُّ عبارةٌ عن أمْرٍ، وهو الاتِّحادُ والتماثُلُ
والتضايُفُ، بسببِه تَجمَعُ القوَّةُ العاقلةُ بيَن الشيئيْنِ في
المفكِّرَةِ، فتتَصَرَّفُ فيهما المفكِّرَةُ حينئذٍ بما تَتصرَّفُ به،
سواءٌ كان ذلكَ الأمْرُ مدرَكًا بالعقْلِ لكونِه كلِّيًّا أو مضافًا
لكُلِّيٍّ، أو مُدْرَكًا بالوهْمِ بأن كان جُزئيًّا لكونِه مضافًا لجزئيٍّ،
وإنما سُمِّيَ جمْعُ الاتِّحادِ والتماثيلِ والتضايفِ عقليًّا؛ لأنَّ
العقلَ يُدرِكُ الأمورَ على حقائقِها ويُثبتُها على مُقتضاها، والجمْعُ
بهذه محقَّقٌ في نفسِ الأمرِ لا يُبطلُه التأمُّلُ فنُسِبَ للعقلِ.
والجامعُ الوهميُّ عبارةٌ عن أمْرٍ، وهو شِبهُ التماثلِ وشِبهُ التضادِّ
والتضادُّ، بِسببِه يتحيَّلُ الوهمُ في اجتماعِ الشيئيْنِ عندَ المفكِّرةِ،
وذلكَ بأن يُصَوِّرَ الوهْمُ ذلكَ الأمرَ بصورةٍ تصيرُ سببًا لاجتماعِهما،
وليس في الواقعِ سببًا له، سواءٌ كان ذلكَ الأمرُ يُدركُه الوهمُ كشبِه
التماثُلِ وشبْهِ التضادِّ وتضادِّ الجزئيَّاتِ، أو لا يُدركُه الوهْمُ
ككُلِّيَّاتِها. والجامعُ الخياليُّ عبارةٌ عن أمرٍ، وهو التقارُنُ في
الخيالِ عندَ التذكُّرِ والإحضارُ، بسببِه يَقتضي الخيالَ، أي يَقتضي
الحسُّ المشترَكُ الذي خَزانتُه الخيالُ اجتماعَ الشيئيْنِ في المفكِّرةِ،
ولو كان ذلكَ الأمرُ عقليًّا أو وهميًّا في أصلِه، فافهَمْ. وقولُه: (أيْ
مناسبةٌ تامَّةٌ)، أي: ظاهرةٌ قريبةٌ، لا مطلَقَ مناسبةٍ؛ فلذا عِيبَ على
أبي تَمَّامٍ قولُه:
لا والذي هو عالِمٌ أنَّ النَّوَى ....... صَبْرٌ وأنَّ أبا الحُسَيْنِ كريمُ
وذلكَ أنَّ كرَمَ أبي الحسينِ ومرارةَ النَّوَى، وإن كان بينَهما مناسَبةٌ
خفيَّةٌ بعيدةٌ، وهي إمَّا الجامعُ الخياليُّ لتقارنِهما في خيالِ أبي
تمَّامٍ، وإمَّا الوهمِيُّ وهو ما بينَهما من شِبهِ التضادِّ؛ لأنَّ مرارةَ
النَّوَى كالضِّدِّ لحلاوةِ الكرَمِ؛ لأنَّ كرَمَ أبي الحسينِ حلْوٌ
ويُدفَعُ بسببِه ألَمُ احتياجِ السائلِ، والصبرُ مُرٌّ ويُدفَعُ به بعضُ
الآلامِ. وإمَّا عقليٌّ، وهو ما بينَهما من التماثُلِ؛ لأنَّ كلاّ دواءٌ،
فالصبرُ دواءُ العليلِ، والكرَمُ دواءُ الفقيرِ، لكن لمَّا كان المعتَبرُ
إنَّما هو المناسَبةُ الظاهرةُ القريبةُ، وهي غيرُ موجودةٍ هنا، كان
العطْفُ غيرَ مقبولٍ، سواءٌ جُعِلَ عطْفَ مفرَدٍ كما هو الظاهرُ من أن
تُؤَوَّلَ مع خبرِها بمفرَدٍ مضافٍ لاسمِها، أو عطْفِ جملةٍ على جملةٍ
باعتبارِ وقوعِه موقِعَ مفعولَيْ عالِمٍ؛ لأنَّ وجودَ الجامعِ شرطٌ في
الصورتيْنِ.
(3) قولُه: (ولم يكنْ مانعٌ من العطْفِ)، أي: كاقتضائِه خلافَ المرادِ ممَّا سيَتَّضِحُ لكَ في قولِه تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} الآيةَ.
(4) قولُه: (إذا أَوْهَمَ ترْكُ العطْفِ إلخ)،
أي: في كمالِ الانقطاعِ فقطْ، لما ذكَرَهُ العلاَّمَةُ عبدُ الحكيمِ مِن
تعيُّنِ الفصْلِ في كمالِ الاتِّصالِ وإن كان فيه إيهامُ خلافِ المقصودِ،
مثلَ إذا سُئِلْتَ: هل تَشربُ خَمْرًا؟ فقلتَ: لا، تَرْكَتُ شُربَه، تُريدُ
تأكيدَ النفيِ السابقِ بقولِكَ: تركْتُ شربَه، لا تُعَلِّقُ النفيَ
بالترْكِ، ومثلَ قولِكَ أيضًا لمَن قالَ: ما مُدِحْتُ؟ لا، مُدِحْتَ. فإنَّ
لا لِنَفْيِ نفيِ المدْحِ، فتُفيدُ إثباتَه، فتكونُ جملةُ مُدِحْتَ
تأكيدًا للنفْيِ السابقِ، فلو لم يُؤتَ بالواوِ لتُوُهِّمَ تعلُّقُ النفيِ
بالمدْحِ، وأنَّ المرادَ الدعاءُ بنفيِ المدْحِ، بمعنى لا جُعِلْتَ
ممدوحًا، مع أنَّ الغرَضَ إثباتُه؛ وذلكَ لأنَّه في كمالِ الاتِّصالِ قد
انتَفَى مصحِّحُ العطفِ وهو المغايَرةُ، ويُمكِنُ دفعُ الإيهامِ بطريقٍ
آخَرَ غيرِ العطفِ بأن يُقالَ في: لا، تَرَكْتُ شُربَه، مثلاً: لا، قد
تَرَكْتُ شُربَه، بخلافِ كمالِ الانقطاعِ؛ فإنَّ المصحِّحَ للعطفِ وهو
المغايَرةُ متحقِّقٌ فيه، والتبايُنُ بينَهما المنافِي لكونِ العطْفِ
مقبولاً بالواوِ مقبولٌ لدفْعِ الإيهامِ ا.هـ. وقيلَ: الوجهُ في كمالِ
الاتِّصالِ مع الإيهامِ العطْفُ مثلَ كمالِ الانقطاعِ مع الإيهامِ، وأنَّ
مواضِعَ الوصلِ ثلاثةٌ: كمالُ الانقطاعِ مع الإيهامِ، وكمالُ الاتِّصالِ
كذلكَ، والتوسُّطُ بينَ الكمالَيْنِ، وليس بشيءٍ، وإنَّما تَعيَّنَ الوصلُ
بالواوِ هنا لوجودِ الدَّاعي إلى الوصْلِ وهو رفْعُ الإيهامِ).
دروسُ البلاغةِ الصُّغْرى
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (مواضعُ الوصلِ بالواوِ
يَجبُ الوصْلُ في موضِعَيْنِ:
الأوَّلُ: إذا اتَّفقَت الْجُملتانِ، خبَرًا أوْ إنشاءً، وكانَ بينَهما
جِهَةٌ جامعةٌ، أيْ: مناسَبةٌ تامَّةٌ، ولم يكُنْ مانعٌ من العطْفِ، نحوَ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}، ونحوَ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}.
الثاني: إذا أَوْهَمَ ترْكُ العطْفِ خِلاَفَ المقصودِ، كما إذا قُلْتَ: (لا، وشفاهُ اللهُ) جوابًا لِمَنْ يَسألُك: (هلْ بَرِئَ عليٌّ من المرضِ؟)، فترْكُ الواوِ يُوهِمُ الدعاءَ عليه، وغَرَضُكَ الدعاءُ له).(دروس البلاغة)
حسن الصياغة للشيخ: محمد ياسين بن عيسى الفاداني
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (مواضعُ الوصلِ بالواوِ(1)
يَجِبُ(2) الوصلُ(3) في موضعين(4):
(الأوَّلُ)(5) إذا اتَّفَقَت الجملتان خبراً أو إنشاءً(6), وكان(7) بينَهما(8) جهةٌ جامعةٌ(9), أي: مناسَبَةٌ تامَّةٌ(10)
ولم يكنْ مانِعٌ من العطْفِ(11)، نحوُ(12): {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِيِ نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}(13)، ونحوُ(14): {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً }(15).
(الثاني)(16) إذا أَوْهَمَ ترْكُ العطفِ(17) خلافَ المقصودِ(18) كما إذا
قلتَ: لا وشَفاه اللهُ(19)، جواباً(20) لمن يَسألُك هل بَرِئَ عليٌّ من
المرضِ(21)؟. فترْكُ الواوِ(22) يُوهِمُ(23) الدعاءَ عليه(24)
و(25)غرضُك(26) الدعاءُ له(27).
_____________________
قال الشيخ علم الدين محمد ياسين بن محمد عيسى الفاداني المكي (ت: 1410هـ): ((1) مواضعُ الوصلِ بالواوِ
أي: بينَ الجملتينِ
اللتينِ لا مَحَلَّ لهما من الإعرابِ، والمرادُ بالجمْعِ هنا ما فوقَ
الواحدِ فيَصْدُقُ بالاثنين؛ إذ لم يُذْكَرْ للوصلِ إلا موضعانِ فقط.
(2) (يَجِبُ) أي: بحسَبِ البلاغةِ التي هي مطابقَةُ مقتَضَى الحالِ.
(3) (الوصلُ) أي: بالواوِ
(4) (في مَوضِعَيْنِ)؛ التوسُّطِ بينَ الكَمَالَيْنِ مع عدمِ الإيهامِ, وكمالِ الانقطاعِ مع الإيهامِ.
(5) (الأوَّلُ) أي: الموضعُ الأوَّلُ مِن الموضعينِ فيما.
(6) (إذا اتَّفقَتِ الجملتانِ خبراً أو إنشاءً)
أي: في أحدِهما؛ إذ لا يُمكنُ اجتماعُهما على كلٍّ مِن الجملتينِ في حالةٍ
واحدةٍ، وهذا صادقٌ بثمانِ صورٍ, كلُّها من بابِ التوسُّطِ؛ لأن
اتِّفاقَهما إما في اللفظِ والمعنى معاً, وهذا صورتان خبريَّتان لفظاً
ومعنًى وإنشائيَّتان كذلك، وإما في المعنى فقط, وهذا ستُّ صورٍ إنشائيَّتان
معنًى خبريَّتان لفظاً، أو الأُولَى خبرٌ, والثانيةُ إنشاءٌ, أو العكْسُ
وخبريَّتان معنًى إنشائيَّتان لفظاً, أو الأُولَى إنشاءٌ والثانيةُ خبرٌ,
أو العكسُ.
(7) (وكان) أي: تحقَّقَ.
(8) (بينَهما) أي: بينَ طرَفَيْ كلٍّ من الجملتين المتَّفِقَتَيْن.
(9) (جِهةٌ جامعةٌ) أي: عَلاقةٌ مخصوصةٌ
تَجْمَعُهما في العقْلِ أو الوهْمِ أو الخيالِ, وتُقَرِّبُ أحدَهما مِن
الآخَرِ فهي مطلوبةٌ بينَ المسنَدِين والمسنَدِ إليهما ليَجتَمِعا بسببِها
عندَ المفكِّرَةِ، ولا حاجةَ إلى استخراجِ جامعٍ بينَ الجملتينِ اللتينِ
وَقعَ فيهما العطْفُ, وإن كان الغرَضُ اجتماعَ مضمونِهما الذي هو النِّسبةُ
الحُكْمِيَّةُ؛ وذلك لأنه إذا تَحقَّقَ الجامِعُ بينَ المفرداتِ,
واجتَمَعَتْ عندَ المفكِّرَةِ تَحقَّقَ الجامعُ بينَ النِّسبتين
واجْتَمَعَتَا فيها تَبَعاً للمفرداتِ فصحَّ العطْفُ.
(10) (أي: مناسبةٌ تامَّةٌ) يعني: ظاهِرةٌ قريبةٌ, فلا يَقْبَلُ العطْفَ بالواوِ إذا كانت المناسَبَةُ خفيَّةً بعيدةً, ولذا عِيبَ على أبي تَمَّامٍ في قولِه:
لا والذي هو عالِمٌ أن النَّوَى ...... صبْرٌ وأن أبا الحسينِ كريمُ
وذلك أن كرمَ أبي الحسينِ ومَرارةَ النَّوَى لا مُناسَبَةَ بينَهما
ظاهِرةٌ، نعمْ قيلَ: إن المناسَبَةَ إما خياليَّةٌ, وهي تُقارِنُهما في
خيالِ أبي تمَّامٍ، أو وهميَّةٌ وهي شِبْهُ التضَادِّ؛ لأنَّ كرَمَ أبي
الحسينِ حُلْوٌ, ويُدْفَعُ بسببِه ألَمُ احتياجِ السائلِ، والصَّبْرَ
مُرٌّ, ويُدْفَعُ به بعضُ الآلامِ، أو عقليَّةٌ وهي التماثُلُ؛ لأنَّ كلاّ
منهما دواءٌ, فالصبرُ دواءُ العليلِ, والكرمُ دواءُ الفقيرِ, غيرَ أنها
عَلَى الاحتمالاتِ الثلاثةِ بعيدةٌ, والمعتَبَرُ المناسَبَةُ الظاهِرَةُ
القريبةُ. (11) (ولم يكنْ مانِعٌ من العطْفِ) أي: من
عطْفِ إحدى الجملتينِ المذكورتينِ عَلَى الأخرى, ويُسمَّى الاتِّفاقُ
المذكورُ تَوَسُّطاً بينَ الكمالين, أي: مع عدَمِ الإيهامِ, فإن وُجِدَ
مانعٌ من العطْفِ بأن اقْتَضَى خلافَ المقصودِ فيَجِبُ الفصْلُ, أي: ترْكُ
العطفِ وهو الموضعُ الخامسُ من مواضعِ الفصْلِ كما سيأتي. (12) (نحوُ) قولِه تعالى: (13) ({ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ})
فالجملتان خبريَّتان لفظاً ومعنًى, والجامعُ بينَهما التضادُّ بينَ
الأبرارِ والفجَّارِ اللذَيْن هما المسنَدُ إليهما وبينَ الكونِ في النعيمِ
والكونِ في الجحيمِ اللذَيْنِ هما المسنَدان. (14) (ونحوُ) قولِه تعالى: (15) ({ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً})
فالجملتان إنشائيَّتان لفظاً ومعنًى والجامِعُ بينَهما الاتِّحادُ في
المسنَدِ إليه وهو الواوُ التي هي ضميرُ المخاطَبِين وشِبْهُ التضادِّ بينَ
الضَّحِكِ والبكاءِ. اعلمْ أن الجهةَ الجامعةَ المعتبَرَةَ في الوصْلِ بين الجملتين هي
المناسَبَةُ بينَهما لا غيرُ, ولها سببٌ ومَظِنَّةٌ، أما سببُها
فاجتماعُهما في القوَّةِ المفكِّرَةِ بطريقِ العقلِ أو الوهْمِ أو الخيالِ،
وأما مَظِنَّتُها فحصولُ الاتِّحادِ أعَمُّ من أن يكونَ حقيقيًّا أو
اعتباريًّا، وهذا الاتِّحادُ يكونُ بالعَلاقةِ الجامعةِ, وتَنقسمُ إلى
ثلاثةِ أقسامٍ: عقليَّةٍ ووهميَّةٍ وخياليَّةٍ؛ لأنَّ العلاقةَ الجامعةَ
للشيئين في القوَّةِ المفكِّرَةِ إن كانت أمْراً حقيقيًّا فهي العقليَّةُ
وإن لم تكنْ كذلك بأن كانت اعتباريَّةً فإن كانت غيرَ محسوسةٍ فهيَ
الوهميَّةُ وإن كانت محسوسةً فهي الخياليَّةُ. فالجامعةُ العقليَّةُ هي
التي تَجمعُ القوَّةَ العقليَّةَ بسببِها بينَ الشيئين في المفكِّرَةِ.
وأنواعُها ثلاثةٌ: الأوَّلُ: الاتِّحادُ في التصوُّرِ, أي: عندَ تصوُّرِ
العقلِ لهما بأن كان المسنَدُ إليه في الجملتين شيئاً واحداً بالشخصِ نحوُ:
خالدٌ كاتبٌ وهو شاعرٌ، فإن مرجِعَ الضميرِ في الثانيةِ زيدٌ المذكورُ في
الأُولى. الثاني: التماثُلُ, بأن كان المسنَدُ أو المسنَدُ إليه فيهما
متساوِيَيْنِ في الذاتِ والحقيقةِ, مشتَرِكَيْن في الصفاتِ النفسيَّةِ نحوُ
المثالِ المذكورِ آنِفاً، فإن بينَ الكتابةِ في الجملةِ الأُولى والشعْرِ
في الثانيةِ تَمَاثُلاً من جِهةِ أن كلاّ منهما تأليفُ كلامٍ على وجهٍ
مخصوصٍ, وإن اختلَفَا بالعوارضِ كالنَّظْميَّةِ والنَّثْريَّةِ. وهذا
النوعُ في الحقيقةِ راجعٌ إلى الأَوَّلِ؛ لأنَّ العقْلَ إذا رَفعَ
التعدُّدَ الكائنَ بينَ الْمِثْلَيْن بسببِ تَجريدِهما عن الْمُشَخَّصَاتِ
الخارجيَّةِ يَصيران شيئاً واحداً عند المفكِّرَةِ كالمتَّحِدَيْنِ. النوعُ
الثالثُ: التَّضايُفُ, بأن لا يُمْكِنَ تَعقُّلُ كلٍّ منهما إلا بالقياسِ
إلى تَعقُّلِ الآخَرِ, وحينئذٍ فحصولُ كلِّ واحدٍ منهما في المفكِّرَةِ
يَستلزِمُ حصولَ الآخَرِ فيها ضرورةً, وهذا معنى الجمْعِ بينَهما فيها
نحوُ: أبو زيدٍ يَكتبُ وابنُه يُشْعِرُ، فالجامعُ بينَ الأبِ والابنِ
المسنَدِ إليهما هو التضايُفُ, وإن اختَلَفَا من جهةِ أن الجامِعَ بينَ
المسنَدين عقْلِيٌّ وهو التماثُلُ، وإنما نُسِبَتْ هذه الأنواعُ الثلاثةُ
إلى العقلِ وقيلَ لها: عقليَّةٌ؛ لأن العقلَ شأنُه أن يُدْرِكَ الأمورَ على
حقائقِها ويُثْبِتَها على مُقتضاها, والجمعُ بهذه محقَّقٌ في نفسِ الأمرِ
لا يُبْطِلُه التأمُّلُ فنُسِبَ إلى العقْلِ، أَفادَه الدُّسُوقيُّ. والجامعةُ الوهميَّةُ هي التي يُتَخيَّلُ الوهْمُ بسببِها في اجتماعِهما
عندَ المفكِّرَةِ بأن يُصَوِّرَها الوهْمُ بصورةٍ تصيرُ سبباً لاجتماعِهما,
وليست في الواقعِ سبباً له. وأنواعُها ثلاثةٌ: الأوَّلُ: شِبْهُ
التماثُلِ, بأن يُبْرِزَهُما الوهْمُ في مَعْرِضِ المِثْلَيْن لتقارُبِهما
نحوُ قولِك: صُفْرَةُ الذهبِ تُذهِبُ الهَمَّ, وبَياضُ الفِضَّةِ يُذْهِبُ
الغَمَّ، فالعطْفُ صحيحٌ لجامعٍ, وهو شِبْهُ التماثُلِ بينَ الصُّفْرَةِ في
الجملةِ الأُولَى والبياضِ في الثانيةِ؛ فإنَّ الوهْمَ يدَّعِي أن أصلَ
الصفرةِ بياضٌ زِيدَ فيه شيء يسيرٌ من الكُدْرَةِ لا تُخْرِجُه عن حقيقتِه,
أو أن أَصلَ البياضِ صُفرةٌ زِيدَ فيه شيء يسيرٌ من الإشراقِ لا يُخْرِجُه
عن حقيقتِه, وسببُ ذلك أن الأضَّدادَ تَتفاوتُ, والبياضُ والصُّفرةُ ليس
بينَهما ما بينَ البياضِ والسوادِ, بل بينَهما كما بينَ السوادِ
والْحُمرةِ. الثاني: التضادُّ, بأن يكونا أمرين وجوديَّين يُمكِنُ أن
يَتعَاقَبا على مَحَلٍّ واحدٍ ولا يَتوقَّفُ تعقُّلُ أحدِهما على تعقُّلِ
الآخَرِ نحوُ قولِك: ذَهبَ السوادُ وجاءَ البياضُ فالجامعُ بينَ السوادِ
والبياضِ المسنَدِ إليهما هو التضادُّ، ونحوُ قولِك: الإيمانُ حسَنٌ
والكفْرُ قبيحٌ فالجامعُ بين الإيمانِ والكفرِ المسنَدُ إليهما هو التضادُّ
بِناءً على أن الإيمانَ التصديقُ بكلِّ ما عُلِمَ مجيءُ النبىِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ به والكفرُ جَحْدُ ذلك، أو يكونُ أحدُهما موصوفاً
بضِدِّ ما وُصِفَ به الآخرُ نحوُ قولِك: الأسودُ ذَهبَ والأبيضُ جاءَ،
فالجامعُ بينَ الأسودِ والأبيضِ هو التضادُّ باعتبارِ اشتمالِهما على
الوصفين المتضادَّيْن. الثالثُ: شِبْهُ التضادِّ, بأن يَستلزِمَ كلٌّ منهما
معنًى يُنافِي ما يَستلزِمُه الآخَرُ نحوُ السماءُ مرفوعةٌ لنا والأرضُ
موضوعةٌ لنا فالجامِعُ بينَ السماءِ والأرضِ المسنَدِ إليهما وهْمِيٌّ
لتحقُّقِه بشِبْهِ التضادِّ بينَهما حيثُ إنََّ مفهومَ أحدِهما وجوديٌّ في
كثرةِ الارتفاعِ والآخرِ وجوديٌّ في كثرةِ الانحطاطِ، ونحوُ قولِك:
الأوَّلُ سابقٌ والثاني لاحِقٌ فبينَ الأوَّلِ والثاني فيهما شِبْهُ
التضادِّ؛ لأنَّ مفهومَ الأوَّلِ كونُه سابقاً على الآخَرِ غيرَ مسبوقٍ
بالغيرِ، والثاني كونُه مسبوقاً بواحدٍ فهما مشتَمِلان على وصفين لا
يُمْكِنُ اجتماعُهما، وإنما نُسِبَتْ هذه الأنواعُ الثلاثةُ إلى الوهْمِ؛
لأن شِبْهَ التماثُلِ عندَ الوهْمِ كالتماثُلِ عندَ العقْلِ بمعنى أنه
يَسبِقُ إلى الوهْمِ أنَّ الشَّبِيهَينِ بالمتماثِلَيْنِ في الحقيقةِ شيءٌ
واحدٌ, فيَحْتالُ على الجمْعِ بينَهما عندَ المفكِّرَةِ كالمِثْلَيْن, ولأن
التضادَّ وشِبْهَهُ عندَ الوهْمِ كالتضايُفِ عندَ العقلِ بمعنى أنَّ أحدَ
المتضايِفَيْن لا يَنفكُّ عن الآخَرِ عند العقلِ بل متى خَطَرَ أحدُهما
عندَه خَطَرَ الآخَرُ, وبذلك الارتباطِ جَمَعَهُما عندَ المفكِّرَةِ، كذلك
لا يَنفكُّ أحدُ المتضايِفَيْن والشبيهين بهما عن الآخَرِ عندَ الوهْمِ,
وبذلك الارتباطِ احتالَ إلى جَمعِهما عندَ المفكِّرَةِ. والجامعةُ الخياليَّةُ هي تُقارِنُ صورتَيْهما في الخيالِ بسببِه يَحتالُ
الخيالُ إلى جمْعِهما عندَ المفكِّرَةِ بأن تَتقارَنا في خيالِ المخاطَبِ
عندَ التذكُّرِ والاستحضارِ ولابدَّ لهذا التقارُنِ عادةً من سببٍ ومرجِعُه
إلى مخالطةِ تلك الصوَرِ الحسيَّةِ المقترِنَةِ في الخيالِ, وهذه
المخالَطَةُ تَختلفُ أسبابُها باختلافِ الأشخاصِ والأزمِنَةِ والأمكِنَةِ
فتكونُ لشخصٍ دونَ آخَرَ وفي زمانٍ دونَ آخرَ وفي مكانٍ دونَ آخَرَ، ولذلك
كانت الجامعةُ الخياليَّةُ أكثرَ الجوامعِ وُقوعاً, والاحتياجُ إلى
معرفتِها أشدَّ نحوُ قولِك: القلمُ عندي والدَّواةُ عندَك حيث كان
المخاطَبُ كاتباً فيصِحُّ العطْفُ لوجودِ جامعٍ بينَ القلمِ والدَّواةِ وهو
تقارنُهما في خيالِ المخاطَبِ بسببِ أن صنعتَه الكتابةُ وهي تَقتضِي
مخالَطتَه لآلاتِها من قلمٍ ودواةٍ ومِدادٍ وقِرْطاسٍ، ونحوُ المثالِ
السابقِ للاتِّحادِ في التصوُّرِ وهو قولُك: خالدٌ كاتبٌ وهو شاعرٌ فإن
الجامعَ بينَ الكتابةِ والشعْرِ المسنَدين تَقارُنُ صورتِهما في الخيالِ؛
إذ صورةُ الكتابةِ إنشاءُ النثرِ وصورةُ الشِّعْرِ إنشاءُ النظْمِ، وقد
مثَّلْنا به سابقاً لجامعِ التماثُلِ, وبه تَعْلَمُ أن الجامعَ فيه يصِحُّ
أن يُعتبَرَ تَماثُلاً فيكونُ عقليًّا أو تقارُناً في خيالِ أصحابِهما
فيكونُ خياليًّا. (16) (الثاني) أي: الموضعُ الثاني منهما فيما. (17) (إذا أوْهمَ ترْكُ العطْفِ) أي: عطْفِ الثانيةِ على الأُولَى, وكان بينَهما كمالُ الانقطاعِ. (18) (خلافَ المقصودِ) للمتكلِّمِ أي: فإنه يَدْفَعُ ذلك الإيهامَ بالعطْفِ الذي هو الوصلُ, ويُسمَّى هذا كمالَ الانقطاعِ مع الإيهامِ, ولا جامعَ فيه. (19) (كما إذا قلتَ: لا وشفاه اللهُ) وأنت قاصدٌ النفيَ لمضمونِ كلامٍ مسئولٍ عنه (20) (جواباً) أي: قولاً على وجْهِ الجوابِ. (21) (لمن يَسألُك هل بَرِئَ عليٌّ من المرضِ)
فيكونُ معنى قولِك: لا. لم يَبْرَأْ عليٌّ من المرضِ, وقولِك: شفاه اللهُ.
دعاءً لعليٍّ بالشفاءِ ((فلا)) تضَمَّنَتْ جملةً خبريَّةً، ((وشفاه اللهُ))
جملةً إنشائيَّةً؛ إذ قُصِدَ بها الدعاءُ, وبينَهما كمالُ الانقطاعِ (فـ)
كان حقُّه أن يَفصِلَ ولا يَعطفَ بالواوِ ولكنَّ. (22) (ترْكَ الواوِ) أي: عدمَ عطْفِ الثانيةِ على الجملةِ المقدَّرةِ بأن قيلَ: لا شفاه اللهُ. (23) (يوهِمُ) أي: الكلامُ المشتمِلُ على ترْكِ الواوِ (24) (الدعاءَ عليه) أي: على المريضِ بعدَمِ الشفاءِ. (25) (و) الحالُ أنَّ (26) (غرضَك) أي: مقصودَك. (27) (الدعاءُ له) أي: لعليٍّ بالشفاءِ فيَجِبُ
الوصلُ بالواوِ لعطفِ الثانيةِ على الأُولى؛ دفْعاً لهذا الإيهامِ. ثم هذا
الوجوبُ بالنسبةِ للفصلِ, وإلا فيُمكِنُ دفْعُ الإيهامِ بطريقٍ آخَرَ غيرِ
الوصْلِ بأن تَسْكُتَ بعدَ قولِك: لا, أو تَتكلَّمَ بما يَدفعُ الاتِّصالَ,
ثم تقولَ: شَفاه اللهُ، بل لو قلتَ: لا, قد شفاه اللهُ لكانَ الكلامُ
خاليًا عن الإيهامِ).
شموس البراعة للشيخ: أبي الأفضال محمد فضل حق الرامفوري
قال الشيخ أبو الأفضال محمد فضل
حق الرامفوري (ت: 1359هـ): ( ( مواضِعُ الوصْلِ بالواوِ )
يَجِبُ الوَصْلُ في مَوْضِعَيْنِ: الْأَوَّلُ، إذا اتَّفَقَتِ الجملتانِ
خَبَرًا أوْ إِنْشَاءً، وكانَ بينَهما جهةٌ جامعةٌ، أيْ مناسَبَةٌ تامَّةٌ،
باعتبارِ كلٍّ من الْمُسْنَدِ إليه والمسْنَدِ من الجملتينِ، بأنْ
يَتَحَقَّقَ بينَ المسْنَدِ إليه في الجملةِ الأولى وبينَه في الجملةِ
الثانية جامعٌ، وكذا بينَ المسنَدِ في الأولى وبينَه في الثانيةِ، حتَّى
لوْ وُجِدَ بينَ المسْنَدِ إليهما دونَ الْمُسْنَدَيْنِ، أوْ بينَ
الْمُسْنَدَيْنِ دون الْمُسْنَدِ إليهما، لمْ يَكْفِ في قَبولِ العطْفِ؛
ولذا حَكَمُوا بامتناعِ نحوَ: خُفِّي ضَيِّقٌ، وخَاتَمِي ضَيِّقٌ، معَ
اتِّحادِ الْمُسْنَدَيْنِ؛ لعَدَمِ المناسَبَةِ والعَلاقةِ الخاصَّةِ بينَ
الْخُفِّ والخاتَمِ، ولم يكُنْ معَ تلكَ المناسَبَةِ التامَّةِ مانعٌ من
العَطْفِ، ككوْنِ عطْفِ جملةٍ على جملةٍ يَصِحُّ عليها العَطْفُ مُوهِمًا
لعَطْفِها على جملةٍ لا يَصِحُّ عليها العَطْفُ، فحينئذٍ يُتْرَكُ العطْفُ.
وإنْ كانت الجملتانِ متَّفِقَتَيْنِ خبرًا أوْ إنشاءً، ووُجِدَتِ الجِهَةُ
الجامعةُ بينَهما كما سَيَتَّضِحُ من الْمِثالِ الآتي في الْمَتْنِ، نحوَ:
{ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
}، فهاتانِ جُملتانِ مُتَّفِقَتانِ خَبَرًا، وبينَهما جهةٌ جامعةٌ بينَ
الْمُسْنَدَيْنِ والمسنَدِ إليهما جميعًا؛ لأنَّ الأبرارَ ضِدُّ
الْفُجَّارِ، والكونَ في النعيمِ ضِدُّ الكونِ في الجحيمِ، ومعَ ذلكَ ليسَ
بينَهما ما يَمْنَعُ من العَطْفِ، وكذا نحوَ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا
وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا }، جملتانِ اتَّفَقَتا إنْشاءً، ووُجِدَ الجامعُ
بينَهما، وهوَ اتِّحادُ الْمُسْنَدِ إليه فيهما، وتَنَاسُبُ
الْمُسْنَدَيْنِ لِمَا بينَ الضَّحِكِ والبكاءِ من التَّضَادِّ معَ عَدَمِ
وجودِ مانعٍ من الْعَطْفِ، وإنَّما اعْتَبَرَ التَّضَادَّ جهةً جامعةً
لأنَّ التَّضَادَّ عندَ الوَهْمِ كالتضايُفِ عندَ العقلِ، فكما لا
يَنْفَكُّ أحدُ الْمُتَضايِفَيْنِ عن الآخَرِ عندَ العقلِ كذلكَ لا
يَنْفَكُّ أحدُ الْمُتَضَادَّيْنِ عن الآخَرِ عندَ الوَهْمِ؛ ولذلكَ
الارتباطِ الوهميِّ تَجِدُ الضِّدَّ أقْرَبَ خُطُورًا بالبالِ معَ الضِّدِّ
الآخَرِ منْ سائرِ المغايِراتِ الغيرِ المتضادَّةِ بعضُها معَ بعضٍ .
الثانِي: إذا أَوْهَمَ تَرْكُ العَطْفِ خلافَ المقصودِ، كما إذا قُلْتَ: لا
وشَفاهُ اللَّهُ، جوابًا لمَنْ يَسْأَلُكَ: هلْ بَرِئَ عليٌّ من
الْمَرَضِ؟ فقولُك: لا، نفيٌ لمضمونِ المسئولِ عنْهُ، أيْ ما بَرِئَ عليٌّ
من الْمَرَضِ، وقولُك: شفاهُ اللَّهُ، دعاءٌ بالشفاءِ له، فكلمةُ لا
تَضَمَّنَتْ جملةً خَبَرِيَّةً، وشفاهُ اللَّهُ جملةٌ إنشائيَّةٌ، فبينَهما
كمالُ الانقطاعِ، وهوَ سببٌ للفَصْلِ وتَرْكِ العطْفِ، لكنْ وَجَبَ
الوَصْلُ ههنا بعَطْفِ الجملةِ الثانيةِ على الجملةِ الْمُقَدَّرَةِ؛
لأنَّهُ لوْ لمْ تُعْطَفْ وقيلَ: لا شَفَاهُ اللَّهُ، لَتُوُهِّمَ أنَّ هذا
الكلامَ دعاءٌ على المريضِ بنفيِ الشفاءِ، معَ أنَّ المقصودَ هوَ الدعاءُ
لهُ بالشفاءِ كما قال. فتَرْكُ الواوِ يُوهِمُ الدعاءَ عليه، وغَرَضُكَ
الدعاءُ لهُ، فوَجَبَ العطْفُ ههنا لِدَفْعِ هذا الإيهامِ).
شرح دروس البلاغة للشيخ: محمد الحسن الددو الشنقيطي (مفرغ)
قال الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي: (فلنبدأ أولاً بمواضع الوصل بالواو فيقول:
يجب الوصل في موضعين:
الأول: إذا اتفقت الجملتان
خبراً أو إنشاءً، وكان بينهما جهة جامعة أي: مناسبة تامة، ولم يكن مانع من
العطف، فحينئذ يجب العطف، وذلك كقولك: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم}
فالجملتان هنا اتفقتا في كون كل واحدة منهما خبراً عن طائفة، واتفقتا كذلك
في المناسبة بينهما، والمناسبة تشمل المشابهة والمضادة، وهنا الحكمان
متضادان؛ فالأبرار هم ضد الفجار، والنعيم ضد الجحيم، فحينئذ لا بد من
العطف، فلا يجوز في الكلام أن يقول الإنسان: إن الأبرار لفي نعيم إن الفجار
لفي جحيم؛ فهذا غير أسلوب صحيح في العربية، بل لابد من العطف في مثل هذا،
ومثل ذلك قولك: جاء زيد وقام إليه عمرو، فلا يجوز أن تقول: جاء زيد قام
إليه عمرو؛ فهذا الأسلوب غير صحيح في العربية، فلا بد من العطف حينئذ,
وكذلك قول الله تعالى: {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً}، {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً}،
لا يجوز في الأسلوب أن يقال: فليضحكوا قليلاً ليبكوا كثيراً؛ لأنه حينئذ
يشعر بالتعليل، لو حذف الواو لكان المعنى: ليضحكوا قليلاً لأجل أن يبكوا
كثيراً، وهذا غير مقصود؛ فالجملتان بينهما مناسبة مضادة فلزم عطف إحداهما
على الأخرى بالواو.
الموضع الثاني الذي يجب
فيه العطف: إذا أوهم ترك العطف خلاف المقصود، كما إذا قلت، إذا قيل لك:
أقدم زيد؟، أبرأ زيد؟ قلت: لا، وشفاه الله، إذا قيل لك: أبرأ زيد؟ قلت: لا،
وشفاه الله؛ لأنك لو حذفت العطف فقلت: لا شفاه الله. ظن إنسان أنك تدعو
عليه، فترْك الواو يوهم الدعاء عليه، وأنت غرضك هنا الدعاء له، إذا قلت لي
أأفعل كذا؟ قلت: لا وهداك الله، لا وهداك الله، أي: لا تفعل وهداك الله،
فلا يجوز حذف الواو هنا؛ لأنها لو حُذفت لتوهم الدعاء عليه.
إذن هذان موضعان يجب فيهما الوصل، كذلك مواضع الفصل، وهي خمسة).
شرح دروس البلاغة الكبرى للدكتور محمد بن علي الصامل (مفرغ)
القارئ: (مواضع الوصل بالواو: يجب الوصل في موضعين:
الأول: إذا اتفقت الجملتان خبراً وإنشاءً وكان بينهما جهة جامعة أي مناسبة تامة، ولم يكن مانع من العطف نحو: {إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم} ، ونحو: {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً}.
الثانـي: إذا أوهم ترك العطف خلاف المقصود، كما إذا قلت: (لا وشفاه الله)، جواباً لمن يسألك: هل برئ علي من المرض؟ فترك الواو يوهم الدعاء عليه، وغرضك الدعاء له).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (بدأ المؤلفون رحمهم الله بذكر مواضع الفصل وجعلوها موضعين مع أنها في كتب
البلاغة المطولة تزيد على ذلك، ولكنهم أخذوا الموضعين المشتهرين.
الموضع الأول: إذا اتفقت الجملتان خبراً أو إنشاءاً.
إذا كانت الجملة الثانية خبرية والجملة
التي قبلها خبرية كذلك فقد اتفقتا في الخبرية، لا يكفي الاتفاق في الخبرية
فحسب بل لابد أن يكون بين الجملتين الثانية والأولى جهة جامعة، لابد أن
يكون هناك علاقة بين الجملتين، والعلاقة يحددها ركنا الجملتين، فإما أن
تكون العلاقة في الركنين معاً بين كل ركن في الجملة الأولى مع ما يقابله في
الجملة الثانية، أو يكون في واحدٍ من الركنين ولكن لابد من وجود مناسبة
بين هذه الجملة وتلك. وتحديد المناسبة بين الجملتين هو ما يعرف بالجامع عند
البلاغيين وقد قسموه إلى أقسام كثيرة:
منها: الجامع العقلي والجامع الخيالي والجامع
الوهمي، ولكن استطرادات منطقية يهمنا أن نعرف أن المتلقي ينبغي أن يعرف
المناسبة بين الجملتين حتى يدرك أن الجهة التي تجمع هاتين الجملتين واضحة
في الذهن، وليست متكلفة، لأن الإنسان قد يوجد علاقات متكلفة بين شيئين لا
يوجد بينهما علاقة.
وثم أيضاً ليس الاتفاق في الخبرية
والإنشائية فقط، وليس فقط ما يكون بينهما جامع، وقيد بأنه إذا لم يكن مانعٌ
من العطف، لأنه سيأتي بعض المواضع فيتحقق فيها الاتفاق في الخبرية
والإنشائية ويتحقق فيها وجود المناسبة، وجود المناسبة، ولكن تظهر مشكلة وهي
وجود مانع من الوصل وإذا وجد المانع سيكون أيضاً من المواضع التي تفصل كما
سنعرف بعد قليل إن شاء الله وذكر المؤلفون شاهدين:
الأول: قول الله عز وجل: {إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم} فيلحظ: {إن الفجار لفي جحيم} هذه هي الجملة الثانية عطفت على الجملة الأولى، فتوسطت الواو بين الجملتين لاتفاق الجملتين في الخبرية {إن الأبرار لفي نعيم} هذه جملة خبرية، {وإن الفجار لفي جحيم}
جملة خبرية، ولوجود مناسبة، المناسبة هنا هي الحديث عن فئتين متقابلتين
والبلاغيون يجعلون التضاد واحداً من المناسبات المعتبرة في وجود العلاقة
بين الجملتين أو وجود الجامع بالإضافة إلى الاتفاق بين جزئي بين كل جزء من
جزئي الجملتين، ويلحظ التأكيد في الأولى والثانية، والأبرار يقابلها
الفجار، و (لفي) تكررت هنا وهنا ونعيم يقابلها الجحيم، إذاً هما صورتان
متقابلتان وهذا هو هي المناسبة الجامعة بين الجملتين.
الجملة الشاهد الثاني: فهو قوله تعالى: {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً}
لعل المؤلفين ذكروا نوعاً من الاتفاق في الخبرية في الشاهد الأول، وهاهم
يذكرون الاتفاق في الإنشائية في الشاهد الثاني (فليضحكوا) هذا أمر ثم
(ليبكوا) يقابله.
إذاً الجملة الثانية (وليبكوا كثيراً)
معطوفة على الجملة الأولى، ومصوغات العطف هي اتفاق الجملتين في الإنشائية
الأمر كلاهما من الأمر، وأيضاً وجود التقابل والتقابل لون من ألوان
المناسبة، والجامع بين الجملتين، ولعدم وجود ما يدعو إلى ترك العطف.
أما الموضع الثاني من مواضع الوصل:
فهو إذا أوهم ترك العطف خلاف المقصود، إذا أوهم ترك العطف خلاف المقصود،
كما إذا قلت لمن سألك: هل برئ علي؟ هل برئ علي من المرض؟ أو خرج من
المستشفى؟
تقول: لا وشفاه الله؛ لأن من يجيب بقوله : لا
شفاه الله، فإنه سيوهم بأن الدعاء ليس لعلي وإنما عليه، ولهذا ينبغي التنبه
إلى مثل هذه القضية أن (لا وشفاه الله) هذه العبارة تمثل جملتين:
الجملة الأولى: تمثلها (لا)، والتقدير، لا لم يشفَ علي لا لم يشف علي لا لم يشف علي.
ثم قولهم: وشفاه الله، هذه جملة ثانية.
وهذا النص يمثل جملتين من نوعين
مختلفتين فجملة (لا) تمثل التي دلت على جملة محذوفة تقدر بـ (لا لم يشف)
وهذه جملة خبرية. (شفاه الله) جملة خبرية في ظاهرها، إذا كان الحديث عن
يعني تمام الشفاء والحديث عن الإخبار بأن الله عز وجل منح هذا المتحدث عنه
الشفاء جملة خبرية في ظاهرها، لكن المعنى هنا لا يراد الإخبار وإنما يراد
الدعاء، ولهذا تحولت من الدلالة في ظاهرها على الخبرية إلى الدلالة على
الإنشائية؛ لأن معناها: الدعاء له بأن يمن الله عليه بالشفاء وهذا إنشاء،
إذاً الجملتان مختلفتان إحداهما خبرية والثانية إنشائية، فالأصل في هذه
الحالة الأصل في هذه الحالة ألا يوصل بالواو وألا تعطف الجملة الأولى على
الثانية، ولكن لأن هذا الفصل وترك العطف يوهم خلاف المقصود، لو أن الجملة
جاءت لا شفاه الله، لكون الأولى خبرية والثانية إنشائية في المعنى، لتوهم
السامع أن المتكلم يدعو على المتحدث عنه ولا يدعو له وهذا خلاف المقصود).
الكشاف التحليلي
- مواضع الوصل بالواو
- لم يُذْكَرْ للوصلِ إلا موضعانِ فقط؛ فالمراد بجمع (مواضع) هنا ما فوق الواحد فيصدق بالاثنين
- الموضع الأول:إذا اتفقت الجملتان خبراً أو إنشاء، وكان بينهما جهة جامعة، ولم يكن مانع من العطف
- يصدق هذا بثمان صور، وتوضيح ذلك
تمت فهرسة شموس البراعة فقط، وفهرسة أول حسن الصياغة