9 Oct 2022
الدرس السادس: من بعث الرجيع إلى غزوة بني قريظة
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (بعث الرجيع
وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شهر صفر وهو آخر السّنة الثّالثة من الهجرة نفر من عضل والقارة وهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، فذكروا له أنهم قد أسلموا ورغبوا أن يبعث معهم نفرا من المسلمين يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في الدّين.
فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم ستّة رجال: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير اللّيثيّ، وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، وخبيب بن عدي وهما من بني عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر، وأمّر عليهم مرثد بن أبي مرثد.
فنهضوا مع القوم حتّى إذا صاروا بالرجيع وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز استصرخوا عليهم هذيلا، وغدروا بهم. فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلّا الرّجال قد غشوهم وبأيديهم السيوف. فأخذ المسلمون سيوفهم ليقاتلوهم، فأمنوهم، وأخبروهم أنهم لا أرب لهم في قتلهم وإنّما يريدون أن يصيبوا بهم فداء من أهل مكّة.
فأما مرثد بن أبي مرثد وعاصم بن ثابت وخالد بن البكير فأبوا أن يقبلوا منهم قولهم ذلك، وقالوا: والله لا قبلنا لمشركٍ عهدا أبدا، وقاتلوا حتّى قتلوا، رحمة الله عليهم. وكان عاصم بن ثابت قد قتل يوم أحد فتيين من بني عبد الدّار أخوين أمهما سلافة بنت سعد بن شهيد، فنذرت إن الله أمكنها من رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر. فرامت بنو هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة، فأرسل الله عز وجل دونه الدّبر فحمته، فقالوا إن الدّبر سيذهب في اللّيل، فإذا جاء اللّيل أخذناه. فلمّا جاء اللّيل أرسل الله عز وجل سيلا لم ير مثله، فحمله، ولم يصلوا إلى جثته ولا إلى رأسه. وكان قد نذر أن يمس مشركًا أبدا. فأبر الله عز وجل قسمه، ولم يروه، ولا وصلوا إلى شيء منه، ولا عرفوا له مسقطًا. وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فأعطوا بأيديهم، فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكّة. فلمّا صاروا بمر الظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثمّ أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، ورموه بالحجارة حتّى قتلوه، فقبره بمر الظهران.
وحملوا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فباعوهما بمكّة. وقد ذكرنا خبر خبيب وما لقي بمكّة عند ذكر اسمه في كتاب الصّحابة، وصلب خبيب -رحمه الله- بالتّنعيم، وهو القائل حين قدم ليصلب:
ولست أبالي حين أقتل مسلما... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ... يبارك على أوصال شلو ممزع
في أبيات قد ذكرتها عند ذكره في كتاب الصّحابة. وهو أول من سنّ الرّكعتين عند القتل. وقال له أبو سفيان بن حرب: أيسرّك يا خبيب أن محمّدًا عندنا بمكّة تضرب عنقه وأنّك سالم في أهلك؟ فقال: والله ما يسرني أنّي سالم في أهلي وأن يصيب محمّدًا شوكة تؤذيه. وابتاع زيد بن الدثنة صفوان بن أميّة، فقتله بأبيه). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 159-161]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (بعث بئر معونة
أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمّد بن عليٍّ رحمه الله قال: حدّثنا الحسن بن إسماعيل، قال: حدثنا إسماعيل عبد الملك بن بجيرٍ، قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الصّائغ، قال: حدّثنا سنيدٌ، قال: حدّثنا إسماعيل بن جعفرٍ، عن حميدٍ بن أنسٍ، قال: كان شبابٌ من الأنصار يسمعون القرآن ناحيةً من المدينة يحسب أهلوهم أنّهم في المسجد ويحسب أهل المسجد أنّهم في أهليهم، فيصلّون من اللّيل حتّى إذا قارب الصّبح احتطبوا الحطب واستعذبوا الماء فوضعوه على أبواب حجر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال: فبعثهم جميعًا إلى بئر معونة، فاستشهدوا. فدعا النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على قتلتهم أيّامًا.
قال سنيدٌ: وحدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريح، عن عكرمة، قال:
بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنذر بن عمرٍو الأنصاريّ أحد بني النّجّار -وهو أحد النّقباء ليلة العقبة- في ثلاثين راكبًا من المهاجرين والأنصار، فخرجوا فلقوا عامر بن الطّفيل بن مالك بن جعفر بن كلابٍ على بئر معونة وهي من مياه بني عامرٍ، فاقتتلوا، فقتل المنذر بن عمرٍو وأصحابه إلا ثلاثة من نفرٍ كانوا في طلب ضالّةٍ لهم، فلم يرعهم إلا الطّير تحوم في السّماء يسقط من خراطيمها علق الدّم، فقال أحد النّفر: قتل أصحابنا، والرّحمن. وذكر سنيدٌ تمام الخبر في ذلك وفي بني النّضير، وسياق ابن إسحاق لخبرهم أحسن وأبين، قال ابن إسحاق:
وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة بقيّة شوّال وذا القعدة وذا الحجّة والمحرم، ثمّ بعث أصحاب بئر معونة في صفر في آخر تمام السّنة الثّالثة من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أحد. وكان سبب ذلك أن أبا براء الكلابي من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ويعرف بملاعب الأسنة واسمه عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمّد لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك. فقال عليه السّلام: "إنّي أخشى عليهم أهل نجد"، فقال أبو براء: أنا لهم جار. فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنذر بن عمرٍو السّاعديّ -وهو الّذي يعرف بالمعنق ليموت، لقبٌ غلب عليه، والأكثر يقولون: أعنق ليموت- في أربعين رجلا من المسلمين، وقد قيل في سبعين رجلا من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمّة، وحرام بن ملحان -أخو أم سليم وأم حرام- وعروة بن أسماء بن الصّلت السّلميّ، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصّديق. وأمّر على جميعهم المنذر بن عمرو.
فنهضوا حتّى نزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم وهي إلى حرّة بني سليم أقرب ثمّ بعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله إلى عدو الله عامر بن الطّفيل. فلمّا أتاه لم ينظر في كتابه، حتّى عدا عليه فقتله. ثمّ استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا. فاستصرخ قبائل من بني سليم: عصية ورعلًا وذكوان، فأجابوه إلى ذلك. فخرجوا حتّى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم. فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم ثمّ قاتلوا، حتّى قتلوا، عن آخرهم إلّا كعب بن زيد أخا بني النجار، فإنّهم تركوه وبه رمق. وارتثّ من بين القتلى وعاش حتّى قتل يوم الخندق شهيدا رحمه الله.
وكان في سرح القوم عمرو بن أميّة الضمري ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف وهو المنذر بن محمّد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح، فنظر الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل الّتي أصابتهم واقفة. فقال: أرى أن نلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنخبره الخبر. فقال الأنصاريّ: ما كنت لأرغب عن موطن قتل في المنذر بن عمرو ثمّ قاتل حتّى قتل، وأخذوا عمرو بن أميّة أسيرًا. فلمّا أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطّفيل وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنّها كانت على أمه. وخرج عمرو بن أميّة حتّى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر -وقيل من بني سليم- حتّى نزلا معه في ظلّ هو فيه، وكان معهما عقد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يعلم به عمرو بن أميّة. وكان قد سألهما حين نزلا: ممّن أنتما؟ قالا: من بني عامر. فأمهلهما، حتّى إذا ناما عدا عليهما، فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب منهما ثأره من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا قدم عمرو بن أميّة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر قال: "لقد قتلت قتيلين كان لهما منّي جوارٌ، لأدينّهما" هذا عمل أبي براءٍ، قد كنت لهذا كارهًا متخوّفًا.
فبلغ أبا براء ما صنع عامر بن الطّفيل فشق عليه إخفاره إيّاه. وقال حسان بن ثابت يحرض أبا براء على بن الطّفيل:
بني أم البنين ألم يرعكم... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكّم عامر بأبي براء... ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي... فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء... وخالك ماجد حكم بن سعد
أم البنين هي أم أبي براء من بني عامر بن صعصعة. فحمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطّفيل، فطعنه بالرّمح، فوقع في فخذه، فأشواه، ووقع عن فرسه. فقال: هذا عمل أبي براء، إن مت فدمي لعمّي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 161-164]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة [بني] النّضير
وكان سبب غزوة بني النّضير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قال لعمرو بن أميّة: "لقد قتلت قتيلين لأدينّهما" خرج إلى بني النّضير مستعينا بهم في دية ذينك القتيلين. فلمّا كلمهم قالوا: نعم يا أبا القاسم اجلس حتّى تطعم وترجع بحاجتك فنقوم ونتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا له. فقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر وعمر وعلي ونفر من الأنصار إلى جدار من جدرهم.
فاجتمع بنو النّضير، وقالوا: من رجلٌ يصعد على ظهر البيت فيلقي على محمّدٍ صخرةً فيقتله، فيريحنا منه؟ فإنّا لن نجده أقرب منه الآن. فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فأوحى الله عز وجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما ائتمروا به من ذلك، فقام ولم يشعر أحدا ممّن معه.
ونهض إلى المدينة، فلمّا استبطأه أصحابه، وراث عليهم خبره أقبل رجل من المدينة، فسألوه، فقال: لقيته وقد دخل أزقّة المدينة. وقالت اليهود لأصحابه: لقد عجل أبو القاسم قبل أن نقيم له حاجته. فقام أصحابه ولحقوه بالمدينة. فأخبرهم بما أوحى الله عز وجل إليه ممّا أرادت اليهود فعله به.
وأمر صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالتهيؤ لقتالهم وحربهم. وخرج إليهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وذلك في ربيع الأول أول السّنة الرّابعة من الهجرة. فتحصّنوا منه في الحصون، فحاصرهم ستّ ليال، وأمر بقطع النّخل وإحراقها، وحينئذٍ نزل تحريم الخمر.
ودس عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النّضير: إنّا معكم، وإن قوتلتم معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. فاغتروا بذلك. فلمّا جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم، فألقوا بأيديهم. وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكف عن دمائهم ويجليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلّا السّلاح. فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشّام. وكان ممّن سار منهم إلى خيبر أكابرهم حييّ بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الرّبيع بن أبي الحقيق. فدانت لهم خيبر.
وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أموال بني النّضير بين المهاجرين خاصّة، إلّا أنه أعطى منها أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف وكانا فقيرين. وإنّما قسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين لأنهم إذ قدموا المدينة شاطرتهم الأنصار ثمارهم، وعلى ذلك بايعوا ليلة العقبة على نصرته ومواساة أصحابه. فرد المهاجرون على الأنصار ثمارهم.
ولم يسلم من بني النّضير إلّا رجلان: يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعيد بن وهب، أسلما فأحرزا أموالهما. وذكر أن يامين بن عمير جعل جعلا لمن قتل ابن عمه عمرو بن جحاش لما هم به في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ونزلت سورة الحشر في بني النّضير، قال عز وجل: {هو الّذي أخرج الّذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر} إلى قوله: {لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدًا أبدًا وإن قوتلتم لننصرنّكم} إلى قوله: {وذلك جزاء الظّالمين} فكان إجلاء بني النّضير أول الحشر في الدّنيا إلى الشّام، ولذلك قيل الشّام أرض الحشر). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 164-166]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة ذات الرّقاع
ثمّ أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد إجلاء بني النّضير بالمدينة شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى صدر السّنة الرّابعة بعد الهجرة. ثمّ غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة بن سعد بن غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاريّ، وقيل: بل استعمل يومئذٍ عليها عثمان بن عفّان، والأول أكثر.
ونهض عليه السّلام حتّى نزل نخلا. وإنّما سميت هذه الغزوة ذات الرّقاع لأن أقدامهم نقبت فكانوا يلفون عليها الخرق. وقيل: بل قيل لها ذات الرّقاع لأنهم رقعوا راياتهم فيها. ويقال: ذات الرّقاع شجرة بذلك الموضع تدعى ذات الرّقاع. وقيل: بل الجبل الّذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان من حمرة وصفرة وسواد، فسموا غزوتهم تلك ذات الرّقاع. والله أعلم.
ولقي النّبي صلّى الله عليه وسلم جمعان من غطفان، فتوقفوا، إلّا أنّه لم يكن بينهم قتال. وصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذٍ صلاة الخوف يوم ذات الرّقاع. وفي انصرافهم من تلك الغزوة أبطأ جمل جابر بن عبد الله، فنخسه النّبي صلّى الله عليه وسلم، فانطلق متقدما بين الركاب ثمّ قال له: "أتبيعنيه؟ " فابتاعه منه، وقال: "لك ظهره إلى المدينة". فلمّا وصل إلى المدينة أعطاه الثّمن، ووهب له الجمل، لم يأخذه منه.
وفي هذه الغزوة أتى رجل من بني محارب بن خصفة ليفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشرط ذلك لقومه، وأخذ سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصلته بعد أن استأذنه في أن ينظر إلى السّيف، فلمّا أصلته همّ به، فصرفه الله عنه، ولحقه بهتٌ، فقال: من يمنعك مني يا محمّد؟ قال: "الله" فردّ السّيف في غمده، فقيل: فيه نزلت: {يا أيها الّذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قومٌ أن يبسطوا إليكم... } الآية. وقيل نزلت هذه الآية فيما أراد بنو النّضير أن يفعلوا به من رمى الحجر عليه وهو جالس إلى حائط حصنهم). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 166-167]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة بدر الثّالثة
وكان أبو سفيان يوم أحد قد نادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: موعدنا معكم بدر في العام المقبل. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعض أصحابه أن يجيبه بنعم. وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منصرفه من ذات الرّقاع بالمدينة بقيّة جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا. ثمّ خرج في شعبان من السّنة الرّابعة للميعاد المذكور، واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي [بن] سلول. ثمّ نهض حتّى أتى بدرًا، فأقام هناك ثمان ليال.
وخرج أبو سفيان بن حرب في أهل مكّة حتّى بلغ عسفان، ثمّ انصرف، واعتذر هو وأصحابه بأن العام عام جدب). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 168]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة دومة الجندل
وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، فأقام بها إلى أن انسلخ ذو الحجّة من السّنة الرّابعة من الهجرة، ثمّ غزا عليه السّلام دومة الجندل في ربيع الأول، وذلك أول السّنة الخامسة من احتلاله المدينة. واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة. وانصرف عليه السّلام من طريقه قبل أن يبلغ دومة الجندل. ولم يلق حربًا). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 168]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة الخندق
ثمّ كانت غزوة الخندق في شوّال من السّنة الخامسة، وكان سببها أن نفرا من اليهود، منهم كنانة بن الرّبيع بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وحيي بن أخطب النضريون، وهوذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل -وهم كلهم يهود، وهم الّذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا- خرجوا في نفر من بني النّضير ونفر من بني وائل، فأتوا مكّة، فدعوا قريشًا إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك، فأجابهم أهل مكّة إلى ذلك. ثمّ خرج اليهود المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم.
فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاريّ على فزارة والحارث بن عوف المري على بني مرّة ومسعود بن رخيلة على أشجع. فلمّا سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باجتماعهم وخروجهم إليه شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق، فرضي رأيه. وقال المهاجرون يومئذٍ:
سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "سلمان منّا أهل البيت.
وعمل المسلمون في الخندق مجتهدين، ونكص المنافقون، وجعلوا يتسلّلون لواذًا. فنزلت فيهم آيات من القرآن ذكرها ابن إسحاق وغيره. وكان من فرغ من المسلمين من حصّته عاد إلى غيره فأعانه حتّى كمل الخندق. وكان فيه آيات بيّنات وعلامات للنبوات مذكورات عند أهل السّير والآثار، ومنها أن كدية اعتاصت على المسلمين، فدعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليها، فضربها بالفأس ضربة طار منها الشرار وقطع منها الثّلث، وقال: "الله أكبر فتح قيصر، والله إنّي لأرى القصور الحمر". ثمّ ضرب الثّانية فقطع منها الثّلث الثّاني، وقال: "الله أكبر فتح كسرى، والله إنّي لأرى القصور البيض". ثمّ ضرب الثّالثة فقطع الثّلث الباقي، وقال: "الله أكبر فتح اليمن، والله إنّي لأرى باب صنعاء". وقد نصر الله عبده وصدق وعده، والحمد لله رب العالمين.
فلمّا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة. وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتّى نزلوا إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتّى نزلوا -بظهر سلع- في ثلاثة آلاف، وضربوا عسكرهم، والخندق بينهم وبين المشركين. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم في قول ابن شهاب.
وخرج عدو الله حييّ بن أخطب النضري حتّى أتى كعب بن أسد القرظيّ وكان صاحب عقد بني قريظة ورئيسهم، وكان قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاقده وعاهده. فلمّا سمع كعب بن أسد بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، فقال له: افتح لي يا كعب بن أسد، فقال: لا أفتح لك فإنّك رجل مشئوم تدعوني إلى خلاف محمّد وأنا عاقدته وعاهدته ولم أر فيه إلّا وفاء وصدقا، فلست بناقض ما بيني وبينه. فقال حييّ: افتح لي حتّى أكلّمك فأنصرف عنك، قال: لا أفعل، قال: إنّما تخاف أن آكل معك جشيشتك. فغضب كعب وفتح له، فقال: هل إنّما جئتك بعز الدّهر، جئتك بقريش وسادتها وغطفان وقادتها قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمّدًا ومن معه.
فقال له كعب: جئتني والله بذل الدّهر وبجهام لا غيث فيه، ويحك يا حييّ! دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه. فلم يزل حييّ بكعب يعده ويغره، حتّى رجع إليه وعاهده على خذلان النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وأن يصير معهم، وقال له حييّ بن أخطب: إن انصرفت قريش وغطفان دخلت عندك بمن معي من يهود*. فلمّا انتهى خبر كعب وحيي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين بعث سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وسيد الأوس سعد بن معاذ وبعث معهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير، وقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "انطلقوا إلى بني قريظة فإن كان ما قيل لنا حقًا فالحنوا لنا لحنا نعرفه، ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كان كذبا فاجهروا به للنّاس" * *. فانطلقوا حتّى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقالوا: لا عهد له عندنا. فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكانت فيه حدة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فالّذي بيننا وبينهم أكبر من المشاتمة. ثمّ أقبل سعد وسعد حتّى أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جماعة من المسلمين، فقالا: عضل والقارة. يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع: خبيبٍ وأصحابه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أبشروا يا معشر المسلمين".
وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف، وأتى المسلمين عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتّى ظنّوا بالله الظنون، وأظهر المنافقون كثيرا ممّا كانوا يسرون، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة فلننصرف إليها، فإنّا نخاف عليها، وممّن قال ذلك أوس بن قيظي إلّا أنه مع ذلك ولد ولدا سيدا فاضلا وهو عرابة بن أوس الّذي قال فيه الشّاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد... تلقاها عرابة باليمين
وقد قيل إن له صحبة بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ومنهم من قال: يعدنا محمّد أن نفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه [أن] يذهب إلى الغائط، وممّن قال ذلك معتب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف.
وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلّا الرّمي بالنّبل والحصا. فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه اشتدّ على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاريّ وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان و [أهل] نجد ويرجع بقومهما عنهم. وكانت هذا المقالة مراوضة ولم تكن عقدا. فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّهما قد أنابا ورضيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما واستشارهما، فقالا: يا رسول الله هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ قال: "بل أمر أصنعه لكم، والله ما أصنعه إلّا لأنني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة". فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لقد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشّرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وما طمعوا قطّ بأن ينالوا منا ثمرة إلّا بشراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلّا السّيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم. فسر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وقال لهم: "أنتم وذاك". وقال لعيينة والحارث: "انصرفا، فليس لكم عندنا إلّا السّيف". وتناول الصّحيفة وليس فيها شهادة فمحاها.
فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون على حالهم والمشركون يحاصرونهم ولا قتال منهم إلّا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب الفهري وكانوا فرسان قريش وشجعانهم أقبلوا حتّى وقفوا على الخندق. فلمّا رأوه قالوا: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثمّ تيمموا مكانا ضيقا من الخندق [فضربوا خيلهم فاقتحمت منه] وصاروا بين الخندق وبين سلع. وخرج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين، حتّى أخذوا عليهم الثغرة الّتي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم. وكان عمرو بن [عبد] ود قد أثبتته الجراح يوم بدر، فلم يشهد أحدا وأراد يوم الخندق أن يرى مكانه. فلمّا وقف هو وخيله نادى: [هل] من مبارز؟ فبرز له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: يا عمرو إنّك عاهدت الله فيما بلغنا عنك أنّك لا تدعى إلى إحدى خلتين إلّا أخذت إحداهما، قال: نعم، وقال: إنّي أدعوك لله عز وجل والإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك. قال: وأدعوك إلى البراز، قال: يا بن أخي والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك، فقال له عليّ: أنا والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو بن [عبد] ود العامري ونزل عن فرسه، وسار نحو عليّ، فتنازلا وتجاولا، وثار النّقع بينهما حتّى حال دونهما، فما انجلى النّقع حتّى رؤي عليّ على صدر عمرو يقطع رأسه. فلمّا رأى أصحابه أنه قد قتله عليّ اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين، وقال عليّ -رضي الله عنه- في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه... ونصرت دين محمّد بضراب
لا تحسبنّ الله خاذل دينه... ونبيه يا معشر الأحزاب
نازلته وتركته متجدلا... كالجذع بين دكادك وروابي
ورمي يومئذٍ سعد بن [معاذ] بسهم فقطع منه الأكحل، رماه حبان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي. فلمّا أصابه قال له: خذها إليك وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النّار، وقيل: بل الّذي رماه أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم.
ولحسان بن ثابت مع صفيّة بنت عبد المطلب خبر طريف يومئذٍ وكان حسان قد تخلف عن الخروج مع الخوالف بالمدينة ذكره ابن إسحاق وطائفة من أهل السّير، وقد أنكره منهم آخرون، فقالوا لو كان في حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك من كان يهاجيه في الجاهليّة والإسلام، ولهجي بذلك ابنه عبد الرّحمن، فإنّه كان كثيرا ما يهاجي النّاس من شعراء العرب مثل النّجاشيّ وغيره.
وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعيّ، فقال: يا رسول الله إنّي قد أسلمت، ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنّما أنت رجل واحد من غطفان، فلو خرجت فخذلت عنّا كان أحب إلينا من بقائك فاخرج فإن الحرب خدعة". فخرج نعيم بن مسعود حتّى أتى بني قريظة وكان ينادمهم في الجاهليّة فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إيّاكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: قل، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشًا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، وفيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمّد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، فإن رأوا نهزة أصابوا وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهنا. ثمّ خرج حتّى أتى قريشًا، فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم معشر قريش وفراقي محمّدًا وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا عليّ، قالوا: نفعل. قال: أتعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما كان من خلافهم محمّدًا وأرسلوا إليه إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رهنا رجالًا ونسلمهم إليكم لتضربوا أعناقهم، ثمّ نكون معكم على من بقي منهم حتّى تستأصلهم. ثمّ أتى غطفان، فقال مثل ذلك. فلمّا كانت ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين أرسل أبو سفيان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنّا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر فاغدوا صبيحة غد للقتال حتّى نفاجيء محمّدًا. فأرسلوا إليهم إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما نال من تعدى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم أحدا تعطونا رهنا. فلمّا رجع الرّسول بذاك قالوا: صدقنا والله نعيم بن مسعود. فردّوا إليهم الرّسل، وقالوا: والله لا نعطيكم رهنا أبدا، فاخرجوا معنا إن شئتم، وإلّا فلا عهد بيننا وبينكم، فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم بن مسعود. وخذّل بينهم واختلفت كلمتهم وبعث الله عليهم ريحًا عاصفا في ليال شديدة البرد، فجعلت الرّيح تقلب أبنيتهم، وتكفأ قدورهم.
فلمّا اتّصل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختلاف أمرهم بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم واستتر في غمارهم، وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش ليتعرف كل امريء منكم جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد جليسي وقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان. ثمّ قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة ولقينا من هذه الرّيح ما ترون، ما يستمسك لنا بناء ولا تثبت لنا قدر ولا تقوم [لنا] نار، فارتحلوا، فإنّي مرتحل. ووثب على جمله، فما حل عقال يده إلّا وهو قائم*. قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إذ بعثني، وقال لي: "مر إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدث شيئا" -لقتلته بسهم. ثمّ أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند رحيلهم فوجدته قائما يصلّي، فأخبرته، فحمد الله.
ولما أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد ذهب الأحزاب رجع إلى المدينة ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل صلّى الله عليه وسلّم في صورة دحية بن خليفة الكلبيّ على بغلة عليه قطيفة ديباج فقال له: يا محمّد إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها، إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة وإنّي متقدم إليهم فمزلزل بهم.
فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناديا ينادي في النّاس: "لا يصلين أحدكم العصر إلّا في بني قريظة". وكان سعد بن معاذ إذ أصابه السهم دعا ربه، فقال: اللهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنّه لا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهمّ إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتّى تقر عيني من بني قريظة). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 169-177]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة بني قريظة
فخرج المسلمون مبادرين إلى بني قريظة، فطائفة خافوا فوات الوقت فصلوا وطائفة قالوا: والله لا صلينا العصر إلّا في بني قريظة، فبذلك أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ علم صلّى الله عليه وسلّم باجتهادهم، فلم يعنف واحدًا منهم*.
وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرّاية عليّ بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. ونهض عليّ وطائفة معه حتّى أتوا بني قريظة ونازلوهم وسمعوا سبّ رسول الله فانصرف عليّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: يا رسول الله لا تبلغ إليهم وعرّض له. فقال له: "أظنّك سمعت منهم شتمي، لو رأوني لكفّوا عن ذلك". ونهض إليهم، فلمّا رأوه أمسكوا، فقال لهم: "نقضتم العهد يا إخوة القرود، أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته"، فقالوا: ما كنت جاهلا يا محمّد فلا تجهل علينا.
ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد ثلاث خصال ليختاروا أيها شاءوا: إمّا أن يسلموا ويتبعوا محمّدًا على ما جاء به فيسلموا، قال: وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم فوالله إنّكم لتعلمون أنه الّذي تجدونه في كتابكم. وإمّا أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثمّ يتقدموا فيقاتلوا حتّى يموتوا عن آخرهم. وإمّا أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا، فقالوا له: أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التّوراة، وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم، ونحن لا نتعدى [في] السبت.
ثمّ بعثوا إلى أبي لبابة، وكانوا حلفاء بني عمرو بن عوف وسائر الأوس، فأتاهم، فجمعوا إليه أبناءهم ورجالهم ونساءهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد؟ فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنّه الذّبح إن فعلتم. ثمّ ندم أبو لبابة في الحين، وعلم أنه خان الله ورسوله، وأنه أمر لا يستره الله عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم. فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فربط نفسه في سارية، وأقسم لا يبرح مكانه حتّى يتوب الله عليه. فكانت امرأته تحله لوقت كل صلاة. قال ابن عيينة وغيره: فيه نزلت: {يا أيها الّذين آمنوا لا تخونوا الله والرّسول وتخونوا أماناتكم}. وأقسم أن لا يدخل أرض بني قريظة أبدا، مكانا أصاب فيه الذّم. فلمّا بلغ ذلك النبيّ من فعل أبي لبابة قال: "أما إنّه لو أتاني لاستغفرت له، وأما إذا فعل فلست أطلقه حتّى يطلقه الله" فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم... } الآية فلمّا نزل فيه القرآن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإطلاقه*.
ونزل -في تلك اللّيلة الّتي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ثعلبة، وأسيد ابنا سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من هدل بني عم قريظة والنضير وليسوا من قريظة والنضير، نزلوا مسلمين، فأحرزوا أموالهم وأنفسهم. وخرج في تلك اللّيلة عمرو بن سعدي [القرظيّ] ومر بحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه محمّد بن مسلمة وكان قد أبى أن يدخل فيما دخل فيه بنو قريظة وقال: لا أغدر بمحمد أبدا، فقال له محمّد بن مسلمة إذ عرفه: اللهمّ لا تحرمني إقالة عثرات الكرام. فخرج على وجهه حتّى بات في مسجد النّبي صلّى الله عليه وسلّم ثمّ ذهب فلم ير بعد ولم يعلم حيث سقط. وذكر -لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أمره، فقال: "ذلك رجل نجاه الله بوفائه".
فلمّا أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتواثب الأوس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله قد علمت أنهم حلفاؤنا، وقد شفّعت عبد الله بن أبي بن سلول في بني قينقاع حلفاء الخزرج، فلا يكن حظنا أوكس وأنقص عندك من حظّ غيرنا، فهم موالينا. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ " قالوا: بلى، قال: "فذلك إلى سعد بن معاذ". وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ضرب له خيمة في المسجد، ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الّذي أصابه في الخندق. فلمّا حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا له بوسادة من أدم وكان رجلا جسيما. ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحاطوا به في طريقهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في [مواليك] فإنّما ولاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك لتحسن إليهم، فقال لهم: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من معه إلى ديار بني عبد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة. فلمّا أطل سعد على النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال للأنصار: "قوموا إلى سيدكم" * فقام المسلمون، فقالوا: يا أبا عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه: أن الحكم فيهم ما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من هنا؟ من النّاحية الّتي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معرض عن رسول الله إجلالا له. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "نعم" قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن يقتل الرّجال وتسبى الذّراري والنّساء، وتقسم الأموال، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة" وأمر بهم رسول الله فأخرجوا إلى موضع [سوق المدينة] فخندق بها خنادق، ثمّ أمر بهم النّبي عليه السّلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق* وقتل يومئذٍ حييّ بن أخطب وكعب بن أسد. وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة. وقتل من نسائهم امرأة، وهي بنانة امرأة الحكم القرظيّ الّتي طرحت الرّحى على خلاد بن سويد، فقتلته* *.
وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل كل من أنبت منهم وترك كل من لم ينبت: وكان عطيّة القرظيّ من جملة من لم ينبت فاستحياه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مذكور في الصّحابة. ووهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن باطا، فاستحياهم، منهم عبد الرّحمن بن الزبير أسلم وله صحبة ووهب أيضا -عليه السّلام- رفاعة ابن سموأل القرظيّ لأم المنذر سلمى بنت قيس أخت سليط بن قيس من بني النجار، وكانت قد صلت القبلتين. فأسلم رفاعة، وله صحبة ورواية.
وقسم عليه السّلام أموال بني قريظة، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما، وقد قيل للفارس سهمان وللراجل سهم. وكانت الخيل للمسلمين يومئذٍ ستّة وثلاثون فرسا، ووقع للنّبي من [سبيهم] ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى بني عمرو بن قريظة، فلم تزل عنده إلى أن مات صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: إن غنيمة قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل وأول غنيمة جعل فيها الخمس [لله ورسوله] وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عبد الله بن جحش، والله أعلم. وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة بني قريظة أول غنيمة فيها الخمس بعد نزول قوله تعالى: {واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأن لله خمسه... } وكان عبد الله قد خمس قبل ذلك في بعثه ثمّ نزل القرآن بمثل فعله، وذلك من فضائله رحمة الله عليه، وقد ذكرنا خبره في بابه من كتاب الصّحابة.
وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجّة من السّنة الخامسة من الهجرة فلمّا تمّ أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الصّالح سعد بن معاذ فانفجر جرحه، وانفتح عرقه، فجرى دمه ومات، رضي الله عنه. وهو الّذي أتى الحديث فيه أنه اهتز لموته عرش الرّحمن، يعني سكان العرش من الملائكة، فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 178-182]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (ذكر من استشهد من المسلمين يوم الخندق
سعد بن معاذ أبو عمرو من بني عبد الأشهل، وأنس بن عتيك، وعبد الله بن سهل وكلاهما أيضا من بني عبد الأشهل، والطفيل بن النّعمان، وثعلبة بن عنمة وكلاهما من بني سلمة، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار أصابه سهم غرب فقتله). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 182]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (ذكر من قتل من المشركين يوم الخندق
وأصيب من المشركين يوم الخندق: منبّه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدّار أصابه سهم مات منه بمكّة، وقد قيل: إنّما هو عثمان بن أميّة بن منبّه بن عبيد بن السباق، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي اقتحم الخندق فقتل فيه، وعمرو بن عبد ود قتله عليٌّ مبارزة). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 183]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): ( [شهداء يوم قريظة]
واستشهد من المسلمين يوم قريظة: خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته. ومات في الحصار أبو سنان بن محصن، فدفنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مقبرة بني قريظة الّتي يتدافن فيها المسلمون السكان بها اليوم. ولم يصب غير هذين. ولم يغز كفار قريش المسلمين بعد الخندق). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 183]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (بعث عبد الله بن عتيك إلى قتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق اليهوديّ
وانقضى شأن الخندق وقريظة. وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق ممّن حزب الأحزاب وألب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت الأوس والخزرج يتصاولان تصاول الفحول، لا تصنع الأوس شيئا فيه -عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- غناء إلّا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بذلك فضلا علينا [ولا ينتهون حتّى يوقعوا مثله]. وإذا فعلت الخزرج شيئا كفضل في الإسلام أو بر عند النّبي صلّى الله عليه وسلّم قالت الأوس مثل ذلك. فتذاكرت الخزرج من في العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم -كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحقيق، واستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قتله، فأذن لهم.
فخرج إليه خمسة نفر من الخزرج كلهم من بني سلمة، وهم: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة بن ربعي، ومسعود بن سنان، وخزاعي بن أسود حليف لهم من أسلم. وأمّر عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن عتيك، ونهاهم عن قتل النّساء والصبيان. فنهضوا حتّى أتوا خيبر ليلًا، وكان سلام في حصنه ساكنا في دار جماعة وهو في علية منها، فاستأذنوا عليه، فقالت امرأته: من أنتم؟ فقالوا: أناس من العرب يطلبون الميرة فقالت لهم: هذاكم صاحبكم، فادخلوا. فلمّا دخلوا أغلقوا الباب على أنفسهم، فأيقنت بالشّرّ وصاحت، فهموا بقتلها، ثمّ ذكروا نهي النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن قتل النّساء والولدان، فأمسكوا عنها. ثمّ تعاوروه بأسيافهم وهو راقد على فراشه، أبيض في سواد اللّيل كأنّه قبطية، ووضع عبد الله بن عتيك سيفه في بطنه حتّى أنفذه، وهو يقول: قطني قطني. ثمّ نزلوا.
وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر، فوقع، فوثئت رجلة وثئا شديدًا، فحمله أصحابه حتّى أتوا منهرا من مناهرهم فدخلوا فيه، واستتروا. وخرج أهل الآطام لصياح امرأته وأوقدوا النيران في كل جهة، فلمّا يئسوا رجعوا. فقال أصحاب ابن عتيك: كيف لنا أن نعلم أن عدو الله قد مات؟ فرجع أحدهم، فدخل بين النّاس، فسمع امرأة ابن أبي الحقيق تقول: والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثمّ [أكذبت نفسي] وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد! قال: ثمّ إنّها نظرت في وجهه، فقالت: فاظ وإله يهود.
قال: فسررت، وانصرفت إلى أصحابي، فأخبرتهم بذلك.
فرجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبروه، وتداعوا في قتله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "هاتوا أسيافكم" فأروه إيّاها، فقال عليه السّلام عن سيف عبد الله بن أنيس: "هذا قتله، أرى فيه أثر الطّعام". وحديث البراء بن عازب في قتل ابن أبي الحقيق بخلاف هذا المساق، والمعنى واحد). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 183-185]