9 Oct 2022
الدرس السابع: من غزوة بني لحيان إلى فتح وادي القرى
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة بني لحيان
وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة بعد فتح بني قريظة بقيّة ذي الحجّة والمحرم وصفرا وربيعا الأول وربيعا الآخر، وخرج عليه السّلام، في جمادى الأول في الشّهر السّادس من فتح بني قريظة وهو الشّهر الثّالث من السّنة السّادسة من الهجرة، قاصدا إلى بني لحيان، مطالبا بثأر عاصم بن ثابت وخبيب بن عدي وأصحابهما المقتولين بالرجيع.
فسلك عليه السّلام على طريق الشّام من المدينة على جبل يقل له غراب، ثمّ أخذ ذات الشمال، ثمّ سلك المحجة من طريق مكّة، فأغذ السّير حتّى أتى وادي غران بين أمج وعسفان وهي منازل بني لحيان، فوجدوهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال. فتمادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مائتي راكب حتّى نزل عسفان. وبعث صلّى الله عليه وسلّم رجلين من أصحابه فارسين حتّى بلغا كراع الغميم، ثمّ كرا ورجعا، ورجع صلّى الله عليه وسلّم قافلًا إلى المدينة.
وفي غزوة بني لحيان قالت الأنصار: المدينة خالية منا وقد بعدنا عنها ولا نأمن عدوا يخالفنا إليها، فأخبرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن على أنقاب المدينة ملائكة، على كل نقب منها ملك يحميها بأمر الله عز وجل). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 185-186]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة ذي قرد
ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بني لحيان لم يبق بالمدينة [إلّا ليالي قلائل حتّى أغار] عيينة بن حصن في بني عبد الله بن غطفان، فاكتسحوا لقاحا كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغابة، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الغفاريّ، وحملوا المرأة واللقاح.
وكان أول من أنذرهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ كان ناهضا إلى الغابة، فلمّا علا ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفّار وأنذر المسلمين، ثمّ نهض في آثارهم، فأبلى بلاء عظيما حتّى استنقذ أكثر ما في أيديهم. ووقعت الصّيحة بالمدينة، فكان أول من جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حين الصّيحة المقداد بن الأسود، ثمّ عباد بن بشر، وسعد بن زيد الأشهليان، وأسيد بن ظهير الأنصاريّ، وعكاشة بن محصن الأسدي، ومحرز بن نضلة الأسدي الأخرم، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وأبو عيّاش الزريقي واسمه عبيد بن زيد بن صامت. فلمّا اجتمعوا أمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [عليهم] سعد بن زيد. وقيل: أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أعطى فرس أبي عيّاش الزريقي معاذ بن ماعص أو عائذ بن ماعص وكان أحكم للفروسية من أبي عيّاش.
فأول من لحق بهم محرز بن نضلة الأخرم فقتل، رحمه الله، قتله عبد الرّحمن بن [عيينة بن] حصن وكان على فرس لمحمود بن مسلمة أخي محمّد بن مسلمة أخذه وكان صاحبه غائبا، فلمّا قتل رجع الفرس إلى آريه في بني عبد الأشهل، وقيل: بل أخذ الفرس عبد الرّحمن بن عيينة إذ قتل محرز بن نضلة عليه، وركبه. ثمّ قتل سلمة بن الأكوع عبد الرّحمن بن عيينة بالرّمي في خرجته تلك واسترجع الفرس وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماء يقال له قرد، ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة، وأقام على ذلك الماء يومًا وليلة. وكان الفضل في هذه الغزوة والفعل الكريم والظهور والبلاء الحسن لسلمة بن الأكوع، وكلّهم ما قصّر، رضي الله عنهم.
وكان المشركون قد أخذوا ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العضباء في غارتهم تلك على سرح المدينة ونجوا بها وبتلك المرأة الغفارية الأسيرة امرأة الغفاريّ المقتول وقد قيل إنّها لم تكن امرأة الغفاريّ المقتول وإنّما كانت امرأة أبي ذر، والأول قول ابن إسحاق وأهل السّير. قال: فنام القوم ليلة وقامت المرأة فجعلت لا تضع شيئا على بعير إلّا رغا، حتّى أتت العضباء، فإذا ناقة ذلول، فركبتها ونذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها. فلمّا قدمت المدينة عرفت ناقة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبر بذلك، فأرسل إليها، فجيء بها وبالمرأة، فقالت: يا رسول الله نذرت إن نجاني الله أن أنحرها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "بئس ما جزيتها، لا وفاء لنذر في معصيّة الله ولا فيما لا يملك ابن آدم". وأخذ ناقته صلّى الله عليه وسلّم). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 186-188]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة بني المصطلق من خزاعة
ثمّ أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة باقي جمادى الأول ورجبا، ثمّ غزا بني المصطلق في [شعبان من] السّنة السّادسة من الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاريّ، وقيل: بل نميلة بن عبد الله اللّيثيّ. وأغار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بني المصطلق وهم غارون وهم على ماء يقال له: المريسيع من ناحية قديد ممّا يلي السّاحل، فقتل من قتل [منهم] وسبي النّساء والذرية وكان شعارهم يومئذٍ: أمت، وقد قيل إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا بلغه ذلك خرج إليهم، فلقيهم على ماء يقال له المريسيع، فاقتتلوا، فهزمهم الله. والقول الأول أصح: أنه أغار عليهم وهم غارون.
ومن ذلك السّبي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأعتقها وتزوجها. وشهدت عائشة رضي الله عنها تلك الغزاة، قالت: ما هو إلّا أن وقفت جويرية بباب الخباء تستعين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابتها، فنظرت إليها فرأيت على وجهها مرحة وحسنا، فأيقنت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رآها أعجبته، فما هو إلّا أن كلمته، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أو خير من ذلك أن أؤدي كتابتك وأتزوجك". قالت: وما رأيت أعظم بركة على قومها منها، فما هو إلّا أن علم المسلمون بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوجها، فأعتقوا كل ما بأيديهم من سبي بني المصطلق، وقالوا: أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسلم سائر بني المصطلق.
وقد اختلف في وقت هذه الغزاة، قيل: كانت قبل الخندق وقريظة، وقيل: كانت بعد ذلك وهو الصّواب إن شاء الله. وقتل في هذه الغزاة هشام بن صبابة اللّيثيّ خطأ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة لم يعرفه، وظنه من المشركين.
وفي هذه الغزاة قال عبد الله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؛ وذلك لشر وقع بين جهجاه بن مسعود الغفاريّ -وكان أجيرا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه- وبين سنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج، فنادى جهجاه الغفاريّ: يا للمهاجرين، ونادى الجهنيّ: يا للأنصار. وبلّغ زيد بن أرقم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالة عبد الله بن أبي بن سلول، فأنكرها ابن أبي، فأنزل الله عز وجل [فيه] سورة المنافقين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد بن أرقم: "وفت أذنك يا غلام"، وأخذ بأذنه. وتبرأ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ من فعل أبيه وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: يا رسول الله أنت والله العزيز وهو الذّليل، أو قال: أنت الأعز وهو الأذل، وإن شئت -والله- لنخرجنه من المدينة. وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله إن هذا رجل يحمله حسده على النّفاق، فدعه إلى عمله، وقد كان قومه على أن يتوّجوه بالخرز قبل قدومك المدينة ويقدموه على أنفسهم، فهو يرى أنّك نزعت ذلك منه، وقد خاب وخسر إن كان يضمر خلاف ما يظهر، وقد أظهر الإيمان فكله إلى ربه. وقال عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله بلغني أنّك تريد قتل أبي فإن كنت تريد ذلك فمرني بقتله، فوالله إن أمرتني بقتله لأقتلنه، وإنّي أخشى يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن قتله غيري أن لا أصبر عن طلب الثأر فأقتل به مسلما فأدخل النّار، وقد علمت الأنصار أنّي من أبر أبنائها بأبيه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيرا، ودعا له، وقال له: "بر أباك ولا يرى منك إلّا خيرا" *. فلمّا وصل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون إلى المدينة من تلك الغزاة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي لأبيه بالطّريق، وقال: والله لا تدخل المدينة حتّى يأذن لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالدّخول، فأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدخوله.
وفي هذه الغزاة قال أهل الإفك في عائشة رضي الله عنها ما قالوا، فبرأها الله ممّا قالوا، ونزل القرآن ببراءتها.
ورواية من روى أن سعد بن معاذ راجع في ذلك سعد بن عبادة وهم وخطأ، وإنّما تراجع في ذلك سعد بن عبادة مع أسيد بن حضير، كذلك ذكر ابن إسحاق عن الزّهريّ عن عبيد الله بن عبد الله وغيره، وهو الصّحيح، لأن سعد بن معاذ مات في منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بني قريظة لا يختلفون في ذلك، ولم يدرك غزوة المريسيع ولا حضرها.
وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فقدم عليه مقيس بن صبابة مظهرا للإسلام وطالبا لدين أخيه هشام بن صبابة، فأمر له عليه السّلام بالدّية، فأخذها، ثمّ عدا على قاتل أخيه، فقتله، وفر إلى مكّة كافرًا، وهو أحد الّذين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتلهم في حين دخول مكّة.
ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم -إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بأكثر من عامين الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقا لهم، فخرجوا ليتلقوه، ففزع منهم، وظن أنهم يريدونه بسوء، فرجع عنهم. وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أنهم ارتدّوا ومنعوا الزّكاة وهموا بقتله. فتكلم المسلمون في غزوهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وافدهم منكرا لرجوع مصدقهم عنهم دون أن يأخذ صدقاتهم [وأنّهم] إنّما خرجوا إليه مكرمين له، فأكذبه الوليد بن عقبة، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ} يعني الوليد بن عقبة {فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة... } الآية). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 188-191]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (عمرة الحديبية
فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بالمدينة منصرفه من غزوة بني المصطلق رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة معتمرًا، فاستنفر الأعراب الّذين حول المدينة، فأبطأ عنه أكثرهم. وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة، وقيل ألف وخمسمائة.
وساق معه الهدي، وأحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعمرة ليعلم النّاس أنه لم يخرج لحرب فلمّا بلغ خروجه قريشًا خرج جمعهم صادّين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المسجد الحرام ودخول مكّة وأنه إن قاتلهم قاتلوا دون ذلك، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم، فورد الخبر بذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بعسفان، فسلك طريقا يخرج منه في ظهورهم وخرج إلى الحديبية من أسفل مكّة، وكان دليله فيه رجلا من أسلم فلمّا بلغ ذلك خيل قريش الّتي مع خالد جرت إلى قريش تعلمهم بذلك.
ولما وصل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الحديبية بركت ناقته صلّى الله عليه وسلّم، فقال النّاس: خلأت خلأت، فقال النّبي عليه السّلام: "ما خلأت، وما هو لها بخلقٍ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة رحم إلّا أعطيتهم إيّاها"، ثمّ نزل صلّى الله عليه وسلّم هنالك، فقيل: يا رسول الله ليس بهذا الوادي ماء، فأخرج عليه السّلام سهما من كنانته، فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه، فجاش الماء الرواء حتّى كفى جميع أهل الجيش. وقيل إن الّذي نزل بالسّهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير الأسلميّ وهو سائق بدن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذٍ، وقيل: نزل بالسّهم في القليب البراء بن عازب.
ثمّ جرت الرّسل والسفراء بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاءه سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عليه السّلام عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتى معتمرًا ودخل هو وأصحابه مكّة بلا سلاح حاشا السيوف في قربها فيقيم بها ثلاثًا ويخرج. وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام يتداخل فيها النّاس ويأمن بعضهم بعضًا، على أن من جاء من المسلمين إلى الكفّار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين.
فعظم ذلك على المسلمين حتّى كان لبعضهم فيه كلام. وكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا، فقال لأصحابه: "اصبروا فإن الله يجعل هذا الصّلح سببا إلى ظهور دينه" فأنس النّاس إلى قوله بعد نفار منهم. وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب في صدر صحيفة الصّلح من محمّد رسول الله. قال له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عمّا تريد، ولا بد أن يكتب: باسمك اللهمّ فقال لعلي -وكان كاتب صحيفة الصّلح-: "امح يا عليّ، واكتب باسمك اللهمّ". وأبى عليّ أن يمحو بيده "رسول الله" فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "اعرضه عليّ" فأشار إليه، فمحاه -صلّى الله عليه وسلّم- بيده، وأمره أن يكتب: من محمّد بن عبد الله.
وأتى أبو جندل بن سهيل يومئذٍ بأثر كتاب الصّلح، وهو يرسف في قيوده، فرده -صلّى الله عليه وسلّم- على أبيه، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم صلّى الله عليه وسلّم وأخبر أبا جندل أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث عثمان بن عفّان إلى مكّة رسولا، فجاء خبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن أهل مكّة قتلوه، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينئذٍ المسلمين للمبايعة على الحرب والقتال لأهل مكّة. وروي أنه بايعهم على أن لا يفروا. وهي بيعة الرضوان تحت الشّجرة الّتي أخبر الله عز وجل أنه رضي عن المبايعين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحتها، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم لا يدخلون النّار. وضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيمينه على شماله لعثمان [وقال: "هذه عن عثمان"] فهو كمن شهدها.
ذكر وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشّعبيّ، قال: أول من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية أبو سنان الأسدي. وذكر ابن هشام عن وكيع. كانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين أو ثمانين رجلا للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم فخرجوا، فأخذوهم أسرى. وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصّلح. فأطلقهم رسول الله، فهم الّذين يسمون العتقاء، وإليهم ينسب العتقيون فيم يزعمون، ومنهم معاوية وأبوه فيما ذكروا.
فلمّا تمّ الصّلح بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين أهل مكّة الّذي تولى عقده لهم سهيل بن عمرو على ما ذكروا، أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم -المسلمين أن ينحروا ويحلوا. ففعلوا بعد توقف كان بينهم أغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عليه السّلام: "لو نحرت لنحروا". فنحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- هديه، فنحروا بنحره. وحلق رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- رأسه، ودعا للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين واحدة. قيل إن الّذي حلق رأسه صلّى الله عليه وسلّم يومئذٍ خراش بن أميّة بن الفضل الخزاعيّ.
ثمّ رجع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلى المدينة، فأتاه أبو بصير بن أسيد بن جارية الثّقفيّ حليف لبني زهرة هاربا من مكّة مسلما، وكان ممّن حبس بمكّة مع المسلمين، فبعث فيه الأزهر بن [عبد] عوف عم عبد الرّحمن بن عوف والأخنس بن شريق الثّقفيّ رجلا من بني عامر بن لؤي ومولى لهم. فأتيا النّبي عليه السّلام، فأسلمه إليهما على ما عقد في الصّلح. فاحتملاه، فلمّا صاروا بذي الحليفة قال أبو بصير لأحد الرجلين: أرى سيفك هذا سيفا جيدا فأرنيه، فلمّا أراه إيّاه ضرب [به] العامري فقتله وفر المولى فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد، فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "هذا رجل مذعور ولقد أصاب هذا ذعر". فلمّا وصل إليه أخبره بما وقع. وقال: غدر بنا وبينما هو يكلمه إذ وصل أبو بصير، فقال: يا رسول الله قد وفت ذمّتك وأطلقني الله عز وجل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "ويلمّه مسعر حربٍ لو كان له رجال، أو قال أصحاب". فعلم أبو بصير أنه سيرده فخرج حتّى أتى سيف البحر، موضعا يقال له العيص من ناحية ذي المروة على طريق قريش إلى الشّام، فجعل يقطع على رفاقهم. واستضاف إليه قوما من المسلمين الفارين عن قريش، منهم أبو جندل بن سهيل، فجعلوا لا يتركون لقريش عيرًا ولا ميرة ولا مارا إلّا قطعوا بهم. فكتبت في ذلك قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا نرى أن تضمهم إليك إلى المدينة، فقد آذونا.
وأنزل الله تعالى بعد ذلك القرآن بفسخ الشّرط المذكور في رد النّساء، فمنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ردهن، ثمّ نزلت سورة براءة، فنسخ ذلك كله، ورد على كل ذي عهد عهده وأن يمهلوا أربعة أشهر، ومن لم يستقم على عهده لا يستقام له. وهاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فأتى أخواها: عمارة والوليد فيها، ليردوها، فمنع الله عز وجل من رد النّساء المؤمنات إلى الكفّار إذا امتحن فوجدن مؤمنات. وأخبر أن ذلك لا يحل. وأمر المؤمنين أيضا أن يمسكوا بعصم الكوافر، ولا ينكحوا المشركات، يعني الوثنيات، حتّى يؤمن). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 191-196]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة خيبر
وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد رجوعه من الحديبية ذا الحجّة وبعض المحرم وخرج في بقيّة منه غازيا إلى خيبر، ولم يبق من السّنة السّادسة من الهجرة إلّا شهر وأيّام، واستخلف على المدينة نميلة بن عبد الله اللّيثيّ. وذكر موسى بن عقبة، قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة منصرفه من الحديبية مكث عشرين يومًا أو قريبا منها ثمّ خرج غازيا إلى خيبر، وكان الله عز وجل وعده إيّاها وهو بالحديبية.
قال أبو عمر: قال الله عز وجل في أهل الحديبية: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشّجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السّكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا، ومغانم كثيرةً يأخذونها وكان الله عزيزًا حكيما}. فلم يختلف العلماء في أنّها البيعة بالحديبية. قال ابن قتيبة وقتادة وعكرمة وغيرهم: كانت الشّجرة سمرة كانت الحديبية. وعلم ما في قلوبهم من الرّضا بأمر البيعة على أن لا يفروا واطمأنت بذلك نفوسهم. {وأثابهم فتحا قريبا} : خيبر، ووعدهم المغانم فيها {ومغانم كثيرة يأخذونها}. وقد روي عن ابن عبّاس ومجاهد في قوله: {وعدكم الله مغانم كثيرة} أنّها المغانم الّتي تكون إلى يوم القيامة. وقالوا في قوله: {وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها} : فارس والروم وما افتتحوا إلى اليوم، وقال عبد الرّحمن بن أبي ليلى. قال: وقوله: {فتحًا قريبا} : خيبر.
رجع الخبر إلى ابن إسحاق، قال: فلمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خيبر دفع رايته، وكانت بيضاء، إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذ طريق الصّهباء إلى وادي الرجيع، فنزل بين خيبر وغطفان لئلّا يمدوهم، لأنّه بلغه أن غطفان تريد إمداد يهود خيبر. ولما خرجوا لإمدادهم اختلفت كلمتهم. وأسمعهم الله عز وجل حسا من ورائهم وهدا راعهم وأفزعهم فانصرفوا إلى ديارهم، فأقاموا بها. وأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أشرف على خيبر مع الفجر، وعمالهم غادون بمساحيهم ومكاتلهم. فلمّا رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والجيش نادوا: محمّد والخميس معه. وأدبروا هرابا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "الله أكبر خربت خيبر إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". وتحصنت يهود في حصونهم وكانت حصونا كثيرة، فكان أول حصن افتتحوه حصنا يسمى "ناعمًا" وعنده قتل محمود بن مسلمة أخو محمّد بن مسلمة ألقيت عليه رحى فشدخته، رحمه الله، ثمّ حصنا يدعى "القموص" وهو حصن بني أبي الحقيق، ومن سبايا ذلك الحصن كانت صفيّة بنت حييّ بن أخطب -وكانت تحت كنانة بن الرّبيع بن أبي الحقيق- أصابها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبنتي عم لها، فوهب صفيّة لدحية بن خليفة الكلبيّ ثمّ ابتاعها [منه] بسبعة أرؤس، ثمّ أردفها خلفه، وألقى عليها رداءه، فعلم أصحابه أنه اصطفاها لنفسه، وجعلها عند أم سليم حتّى اعتدت وأسلمت، ثمّ أعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها. وهذه مسألة اختلف الفقهاء فيها فمنهم من جعل ذلك خصوصا له كما خص بالموهوبة، ومنهم من جعل ذلك سنة لمن شاء من أمته.
ثمّ فتح حصن الصعب بن معاذ ولم يكن في حصون خيبر أكثر طعاما وودكا منه. ووقف إلى بعض حصونهم فامتنع عليهم فتحه ولقوا فيه شدّة، فأعطى رايته أبا بكر الصّديق فنهض بها وقاتل واجتهد ولم يفتح عليه، ثمّ أعطى الرّاية عمر فقاتل ثمّ رجع ولم يفتح له وقد جهد. فحينئذٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لأعطين الرّاية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار، يفتح الله عز وجل على يديه". فلمّا أصبح دعا عليا، وهو أرمد، فتفل في عينيه، ثمّ قال: "خذ الرّاية فامض بها حتّى يفتح الله بها عليك". ذكر هذا الخبر ابن إسحاق. قال: قال: حدّثني بريدة بن سفيان بن فروة عن أبيه سفيان عن سلمة بن الأكوع، وذكر من حديث أبي رافعٍ مولى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: خرجنا مع عليٍّ حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برايته إلى حصنٍ من حصون خيبر، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله وقاتلهم، فضربه رجلٌ من يهود، فألقى ترسه من يده، فتناول عليٌّ بابًا كان عند الحصن فترّس به عن نفسه، فلم يزل في يده، وهو يقاتل، حتّى فتح الله عليه، ثمّ ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر معي سيفه وأنا ثامنهم نجتهد على أن يقلب ذلك الباب فما نقلبه.
وذكر ابن إسحاق من رواية يونس بن بكيرٍ وزيادٍ وإبراهيم بن سعدٍ والأمويّ عنه عن عبد الله بن سهلٍ، قال أخو بني حارثة، عن جابر بن عبد الله. وبعضهم يرويه عن ابن إسحاق عن عبد الله بن سهلٍ، عن جابرٍ، ولم يشهد جابرٌ خيبر:
أنّ محمّد بن مسلمة هو الّذي قتل مرحبًا اليهوديّ بخيبر. قال ابن إسحاق: فذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "من لهذا؟ " يعني: مرحبًا اليهوديّ، فقال محمّد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله أطلب الثّأر، قتل أخي بالأمس. قال: "فقم إليه" فنهض إليه محمّد بن مسلمة، فتقاتلا، وكانا يستتران بشجرةٍ [فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه، كلّما لاذ بها منه اقتطع بسيفه ما دونه منها] حتّى ذهبت أغصانها [وبرز كل واحد منهما لصاحبه، وحمل مرحبٌ على محمّد بن مسلمة فضربه، فاتّقاه بالدّرقة فوقع سيفه فيها فعضّت به وأمسكته] وضربه محمّدٌ، فقتله. ثمّ انصرف. ثمّ برز أخو مرحبٍ واسمه ياسرٌ، فدعا إلى البراز، فخرج إليه الزّبير. هذا ما ذكره ابن إسحاق في قتل مرحب اليهوديّ بخيبر. وخالفه غيره، فقال: بل قتله عليّ بن أبي طالب، وهو الصّحيح عندنا.
حدّثنا عبد الله بن محمّدٍ، قال: حدّثنا محمّد بن بكرٍ، قال: حدّثنا أبو داود، [قال] : حدّثنا هارون بن عبد الله، قال: حدّثنا روح بن عبادة، قال: حدّثنا عوفٌ، عن ميمونٍ أبي عبد الله، عن عبد الله بن أبي بريدة، عن أبيه [أبي] بريدة الأسلميّ: أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمّا نزل بحصن خيبر: "لأعطينّ اللّواء غدًا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" فلمّا كان من الغد تطاول لها أبو بكرٍ وعمر، فدعا عليا، وهو أرمد، فتفل في عينيه، وأعطاه اللّواء، ونهض معه النّاس، فلقا أهل خيبر، فإذا مرحبٌ بين أيديهم يرتجز:
قد علمت خيبر أنّي مرحب... شاكي السّلاح بطلٌ مجرّب
إذا السّيوف أقبلت تلهّب... أطعن أحيانًا وحينًا أضرب
فاختلف هو وعليٌّ ضربتين، فضربه عليٌّ على رأسه حتّى عضّ السّيف بأضراسه، وسمع أهل العسكر صوت ضربته، قال: فما تتامّ النّاس حتّى فتحوا لهم.
حدّثنا سعيد بن نصرٍ. قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ [قال] : حدّثنا محمّد بن وضّاحٍ [قال] : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة [قال] : حدّثنا هاشم بن القاسم [قال] : حدّثنا عكرمة بن عمّارٍ، قال: حدثني إياس بن سلمة الأكوع، قال: أخبرني أبي، قال:
لمّا خرج عمّي عامر بن سنانٍ إلى خيبر بارز يومًا مرحبًا اليهوديّ، فقال مرحبٌ:
قد علمت خيبر أنّي مرحب... شاكي السّلاح بطلٌ مجرّب
إذا الحروب أقبلت تلهّب... أطعن أحيانًا وحينًا أضرب
وقال عمّي:
قد علمت خيبر أنّي عامر... شاكي السّلاح بطلٌ مغاور
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحبٍ في ترس عامرٍ، ورجع سيف [عامر] على مسافة فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه، قال سلمة: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسلني إلى عليّ بن أبي طالب، وقال: "لأعطينّ الرّاية غدًا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" قال: فجئت به أقوده أرمد، فبصق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في عينيه، ثمّ أعطاه الرّاية، فخرج مرحبٌ يخطر بسيفه، وقال:
قد علمت خيبر أنّي مرحب... شاكي السّلاح بطلٌ مجرّب
إذا الحروب أقبلت تلهّب
وقال عليّ رضي الله عنه:
أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره... كليث غاباتٍ كريه المنظره
أوفيهم بالصّاع كيل السّندره
ففلق رأس مرحبٍ بالسّيف، وكان الفتح على يد عليٍّ.
قال ابن إسحاق: وآخر ما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصونهم الوطيح والسلالم.
وقال موسى بن عقبة: حاصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [حصون خيبر بضع عشرة ليلة، وكان بعضها صلحا وأكثرها عنوة، ذكر ذلك عن ابن شهاب. وقال ابن إسحاق: قسم رسول الله أرض خيبر كلها لأنّه غلب على جميعها عنوة. وحاصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] أهل خيبر في حصنهم الوطيح حتّى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم، ففعل). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 196-200]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): ( [مقاسم خيبر وأموالها]
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد حاز الأموال كلها: الشق ونطاة والكتيبة وجميع حصونهم إلّا ما كان من ذينك [الحصنين] فلمّا سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله يسألونه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ويحلوا له الأموال ففعل. وكان فيمن مشى بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود أخو بني حارثة. قال: فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله أن يعاملهم في الأموال على النّصف، فعاملهم، وقال لهم: "على أنّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم". فصالحه أهل فدك على مثل ذلك. وكانت خيبر فيئا بين المسلمين، وكانت فدك خاصّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم لم يوجوفوا عليها بخيل ولا ركاب.
قال أبو عمر:
هذا هو الصّحيح في أرض خيبر أنّها كانت عنوة كلها مغلوبًا عليها بخلاف فدك وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسم جميع أرضها على الغانمين لها الموجفين بالخيل والركاب، وهم أهل الحديبية. ولم يختلف العلماء [في] أن أرض خيبر مقسومة، وإنّما اختلفوا هل تقسم الأرض إذا غنمت البلاد أو توقف؟ فقال الكوفيّون: الإمام مخيّر بين قسمتها كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأرض خيبر وبين إيقافها كما فعل عمر بسواد العراق، وقال وقال الشّافعيّ: تقسم الأرض كلها كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [خيبر] لأن الأرض غنيمة كسائر أموال الكفّار، وذهب مالك إلى إيقافها اتباعا لعمر، لأن الأرض مخصوصة من سائر الغنيمة بما فعل عمر في جماعة من الصّحابة: في إيقافها لمن يأتي بعده من المسلمين. وروى مالكٌ عن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سمعت عمر يقول: لولا أن يترك آخر النّاس لا شيء لهم ما افتتح المسلمون قريةً إلّا قسمته سهمانًا كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبر سهمانًا، وهذا يدل على أن أرض خيبر قسمت كلها سهمانا كما قال ابن إسحاق. وأما قول من قال إن خيبر كان بعضها صلحا وبعضها عنوة، فقد وهم وغلط، وإنّما دخلت عليه الشّبهة بالحصنين اللّذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائهم. فلمّا لم يكن أهل ذينك الحصنين من الرّجال والنّساء والذرية لضرب من الصّلح، ولكنهم لم يتركوا أرضهم إلّا بالحصار والقتال، فكان حكم أرض ذينك الحصنين كحكم سائر أرض خيبر كلها غنيمة مغلوبًا عليها عنوة مقسومة بين أهلها. وربما شبه على من قال: إن نصف خيبر صلح ونصفها عنوة بحديث يحيى بن سعيدٍ عن بشير بن يسارٍ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسم خيبر [نصفين: نصفًا له، ونصفًا للمسلمين. وهذا لو صحّ لكان معناه أنّ] النّصف له مع سائر من وقع في ذلك النّصف معه، لأنّها قسمت على ستّةٍ وثلاثين سهمًا، فوقع سهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وطائفةٍ معه في ثمانية عشر سهمًا منها، ووقع سائر النّاس في باقيها، وكلهم ممّن شهد الحديبية ثمّ شهد خيبر. وليست الحصون الّتي أسلمها أهلها [بعد الحصار والقتال صلحا، ولو كانت صلحا لملكها أهلها] كما يملك أهل الصّلح أراضيهم وسائر أموالهم. فالحق في هذا والصّواب ما قاله ابن إسحاق دون ما قاله موسى وغيره عن ابن شهاب. والله أعلم.
قال أبو عمر:
قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خيبر، وأخرج الخمس ممّا قسم، ولم يقدر أهلها على عمارتها وعملها فأقر اليهود فيها على العمل في النّخل والأرض، وقال لهم: "أقركم ما أقركم الله". ثمّ أذن الله له في مرضه الّذي مات فيه بإخراجهم، فقال: "لا يبقين دينان بأرض العرب". وقال عليه السّلام: "أخرجوا اليهود والنّصارى من أرض الحجاز". ولم يكن بقي يومئذٍ بها مشرك وثنى -ولا بأرض اليمن أيضا- إلّا أسلم في سنة تسع وسنة عشر. فلمّا بلغ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خلافته قوله عليه السّلام: "أخرجوا اليهود والنّصارى من أرض العرب" أجلاهم عنها، فأخذ المسلمون سهامهم في خيبر، فتصرفوا فيها تصرف المالكين.
قال ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبّار بن صخر الأنصاريّ من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين. وكانت قسمة خيبر لأهل الحديبية: من حضر الوقيعة بخيبر ومن لم يحضرها، لأن الله أعطاهم ذلك في سفر الحديبية. ولذلك قال موسى بن عقبة: لم يقسم من خيبر شيء إلّا لمن شهد الحديبية، وروى ذلك عن جماعة من السّلف.
قال ابن إسحاق: فوقع سهم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وعمر وعلي وطلحة وعبد الرّحمن بن عوف وعاصم بن عدي وسهام بني سلمة وسهام بني حارثة وبني ساعدة وبني النجار وغفار وأسلم وجهينة واللفيف، كلها وقعت في الشق. ووقع سهم أبي بكر والزّبير وسهام بني بياضة وبني الحارث بن الخزرج ومزينة بالنطاة، ولذكر سهامهم وأقسامهم موضع غير هذا. وكان عبيد بن أوس من بني حارثة قد اشترى يومئذٍ من سهام النّاس سهاما كثيرة، فسمى يومئذٍ عبيد السّهام، واشترى عمر بن الخطاب مائة سهم من سهام المسلمين، فهي صدقته الباقية إلى اليوم.
وأما فدك فلم يوجف عليها بخيل ولا ركاب فكانت كبني النّضير خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ومن العجب قول من قال إن الكتيبة لم تفتح عنوة وإنّها من صدقات النّبي عليه السّلام إلّا أن ينزل سهم النّبي عليه السّلام فيها مع المؤمنين وإلّا فلا وجه لقوله غير هذا. وبالله التّوفيق.
وفي غزوة خيبر حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحوم الحمر الأهليّة، لم تختلف الآثار في ذلك. واختلفت في حين تحريم المتعة بعد إباحتها. وقد ذكرنا الآثار بذلك في التّمهيد. وفيها أهدت اليهوديّة زينب بن [الحارث امرأة] سلام بن مشكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [الشّاة] المصلية وسمت له منها الذّراع وكان أحبّ اللّحم إليه صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا تناول الذّراع ولاكها لفظها ورمى بها، وقال: "إنّ هذا العظم يخبرني أنّه مسمومٌ". ودعا باليهوديّة فقال: "ما حملك على هذا؟ " فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا، وعلمت أن الله إن أراد بقاءك أعلمك. فلم يقتلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأكل من الشّاة معه بشر بن البراء بن معرور، فمات من أكلته تلك.
وكان المسلمون يوم خيبر ألفا وأربعمائة راجل ومائتي فارس). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 201-204]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (تسمية من استشهد من المسلمين يوم خيبر
ربيعة بن كثم بن سخبرة الأسدي من بني غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وثقف بن عمرو، ورفاعة بن مسروح. وكلهم من بني أسد، حلفاء لبني عبد شمس، ومسعود بن ربيعة القاري، من القارة، حليف لني زهرة.
وعبد الله بن الهبيب، ويقال ابن أهيب اللّيثيّ حليف لبني أسد بن عبد العزّى بن قصي وابن أختهم.
وبشر بن البراء بن معرور من بني سلمة مات من أكله مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشّاة المسمومة، وفضيل بن النّعمان من بني سلمة أيضا ومسعود بن سعد بن قيس الأنصاريّ الزرقي.
ومحمود بن مسلمة بن خالد أخو محمّد بن مسلمة من الأوس حليف لبني عبد الأشهل.
وأبو ضياح ثابت بن ثابت بن النّعمان من بني عمرو بن عوف من أهل قباء، ومبشر بن عبد المنذر بن دينار من بني مالك بن عمرو بن عوف، والحارث بن حاطب، وأوس بن قتادة، وعروة بن مرّة بن سراقة، وأوس بن الفاكه. وأنيف بن حبيب، وثابت بن واثلة بن طلحة، والأسود الرّاعي واسمه أسلم وكل هؤلاء من بني عمرو بني عوف.
ومن بني غفار: عمارة بن عقبة بن حارثة أصابه سهم فقتله.
ومن أسلم: عامر بن الأكوع). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 205]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): ( [قدوم بقيّة المهاجرين إلى الحبشة]
وقدم جعفر بن أبي طالب في جماعة من أرض الحبشة بإثر فتح خيبر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "والله ما أدري أبقدوم جعفر أنا أسرّ وأفرح أم بفتح خيبر؟ " وقدم [مع] جعفر امرأته أسماء بنت عميس، وابنها عبد الله بن جعفر، وخالد بن سعيد بن العاصي بن أميّة، معه امرأته أمينة بنت خلف، وابناهما: سعيد وأمة، وعمرو بن سعيد بن العاصي بن أميّة وكانت امرأته فاطمة بنت صفوان الكنانية قد ماتت بأرض الحبشة، ومعيقيب بن أبي فاطمة حليف آل سعيد بن العاصي، وأبو موسى الأشعريّ قيل إنّه حليف عتبة بن ربيعة، والأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد، وجهم بن قيس [بن] عبد شرحبيل العبدري، وابناه: عمرو بن جهم، وخزيمة بن جهم، وكانت امرأة جهم بن قيس: أم حرملة بنت عبد الأسود قد هلكت بأرض الحبشة، والحارث بن خالد بن صخر التّيميّ وكانت امرأته ريطة بنت الحارث بن جبيلة قد هلكت بأرض الحبشة، وعثمان بن ربيعة بن أهبان الجمحي، ومحمية بن جزء الزبيديّ حليف لبني سهم بن هصيص ولاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخمس، ومعمر بن عبد الله بن نضلة العذري، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس العامري، ومالك بن رمعة بن قيس العامري، ومعه امرأته عمرة بنت السّعديّ بن وقدان، وطائفة معهم.
وقد أتى من مهاجرة الحبشة قبل ذلك بسنتين سائرهم وكان هؤلاء آخر من بقي بها منهم). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 206]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (فتح فدك
ولما اتّصل بأهل فدك ما فعل رسول الله بأهل خيبر بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليأمنهم، فأجابهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك. وكانت فدك ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ممّا أفاء الله عليه بما نصره به عن الرعب، فلم يقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووضعها حيث أمره الله عز وجل.
قال ابن شهابٍ عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفايا بني النّضير وخيبر وفدكٍ). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 207]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (فتح وادي القرى
وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خيبر إلى وادي القرى، فافتتحها عنوة، وقسمها، وأصيب بها غلام له أسود يسمى مدعما أصابه سهم غربٌ فقتله، فقال النّاس: هنيئًا له الجنّة، فقال النّبي عليه السّلام: "كلا والّذي نفسي بيده إن الشّملة الّتي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم وإنّها لتشتعل عليه الآن نارا"). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 207]