10 Nov 2008
ب: أقسام الإطناب
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (أقسامُ الإطنابِ
الإطنابُ يكونُ بأمورٍ كثيرةٍ: أُمْسِي وأُصْبِحُ مِنْ تَذْكارِكُمْ وَصِبًا يَرْثِي ليَ المشْفِقَانِ: الأهْلُ والوَلَدُ
منها: ذكْرُ الخاصِّ بعدَ العامِّ، نحوَ: (اجْتَهِدُوا في دروسِكم واللغةِ
العربيَّةِ)، وفائدتُه التنبيهُ على فضْلِ الخاصِّ، كأنَّهُ لرِفْعَتِه
جِنْسٌ آخَرُ مغايِرٌ لما قَبْلَه.
ومنها: ذكْرُ العامِّ بعدَ الخاصِّ، كقولِه تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.
ومنها: الإيضاحُ بعدَ الإبهامِ، نحوُ: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}.
ومنها: التَّوْشِيعُ، وهوَ أنْ يُؤْتَى في آخِرِ الكلامِ بمثُنًّى مُفَسَّرٍ باثنينِ، كقولِهِ:
وإنَّ امرأً دامَتْ مواثيقُ عهْدِه ..... على مِثْلِ هذا إنَّهُ لكريمُ
وكزيادةِ الترغيبِ في العَفْوِ، في قولِه تعالى: {إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ}.
وكتأكيدِ الإنذارِ، في قولِه تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
ومنها: الاعتراضُ، وهوَ توسُّطُ لفظٍ بينَ أجزاءِ جملةٍ أوْ بينَ جملتينِ مرْتَبِطتينِ معنًى لغَرَضٍ، نحوُ:
إنَّ الثمانينَ -وبُلِّغْتَهَا- ..... قدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمانِ
ونحوَ قولِه تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}.
ومنها: الإيغالُ، وهوَ خَتْمُ الكلامِ بما يُفيدُ غَرَضًا يَتِمُّ المعنى بدونِه، كالمبالَغةِ في قولِ الْخَنساءِ:
وإنَّ صَخْرًا لتَأَتَمُّ الْهُداةُ بهِ ..... كأنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِه نارُ
ومنها: التذييلُ، وهوَ تعقيبُ الجملةِ بأخرى تَشتمِلُ على معناها تأكيدًا لها.
وهوَ إمَّا أنْ يكونَ جاريًا مَجرَى الْمَثَلِ لاستقلالِ معناهُ، واستغنائِه عمَّا قَبْلَه، كقولِه تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
وإمَّا أنْ يكونَ غيرَ جارٍ مَجْرَى المثل لعَدَمِ استغنائِه عمَّا قَبْلَه، كقولِه تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}. ومنها: الاحتراسُ، وهوَ أن يُؤْتَى في كلامٍ يُوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدْفَعُه، نحوُ: فسَقَى ديارَكِ غيرَ مفسِدِها ..... صوْبُ الربيعِ ودِيمةٌ تَهْمِي ومنها: التكميلُ، وهوَ أنْ يُؤْتَى بفَضْلَةٍ تَزيدُ المعنى حُسْنًا، نحوُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}، أيْ: معَ حُبِّهِ. وذلكَ أبْلَغُ في الكرَمِ).
الحواشي النقية للشيخ: محمد علي بن حسين المالكي
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): ( (أقسامُ الإطنابِ)
الإطنابُ يكونُ بأمورٍ كثيرةٍ:
(منها) ذكْرُ الخاصِّ بعدَ العامِّ(1)، نحوُ: اجتَهِدوا في دروسِكم
واللغةِ العربيَّةِ. وفائدتُه التنبيهُ على فضْلِ الخاصِّ(2) كأنَّهُ
لرفعَتِه جنسٌ آخَرُ مُغايِرٌ لما قَبلَه.
(ومنها) ذكْرُ العامِّ بعدَ الخاصِّ(3)، كقولِه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.
(ومنها) الإيضاحُ بعدَ الإبهامِ(4)، نحوُ: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}.
(ومنها) التكريرُ لغرَضٍ(5)، كطولِ الفصْلِ(6) في قولِه:
وإن امْرأً دامَتْ مواثيقُ عهْدِه ..... على مِثلِ هذا إنَّهُ لكريمُ
وكزيادةِ الترغيبِ في العفوِ في قولِه تعالى: {إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وكتأكيدِ الإنذارِ في قولِه تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون(7) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
(ومنها) الاعتراضُ، وهو تَوسُّط لفظٍ(8) بينَ أجزاءِ جملةٍ أو بينَ جملتينِ مرتبطَتينِ معنًى لغرَضٍ(9)، نحوُ:
إنَّ الثمانين وبُلِّغْتُهَا ..... قد أَحْوَجَتْ سمْعِي إلى تَرْجُمانِ
ونحوُ قولِه تعالى: {وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}.
(ومنها) التذييلُ، وهو تعقيبُ الجملةِ بأُخرى(10) تَشتمِلُ على معناها
تأكيدًا لها، وهو إمَّا أن يكونَ جاريًا مَجْرَى المَثَلِ لاستقلالِ
معناهُ(11) واستغنائِه عمَّا قبلَه(12)، كقولِه تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، وإما أن يكونَ غيرَ جارٍ مَجْرَى المَثَلِ لعدَمِ استغنائِه عمَّا قبلَه كقولِه تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}(13). (ومنها) الاحتراسُ(14)، وهو أن يُؤتَى في كلامٍ يُوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدفَعُهُ(15)، نحوُ: فَسَقَى ديارَكِ(134) غيرَ مفسِدِها ..... صَوْبُ الربيعِ ودِيمةٌ تَهْمِي ___________________ قال الشيخ محمد علي بن حسين بن إبراهيم المالكي (ت: 1368هـ): (
(1) قولُه: (منها ذكْرُ الخاصِّ بعدَ العامِّ)،
يعني على سبيلِ العطْفِ بخصوصِ الواوِ، كمثالِ الكتابِ، أو بحتَّى نحوُ:
ماتَ كلُّ أبٍ لي حتَّى آدمُ؛ لأنَّهُ هو المفتَقِرُ لما ذكَرَه المؤلِّفُ
بعدُ في فائدتِه من اعتبارِ التغايُرِ. وأمَّا ذكْرُهُ على سبيلِ البدَلِ
أو غيرِه ممَّا ليس بعطْفٍ فلا يَفتقِرُ إلى ذلكَ؛ لأنَّه متَّصِلٌ بما
قبلَه على نيَّةِ طرْحِ الأوَّلِ أو لا، فكيفَ يُعتَبَرُ فيه ما يُوجِبُ
كونَه جِنسًا آخَرَ. ابنُ يعقوبَ. (2) قولُه: (التنبيهُ على فضْلِ الخاصِّ)، أي: أو انحطاطُه، وقولُه: (كأنَّهُ لرِفعتِه)،
أي: أو خِسَّتِه جنسٌ آخَرُ إلخ، بمعنى أنَّه لمَّا امتازَ عن سائرِ
أفرادِ العامِّ بما له من الأوصافِ الشريفةِ أو الرذيلةِ صارَ كأنَّه شيءٌ
آخَرُ مغايِرٌ لأفرادِ العامِّ بحيثُ لا يَشْمَلُه ذلكَ العامُّ، ولا
يُعلَمُ حكْمُه منه تنزيلاً للتغايُرِ في الوصْفِ منزِلةَ التغايُرِ في
الذاتِ على حدِّ ما سَلَكَهُ المتنبِّي في قولِه: فإن تَفُق الأنامَ وأنتَ منهم ..... فإنَّ المِسْكَ بعضُ دَمِ الغَزَالِ وبذلكَ صَحَّ ذكرُهُ على سبيلِ العطْفِ المقْتَضِي للتغايُرِ. نعم هذا
مبْنِيٌّ على الراجِحِ عندَ الأصوليِّينَ من أنَّ عطْفَ الخاصِّ على
العامِّ ليس بتخصيصٍ، وأمَّا على مُقابِلِه من أنَّهُ تخصيصٌ؛ لأنَّ
العطْفَ عليه يُبَيِّنُ أنَّ هذا الخاصَّ لم يُرَدْ بالأوَّلِ، فلا حاجةَ
للتنزيلِ فافْهَمْ. ابنُ يعقوبَ بزيادةٍ من عَرُوسِ الأفراحِ. (3) قولُه: (ومنها ذكْرُ العامِّ بعدَ الخاصِّ)، أي: على سبيلِ العطْفِ بالواوِ خاصَّةً، وقولُه: كقولِه تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} إلخ، فائدتُه هنا الإشارةُ إلى التعميمِ بعدَ التخصيصِ المطلوبَيْنِ في الدعاءِ لما في حديثِ: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ"، وحديثِ: "إِذَا دَعَوْتُمْ فَعَمِّمُوَا؛ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". (4) قولُه: (ومنها الإيضاحُ بعدَ الإبهامِ)،
أي: ليُرَى المعنى في صورةٍ مبهَمةٍ، ثمَّ في صورةٍ موضَّحَةٍ، وعَلَمانِ
خيرٌ من عَلَمٍ واحدٍ، أو ليَتَمَكَّنَ المعنى في النفسِ فضْلَ تمَكُّنٍ
لما جَبَلَ اللَّهُ النفوسَ عليهِ من أنَّ الشيءَ إذا ذُكِرَ مبهَمًا ثمَّ
بُيِّنَ كانَ أوْقَعَ عندَها من أن يُبَيَّنَ أوَّلاً؛ إذ الحاصلُ بعدَ
الطلَبِ أعزُّ من المُنْسَاقِ بلا تَعَبٍ، أو لتَكْمُلَ لذَّةُ العِلْمِ
بالمعنى؛ إذ نَيْلُ الشيءِ بعدَ الشَّوْقِ والطلَبِ أَلَذُّ من نَيْلِه
بدونِه؛ ذلكَ لأنَّ فيه لذَّتَيْنِ: لذَّةُ الحصولِ ولذَّةُ الراحةِ بعدَ
التعبِ، أو لإيهامِ الجمْعِ بينَ المتنافِيَيْنِ الإيجازِ والإطنابِ، أو
الإجمالِ والتفضيلِ، إذ هو كإيقاعِ المُحالِ، وهو ممَّا يُسْتَغْرَبُ،
والأمرُ الغريبُ تَستَلِذُّ به النفْسُ، أو لإبرازِ الكلامِ في مَعْرِضِ ذي
الاعتدالِ، أي: المتوسِّطِ بَيْنَ الإيجازِ المحضِ والإطنابِ المحْضِ كما
في أفعالِ المدْحِ والذمِّ، نحوُ: نِعمَ الرجلُ زيدٌ، وبِئْسَت المرأةُ
حمَّالةُ الحطَبِ، عندَ مَن يَجعلُ المخصوصَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أو مبتدأً
خبرُهُ محذوفٌ؛ وذلكَ لما فيه من الإطنابِ بالإيضاحِ بعدَ الإبهامِ،
والإيجازِ بحذْفِ المبتدأِ أو الخبرِ. ومن الإيضاحِ بعدَ الإبهامِ
التَّوْشِيعُ، وهو لغةً: لَفُّ القُطْنِ المَنْدُوفِ، واصطلاحًا: أن يُؤتَى
في عَجُزِ الكلامِ بمثَنًّى مفسَّرٍ باسميْنِ ثانيهُمَا معطوفٌ على
الأوَّلِ، نحوُ: يَشيبُ ابنُ آدمَ ويَشُبُّ فيه خَصْلَتَانِ: الحِرْصُ
وطُولُ الأمَلِ، أو يُجمَعُ كذلكَ نحوُ: إنَّ في محمَّدٍ ثلاثَ خِصالٍ
حَميدةٍ الكرَمُ والشجاعةُ والحِلْمُ. (5) قولُه: (ومنها التكريرُ لِغَرَضٍ)، لمَّا
كان التطويلُ ظاهرًا في التكريرِ عندَ عدَمِ النُّكْتَةِ والغرَضِ قيَّدَهُ
بالغرَضِ، ولمَّا كانَ كلٌّ من الإيضاحِ بعدَ الإبهامِ وذكْرِ العامِّ
بعدَ الخاصِّ والخاصِّ بعدَ العامِّ لا يكونُ تطويلاً أصْلاً؛ لأنَّه لا
بُدَّ فيها من النُّكتةِ والغرَضُ لم يُقيِّدْها بالغرَضِ. دُسُوقِيٌّ. (6) قولُه: (كطُولِ الفصْلِ)، أي: كمُجرَّدِ طولِ الفصْلِ بينَ اسمِ إنَّ الأُولى وخبرِها، مَثلاً في قولِه: إن امرؤٌ إلخ، وقولِه تعالى: {ثُمَّ
إِنَّ رَبَّكَ للَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ ثُمَّ إِنَّ ربَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} الآيةَ. قولُه: (لكن من حيثُ إنَّه يُوقِعُ لَبسًا في الخبَرِ المتأخِّرِ في قولِه تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}
إلخ)، الشاهدُ في وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِروا؛ فإنَّ
الثلاثةَ بمعنى ترْكِ الذنْبِ وعدمِ المعاقبَةِ عليهِ، كُرِّرَتْ للترغيبِ
في العفوِ. (7) قولُه: (في قولِه تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إلخ)، وذلكَ أنَّ المخاطَبِينَ لمَّا تَكاثَروا في الأموالِ وأَلهاهُمْ ذلكَ عن عِبادةِ اللَّهِ {حَتَّى زَارُوا الْمَقَابِرَ}،
أي: ماتوا، زَجَرَهم اللَّهُ عن الانْهِمَاكِ في تحصيلِ الأموالِ،
ونَبَّهَهم على أنَّ اشتغالَهم بتحصيلِها وإعراضَهم عن الآخرةِ خطأٌ منهم
بقولِه: {كَلاَّ}؛ فإنَّها هنا مُفيدةٌ
للردْعِ والزجْرِ، وخوَّفَهم على ارتكابِ ذلكَ الخطأِ بقولِه: (سوف
تَعلمونَ)، وفي تكريرِه تأكيدٌ للردْعِ والإنذارِ، وفي ثُمَّ دَلالةٌ على
أنَّ الإنذارَ الثانيَ أبْلغُ وأشدُّ من الأوَّلِ باعتبارِ زيادةِ اهتمامِ
المنذَرِ به، لا باعتبارِ أنَّه زادَ شيئًا في المفهومِ تنزيلاً لبُعدِ
المَرْتبةِ منزِلةَ بُعْدِ الزمانِ، واستعمالاً للفْظِ ثُمَّ في مجرَّدِ
التدرُّجِ في دَرَجِ الارتقاءِ، لا يُقالُ: حيثُ كانت الثانيةُ تأكيدًا كان
بينَ الجملتيْنِ كمالُ الاتِّصالِ، فكيفَ تُعطَفُ على الأولى؟ لأَنَّا
نقولُ: قد مَرَّ أنَّ الاتِّحادَ التامَّ إنَّما يَمنَعُ من العطفِ بالواوِ
دونَ العطْفِ بغيرِها، فلا يَضُرُّ العطْفُ به معه. (8) قولُه: (وهو توسُّطُ لفظٍ إلخ)، أي: جملةٍ
فأكثرَ بشَرْطِ أن لا يكونَ للجملةِ، وكذا الجمَلِ، مَحلٌّ من الإعرابِ
جَزمًا ليُخرجَ التَّتمِيمَ لوجودِ الإعرابِ فيه. (9) وقوله: ( لغَرَضٍ)، أي: يُشترَطُ أن تكونَ
تلكَ الجملَةُ أو الجمَلُ المعترِضةُ لغرضٍ سِوى دفْعِ الإيهامِ، ليُخرِجَ
بعضَ صُوَرِ التكميلِ، وهو ما يكونُ بجملةٍ أو أكثرَ في الأَثْناءِ؛
لأنَّه لدَفعِ الإيهامِ، وذلكَ الغرَضُ إمَّا الدعاءُ كما في البيتِ،
وإمَّا التنزيهُ كما في الآيةِ، وإمَّا تَخَصُّصُ أحَدِ المذكورَيْنِ
لزيادةِ تأكيدٍ في أمْرٍ عُلِّقَ بهما، نحوُ: {وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ
وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}، وَإِمَّا الاستعطافُ والمطابَقةُ كما في قولِ أبي الطيِّبِ: وخُفوقُ قلبي لو رأيتِ لَهِيبَهُ ..... يا جَنَّتِي لرأَيْتِ فيه جَهنَّمَا فقولُه: يا جنَّتي، اعتراضٌ بينَ الشرْطِ والجزاءِ للمطابَقةِ بينَ
الجنَّةِ وجهنَّمَ، ولاستعطافِ محبوبِه بالإضافةِ للياءِ، وتسميتُه جَنَّةً
لِيَرِقَّ له فيُنجِيهِ من جَهنَّمَ التي في فؤادِه بالوِصالِ، وإمَّا
التنبيهُ للمخاطَبِ على أمرٍ يؤكِّدُ الإقبالَ على ما أَمَرَ به، كما في
قولِه: واعلَمْ فعِلْمُ المرْءِ يَنْفَعُهُ ..... أنْ سوفَ يأتي كلُّ ما قُدِّرَا قولُه: فعِلْمُ المرءِ يَنفعُه، اعتراضٌ بينَ اعلَمْ ومفعولِه؛ لأجْلِ
تنبيهِ المخاطَبِ على أمْرٍ يؤكِّدُ إقبالَه على ما أَمَرَ به؛ وذلكَ
لأنَّه ممَّا يَزيدُ المخاطَبَ إقبالاً على طَلَبِ العلْمِ، فالفاءُ فيه
اعتراضيَّةٌ، ومع ذلكَ لا تَخلُو هنا عن شائبةِ السببيَّةِ، فعُلِمَ أنَّ
الاعتراضَ يَكونُ مع الفاءِ كما يكونُ مع الواوِ وبدونِهما. وجميعُ ما
ذُكِرَ أمثلةٌ للاعتراضِ بينَ أجزاءِ الجملةِ. ومن الاعتراضِ الواقعِ بينَ
كلامَيْنِ متَّصِليْنِ، وهو أكثرُ من جملةٍ أيضًا، قولُه تعالى: {فَأْتُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسُاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}، فقولُه:
نساؤكم حَرْثٌ لكم، بيانٌ لقولِه: فَأْتُوهُنَّ من حيثُ أمَرَكُم اللَّهُ،
فهيَ كَلامانِ متَّصلانِ وَقَعَ ما بينَهما، وهو كلامٌ يَشتمِلُ على
جملتيْنِ اعتراضًا، ونُكتَتُهُ تنبيهُ المخاطَبِ على أمرٍ يؤكِّدِ الإقبالَ
على ما أَمَرَ به. (10) قولُه: (وهو تَعقيبُ الجملةِ بأُخرى إلخ)، أي: جعَلَ الجملةَ عَقِبَ الأُخرى، وقولُه: (بأُخرى)، أي: بجملةٍ أخرى، بشرطِ أن لا يكونَ لها محَلٌّ من الإعرابِ، وقولُه: (تَشتمِلُ على معناها)، أي من وصْفِ تلكَ الجملةِ المذيَّلِ بها إنها تَشتمِلُ على معنى الجملةِ الأُولى، وقولُه: (تأكيدًا)
أي لقَصْدِ التوكيدِ بتلكَ الجملةِ الثانيةِ، وذلكَ عندَ اقتضاءِ المَقامِ
للتأكيدِ، فبَيْنَهُ وبينَ الإيغالِ، الذي هو خَتْمُ الكلامِ بما يُفيدُ
نُكتةً يَتمُّ المعنى بدونِها، عمومٌ من وجهٍ، فيَجتمعانِ في قولِه تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}،
فهوَ إيغالٌ من جهةِ أنَّه خَتَمَ الكلامَ بما فيه نكتةٌ يَتمُّ المعنى
بدونِها، وتَذييلٌ من جهةِ أنَّه تَعقيبُ جملةٍ بأُخرى تَشتمِلُ على معناها
للتأكيدِ، ويَنفردُ الإيغالُ فيما يكونُ بغيرِ جملةٍ ولغيرِ التأكيدِ كما
في قولِه: كأنَّ عُيونَ الوَحشِ حَولَ خِبائِنا ..... وأَرجلَنا الجِزْعُ الذي لم يُثْقَبِ ويَنفردُ التذييلُ فيما يكونُ في غير ختْمِ الكلامِ للتأكيدِ بجملةٍ
كقولِكَ: مدَحْتُ زيدًا أَثنَيْتُ عليه بما فيه فأحسَنَ إليَّ، ومَدَحْتُ
عُمَرَ أثْنَيْتُ عليه حتَّى بما ليسَ فيه فأساءَ إليَّ ا.هـ. ابنُ يعقوبَ. (11) قولُه: (لاستقلالِ معناهُ)، اقتَصَرَ على
الاستقلالِ ولم يَذكُرْ معه فُشُوَّ الاستعمالِ كما فعَلَ السعْدُ اعتمادًا
على قَوْلِ ابنِ يعقوبَ، الحقُّ أنَّ المشترَطَ في جَرَيَانِه مَجرَى
الأمثالِ هو الاستقلالُ، وأمَّا فُشُوُّ الاستعمالِ فلا دليلَ على اشتراطِه
فيه ا.هـ. (12) وقوله: ( واستغنائِه عمَّا قبلَهُ)، أي: بأنْ يكونَ غيرَ متَقيَّدٍ بالجملةِ الأُولى، وهو عطْفُ لازمٍ على ملزومٍ. (13) قولُه: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}،
أي: بِناءً على أنَّ المُرادَ: وهل يُعاقَبُ ذلكَ العقابَ المخصوصَ، أو
المرادَ: وهل يُكافَأُ بتلكَ المكافأةِ المخصوصةِ، إلاَّ الكفورُ، وأمَّا
إذا كان المعنى: وهل يُعاقَبُ مُطلَقَ العقابِ، أو المعنى: وهل يُكافأُ
بالشَّرِّ مُطلَقًا إلاَّ الكفورُ، فإنَّه على كلٍّ من المعنييْنِ يكونُ من
المستقلِّ الجاري مَجرى الأمثالِ، لا يُقالُ: إنَّ الجزاءَ في {وَهَلْ نُجَازِي}،
إنْ فُسِّرَ بالمكافأةِ كانَ شاملاً للثوابِ والعقابِ، وتخصيصُه بالعقابِ
إنَّما يُفهَمُ من قولِه جَزَيْناهم الذي هو بمعنى عاقَبْنَاهم، فلا يكونُ
قولُه: {وَهَلْ نُجَازِي إلاَّ الْكَفُورَ}
مُستقلاّ، سواءٌ كان المرادُ المكافأةَ المخصوصةَ، أي: العقابَ الأشدَّ،
أو المكافأةَ بالشرِّ مُطلَقًا؛ لأَنَّا نقولُ: كونُ جَزَيناهم قرينةً على
تقييدِ المُكافأةِ بالشرِّ مُطلَقًا لا يُنافِي الاستقلالَ بالإفادةِ على
أنَّ ذلكَ يُفهَمُ من الكفورِ أيضًا، فافْهَم. ابنُ يعقوبَ بتوضيحٍ. (14) قولُه: (الاحتراسُ إلخ)، سُمِّيَ هذا
النوعُ بذلكَ؛ لأنَّ حَرَسَ الشيءَ حَفِظَهُ، وهذا النوعُ فيه حفْظٌ للمعنى
ووقايةٌ له من تَوَهُّمِ خلافِ المقصودِ، ويُسَمَّى بالتكميلِ أيضًا
لتكميلِه المعنى بدَفْعِ إيهامِ خلافِ المقصودِ عنه. (15) قولُه: (بما يَدْفَعُه)، أي: يَدْفَعُ
إيهامَ خلافِ المقصودِ، وذلكَ الدافعُ قد يكونُ في وسَطِ الكلامِ، وقد
يكونُ في آخرِهِ، وقد يكونُ في أوَّلِه، وفي كلٍّ إمَّا أنْ يكونَ جملةً أو
مُفرَدًا، فبينَهُ وبينَ الإيغالِ عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ؛ لاجتماعِهما فيما
يكونُ في الختْمِ لدفْعِ إيهامِ خلافِ المقصودِ، وانفرادِ الإيغالِ فيما
ليس فيه دفْعُ إيهامِ خلافِ المقصودِ، كما في قولِها: وإنَّ صَخْرًا لتَأَتَمُّ الهُداةُ به ..... كأنَّهُ عَلَمٌ في رأسِه نارُ وانفرادُ الاحتراسِ بما في الوسَطِ كما في قولِه:... فَسَقَى دِيارَكَ
إلخ...، وهو أعمُّ مُطلَقًا من التذييلِ؛ إذ الاحتراسُ كما يَدفَعُ ما
يُوهِمُه الكلامُ كذلكَ يَدفَعُ تَوَهُّمَ السامعِ أنَّ الكلامَ مجازٌ،
ويَدفَعُ سَهوَهُ أو غفْلَتَه عن السماعِ. والْحَقُّ الفرْقُ بينَ الدفْعِ
الأوَّلِ والثاني والثالثِ والتذييلِ إنَّما يَدفَعُ الأوَّلَ فقطْ، وأيضًا
الاحتراسُ يكونُ بغيرِ جملةٍ بخلافِ التذييلِ، فافْهَمْ. والاحتراسُ
يُبايِنُ التَّكرارَ والإيضاحَ كمُبايَنةِ الإيغالِ والتذييلِ لهما. ابنُ
يعقوبَ ودسوقيٌّ بتصرُّفٍ وحذْفٍ).
دروسُ البلاغةِ الصُّغْرى قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (أقسامُ الإطنابِ الإطنابُ يكونُ بأمورٍ كثيرةٍ: وإنَّ امرأً دامَتْ مواثيقُ عهْدِه ..... على مِثْلِ هذا إنَّهُ لكريمُ وكزيادةِ الترغيبِ في العَفْوِ، في قولِه تعالى: {إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ}. وكتأكيدِ الإنذارِ، في قولِه تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}. ومنها: الاعتراضُ، وهوَ توسُّطُ لفظٍ بينَ أجزاءِ جملةٍ أوْ بينَ جملتينِ مرْتَبِطتينِ معنًى لغَرَضٍ، نحوُ: إنَّ الثمانينَ –وبُلِّغْتُهَا- ..... قدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمانِ ونحوُ قولِه تعالى: {وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}. ومنها: التذييلُ، وهوَ تعقيبُ الجملةِ بأخرى تَشتمِلُ على معناها تأكيدًا لها. وهوَ إمَّا أنْ يكونَ جاريًا مَجرَى الْمَثَلِ لاستقلالِ معناهُ واستغنائِه عمَّا قَبْلَه، كقولِه تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}. وإمَّا أنْ يكونَ غيرَ جارٍ مَجْرَى المثل لعَدَمِ استغنائِه عمَّا قَبْلَه، كقولِه تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}. ومنها الاحتراسُ، وهوَ أن يُؤْتَى في كلامٍ يُوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدْفَعُه، نحوُ: فسَقَى ديارَكِ غيرَ مفسِدِها ..... صوْبُ الربيعِ ودِيمةٌ تَهْمِي).
منها: ذكْرُ الخاصِّ بعدَ العامِّ، نحوُ: (اجْتَهِدُوا في دروسِكم واللغةِ
العربيَّةِ)، وفائدتُه التنبيهُ على فضْلِ الخاصِّ، كأنَّهُ لرِفْعَتِه
جِنْسٌ آخَرُ مغايِرٌ لما قَبْلَه.
ومنها: ذكْرُ العامِّ بعدَ الخاصِّ، كقولِه تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.
ومنها: الإيضاحُ بعدَ الإبهامِ، نحوُ: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}.
ومنها: التكريرُ لغَرَضٍ، كطُولِ الفَصْلِ في قولِه:
حسن الصياغة للشيخ: محمد ياسين بن عيسى الفاداني
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (أقسامُ الإطنابِ(1)
الإطنابُ يكونُ(2) بـ(3) أمورٍ كثيرةٍ(4):
(منها) ذكْرُ الخاصِّ(5) بعدَ العامِّ(6)، نحوُ: اجتهِدوا في دروسِكم
واللغةِ العربيَّةِ(7), وفائدتُه(8) التنبيهُ على فضْلِ الخاصِّ(9)
كأنه(10) لرِفعتِه(11) جنسٌ آخرُ مغايِرٌ لما قبلَه(12)
(ومنها) ذكْرُ العامِّ بعدَ الخاصِّ(13)، كقولِه(14): {رَبِّ اغْفِرْ لِي(15) وَلِوَالِدَيَّ(16) وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً(17) وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}(18).
(ومنها) الإيضاحُ بعدَ الإبهامِ، نحوُ{أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}
(ومنها) التكريرُ(19) لغرَضٍ(20)، كطولِ الفصلِ(21) فى قولِه(22):
وإنَّ امْرَأً دامتْ مواثيقُ عهدِه ..... على مثلِ هذا إنه لكريمُ(23)
وكزيادةِ الترغيبِ في العفوِ(24) في قولِه تعالى:{ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ(25) فَاحْذَرُوهُمْ(26) وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(27). وكتأكيدِ الإنذارِ(28) في قولِه تعالى: { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (29).
(ومنها) الاعتراضُ وهو توسُّطُ لفظٍ(30) بينَ أجزاءِ جملةٍ(31) أو بينَ جملتين مرتبطتين معنًى(32) لغرضٍ(33)، نحوُ(34):
إن الثمانين(35) –وبُلِّغْتَهَا-(36) ..... قد أحْوَجَتْ سَمْعِى(37) إلى تَرْجَمَانِ(38)
ونحوُ قولِه تعالى: {وَيَجْعَلُونَ(39) لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ(40) وَلَهُمْ(41) مَا يَشْتَهُونَ} (42).
(ومنها) التذييلُ وهو(43) تعقيبُ الجملةِ بأخرى(44) تَشتملُ(45) على معناها(46) تأكيداً لها(47)، وهو(48) إما أن يكونَ جارياً مَجْرَى المثَلِ لاستقلالِ معناه(49) واستغنائِه عمَّا قبلَه، كقولِه تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ(50) وَزَهَقَ الْبَاطِلُ(51) إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)(52) وإما أن يكونَ غيرَ جارٍ مَجْرَى المثَلِ لعَدَمِ(53) استغنائِه عما قبلَه(54)، كقولِه تعالى:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ(55) بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي(56) إِلاَّ الْكَفُورَ)(57).
(ومنها) الاحتراسُ, وهو أن يُؤْتَى فِى كَلامٍ يُوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدفعُه(58)، نحوُ(59):
فسَقَى ديارَكِ(60) غيرَ مُفسِدِها(61) صوْبُ الربيعِ(62) ودِيمةٌ(63) تَهْمِي(64)
____________________________
قال الشيخ علم الدين محمد ياسين بن محمد عيسى الفاداني المكي (ت: 1410هـ): ((1) (أقسامُ الإطنابِ) أي: من حيثُ أسبابُه أعني ما يَتحقَّقُ بهِ
(2) (الإطنابُ يكونُ) أي: يحصُلُ.
(3) (بـ) سببِ
(4) (أمورٍ كثيرةٍ) ذكرْتُ منها هنا سبعةً.
(5) (منها ذكْرُ الخاصِّ) الذي هو فرْدٌ.
(6) (بعدَ العامِّ) الذي هو متعدِّدٌ على سبيلِ
العطْفِ, لا على سبيلِ الوصفِ أو الإبدالِ؛ لأنَّ ذِكرَه بعدُ على سبيلِ
أحدِ الأمرين من قبيلِ الإيضاحِ بعد الإبهامِ كما هو ظاهرٌ. قالَ ابنُ
يعقوبَ: إن قضيَّةَ فائدةِ هذا النوعِ إنما تكونُ مع العطْفِ؛ لأنه مع
الوصْفِ والإبدالِ ليس في ذكرِه بعدَ العامِّ تنبيهٌ على فضلِه لجعْلِه
مغايِراً لجنْسِ العامِّ؛ لأنه متَّصِلٌ به على نيَّةِ طرْحِ الأوَّلِ
أوَّلاً ا هـ.
(7) (نحوُ اجتهِدوا في دروسِكم واللغةِ العربيَّةِ) فذِكْرُ اللغةِ العربيَّةِ بعدَ الدروسِ مع أنها فرْدٌ من أفرادِها إطنابٌ.
(8) (وفائدتُه) أي: عطْفِ الخاصِّ على العامِّ.
(9) (التنبيهُ على فضْلِ الخاصِّ) المذكورِ بعد العامِّ؛ لأنَّ ذكْرَه منفرِداً بعدَ دخولِه فيما قبلَه إنما يكونُ لِمَزِيَّةٍ له.
(10) (كأنه) أي: الخاصَّ
(11) (لرفعتِه) علَّةٌ مقدَّمةٌ.
(12) (جنسٌ آخرُ مغايرٌ لما قبلَه ) أي: لجنْسِ
العامِّ الذي قبلَه، أي: جعَلَ هذا الخاصَّ الذي هو من أفرادِ العامِّ
كالجنسِ المغايِرِ لجنسٍ آخَرَ قبلَه بحيثُ لا يَشْمَلُه ذلك العامُّ, ولا
يُعلَمُ حكْمُه, وذلك لامتيازِه عن سائرِ أفرادِ العامِّ بما له من وصْفِ
الرِّفعَةِ أو الخِسَّةِ تنزيلاً للتغايُرِ في الأوصافِ منزِلَةَ التغايُرِ
في الذاتِ، وقُيِّدَ بالرفعةِ نظراً للغالبِ, وإلا فقد يكونُ امتيازُ
الخاصِّ بوصْفِ الْخِسَّةِ نحوُ: لَعنَ اللهُ الكافرين وأبا جهْلٍ.
(13) (ومنها ذكْرُ العامِّ بعدَ الخاصِّ) على سبيلِ العطْفِ بالواوِ خاصَّةً.
(14) كقولِه تعالى حكايةً عن دعاءِ سيِّدِنا نوحٍ عليه السلامُ.
(15) ( رَبِّ اغْفِرْ لي) أي: ما صدَرَ مني من ترْكِ الأفضلِ ودعائي على الكفَّارِ كالانتقامِ منهم.
(16) (وَلِوَالِدَيَّ) وكانا مسلِمَيْن, واسمُ أبيه لامَكُ بنُ متوشلخَ, واسمُ أمِّه شمخاءُ بنتُ أنوشَ
(17) (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) أي: مَنزِلي, وقيلَ: مسجدي. وقيلَ: سفينتي.
(18) (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) إلى
يومِ القيامةِ فبَدأَ بنفسِه؛ لأنها أَوْلى بالتخصيصِ والتقديمِ, ثم ثَنَّى
بالمتَّصِلِين به؛ لأنهم أحقُّ بدعائِه من غيرِهم, ثم عَمَّمَ جميعَ
المؤمنين والمؤمناتِ؛ ليَكونَ ذلك أَبلغَ في الدعاءِ وللإشارةِ إلى
التعميمِ بعدَ التخصيصِ المطلوبَيْن في الدعاءِ؛ لِمَا في حديثِ: (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ) وحديثِ: (إِذَا دَعَوْتُمْ فَعَمِّمُوا فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ) (ومنها الإيضاحُ بعدَ الإبهامِ)
أي: بيانُ شيءٍ من الأشياءِ بعدَ إبهامِه. وفائدتُه: إما إدراكُ السامعِ
ذلك الشيءَ في صورتين مختلِفتين بالإبهامِ والإيضاحِ, وهذا مُسْتَحْسَنٌ؛
إذ كأنه عَلَمَانِ، وعَلَمَانِ خيرٌ من علَمٍ واحدٍ، وكعَرْضِ الحسناءِ في
لِبَاسَيْن, وإما تَمَكُّنُ ذلك الشيءِ الموضَّحِ بعد إبهامِه؛ لأنَّ
إلقاءَه علي سبيلِ الإبهامِ يَقتضِي تشوُّفَ نفسِ السامعِ إلي معرفتِه علي
سبيلِ الإيضاحِ فإذا أُلْقِيَ إليه كذلك تَمكَّنَ فيها فضْلَ تَمَكُّنٍ
وكان شعورُها به أتَمَّ، وإما كمالُ لذَّةِ العلْمِ به؛ لأنه لما أُلْقِيَ
أوَّلاً على وجهِ الإبهامِ حَصَلَ للسامعِ شعورٌ به من وجهٍ, وحُرِمَ من
العلْمِ به على وجهِ الإيضاحِ وهذا الحِرْمَانُ أَلَمٌ, فتَتشَوَّفُ نفسُه
إلي العلْمِ به من باقي وجوهِه فإذا أُلْقِيَ إليه كذلك حَصَلَ لها لذَّةٌ
كاملةٌ؛ لأنَّ اللذَّةَ عقِبَ الألَمِ أتَمُّ من اللذَّةِ التي لم
يَتقدَّمْها ألَمٌ؛ إذ كأنها لذَّتان؛ لذَّةُ الوجدان ولذَّةُ الْخَلاصِ من
الألَمِ، بخلافِ ما إذا حَصَلَ كمالُ العلْمِ دَفعةً فلم يَتقدَّمْ حصولَ
اللذَّةِ به ألَمٌ نحوُ قولِه تعالى: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}
تَقدَّمَ التمثيلُ به لكمالِ الاتِّصالِ بينَ الجملتين وما تَعلمون في
الجملةِ الأُولى مبهَمَةٌ وبأنعامٍ وبنينَ.... إلخ، في الثانيةِ تفسيرٌ
وتوضيحٌ لتلك المبهَمةِ.
(19) (ومنها التكريرُ) وهو ذكْرُ الشيء مرَّتين أو أكثرَ.
(20) (لغرَضٍ) أي: لفائدةٍ ونُكتةٍ قَيَّدَ
التكريرَ بالغرَضِ ليكونَ إطناباً؛ لأنه إذا كان لغيرِ غَرَضٍ فهو تطويلٌ
كما تَقدَّمَ, ودلَّكَ الغرَضُ.
(21) (كطولِ الفصلِ) بينَ اسمِ إنَّ الأُولى وخبرِها مثلاً
(22) (فى قولِه) أي: الشاعرِ
(23) (وإن امْرَأً دامَتْ مواثيقُ عهدِه. على مِثلِ هذا إنه لَكريمُ) فالشاهدُ في تكريرِ إنَّ في أوَّلِ البيت وآخرِه؛ لئلاَّ يَجىءَ الكلامُ مبتورًا, ليسَ له طَلاوةٌ.
(24) (وكزيادةِ الترغيبِ في العفوِ) مثلاً.
(25) (فى قولِه تعالى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}) بحملِهم إياكم على ترْكِ طاعةِ اللهِ.
(26) (فَاحْذَرُوهُمْ) أي: فكونوا منهم على حذَرٍ, ولا تَأمنوا غَوائلَهم وشرَّهم.
(27){وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
يَغفرُ لكم ذنوبَكم ويُكفِّرُ عنكم سيئاتِكم فالعفوُ والصفحُ والمغفرةُ
ألفاظٌ بمعنًى واحدٍ, وهو ترْكُ الذنبِ وعدمُ المعاقَبة عليه, أَطنَبَ بها
لزيادةِ الترغيبِ في العفوِ.
(28) (وكتأكيدِ الإنذارِ) أي: التخويفِ والردْعِ.
(29) (فى قولِه تعالى: { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فإن
المخاطَبِين لَمَّا تَكاثروا في الأموالِ وألهاهُم ذلك عن عِبادةِ ربِّهم
حتى زاروا المقابرَ أي: ماتوا، زجَرَهم المولى عن الانهماكِ في تحصيلِ
الأموالِ ونبَّهَهُم على أنَّ اشتغالَهم بتحصيلِها وإعراضَهم عن الآخِرةِ
خطأٌ بقولِه: كلاَّ فإنها مفيدةٌ للردْعِ والزجْرِ, وخوَّفَهم تعالى على
ارتكابِ ذلك الخطأِ بقولِه: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}
أي: ما أنتم عليه من الخطأِ إذا عايَنْتَم ما أمامَكم من لقاءِ اللهِ
تعالى وأهوالِ المَحْشَرِ، وكرَّرَ هذا القولَ تأكيداً للردْعِ والإنذارِ
وعطَفَ بثُم لتَدُلَّ للمخاطَبين والسامعين على أنَّ الإنذارَ الثانيَ
أبلغُ وآكَدُ وأقوى من الأوَّلِ باعتبارِ زيادةِ اهتمامِ المنذَرِ به, لا
باعتبارِ أنه زادَ شيئًا في المفهومِ.
(30) (ومنها الاعتراضُ وهو توسُّطُ لفظٍ) أي: جملةٍ معترِضةٍ واحدةٍ أو أكثرَ منها بشرْطِ أن يكونَ هذا المتوسِّطُ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ جزْماً.
(31) (بينَ أجزاءِ جملةٍ) المرادُ بالجملةِ
مجموعُ المسنَدَيْن مع المتعلِّقاتِ والفَضَلاتِ والتوابعِ المفرَدَةِ, ولو
بالعطفِ, لا ما يَتركَّبُ من المسنَدَيْن فقط.
(32) (أو بينَ جملتين مرتبطتَيْن معنًى) بأن كانت الجملةُ الثانيةُ مبيِّنةً للأُولى, أو مؤكِّدةً لها, أو معطوفةً عليها, أو بدَلاً منها.
(33) (لغرضٍ) أي: لُنكْتةٍ سوى دفْعِ الإيهامِ,
فخَرجَ بقيدِ التوسُّطِ الإيغالُ, وهو ختْمُ الكلامِ بما يُفيدُ نُكْتةً,
لا يَتِمُّ المعنى بدونِها، وخرَجَ باشتراطِ أن لا مَحَلَّ من الإعرابِ
لهذا المتوسِّطِ التتميمُ؛ فإنه الإتيانُ بفَضْلَةٍ في كلامٍ لا يُوهِمُ
خلافَ المقصودِ من مفعولٍ أو حالٍ أو نحوِ ذلك, فيُوجَدُ للمأتيِّ فيه
مَحَلٌّ من الإعرابِ، وخرَجَ بكونِ الغرَضِ سوى دفْعِ الإيهامِ ما يكونُ
بجملةٍ أو أكثرَ في الأثناءِ لدفْعِ الإيهامِ فإنه من صوَرِ التكميلِ, وأما
البعضُ الآخرُ من صوَرِ التكميلِ, وهو ما يكونُ آخِراً فهو خارجٌ بقيدِ
التوسُّطِ.
(34) (نحوُ) قولِ عَوْفِ بنِ محلمٍ الشَّيْبانيِّ يَشْكُو ضعْفَه.
(35) (إن الثمانين ) أي: سنةً التي مَضتْ من عمري.
(36) (وبُلِّغْتَها) بفتحِ التاءِ المثنَّاةِ أي: بَلَّغَكَ اللهُ إيَّاها.
(37) (قد أَحوَجتْ سَمْعِي) لما ثَقُلَ بمُضِيِّها.
(38) (إلى تَرْجَمانِ) بفتحِ التاءِ الفوقيَّةِ
والجيمِ, كزَعْفَرانٍ, ويجوزُ ضَمُّ التاءِ مع الجيمِ, أي: مفسِّرٍ بصوتٍ
أجهرَ من الصوتِ الأوَّلِ, فقولُه: وبُلِّغْتَهَا الواوُ اعتراضيَّةٌ
والجملةُ اعتراضٌ في أثناءِ الكلامِ لفائدةٍ, وهي هنا الدعاءُ للمخاطَبُ
بما يَسُرُّه ويَسْتَجْلِبُ إقبالَه ويَتَمَنَّاه كلُّ أحدٍ من طولِ
العمْرِ, وازدادتْ مناسبتُه بذكْرِ الثمانين التي هي من طولِ العمرِ.
(39) (ونحوُ قولِه تعالى: {وَيَجْعَلُونَ} ) أي: يَجعلُ المشركون.
(40) ({لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَ} ) يَجعلون.
(41) ({لَهُمْ}) أي: لأنفسِهم.
(42) ({مَا يَشْتَهُونَ})
أي: من الذكورِ. فقولُه سبحانه جملةٌ لأنه مصدَرٌ منصوبٌ بفعْلٍ مقدَّرٍ
من معناه, أي: أُنزِّهُه تعالى تنزيهاً وهو اعتراضٌ بينَ المتعاطِفَيْن
لفائدةٍ وهي التنزيهُ وزيادةُ تأكيدٍ في عظَمَتِه تعالى وبُعدِه عما
أَثبَتوه فتَزدادُ الشَّناعةُ في قولِهم.
(43) (ومنها التذييلُ وهو) لغةً: جعْلُ الشيءِ ذيْلاً للشيءِ. واصطلاحاً
(44) (تَعقيبُ الجملةِ بأخرى) أي: الإتيانُ عقِبَ جملةٍ بجملةٍ أخرى, لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ.
(45) و (تَشتمِلُ) أي: هذه الجملةُ المعقَّبُ بها.
(46) (على معناها) أي: على معنى الأُولى
المعقَّبَةِ بأن تُفيدَ بفَحْواها لِمَا هو المقصودُ من الأُولى, سواءٌ مع
الزيادةِ أو بدونِها, فيكونُ اختلافٌ بينَ نِسبتَيْهما, وليس المرادُ
باشتمالِها على الأُولى إفادتَها لنفْسِ معنى الأُولى بالمطابَقةِ, وإلاَّ
كان ذلك تَكراراً.
(47) (تأكيداً لها) أي: لقصْدِ التأكيدِ والتقوِيَةِ بالثانيةِ للأُولى.
(48) (وهو) أي: الكلامُ الذي يَحصُلُ به التذييلُ, وهو الجملةُ الثانيةُ.
(49) (إما أن يكونَ جارياً مَجرَى المَثَلِ لاستقلالِ معناه) أي: لاستقلالِه في إفادةِ معناه.
(50) (واستغنائِه عما قبلَه) أي: عن التقييدِ بما قبلَه من عطْفِ اللازمِ على الملزومِ.
(51) (كقولِه تعالى: جَاءَ الْحَقُّ) أي: الإسلامُ.
(52) (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) أي: زالَ الكفْرُ.
(53) (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) أي:
مُضْمَحِلاّ وذاهِباً فهذه الجملةُ الثانيةُ تَستقِلُّ بمعناها, ولا
تَوقُّفَ له على معنى الجملةِ الأولى, وهو زُهوقُ الباطلِ، ومفهومُ
النسبتين مختلِفٌ؛ لأن هذه الثانيةَ اسْمِيَّةٌ مع زيادةِ تأكيدٍ فيها،
وتأكيدُ زُهوقِ الباطلِ مناسِبٌ هنا لما فيه من مزيدِ الزجْرِ عنه والإياسِ
من أحكامِه الموجِبةِ للاغترارِ.
(54) (وإما أن يكونَ غيرَ جارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ لعَدمِ) استقلالِه بإفادةِ المعنى المرادِ منه, وعدمِ.
(55) (استغنائِه عمَّا قبلَه) أي: فيَتوقَّفُ
في إفادةِ معناه على ما قبلَه, وإنما لم يَجْرِ هذا النوعُ من التذييلِ
مَجرى الْمَثَلِ؛ لأن الْمَثَلَ وصفُه الاستقلالُ؛ لأنه كلامٌ تامٌّ نُقِلَ
عن أصلِ استعمالِه لكلِّ ما يُشْبِهُ حالَ الاستعمالِ الأوَّلِ, وهذا
النوعُ لم يكنْ مستقِلاّ كقولِه تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} أي: جزاءَ عقابٍ.
(56) (بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي) أي: ذلك الجزاءَ المخصوصَ, وهو إرسالُ سَيْلِ العَرِمِ عليهم, وتبديلُ جنَّتَيْهِم.
(57) (إِلاَّ الْكَفُورَ) مثلَ آلِ سبأٍ, فهذه
الجملةُ الثانيةُ حيث أُريدَ بالجزاءِ فيها الجزاءُ المخصـوصُ المعيَّنُ
بما في الأُولى غيرُ جاريةٍ مَجْرَى الْمَثَلِ في الاستقلالِ، ومفهومُ
النسبتين مختلِفٌ؛ فإن مفهومَ الأُولى أن آلَ سبأٍ جَزاهم اللهُ بسببِ
كُفرِهم؛ لأن ذلك الجزاءَ المخصوصَ لا يَقعُ إلا للكفورِ مع التأكيدِ بها؛
لكونِها في معنى العلَّةِ الأولى, وكأنه قيلَ: جَزَيْناهم بسببِ كفرِهم؛
لأن ذلك الجزاءَ لا يَستحِقُّه إلا من اتَّصَفَ بهذا السببِ، وهذا التأكيدُ
مناسِبٌ هنا لما فيه من الزجْرِ عن الكُفْرِ المناسبِ للتقبيحِ بشأنِه.
(58) (ومنها الاحتراسُ, وهو أن يُؤْتَى في كلامٍ يُوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدفَعُه)
أي: بقولٍ يَدفعُ ذلك الإيهامَ, سواءٌ كان هذا القولُ مفرَداً أو جملةً,
وسواءٌ كان للجملةِ مَحَلٌّ من الإعرابِ أو لا, وسواءٌ كان في أوَّلِ
الكلامِ أو وسَطِه أو آخِرِه.
(59) (نحوُ) قولِ طَرَفَةَ بنِ العَبْدِ.
(60) (فَسَقَى ديارَكَ) بفتحِ الكافِ, والمخاطَبُ به هو الممدوحُ قتادةُ بنُ مَسْلَمةَ الحنفيُّ.
(61) (غيرَ مُفْسِدِها) منصوبٌ على الحالِ.
(62) (صوْبُ الربيعِ ) بالرفعِ فاعلُ سَقَى, أي: المطرُ النازلُ زمنَ الربيعِ.
(63) (ودِيمةٌ) بكسرِ الدالِ المهمَلةِ: المطرُ المُسْتَرْسِلُ, وأقلُّه ما بَلغَ ثُلُثَ النهارِ أو الليلِ.
(64) (تَهْمِي) بفتحِ المثنَّاةِ الفوقيَّةِ,
أي: تَسيلُ؛ فإن قولَه فسَقَى دِيارَكَ صوْبُ الربيعِ يُفْهَمُ منه أن
المقصودُ سقاها ما لا يُفسِدُ ولكنَّ الإطلاقَ يُوهِمُ ما هو أعمُّ أو أنه
دعاءٌ عليه بخرابِ الديارِ وفسادِها فأتَى بقولِه غيرَ مفسِدِها دفْعاً
لإيهامِ خلافِ المقصودِ، وسُمِّيَ هذا النوعُ احتراساً؛ لأنَّ فيه
الاحتراسَ والتَّوَقِّيَ من تَوَهُّمِ خلافِ المقصودِ، ويُسَمَّى تكميلاً
أيضًا لتكميلِ المعنى بدفْعِ الإيهامِ عنه).
شموس البراعة للشيخ: أبي الأفضال محمد فضل حق الرامفوري
قال الشيخ أبو الأفضال محمد فضل
حق الرامفوري (ت: 1359هـ): (* أقسامُ الإطنابِ
الإطنابُ يكونُ بأمورٍ كثيرةٍ منها:
ذِكْرُ الخاصِّ بعدَ العامِّ: أيْ على سبيلِ العطْفِ لا مُطْلَقًا، بأنَّ
ما يَذكُرُه من الفائدةِ واعتبارِ المغايَرَةِ إنَّما يَجْرِي فيهِ لا في
ذِكْرِه على سبيلِ البَدَلِيَّةِ وغيرِها مِمَّا ليسَ بعَطْفٍ، نحوَ: (
اجْتَهِدُوا في دروسِكم واللُّغَةِ العربيَّةِ )، فذِكْرُ اللغةِ
العربيَّةِ بعدَ ذِكْرِ الدروسِ ذِكْرُ الخاصِّ بعدَ العامِّ على سبيلِ
العَطْفِ،وفائدتُه التنبيهُ على فَضْلِ الخاصِّ المذكورِ بعدَ العامِّ
ومَزِيَّتِه، كأنَّهُ - لرِفْعَتِه، أيْ لوَصْفِه الذي بهِ حَصَلَ لهُ
الرِّفْعَةُ والْمَزِيَّةُ على سائرِ أفرادِ العامِّ - جِنسٌ آخَرُ مغايِرٌ
لِمَا قَبْلَه، أيْ مغايِرٌ لِجِنْسِ العامِّ المذكورِ قَبْلَه، بحيثُ لا
يَشْمَلُه ذلكَ العامُّ،ولا يُعَمَّمُ حكْمُه منهُ؛ فلذا صَحَّ ذِكْرُه
بعدَ ذلكَ العامِّ على سبيلِ العطْفِ الْمُقْتَضِي للتغايُرِ .
(ومنها )، ذِكْرُ العامِّ بعدَ الخاصِّ:وفائدتُه التنبيهُ على كونِ
الخاصِّ أحَقَّ بالحكْمِ معَ عَدَمِ اختصاصِ هذا الحكْمِ به، كقولِه تعالى
حكايةً عنْ نبيِّه نوحٍ على نبيِّنا وعليهِ السلامُ: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }، فخَصَّ أوَّلًا مَنْ يَتَّصِلُ بهِ لكونِهم أَوْلَى وأَحَقَّ بدعائِه، ثمَّ عَمَّ المؤمنينَ والمؤمناتِ .
(ومنها )، الإيضاحُ بعدَ الإبهامِ: أيْ إيضاحُ شيءٍ بعدَ إبهامِه، وفائدتُه
أنْ يَتَمَكَّنَ في النفسِ فَضْلُ تَمَكُّنٍ ؛ لأنَّ الإشعارَ بهِ إجمالًا
يَقْتَضِي التشوُّقَ لهُ،ومُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ أنَّ الشيءَ إذا جاءَ
بعدَ التَّشَوُّقِ يَقَعُ في النفْسِ فَضْلَ وقوعٍ، ويَتَمَكَّنُ فيها
زيادةَ تَمَكُّنٍ، نحوَ: { أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}، فقولُه تعالى: { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ }، بيانٌ وتفصيلٌ لنِعَمِ اللَّهِ تعالى بعدَ ذِكْرِها إبهامًا وإجمالًا بقولِه تعالى: { أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ }؛
لأنَّ المرادَ ( بما تَعلَمُون النِّعَمَ ) كما يُشْعِرُ بهِ لفظُ
الإمدادِ، فيُفيدُ زيادةَ التمكُّنِ في النفْسِ،والمقامُ يَقْتَضِي ذلكَ
التمكُّنَ لكونِ المقامِ مقامَ تَنبيهِهم على نِعَمِ اللَّهِ
تعالى،وإيقاظِهم عنْ سِنَةِ غَفْلَتِهِم عنها .
(ومنها ) التوشيحُ: وهوَ أنْ يُؤْتَى في آخِرِ الكلامِ بِمُثَنَّى مُفَسَّرٍ باثنينِ، أوْ بِجَمْعٍ مُفَسَّرٍ بأسماءٍ، كقولِه:
أُمْسِي وأُصْبِحُ منْ تَذْكَارِكُم وَصِبًا .... يَرْثِي ليَ الْمُشْفِقَانِ: الأهْلُ والْوَلَدُ
فقولُه: ( الأهلُ والوَلَدُ )، تفسيرٌ وبيانٌ للمُثَنَّى الذي هوَ الْمُشْفِقَانِ .
ومِثالُ الجمْعِ المفَسَّرِ بأسماءٍ كقولِك: ( إنَّ في زيدٍ ثلاثَ خِصَالٍ: الكرَمَ والشجاعةَ والْحِلْمَ ) .
( ومنها )، التَّكْريرُ لغَرَضٍ: وإنَّما قالَ ( لِغَرَضٍ )؛ لأنَّ التَّكرَارَ متى كانَ لغيرِ غَرَضٍ كانَ تطويلًا لا قِسَمًا من الإطنابِ. ثمَّ لَمَّا كانَ التطويلُ ظاهرًا في التَّكرارِ عندَ عدَمِ غرَضٍ قُيِّدَ به، وإلَّا فما ذَكَرَهُ منْ أقسامِ الإطنابِ من الإيضاحِ بعدَ الإبهامِ وغيرِه لا بدَّ في كلٍّ منها منْ غرَضٍ، وإلَّا كانَ تطويلًا، كطولِ الفَصْلِ في قولِه:
وإن امْرَأً دامَتْ مواثيقُ عَهْدِهِ ..... على مِثلِ هذا إنَّهُ لكريمُ
فتَكريرُ إنَّهُ في هذا البيتِ يُطَوِّلُ الفَصْلَ بينَ (امرأً) وخَبَرِه، وهوَ قولُه: ( لكريمُ )، بصفةٍ وهيَ قولُه: { دامَتْ مَوَاثيقُ عَهْدِه على مِثْلِ هذا }.
وكزيادةِ الترغيبِ في العَفْوِ، في قولِه تعالى: { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، فإنَّ تَكرارَ الأمرِ بالعفوِ في قولِه تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا } لزيادةِ الترغيبِ في العفوِ، والتأكيدِ للحَثِّ على امتثالِ هذا الأمرِ .
وكتأكيدِ الإنذارِ، في قولِه تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ }، فالإنذارُ والتخويفُ قولُه تعالى { سَوْفَ تَعْلَمُونَ }، أيْ سوفَ تَعْلَمُونَ ما أنتمْ عليهِ من الخطأِ إذا عَايَنْتُم أهوالَ المحشَرِ، وكلمةُ كَلَّا قَبْلَهُ للرَّدْعِ والزَّجْرِ عن الانهماكِ في الدنيا، وقولُه تعالى: { ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ }، تأكيدٌ للرَّدْعِ والإنذارِ. فعلى هذا لوْ قالَ: كتأكيدِ الرَّدْعِ والإنذارِ، في قولِه تعالى: { كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ }، لكانَ أَنْسَبَ .
(ومنها ) الاعتراضُ، وهوَ تَوَسُّطُ لفظٍ بينَ أجزاءِ جملةٍ أوْ بينَ جملتين مُرْتَبِطَتَيْنِ معنًى، بأنْ تكونَ الثانيةُ بيانًا للأُولى، أوْ تأكيدًا لها، أوْ بَدَلًا منها، أوْ معطوفةً عليها، لغَرَضٍ، كالدُّعاءِ في نحوَ:
إنَّ الثمانينَ وبُلِّغْتَهَا * قدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي، لثِقَلِه بِمُضِيِّ هذه السنَةِ، (إلى تَرْجَمَانِ) بفتْحِ التاءِ والجيمِ، ويقالُ أيضًا بضَمِّ الجيمِ وفتْحِ التاءِ، وهوَ في الأصْلِ مَنْ يُفَسِّرُ لغةً بلغةٍ، لكنَّ المرادَ بهِ هنا مَنْ يُفَسِّرُ بصوتٍ أجْهَرَ من الصوتِ الأوَّلِ ليُسْمَعَ ما قالَ، فقولُـه: (وبُلِّغْتَهَا)، اعتراضٌ بينَ أجزاءِ جملةٍ لغَرَضِ الدعاءِ للمخاطَبِ بطُولِ عُمْرِه،وبلوغِه ثمانينَ سنةً،والواوُ فيهِ واوُ الاعتراضِ .
وكالتنزيهِ للَّهِ سبحانَه، في نحوَ قولِه تعالى: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ }، فقولُه تعالى: سُبْحانَه، جملةٌ مُعْتَرِضَةٌ؛ لأنَّهُ مَصْدَرٌ منصوبٌ بفِعْلٍ مقَدَّرٍ أيْ أُسَبِّحُه تَسبيحًا،وهيَ أيضًا وَقَعَتْ بينَ أجزاءِ جملةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ المرادَ بالجملةِ الواحدةِ مجموعُ الْمُسْنَدِ إليه والْمُسْنَدِ معَ الْمُتَعَلِّقَاتِ والْفَضَلَاتِ ولوْ بالعطْفِ، لا مجموعُ الْمُسْنَدِ إليه والْمُسْنَدِ فقطْ، فقولُه تعالى: { وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ }؛ لكونِه معطوفًا على قولِه تعالى: { لِلَّهِ الْبَنَاتِ }، أيضًا من الْمُتعلَّقاتِ كالمعطوفِ عليه،والجملةُ المعترِضَةُ واقعةٌ بينَ هذينِ المتعاطِفَيْنِ، وفائدةُ الاعتراضِ هنا التنزيهُ للَّهِ تعالى، وهوَ في غايةِ المناسَبَةِ للمَقامِ؛ لأنَّ المقصودَ منْ هذا الكلامِ بيانُ شَناعتِهم في نِسبةِ البناتِ إليه تعالى، ونِسبةِ البنينَ لأنفسِهم، فبيانُ تنزيهِه تعالى وبُعدِه عمَّا أَثْبَتُوا لهُ في أثناءِ الكلامِ تَزْدادُ بهِ الشفاعةُ في هذه النِّسبةِ .
ومِثالُ الاعتراضِ بينَ الجملتينِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ معنًى قولُه تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ }، فإنَّ قولَه تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }، اعتراضٌ بينَ جملتينِ؛ إحداهما قولُه تعالى: { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }، وثانيتُهما قولُه تعالى: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ }، وهما مُتَّصِلَتَانِ معنًى؛ لأنَّ قولَه تعالى: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} بيانٌ لقولِه تعالى: { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } لما فيهِ من الإجمالِ، فإنَّ المكانَ الذي أَمَرَ بإتيانِهنَّ منهُ مُبْهَمٌ، فبَيَّنَ بأنَّهُ موضِعُ الْحَرْثِ بقولِه: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } .
(ومنها ) الإيغالُ : وهوَ في الأصْلِ منْ أَوْغَلَ في البَلَدِ، إذا أَسْرَعَ السيْرَ فيها حتَّى أَبْعَدَ فيها. وفي الاصطلاحِ: خَتْمُ الكلامِ سواءٌ كانَ شِعْرًا أوْ غيرَه بما -أيْ: بلفظٍ، مُفْرَدًا كانَ أوْ جُمْلَةً - يُفِيدُ غَرَضًا لا يَتَوَقَّفُ أصْلُ المعنى عليهِ، بلْ يَتِمُّ أصْلُ المعنى المرادِ بدونِه، وذلكَ الغَرَضُ كالمبالَغَةِ في قولِ الْخَنساءِ في مَدْحِ أخيها صَخْرٍ:
(وإنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ)، أيْ: لتَقْتَدِي، (الْهُدَاةُ)، الناسُ إلى المعالي فكيفَ بالْمُهْتَدِينَ ،(به)، أيْ: بصَخْرٍ، (كأنَّه)، أيْ: صَخْرًا، (عَلَمٌ)، أيْ: جَبَلٌ مرْتَفِعٌ. فهذا القَدْرُ وافٍ بأَصْلِ المقصودِ، أَعْنِي تَحَقُّقَ اقتداءِ الْهُداةِ بهِ بإلحاقِه بالْجَبَلِ المرتَفِعِ الذي هوَ أظْهَرُ المحسوساتِ في الاهتداءِ به. فوَصْفُ العلَمِ بقولِها: ( في رأسِه )، أيْ: في رأسِ ذلكَ العلَمِ، ( نارٌ ) للمبالَغةِ؛
لأنَّ وصْفَ العلَمِ بوجودِ نارٍ على رأسِه أبلَغُ في ظهورِه في الابتداءِ بهِ مِمَّا ليسَ كذلكَ، فَتَنْجَرُّ المبالَغةُ إلى الْمُشَبَّهِ الممدوحِ بالاهتداءِ بهِ .
و( منها ) التذييلُ: وهوَ في الأصلِ جعْلُ الشيءِ ذَيْلًا للشيءِ، وفي الاصطلاحِ: تعقيبُ الجملةِ بأُخرى، أيْ: جعْلُ الجملةِ عَقِبَ جملةٍ أخرى تَشْتَمِلُ على معناها، أيْ: تَشْتَمِلُ تلكَ الجملةُ الثانيةُ الْمُعَقَّبُ بها على معنى الأُولى الْمُعَقَّبَةُ،والمرادُ باشتمالِها على معناها إفادتهُا لِمَا هوَ المقصودُ من الأُولَىولوْ معَ الزيادةِ، لا أنَّها تُفيدُ نفْسَ معنى الأُولى بالمطابَقةِ،وإلَّا كانَ ذلكَ تَكرارًا. تأكيدًا لها، أيْ: لقَصْدِ التأكيدِ والتقويةِ بتلكَ الجملةِ الثانيةِ للأُولَى. وهوَ، أي: التذييلُ، ضَرْبَان ؛ لأنَّهُ إمَّا أنْ يكونَ جاريًا مَجرى الْمَثَلِ، بأنْ يُقْصَدَ بالجملةِ الثانيةِ الْمُذَيَّلِ بها حكْمٌ كُلِّيٌّ يكونُ مُنْفَصِلًا عَمَّا قَبْلَه لاستقلالِ معناهُواستغنائِه عمَّا قَبْلَه، فيكونُ في هذا الوصْفِ مُلْحَقًا بالْمَثَلِ ؛ لأنَّ الْمَثَلَ عبارةٌ عنْ كلامٍ تامٍّ نُقِلَ عنْ أصْلِ استعمالِه لكلِّ ما يُشبِهُ حالَ الاستعمالِ الأَوَّلِ، فشأنُ الْمَثَلِ الاستقلالُ، كقولِه تعالى: { جَاءَ الْحَقُّ }، أي: الإسلامُ، {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ }، أيْ: زالَ الكُفْرُ، { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }، فهذه الجملةُ معَ كونِها مُتَضَمِّنَةً لمعنى الأولى،وهوَ زُهُوقُ الباطلِ، أي اضْمِحْلالُه وذهابُه،ولهذا كانتْ تأكيدًا لها، قدْ قُصِدَ بها حُكْمٌ كُلِّيٌّ لا يَتَوَقَّفُ معناهُ على الأُولى، فَصَدَقَ على هذا القولِ اسمُ هذا الضرْبِ من التذييلِ .
وإمَّا أنْ يكونَ غيرَ جارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ بأنْ لا يَسْتَقِلَّ بإفادةِ الْمُرادِ لعَدَمِ استغنائِه عمَّا قَبْلَه، فلا يكونُ جَارِيًا مَجْرَى الْمَثَلِ؛ لكونِ وصْفِ الْمَثَلِ الاستقلالَ، كقولِه تعالى: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ }، وهذا على تأويلِ أنْ يُجْعَلَ المعنى: وهلْ نُجَازِي ذلكَ الجزاءَ المخصوصَ الذي ذُكِرَ منْ قبلُ،وهوَ إرسالُ سَيْلِ العَرِمِوتبديلُ الْجَنَّتَيْنِ، إلَّا الكَفورَ ؛ لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ متَعَلِّقًا بما قَبْلَه،وهوَ قولُه تعالى: { وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } الآيةَ، فلا يكونُ جَارِيًا مَجْرَى الْمَثَلِ في الاستقلالِ، ولوْ أُوِّلَ على أنْ يُجْعَلَ المعنى: وهلْ نُعَاقِبُ مُطْلَقَ العقابِ إلَّا الكَفورَ، جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ لعَدَمِ توقُّفِ المرادِ حينئذٍ على ما قَبْلَه .
ومنها الاحتراسُ: مِنْ حَرَسَ الشيءَ حَفِظَه،وهوَ أنْ يُؤْتَى في كلامٍ يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ بما، أيْ: قولٍ، يَدْفَعُه، أيْ: يَدْفَعُ ذلكَ الإيهامَ، نحوَ: ( فَسَقَى ديارَكَ غيرَ مُفْسِدِهَا )، حالٌ مُقَدَّمٌ منْ فاعلِ سَقَى،وهوَ صَوْبُ الربيعِ، أيْ: نزولُ المطَرِووقوعُه في الربيعِ،و( دِيمَةٌ ) بكسْرِ الدالِ: المطَرُ المستَرْسِلُ،وأقلُّه ما بَلَغَ ثلُثَ النهارِ والليلِ،وأكثَرُه ما بَلَغَ أُسبوعًا، ( تَهْمِي )، أيْ: تَسِيلُ، منْ هَمَى الماءُ إذا سالَ. فلمَّا كانَ المطَرُ قدْ يُؤَدِّي بدوامِه إلى خَرابِ الدِّيارِ وفسادِها أَمْكَنَ أنْ يَقَعَ في الوَهْمِ أنَّ ذلكَ دعاءٌ على فسادِ الديارِ، فأَتَى بقولِه: ( غيرَ مُفْسِدِهَا )، دفْعًا لذلكَ التَّوَهُّمِ .
( ومنها ) التكميلُ: وهوَ أنْ يُؤْتَى في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ بفَضْلَةٍ، أيْ: ما ليسَ بجملةٍ مُستَقِلَّةٍ ولا رُكْنَ كلامٍ، كالمفعولِ أو المجرورِ أوْ نحوَ ذلكَ، تَزيدُ المعنى التامَّ بدونِها حُسْنًا في الغَرَضِ الْمَسوقِ لهُ الكلامُ، نحوَ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ }، أيْ: معَ حُبِّه واشْتِهَائِه الناشئِ عن الحاجةِ إليه، وذلكَ أَبْلَغُ في الكَرَمِ والتَّنَزُّهِ عن البُخْلِ المذمومِ منْ مُجَرَّدِ إطعامِ الطعامِولوْ كانَ كَرَمًا أيضًا. فَزِيَادَةُ الفَضْلَةِ ههنا،وهوَ قولُه تعالى: { عَلَى حُبِّهِ }، تَزيدُ في مَدْحِ الأبرارِ بالكَرَمِ الذي هوَ الْغَرَضُ الْمَسوقُ لهُ الكلامُ حُسْنًا ومبالَغَةً،وإنْ كانَ أصْلُ المدْحِ يَتِمُّ بدونِها .
وبعضُهم سَمَّى هذا القِسْمَ بالتَّتْمِيمِ،وجَعَلَ التكميلَ نفسَ الاحتراسِ المذكورِ قَبْلَه؛ لتكميلِه المعنى بدَفْعِ خِلافِ المقصودِ عنْهُ، والأمْرُ سَهْلٌ).
شرح دروس البلاغة للشيخ: محمد الحسن الددو الشنقيطي (مفرغ) قال الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي: (ثم أقسام الإطناب كذلك تكون بأمور كثيرة: ليبك يزيد بائع لخصومة ..... ومختبط بما تطيح الطوائح لقد حسنت من قبل فيك المدائح ..... لئن حسنت فيك المرثي ذكرها (ليبك وكيع خيل ليل مغيرة)، (ليبك وكيع) فقيل: ومن يبكيه؟ فقيل: (خيل ليل مغيرة). وأهل البلاغة يقولون: النيل بعد اليأس أبلغ بالنفس،
النيل بعد اليأس أبلغ في النفس، فلما حذفت الفاعل في الجملة الأولى وأنبت
النائب عنه حصل تحسر؛ لأنك تريد أن تعرف الفاعل فنلته بعد التحسر والاشتياق
إليه بالإتيان به فاعلاً في الجملة التالية، فهذا النوع هو من الإطناب؛
لأنه تكرار للأسلوب، لكنه يقصد به ثبات المعلومة في الذهن؛ لأن النيل بعد
اليأس أبلغ في النفس، وذلك مثل قوله تعالى: {أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون} فأمدكم الثانية توكيد للأولى وإيضاح لها، {ما تعلمون} كان أيضا مبهما فبين إبهام {ما تعلمون} بقوله: {بأنعام وبنين وجنات وعيون}، فالأنعام والبنون والجنات والعيون هي ما تعلمون. ومنها التكرير لغرض، فيكرر المذكور أولاً لغرضٍ كطول الفصل كما إذا حال دونه كلام كثير فاحتجنا إلى إعادته، مثل قول الشاعر: على مثل هذا إنه لكريم ..... وإن امرأ دامت مواثيق عهده (وإن امرأ دامت مواثيق عهده) فـ (إن) هنا اسمها امرأ،
ونعت بقوله: (دامت مواثيق عهده على مثل هذا) فطال المبتدأ, فلو جئت بالخبر
فقلت: لكريم لنسي المبتدأ فأعدت (إنه لكريم) أعدت إن واسمها مرة أخرى
تأكيداً وإن امرأ دامت مواثيق عهده ..... على مثل هذا إنه لكريم وكزيادة ترغيب، ونظير هذا ما سبق في سورة يوسف في درس الأمس، فقد قال الله تعالى: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه}، وكزيادة الترغيب في العفو في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله عفور رحيم}، {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا}
فالعفو هو الصفح وهو المغفرة، فأي أمر من هذه الأوامر الثلاثة مغنٍ عن
الآخرين، لكن جاء ذلك في مقام الترغيب، في الصفح والعفو والمغفرة، فكرر ذلك
بالمتعاطفات المترادفات.وكتأكيد الإنذار في قوله تعالى، وهذا أيضا نظير قوله: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا}. وكتأكيد الإنذار في قوله تعالى: {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون}، فالتأكيد هنا يقصد به تأكيد النذارة، والتهديد الشديد، فكرر الكلام من أجل ذلك. ومنها كذلك الاعتراض، أي: مجيء الجملة الاعتراضية لغرض
من أغراض الكلام، فالجملة الاعتراضية تأتي لتقوية الإسناد، فتعترض بين
المبتدأ والخبر، أو بين الفعل والفاعل، أو بين الفاعل والمفعول، أو بين
المضاف والمضاف إليه، وربما تكرر الاعتراض فعطفت الجملة الاعتراضية على
الجملة الاعتراضية، بل ربما دخلت جملة اعتراضية في داخل جملة اعتراضية، فمن
عطف الجملة الاعتراضية على الجملة الاعتراضية قول زهير بن أبي سُلمى: لعمرك والخطوب مغيراتٍ ..... وفي طول المعاشرة التقالي ولكن أم أوفى لا تبالي ..... لقد باليت على فظعن أم أوفى لعمرك
لقد باليت فظعن أم أوفى، فقال والخطوب مغيرات وهي جملة اعتراضية حالت بين
القسم الذي المبتدأ وهو لعمرك وبين جوابه، وفي طول المعاشرة التقالي جملة
اعتراضية أخرى عطفت على الجملة السابقة، ومن مجيء الجملة الاعتراضية في
داخل الجملة الاعتراضية قول الله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}
فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم هذا أصل الكلام، فلا زجر لهم وردٌ
لهم، أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون فجاءت الجملة
الاعتراضية وهي وإنه لقسم عظيم، ثم دخلت جملة اعتراضية في داخل الجملة
الاعتراضية وهي {لو تعلمون} كل ذلك لتقوية هذا القسم بتقوية الإسناد {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم} وهو توسط لفظ بين أجزاء جملة أو بين جملتين مرتبطتين معنى لغرض نحو: إن الثمانين وُبلَّغْتَها ..... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان إن الثمانين قد أحوجت سمعي إلى ترجمان، وبلغتها معناه:
أدعو لك أن تبلغ الثمانين، هذا قاله شيخ كبير بعد أن بلغ الثمانين أو
تجاوزها لأحد خلفاء بني العباس فخاطبه فقال: خاطبه الملك فلم يسمع الشيخ
الكلام فاعتذر إليه فقال: إن الثمانين وبلغتها ..... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وبلغتها
هذه جملة دخلت في داخل الإسناد في داخل الكلام، وأراد بها انتهاز الفرصة
حتى لا يفوته الدعاء للخليفة في مثل هذا المكان فقال: إن الثمانين قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وبلغتها فأدخل الجملة الاعتراضية في داخل الكلام. ومثله قول الله تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون}
معناه ويجعلون لله البنات ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، فأدخل سبحانه؛ لأن
هذا القول الذي قالوه ما يتعلق بالله سبحانه وتعالى أمر عظيم جدا {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداُ () أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولد}، فلذلك جيء بتنزيهه سبحانه تعالى عما زعموا قبل تمام الجملة، فقال: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون}. ومنها كذلك التذييل وهو تعقيب بجملة أخرى, الجملة الأخرى تشتمل على معناها تأكيداً لها. وهذا إما أن يكون جارياً مجرى المثل باستقلال معناه واستغنائه عما قبله كقوله تعالى: [ وقجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ] {إن الباطل كان زهوقا} هذه جملة اعتراضية، لكن ليست معترضة بين ركني الجملة، وإنما جاءت تذييلاً للجملة السابقة في فيلها ونهايتها، وهي مؤكدة لمعناها {وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}. وإما أن يكون غير جارٍ مجرى المثل لعدم استغنائه عما قبله، وذلك مثل قوله تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور}، {وهل نجازي إلا الكفور} جملة مؤكدة لمعنى: {جزيناهم بما كفروا} لكنها غير مستقلة بنفسها؛ لأنه لم يكن ليعرف هذا لولا ذكر الله له هنا {وهل نجازي إلا الكفور} معناه الجزاء البليغ، فلو لم يأت هذا اللفظ في القرآن لكان ظاهر الأسلوب أن الكفور يجازى، وأن الشكور يجازى أيضا، لكن لما قال: {وهل نجازي إلا الكفور}
معناه في الدنيا، فالجزاء الدنيوي يعجل به المكر العاجل للكافرين، فينالون
شؤم ذنوبهم، فالدنيا ليست دار جزاء، فما يُنال فيها كله ليس جزاء على
العمل، فجزاء العمل أخروي، ما ينال فيها إما أن يكون من بركة العمل أو من
شؤمه، إذا كان خيراً فمن بركته، وإذا كان شرا فمن شؤمه، كما قال الله
تعالى: {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم
يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة
أدهى وأمر} فما ينالونه من الجزاء والمصائب في الدنيا {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دراهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد} كل ذلك ليس من جزائهم، جزاؤهم كله مدخر لهم في الآخرة. ومنها الاحتراس، والاحتراس في الأصل اتخاذ الحارس،
احترس بمعنى اتخذ حارساً، والمقصود به التحرس في الكلام من الوقوع في
الخطأ، أو من أن يقع الإنسان في أمر. يمكن أن ينتقد به، وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع ذلك، بما يدفع ذلك، فتحترس من خلاف المقصود، وذلك مثل قول الشاعر: صوب الربيع وديمة تهمي ..... فسقى ديارك غير مفسدها فسقى
ديارك صوب الربيع وديمة تهمي، صوب الربيع فاعل سقى ديارك. والشعراء دائما
يشكون من اندراس الديار وزوال آثارها، والحبيب لا يحب زوال آثار محبوبه،
وهو إذا استسقى للديار فمعناه أنه يريد زوال آثارها، فاستثنى هنا فقال: غير
مفسدها. فسقى ديارك غير مفسدها ..... صوب الربيع وديمة تهمي وهذا خلاف قول غيلان: وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت ..... أبكي حوله وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه ..... تكلمني أحجاره وملاعبه وكذلك قوله: لا زال منهلا بجرعائك القطر ..... ستذهبون لن يبقى لها أية بقية).
منها ذكر الخاص بعد ذكر العام، وذلك يفيد مزية في الخاص كقول الله تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل}
فجبريل من ملائكة الله ومن رسل الله، ومع ذلك عُطف على الملائكة والرسل
وهو أحدهم، فهذا من عطف الخاص على العام، وهو يفيد مزية في الخاص، فجبريل
من الملائكة ومن الرسل {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس} وكذلك قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} فقوله: {ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} كل هؤلاء من النبيين، فهذا من عطف الخاص على العام الذي يفيد مزية في الخاص.
وكذلك قوله تعالى: {الملائكة والروح}، {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر}
الملائكة وعطف عليهم الروح وهو روح القدس، وهو جبريل، فهو أحدهم ولكن عطفه
عليهم يقتضي تشريفاً له هو، فذكر الخاص بعد ذكر العام تشريف له.
وكذلك قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}
فالصلاة الوسطى هي من الصلوات, لكن عطفها على الصلوات يقتضي مزية خاصة
فيها هي نحو: اجتهدوا في دروسكم واللغة والعربية، اللغة العربية عطفت على
الدروس وما هي إلا منها. وفائدته التنبيه على فضل الخاص كأنه لرفعته جنس
آخر مغاير لما قبله.
ومنها كذلك ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنًا وللمؤمنين والمؤمنات}, فهو ووالداه ومن دخل بيته كلهم من المؤمنين والمؤمنات، لكن عطف العام على الخاص أيضا يفيد مزية في الخاص, كأنه جنس آخر مستقل.
ومنها أيضا الإيضاح بعد الإيهام، كما إذا كان الكلام ورد أولاً بصيغة الاختصار، ثم ورد بعده ما يبينه ويوضحه، كقول الله تعالى: {يُسَبِّحُ له فيها بالغدو والآصال رجال} فأصل الكلام {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يُسَبَّحُ له فيها بالغدو والآصال} وهذه قراءة ابن كثير، فيعرض سؤال وهو من يسبح له فيها؟
فتقول: {يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} فقراءة ابن كثير {يُسَبَّحُ له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} فنائب {يسبح} هو {له} الجار والمجرور هو نائب {يسبح}، و{رجال} فاعل فعل محذوف تقديره {يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال}.
ونظير هذا قول الشاعر:
شرح دروس البلاغة الكبرى للدكتور محمد بن علي الصامل (مفرغ)
القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فقال المؤلفون رحمهم الله تعالى:
أقسام الإطناب:
الإطناب يكون بأمور كثيرة:
منها: ذكر الخاص بعد العام، نحو: (اجتهدوا في دروسكم واللغة العربية).
وفائدته: التنبيه على فضل الخاص، كأنه لرفعته جنسٌ آخر مغاير لما قبله).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى وسلم على رسوله محمد بن عبد الله... وبعـد:
بدأ المؤلفون بذكر أقسام الإطناب ولم يشيروا إلى تعريفه ربما
اعتماداً على ما ورد في بداية الباب من الحديث عن الإيجاز والإطناب
والمساواة، وكون هذه التقسيمات الثلاثة تقسيماً للكلام من حيث العلاقة بين
الصيغة التي ينطق بها الكلام والمعنى الذي يدل عليه، ويتم ذلك بتجديد عدد
مفردات الكلام وما يقابلها من المعاني فإذا كان عدد المفردات أقل من عدد
المعاني يكون إيجازاً، وإن كان الكلام أكثر من الألفاظ أكثر من المعاني
يكون من الإطناب، ولابد من الإشارة هنا إلى أن المسألة ليست فقط من حيث
الكم وإنما لابد أن يتنبه إلى أن الإيجاز لابد أن يكون التعبير بتلك
الألفاظ القليلة عن المعاني الكثيرة تعبيراً وافياً، ولذلك شرط التعبير
الوافي في الإيجاز يقابله شرط آخر في تعريف الإطناب، وهو وإن زادت الألفاظ
فيه عن المعاني إلا أن هذه الزيادة لابد أن تقيد لأنها الفائدة حتى يفرق
بين الإطناب والتطويل، التطويل الذي لا تتحقق فيه الفائدة.
وربما أشير إلى مسألة الفرق بين ما يذكر بعنوان الأقسام أو
بعنوان الصورة، الحق أن الأقسام الجزئيات المتفرعة عن أصل واحد لا زيادة
على هذه الجزئيات فتكون أقسام له.
وأما ما ورد عن الإطناب فالحق أنه أقرب إلى التسمية بالصور
لأنها صور متعددة لا يمكن أن تحصر وليس الإطناب قاصراً على ما ذكر ولهذا
ليست أقساماً وإنما هي صور لهذا اللون من الأساليب.
إذا كان الأمر كذلك فمن صور الإطناب:
ما يسمى ذكر الخاص بعد العام، ذكر الخاص بعد العام، يجتمع أمران أحدهما
يدخل في الآخر، يكون الأول عاماً ثم يذكر الخاص بعده وهو في مثال المؤلفين
رحمهم الله: (اجتهدوا في دروسكم واللغة العربية). يلحظ أن (في دروسكم)
شاملة للمقررات كلها ثم أفرد اللغة العربية بعد لك مع أنها داخلة ضمن
المقررات المطلوبة في تلك الدروس، والسبب في هذا هو الاهتمام والعناية بهذا
الأمر الخاص لميزته ولكونه ينبغي التنويه بشأنه، والحق أن هذا الأمر
مستفادٌ من العطف؛ لان الواو حينما جاءت بين العام (دروسكم) والخاص (اللغة
العربية) اقتضت كما هي طبيعة الواو أن تكون مفيدة للاشتراك والتغاير، كأن
مسألة التغاير أن اللغة العربية تغاير الدروس مع أنها جزء من هذه الدروس
لما تتميز به من خصيصة أراد المتكلم أن ينوه بشأنها، وهذا وارد في كتاب
الله كثيراً، كما في قوله عز وجل: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل.. }، فجبريل عليه السلام داخل في الملائكة ومع ذلك أفرد، {تنزل الملائكة والروح فيها..}
كذلك الروح داخل في الملائكة. وهذا الباب كبير والغرض أن الإطناب تتحقق من
مجيء عدد المفردات أكثر من المعاني لأن (اجتهدوا في دروسكم) شاملة لكل
الدروس بما فيها اللغة العربية، فذكر اللغة العربية مع أنها كانت داخلة
للفائدة التي أشير إليها).
القارئ: (ومنها ذكر العام بعد الخاص، كقوله تعالى: {رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات} ).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (وهذا هو عكس الصورة الأولى: ذكر العام بعد الخاص، ومثاله قول الله عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام: {رب اغفر لي} يلحظ هنا {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات}.
أولاً: نوح عليه السلام ذكر نفسه {رب اغفر لي} ثم {لوالدي} أقرب الناس إليه، ثم بعد ذلك {ولمن دخل بيتي مؤمناً} سواء كان بيته أو مسجده أو سفينته على ما قيل أيضاً مقيد وليس لكل قال: {ولمن دخل بيتي مؤمناً} ثم لعامة المؤمنين به والمؤمنات، من آمنوا برسالته عليه السلام.
فيلحظ هنا أن الخاص جاء أولاً ثم بعد ذلك للعام، فنوح عليه السالم
ووالداه داخلان في المؤمنين والمؤمنات، ومع ذلك لم يقتصر الأمر، وهذا لون
وإن لم يذكر المؤلفون الفائدة منه، لأن الفائدة العامة من الإطناب هي
التوكيد، فكل ما ذكر الشيء مرتين فهو عبارة عن توكيد له. ولكن هذه قضية
عامة تصلح لكل أمثلة الإطناب لكن لكل صورة فائدة خاصة قد تذكر وقد تغفل،
فهنا يظهر والله أعلم أن الغرض هو ما يعرف بالترقي ذكر الخاص ثم الذي يأتي
بعده وهكذا. وأيضاً من الأشياء التي يمكن أن تذكر فائدة لهذا لهذه الصورة
(ذكر العام بعد الخاص): التنبه على أن الخاص أحق بالحكم، فنوح عليه السلام
أولاً ثم والداه ثم من دخل بيته مؤمناً وهكذا مما يدخل كما ذكرت في مسألة
الترقي).
القارئ: (ومنها الإيضاح بعد الإبهام، نحو: {أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعامٍ وبنين}).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (الإيضاح بعد الإبهام، لون من
الإطناب أو صورة من صور الإطناب، وقد يقال أيضاً فيما يحقق هذه الصورة
ولكن ليس بهذا الأمر، لأن كلمة الإبهام لا يصح في وصف بعض ما يرد في كتاب
الله عز وجل وإنما يمكن أن يقال التفصيل بعد الإجمال، التفصيل بعد الإجمال،
لأن { أمدكم بما تعلمون } لا نقول: مبهم، وإنما يكمن نقول: هذا مجمل، وهذا لون من الأدب مع كتاب الله جل وعلا.
ويلحظ أن المثال: {أمدكم بما تعلمون} ما الذي يعلم هنا؟ سواء كان مجملاً كما أشرت أو مبهماً كما أشار المؤلفون، وهو إبهام موضح تزول الشبهة، ثم جاء بعده: {أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون} هذا الذي يعلمونه هو الأشياء الأربعة التي ذكرت الأنعام والبنين والجنات والعيون. إذاً ورد مرة على سبيل الإجمال في {تعلمون}
ثم على سبيل التفصيل بما ورد من أمور أربعة، إذاً ذكر الشيء مرتين مرة على
سبيل الإجمال تتشوق النفس إلى معرفة ما يدخل في هذا الإجمال، فإذا ذكرت
تفصيلاته يكون حينئذٍِ أدعى للثبات في النفس والاستقرار بها، ويقولون إنه
تمكين الموضوع في النفس أيما تمكن لمجيئه بصورتين مختلفتين).
القارئ: (ومنها التوسيع، وهو أن يؤتى في آخر الكلام بمثنى مفسر باثنين كقوله:
أمســي وأصــبـح مـن تـذكاركم وصـباً يرثي لي المشفقان: الأهل والولد).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (وهذا التوسع ظاهرة بديعية
رصدها البلاغيون المتأخرون بالذات، وهو كما أشار المفسرون: لون من الأساليب
يقتضي مثنى مفسر يفسّر هذا المثنى في آخر البيت، وقد اهتم بهذا اللون
البديعيون أمثال: أبي بلال العسكري، ثم احتفل به احتفالاً ابن أبي الإصبع
المصري في كتاب (تحرير التمييز) و (بديع القرآن)، وذكر لذلك أمثلة كثيرة
فكلمة المشفقان في رأي الشاعر هنا: هي الأهل والولد؛ لأنه ربما يكون
المشفقان عند غير الشاعر يعني هاتين الكلمتين (الأهل والولد) ربما يكون
شيئاً آخر غيره.
وهذا لون أيضاً من الإطناب؛ لأن الأهل والولد) هي داخلة في
المشفقان فكأنه لون من ذكر المعنى مرتين، على سبيل الإجمال بالتثنية، ومرة
على سبيل التفصيل فهو قريب مما ورد قبل قليل).
القارئ: (ومنها التكرار لغرض:
- كطول الفصل في قـولـه :
وإن امــرئ دامـــت مـواثــيـق عـهده على مثل هذا إنه لكريم).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (اشتراط الغرض في التكرير
ينسحب أيضاً على ما ذكر من بقية الصور، ليس الغرض في التكرير فحسب، ولكن
لأن التكرير يخشى أن يكون لغير غرض فلا تتحقق الفائدة منه ونص المؤلفون
رحمهم الله على هذا، وقالوا: التكرير يأتي لطول الفصل، وطول الفصل قد ينسي
يعني ما يعبر عنه بالضمير، لأن الضمير يحل محل الاسم فلا يُحتاج إلى
الإعادة ولكن طول الفصل ربما ألبس في إدراك مرجع الضمير، ولهذا حينما يقال:
وإن امــرئ دامـــت مـواثـيـق عـهـده على مثل هذا (الأصل أن
يقول: كريم لكريم مباشرة ولكنه قال إنه لكريم) حتى يربط هذا الخبر بمبتدأه
وهو تكرار لـ (وإن امرئ)، ولذلك مع أن الفصل عندنا هنا ليس طويلاً وإنما
الطول ينسي في هذا الجانب، والطول قد يظهر في بعض المواضع يفصل بين المبتدأ
والخبر بثلاثة أسطر أو أربعة، وهذا يرد له نماذج في الكلام الفصيح سواءً
كان في كتاب الله جل وعلا أو في أساليب العلماء وهذا يظهر عند البلاغيين في
أسلوب عبد القاهر الجرجاني في كتابين: "دلائل الإعجاز " و " أسرار البلاغة
" فهو يكثر من الإطالة والفصل بين المتلازمين كالمبتدأ والخبر).
القارئ: (وكزيادة الترغيب في العفو في قوله تعالى: {وإن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فأحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} ).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (عدّ المؤلفون هذا كذلك من أغراض
التكرير، والحق إن التكرير إما أن يكون بعين اللفظ وهو الشائع عند
البلاغيين أو يكون بلفظ مرادف، وهذا ما ورد هنا في هذا الشاهد، لأغراض
الزيادة والترغيب في العفو، لأن الله عز وجل حين قال: {إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فأحذروهم وإن تعفو }
ثم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فالعفو والصفح والمغفرة تؤدي إلى معنى واحد
وهو ترك الذنب وعدم المعاقبة عليه، فكان أحد هذه الألفاظ مغنياً ولكن
للترغيب جاء بعبارات مختلفة، فالعفو والصفح والمغفرة، وأتصور هنا لكل واحد
من هذه الألفاظ دلالة خاصة، فأولاً: تبدأ مرحلة العفو، ثم قد يعفو ويطالب
بحقه، قد يعفو فيف جانب ويطالب بحقه في جانب، ثم يأتي الصفح فالصفح أيضاً
ترك المطالبة بالحق، والمغفرة وهي إزالة الأمر من النفس تماماً، فكأن هذه
الألفاظ لم تتكرر لأنها تؤدي معنى واحد، لا وإنما مع أنها تدور في فلك معنى
واحد يحمل كل واحدٍ منها معنىً خاصاً مستقلاً وفي النهاية المؤدى هو
الترغيب في هذه المعاني المشار إليها).
القارئ: (وكتأكيد الإنذار، في قوله تعالى: {كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون} ).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (يلحظ هذه الكلمات الثلاث
(كلا سوف تعلمون) هذه تكررت مرتين وفصل بينها بـ (ثم)، إذاً والغرض من
الكلمة هذا التكرار بعينه هو تكرار للفظ بألفاظ مشابهة لم تتغير هذه
الألفاظ، إذا ً كان الغرض من المرة الأولى الإنذار، فيكون ذكرها مرة ثانية
هو تأكيد الإنذار؛ لأن التكرار لون من التأكيد، سواء كان في الدراسات
النحوية (التأكيد اللفظي أو غيره) من أنواع التأكيد، لكن الغرض من تكرار
اللفظ من تكرار الكلام بلفظه أو بمعناه هو لون من ألوان التوكيد، فإذا كان
الغرض منه من ذكره في المرة الأولى هو الإنذار فيكون التأكيد للإنذار هو
الغرض من ذكره مرة ثانية).
القارئ: (ومنها: الاعتراض: وهو توسط لفظ بين أجزاء الجملة أو بين جملتين مرتبطتين معنىً لغرض، نحو:
إن الثـمــانــيــن وبــلـغتـــها قد أحـوجت سمعي إلى ترجمان).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (الصحيح أن: (إن الثمانين
وبُلِّغتَها) حتى يكون اعتراضاً؛ لأن البيت: (إن الثمانين قد أحوجت سمعي
إلى ترجمان)، لكن حين قال: (إن الثمانين وبلّغتها أية المخاطب)، يعني بلغك
الثمانين كما بلغني إياها، فهذا اعتراض لأن الجملة يعني يكمل معناها بإسقاط
الكلمة المعترضة والجملة المعترضة، وهذا عند البلاغيين أسماء كثيرة
باختلافات متعددة: قد يسمى الاعتراض قد يسمى الاحتراس، في بناء على ما
يضعونه من فروقات يسيرة بين هذه وذلك، وبعضهم يسميه الحشو المفيد، كما قال
أبو الطيب في مدحه لكافور الإخشيدي:
وتـحــتقـر الدنيــا احتــقـار مجــرب يرى كل ما فيها – وحاشاك – فانيا
فكلمة (وحاشاك) مشابهة لـ (وبلغتها) في بيت السعدي الذي مر آنفاً،
والغرض كما ورد عند بعض البلاغيين من كلمة (وحاشاك) وكلمة (وبلغتها) أنها
مع أنها في ظاهرها حشو في الكلام لكنه حشو مفيد، أو كما أطلق الصاحب ابن
عباد أو العكبري: أنه حشو منتق وسكر أو حشو لوزنيج كما وصفه الصاحب ابن
عباد وهو الحشو الحلو واللذيذ في البيت فهو يضيف معنى جديد فيه دعاء
للمخاطب).
القارئ: (ونحو قوله تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون}).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هذا مثال للاعتراض كما قاله،
لأن الآية: (ويجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون) ولكن كلمة (سبحانه) جاءت
تنزيهاً لله جل وعلا عما ادعاه هؤلاء لله عز وجل وهذا داخل أيضاً في
الاعتراض أو الاحتراس، لكن الاحتراس قلت يعني لا يعني أن الاعتراض هو
الاحتراس، بل هناك فروق بين الاحتراس والاعتراض، ولعل الاحتراس سيأتي مثاله
بعد قليل إن شاء الله).
القارئ: (ومنها الإيغال، وهو ختم الكلام بما يفيد غرضاً يتم المعنى بدونه، كالمبالغة في قول الخنساء:
وإن صـخــراً لتـأتــم الهــداة بـــه كأنه علم في رأسه نار)
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (الإيغال صورة من صور
الإطناب، ومفهومه أن يختم الكلام بما يفيد غرضاً يتم المعنى بدونه، يعني
كأن المعنى ينقسم في هذه الحالة إلى قسمين، تمام المعنى ثم الزيادة على هذا
التمام فقول الخنساء: (وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم (كأنه جبل في
اقتداء واهتمام واهتداء به، لكن أضافت (في رأسه نار) هذه زيادة على وضوح
هذا الجبل. إذا كان الجبل بارتفاعه واضحاً للناس، فإذا كان في رأسه نار
فحينئذٍ يكون وضوحه أكثر، فهذا المعنى كان تاماً في الأول، لكن بعد إضافة
(في رأسه نار) زاد المعنى على ما كان حين الاقتصار على كلمة (كأنه علم)
فحسب، ولذلك جعل البلاغيون هذا اللون يسمى (الإيغال) لأنه فيه زيادة واضحة
في تأدية المعنى).
القارئ: (ومنها التذييـل، وهو تعقيب جملة بأخرى تشمل على معناها تأكيداً لها، وهو:
- إنا أن يكون جارياً مجرى المثل لاستقلال معناه، واستغنائه عما قبله، كقوله تعالى: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} ).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (التذييل، هو ذكر الشيء في الآخر، هذا هو المعنى، ومعناه الاصطلاحي: تعقيب الجملة بأخرى تشمل على معناها تأكيداً لها.
إذا برد كلمتان، الكلمة الثانية هي التي تكون شاهداً على
التذييل، لأن الكلمة الأولى هي الأصل أن ترد، فإذا جاءت الكلمة الثانية
مشتملة على الكلمة الأولى أو الجملة الأولى، فإما أن تكون هذه الجملة
الثانية جارية مجرى المثل وهذا هو الصنف الأول من أصناف التذييل، مثل ما
أورد المؤلفون في قول الله جل وعلا: {جاء الحق وزهق الباطل} هذا خبر عن هذا الموضوع {جاء الحق وزهق الباطل}، ثم جاءت الجملة الثانية {إن الباطل كان زهوقاً} جارية مجرى المثل صارت تمثل الشق الأول من شق التذييل، ولأنه يمكن أيضاً أن تستخدم عبارة: {إن الباطل كان زهوقاً} بمعزل
عن الجملة الأولى وتؤدي معنىً مفهوماً للناس، أما إذا كان الجملة الثانية
لا تستغنى عون الجملة الأولى فهذا هو الشق الثاني كما سنعرف بعد قليل).
القارئ: (وإما أن يكون غير جارٍ مجرى المثل لعدم استغنائه عما قبله، كقوله تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور} ).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: ( {ذلك جزيناهم بما كفروا} هذا معنى، ثم {وهل نجازي إلا الكفور}
معنىً مؤكد للمعنى الأول، وهو يدور في فلكه، إذاً جملتان ويعني يصح أن
يطلق عليهما على الثانية أنها جاءت تذييلاً للأولى، ولكن لكون الثانية: {وهل نجازي إلا الكفور} لا تستقل بالذكر عن الجملة قالوا غير جارٍ مجرى المثل، ولهذا كان من الصنف الثاني من التذييل).
القارئ: (ومنها: الاحتراس، وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه، نحو:
فنســقــى ديــارك غيــر مفـســدها صوب الربيع وديمة تهمي).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هنا الاحتراس مشابه
للاعتراض، ولكن الفرق بينهما أن الاحتراس هو دفع فهم خلاف المقصود، لأنه قد
يظن في العبارة دون تلك العبارة التي اعترضت فهم غير المقصود وجاءت
العبارة لتزيل هذا الظن، ولذلك هي جاءت لتحترس من فهم مخالف لما أراده
المتكلم. وقول الشاعر:
فنســقــى ديــارك غيــر مفـســدها صوب الربيع وديمة تهمي
فكلمة (غير مفسدها) هنا احتراس لهذا المطر الذي طلبه الشاعر لديار من
يتحدث عنها، فهذا المطر مع أن كلمة (سقى) في بداية البيت تدل على هذا
المعنى، لكن (غير مفسدها) لأنه يتمنى أن يكون مطراً بمواصفات خاصة لا يزيد
فيغرق ولا ينقص فلا يحقق يعني الغرض، فكلمة (غير مفسدها) استدراك أو احتراس
من إغراق الديار بالمطر الغزير).
القارئ: (ومنها التكميل، وهو أن يؤتى بفضلةٍ تزيد على المعنى حسناً، نحو: {ويطعمون الطعام على حبه}، أي: مع حبه، وذلك أبلغ في الكرم).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (وهذا من الزيادات التي تدخل
في صور الإطناب وهو التكميل، وهو عند البلاغيين: أن يؤتى بفضلة، (فضلة): هي
ما يدخل في المتعلقات ليست ركناً في الجملة وإنما هي إضافة صفة أو جار
ومجرور، ومثلوا له بقوله عز وجل: {ويطعمون الطعام} هذا هو المعنى {ويطعمون الطعام}، لكن{على حبه}
هذه زيادة جاءت لتنبيه أن الإطعام لم يكن لشيء نتخلص من شيء كانوا لا
يرغبون به، وإنما يطعمون الطعام على محبتهم لهذا الطعام، وهذا فيه تكميل
للمعنى وزيادة حسنه وزيادة في المعنى التي تكشف عن أن هذا الإطعام لم يكن
للتخلص من شيء لا يرغبون فيه، وإنما هو إنفاق وإطعام لشيء يحبونه، وكون
الإنسان يخرج شيئاً يحبه بلا شك إلى أنه أدعى للتمدح من إخراج الشيء الذي
لا يحبه، لأن إخراج الذي لا يحبه هو يتوافق مع طبيعة الإنسان. أما إخراجه
لشيء يحبه فهو يخالف الرغبة البشرية ومخالفة الرغبة في مثل هذا الجانب مما
يمدح به الإنسان).
الكشاف التحليلي عناصر الدرس: يَرْثِي ليَ المشْفِقَانِ: الأهْلُ والوَلَدُ
· - أقسام الإطناب
§ - القسم الأول:ذكر الخاص بعد العام، ومثاله:اجْتَهِدُوا في دروسِكم واللغةِ العربيَّةِ
° - المقصود بالخاص هنا الفرد، وبالعام المتعدد؛ أي على سبيل العطف لا الوصف أو الإبدال
° - فائدة عطف الخاص على العام التنبيه على فضل الخاص كأنه لرفعته جنس آخر مغاير للعام
- - قولهم (لرفعته) للأغلبية، وإلا فقد يكون امتياز خسة نحوُ: لَعنَ اللهُ الكافرين وأبا جهْلٍ.
§ - القسم الثاني: ذكْرُ العامِّ بعدَ الخاصِّ، كقولِه تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}
° - فائدة ذكر العام بعد الخاص التنبيه على كون الخاص أحق بالحكم مع عدم الاختصاص به
§ - القسم الثالث: الإيضاحُ بعدَ الإبهامِ، نحوُ: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}.
° - فوائد الإيضاح بعد الإبهام
- - إما إدراك السامع ذلك الشيءَ في صورتين مختلِفتين بالإبهامِ والإيضاح
- - وإما تَمَكُّنُ ذلك الشيءِ الموضَّحِ بعد إبهامِه؛
- - وإما كمالُ لذَّةِ العلْمِ به؛
§ - القسم الرابع: التوشيح، ومثاله:
° - الغرض الأول: طول الفصل، في قولِه:
وإنَّ امرأً دامَتْ مواثيقُ عهْدِه * على مِثْلِ هذا إنَّهُ لكريمُ
° - الغرض الثاني: زيادةِ الترغيبِ في العَفْوِ، في قولِه تعالى: {إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ}
° - الغرض الثالث:تأكيد الإنذار:في قولِه تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
- - احترز بقوله:(التكرير لغرض) من التطويل إذ هو ليس من الإطناب؛ ولأن التطويل ظاهر في التكرار عند عدم الغرض
- لو قال المؤلف:(تأكيد الردع والإنذار) لكان أنسب لصورة الآية
§ - القسم السادس: الاعتراض، ومثاله: ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون
° - تعريف الاعتراض: توسط لفظ بين أجزاء جملة أو بين جملتين مرتبطتين معنى لغرض
° - محترزات التعريف
- ومِثالُ الاعتراضِ بينَ الجملتينِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ معنًى قولُه تعالى: {فَأْتُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}
§ - القسم السابع: الإيغال، ومثاله:
وإنَّ صَخْرًا لتَأَتَمُّ الْهُداةُ بهِ * كأنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِه نارُ
§ - القسم الثامن: التذييل، وهو نوعان:فسقى ديارك غير مفسدها * صوب الربيع وديمة تهمي
° في الأصل اتخاذ الحارس، والمقصود هنا: أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع ذلك- معنى الترجمان