9 Oct 2022
الدرس الثامن: من عمرة القضاء إلى غزوة حنين
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (عمرة القضاء
فلمّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة من خيبر أقام [بها] شهري ربيع وشهري جمادى ورجبا وشعبان ورمضان وشوالا، وبعث في خلال ذلك السّرايا. ثمّ خرج عليه السّلام في ذي القعدة من السّنة السّابعة من الهجرة قاصدا إلى مكّة للعمرة على ما عاقد عليه قريشًا في الحديبية. فلمّا اتّصل بقريش خرج أكابرهم عن مكّة عداوة لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقدروا على الصّبر في رؤيته يطوف بالبيت هو وأصحابه.
فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة، وأتم الله عمرته، وقعد بعض المشركين بقعيقعان ينظرون إلى المسلمين وهم يطوفون بالبيت، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالرّمل، ليري المشركين أن بهم قوّة، وكان المشركون قالوا في المهاجرين قد وهنتهم حمى يثرب. وتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوته ميمونة بنت الحارث بن حزن الخلالية، قيل تزوجها قبل أن يحرم بعمرة القضاء وقيل: بل تزوجها وهو محرم. وقد أوضحنا ذلك في كتاب التّمهيد وفي كتاب الصّحابة أيضا عند ذكرها، رضي الله عنها. فلمّا تمت الثّلاثة أيّام أوجبت عليه قريش أن يخرج عن مكّة، ولم يمهلوه أن يبني بها، وبنى بها بسرف). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 208]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): ( [إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة]
وقيل: أسلم قبل عمرة القضاء -وقيل بعدها- عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 208]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة مؤتة
فلمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عمرة القضاء أقام بالمدينة ذا الحجّة والمحرم وصفرا وشهري ربيع، ثمّ بعث عليه السّلام في جمادى الآخرة من السّنة الثّامنة من الهجرة بعث الأمراء إلى الشّام. وأمّر على الجيش زيد بن حارثة مولاه، وقال: "إن قتل أو أصيب فعلى النّاس جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة" وشيعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وودعهم ثمّ انصرف، ونهضوا.
فلمّا بلغوا معان من أرض الشّام أتاهم الخبر بأن هرقل ملك الرّوم في ناحية البلقاء وهو في مائة ألف من الرّوم ومائة ألف أخرى من نصارى العرب أهل البلقاء من لخم وجذام وقبائل قضاعة من بهراء وبلي وبلقين وعليهم رجل من بني إراشة من بلي يقال له مالك بن رافلة فأقام المسلمون في معان [ليلتين] وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونخبره بعدد عدونا فيأمرنا بأمره أو يمدنا. فقال لهم عبد الله بن رواحة: يا قوم إن الّتي تطلبون قد أدركتموها -يعني الشّهادة- وما نقاتل النّاس بعدد ولا قوّة، وما نقاتلهم إلّا بهذا الدّين الّذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فهي إحدى الحسنيين،: إمّا ظهور، وإمّا شهادة. فوافقه الجيش كله على هذا الرّأي.
ونهضوا حتّى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقوا الجموع الّتي ذكرناها كلها مع هرقل إلى جنب قرية يقال لها: مشارف. وصار المسلمون في قرية يقال لها مؤتة. فجعل المسلمون على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عباية بن مالك الأنصاريّ، وقيل عبادة بن مالك، واقتتلوا فقتل الأمير الأول: زيد بن حارثة ملاقيا بصدره الرماح مقبلا غير مدبر والراية في يده. فأخذها جعفر بن أبي طالب، ونزل عن فرس له يقال لها شقراء، وقيل: إنّه عرقبها وعقرها وقاتل حتّى قطعت يمينه، فأخذ الرّاية بيساره فقطعت، فاحتضن الرّاية، فقتل كذلك، رضي الله عنه، وسنّه ثلاث وثلاثون أو أربع وثلاثون سنة. فأخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتردد عن النّزول بعض التّردّد، ثمّ صمم، فقاتل، حتّى قتل. فأخذ الرّاية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: لا، فدفع الرّاية إلى خالد بن الوليد فقال: أنت أعلم بالقتال مني. فأخذها خالد بن الوليد، وانحاز بالمسلمين. وأنذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [أصحابه] بالمدينة يخبرهم [بقتل الأمراء المذكورين] في يوم قتلهم قبل ورود الخبر بأيام). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 209-210]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (تسمية من استشهد بمؤتة
زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، ومسعود بن الأسود بن حارثة من بني عدي بن كعب من الأنصار، ووهب بن سعد بن أبي سرح العامري، وعباد بن قيس من بني الحارث بن الخزرج بن النّعمان من بني مالك بن النجار، وسراقة بن عمرو بن عطيّة من بني مازن بن النجار، وأبو كليب وقيل أبو كلاب، وأخوه جابر ابنا عمرو بن زيد من بني مازن بن النجار، وعمرو، وعامر ابنا سعد بن الحارث من بني النجار. هؤلاء من ذكر منهم. وكان عدّة المسلمين يوم مؤتة ثلاثة آلاف). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 210]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة فتح مكّة
فأقام صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة بعد بعث مؤتة جمادى ورجبا، ثمّ حدث الأمر الّذي أوجب نقض عقد قريش المعقود يوم الحديبية، وذلك أن خزاعة كانت في عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤمنها وكافرها، وكانت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة في عقد قريش، فعدت بنو بكر بن عبد مناة على قوم من خزاعة على ماء لهم بأسفل مكّة، وكان سبب ذلك أن رجلا يقال له مالك بن عباد الحضرميّ حليفا لآل الأسود بن رزن خرج تاجرًا، فلمّا توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله، وذلك قبل الإسلام بمدّة. فعدت بنو بكر بن عبد مناة رهط الأسود بن رزن على رجل من خزاعة فقتلوه بمالك بن عباد. فعدت خزاعة على سلمى وكلثوم وذؤيب بني الأسود بن رزن فقتلوهم. وهؤلاء الإخوة أشراف بني كنانة كانوا يودون في الجاهليّة ديتين ديتين، ويودى في سائرهم دية دية، وذلك كله قبل الإسلام فلمّا جاء الإسلام حجز ما بين من ذكرنا لشغل النّاس به.
فلمّا كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية أمن النّاس بعضهم بعضًا، فاغتنم بنو الديل من بني بكر بن عبد مناة تلك الفرصة وغفلة خزاعة وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي بمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة حتّى بيت خزاعة، ونال منهم فاقتتلوا. وأعانت قريش بني بكر بالسّلاح، وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم مستخفين. فانهزمت خزاعة إلى الحرم. فقال قوم نوفل بن معاوية لنوفل: يا نوفل اتّق إلهك ولا تستحل الحرم ودع خزاعة، فقال: لا إله لي اليوم، والله يا بني كنانة إنّكم لتسرقون في الحرم، أفلا تدركون فيه ثأركم، فقتلوا رجلا من خزاعة يقال له منبّه ودخلت خزاعة دور مكّة في دار بديل بن ورقاء الخزاعيّ ودار مولى لهم يسمى رافعا. وكان ذلك نقضا للصلح الواقع يوم الحديبية.
فخرج عمرو بن سالم الخزاعيّ وبديل بن ورقاء الخزاعيّ وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستغيثين به ممّا أصابهم به بنو بكر بن عبد مناة وقريش وأنشده عمرو بن سالم الشّعر الّذي ذكرته في بابه من كتاب الصّحابة، فأجابهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى نصرهم، وقال: "لا ينصرني الله إن لم أنصر بني كعب" ثمّ نظر إلى سحابة، فقال: "إنّها لتستهل بنصرتي كعبًا" يعني خزاعة. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبديل بن ورقاء ومن معه: "إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في مدّة الصّلح، وسينصرف بغير حاجة".
وندمت قريش على ما فعلت، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليشد العقد ويزيد في المدّة، فلقي بديل بن ورقاء بعسفان فكتمه بديل مسيره إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره أنه إنّما سار بخزاعة على السّاحل. فنهض أبو سفيان حتّى أتى المدينة، فدخل على ابنته: أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها، فذهب ليقعد على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [فطوته عنه فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟] قالت: بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنت رجل مشرك [نجس فلم أحب أن] تجلس عليه، فقال لها: يا بنية لقد أصابك بعدي شرّ. ثمّ أتى النبيّ عليه السّلام في المسجد، فكلمه، فلم يجبه بكلمة. ثمّ ذهب أبو سفيان إلى أبي بكر، فكلمه في أن يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أتى له فأبى عليه أبو بكر من ذلك فلقي عمر فكلمه في ذلك، فقال له عمر: أنا أفعل هذا؟!! والله لو لم أجد إلّا الذّر لجاهدتكم به. فدخل على عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، فوجده وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحسن وهو صبي فكلمه فيما أتى له، فقال له عليّ: والله ما أستطيع أن أكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمر قد عزم عليه. فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة فقال: يا بنت محمّد هل لك أن تأمري بنيّك هذا فيجير على النّاس، فقال له: ما بلغ بنيي ذلك، وما يجير أحد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له عليّ: يا أبا سفيان أنت سيد بني كنانة، فقم، فأجر على النّاس والحق بأرضك،
وهزيء به، فقال له: يا أبا الحسن أترى ذلك نافعي ومغنيا عني [شيئا] ؟ قال: ما أظن ذلك، ولكن لا أجد لك سواه. فقام أبو سفيان في المسجد فقال: يا أيها النّاس إنّي قد أجرت على النّاس. ثمّ ركب وانطلق راجعا إلى مكّة. فلمّا قدمها أخبر قريشًا بما لقي وبما فعل، فقالوا له: ما جئت بشيء، وما زاد عليّ بن أبي طالب على أن لعب بك.
ثمّ أعلن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسير إلى مكّة، وأمر النّاس بالجهاز لذلك، ودعا الله تعالى في أن يأخذ عن قريش الأخبار ويستر عنهم خروجه، فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بقصد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم. فنزل جبريل من عند الله تعالى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بما صنع حاطب بن أبي بلتعة. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بن أبي طالب والزّبير بن العوام والمقداد بن عمرو، فقال لهم: "انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش". فانطلقوا فلمّا أتوا روضة خاخ وجدوا المرأة، فأناخوا بها وفتشوا رحلها كله، فلم يجدوا شيئا، فقالوا: والله ما كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لها عليّ: والله لتخرجنّ الكتاب أو لنلقين الثّياب، فحلت قرون رأسها، فأخرجت الكتاب منها. فأتوا به النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا هو كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "ما هذا يا حاطب؟ " فقال حاطب: والله يا رسول الله ما شككت في الإسلام ولا رجعت عن ديني، ولكنّي كنت ملصقًا في قريش فأردت أن أتّخذ عندهم بذلك يدا يحفظونني بها في شأفتي بمكّة لأن أهلي وولدي بها. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عشرة آلاف واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاريّ، وكان خروجه لعشر خلت من رمضان، فصام عليه السّلام حتّى بلغ الكديد بين عسفان وأمج، ثمّ أفطر صلّى الله عليه وسلّم بعد صلاة العصر، وشرب على راحلته علانية ليراه النّاس، وقال: "تقوّوا لعدوكم" وأمر النّاس بالفطر، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فلم يعب على الصّائم ولا على المفطر.
فلمّا نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر الظهران ومعه من بني سليم ألف رجل ومن بني مزينة ألف رجل وثلاثة رجال، وقيل من بني سليم سبعمائة، ومن بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم من سائر العرب، وقد أخفى الله عز وجل خبره عن قريش إلّا أنهم على وجلٍ وارتقاب. خرج أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام يتجسسون الأخبار. وقد كان العبّاس بن عبد المطلب هاجر مسلما [في] تلك الأيّام، فلقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذي الحليفة، فبعث ثقله إلى المدينة، وانصرف مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غازيا، فالعباس من المهاجرين قبل الفتح وقيل: بل لقيه بالجحفة مهاجرا. وذكر أيضا أن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أميّة بني المغيرة أخا أم سلمة خرجا أيضا مهاجرين، ولقيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض الطّريق قرب مكّة، فأعرض عنهما. فلمّا نزل استأذنا عليه، فلم يأذن لهما، فكلمته أم سلمة فيهما وقالت: لا يكون ابن عمك وأخي أشقى النّاس بك، فقد جاءا مسلمين، فأذن لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسلما وحسن إسلامهما.
فلمّا نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجيوش مر الظهران رقت نفس العبّاس لقريش وأسف على ذهابها وخاف أن تغشاهم الجيوش قبل أن يستأمنوا. فركب بغلة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ونهض، فلمّا أتى الأراك وهو يطمع أن يلقى حطابا أو صاحب [لبن] يأتي مكّة فينذرهم. فبينما هو يمشي إذ سمع صوت أبي سفيان صخر بن حرب وبديل بن ورقاء وهما يتساءلان وقد رأيا نيران عسكر النّبي عليه السّلام. وبديل يريد أن يستر ذلك فيقول: إنّما هي نيران خزاعة، ويقول له أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل [من] أن تكون لها هذه النيران. فلمّا سمع العبّاس كلامه ناداه: يا [أبا] حنظلة فميز أبا سفيان كلامه، فناداه: يا أبا الفضل، فقال: نعم، فقال له: فداك أبي وأمي، فقال له العبّاس: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النّاس، وأصباح قريش، فقال أبو سفيان: فما الحيلة؟ فقال له العبّاس: هذا والله لئن ظفر بك ليقتلنك، فارتدف خلفي وانهض معي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأردفه العبّاس ولقي به العسكر، فلمّا رأى النّاس [العبّاس] على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمسكوا. ومر على نار عمر [ونظر عمر إلى أبي سفيان] فميزه، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الّذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثمّ خرج يشتد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسابقه [العبّاس] فسبقه العبّاس على البغلة وكان عمر بطيئا في الجري. فدخل العبّاس ودخل عمر على أثره. فقال: يا رسول الله هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه بلا عقد ولا عهد، فأذن لي أضرب عنقه. فقال له العبّاس: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا ولكنه من بني عبد مناف. فقال عمر: مهلا، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلّا أنّي قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [من إسلام الخطاب لو أسلم]. فأمر [رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] العبّاس أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا. ففعل العبّاس ذلك، فلمّا أصبح أتى به النّبي عليه السّلام، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "ألم يأن لك بأن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ " فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وما أكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغناني، قال: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟ " قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه فإن في النّفس منها شيئا حتّى الآن. فقال له العبّاس: أسلم قبل أن تضرب عنقك، فأسلم، فقال العبّاس: يا رسول الله إن أبا سفيان يحب الفخر، فاجعل له شيئا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمّه: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن [ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن".
فكان هذا منه أمانًا لكل من لم يقاتل من أهل مكّة، ولهذا قال جماعة من أهل العلم منهم الشّافعي رحمه الله إن مكّة مؤمّنةٌ وليست عنوة، والأمان كالصلح، وروى أن أهلها مالكون رباعهم، ولذلك كان يجيز كراها لأربابها وبيعها وشراءها لأن من أمن فقد حرم ماله ودمه وذريته وعياله. فمكة مؤمنة عند من قال بهذا القول إلّا الّذين استثناهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر بقتلهم وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة. وأكثر أهل العلم يرون فتح مكّة عنوة لأنّها أخذت غلبة بالخيل والركاب إلّا أنّها مخصوصة بأن لم يجر فيها قسم غنيمة ولا سبي من أهلها أحد. وخصت بذلك لما عظم الله من حرمتها، ألا ترى إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم: "مكّة حرام محرمة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار، ثمّ هي حرام إلى يوم القيامة". والأصح والله أعلم أنّها بلدة مؤمنة، أمن أهلها على أنفسهم وأمنت أموالهم تبعا لهم. ولا خلاف [في] أنه لم يكن فيها غنيمة.
ثمّ أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العبّاس أن يوقف أبا سفيان بخطم الوادي ليرى جيوش الله تعالى، ففعل ذلك العبّاس، وعرض عليه قبيلة قبيلة، يقول: هؤلاء سليم، هؤلاء غفار، هؤلاء تميم، هؤلاء مزينة، إلى أن جاء موكب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في المهاجرين والأنصار خاصّة، كلهم في الدروع والبيض، فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ فقال: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المهاجرين والأنصار، فقال أبو سفيان: والله ما لأحد بهؤلاء قبل، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فقال العبّاس: يا أبا سفيان إنّها النّبوّة، قال: فنعم إذن. ثمّ قال له العبّاس: يا أبا سفيان النّجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان، فلمّا أتى مكّة عرفهم بما أحاط بهم، وأخبرهم بتأمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل من دخل داره أو المسجد أو دار أبي سفيان.
وتأبّش قوم ليقاتلوا، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرتب الجيوش، وجعل الرّاية بيد سعد بن عبادة، وكان من قول سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. فقال العبّاس: يا رسول الله هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم، إن سعد بن عبادة قال كذا وكذا وإنّه حنق على قريش، ولا بد أن يستأصلهم. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ تنزع الرّاية من سعد بن عبادة وتدفع إلى عليّ، وقيل: بل إلى الزبير، وقيل: بل دفها إلى ابنه قيس بن سعد لئلّا يجد سعد في نفسه شيئا. وكان الزبير على الميمنة وخالد بن الوليد على الميسرة، وقد قيل إن الزبير كان على الميسرة وخالد بن الوليد على الميمنة وفيها أسلم وغفار ومزينة وجهينة. وكان أبو عبيدة بن الجراح على مقدّمة موكب النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وسرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجيوش من ذي طوى، وأمر الزبير بالدّخول من كداء في أعلى مكّة، وأمر خالد بن الوليد ليدخل من الليط أسفل مكّة. وأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتال من قاتلهم. ولهذا كله يقول أكثر العلماء: إنّها افتتحت عنوة وإنّها مخصوصة دون سائر البلدان لما خصت به دون غيرها.
وكان عكرمة بن أبي جهل بن أميّة وسهيل بن عمر قد جمعا جمعا بالخندمة ليقاتلوا، فناوشهم أصحاب خالد القتال، فأصيب من المسلمين رجلان وهما: كرز بن جابر من بني محارب بن فهر بن مالك، وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم الخزاعيّ حليف بني منقذ خرجا عن جيش خالد فقتلا، رحمة الله عليهما، وقتل أيضا من المسلمين سلمة بن الميلاء الجهنيّ. وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلا، ثمّ انهزموا. وهذه سبيل العنوة في غير مكّة. وكان شعار المهاجرين يوم الفتح وحنين والطائف: يا بني عبد الرّحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس يا بني عبيد الله.
وكان الّذين استثناهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أمن النّاس عبد العزّى بن خطل وهو من بني الأدرم بن غالب، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، ومقيس بن صبابة، وقينتي بن خطل: فرتنى وصاحبتها كانتا تغنيان ابن خطل بهجو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب.
أما ابن خطل فإنّه كان أسلم وبعثه النّبي صلّى الله عليه وسلّم مصدقا، وبعث معه رجلا من المسلمين فعدا عليه، فقتله وارتد ولحق بالمشركين بمكّة، فوجد يوم الفتح متعلقا بأستار الكعبة، فقتله سعيد ين حريث المخزومي وأبو برزة الأسلميّ.
وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فكان يكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ لحق بمكّة مرتدا، فلمّا كان يوم الفتح اختفى. ثمّ أتى به عثمان بن عفّان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان أخاه من الرضاعة، فاستأمن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فسكت عنه صلّى الله عليه وسلّم [ساعة] ثمّ أمنه وبايعه. فلمّا خرج قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: "هلا قام بعضكم فضرب عنقه؟ " فقال رجل من الأنصار: هلا أومأت إليّ؟ فقال عليه السّلام: "ما كان لنبيّ أن يكون له خائنة الأعين". ثمّ عاش عبد الله بن سعد حتّى استعمله عمر، ثمّ ولاه عثمان مصر. وهو الّذي غزا إفريقية وافتتحها أول مرّة. وحسن إسلامه، ولم يظهر منه بعد في دينه شيء يكره.
وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى اليمن، فاتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فردته، فأسلم وحسن إسلامه، وكان من فضلاء الصّحابة وأما الحويرث بن نقيذ فكان يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكّة، فقتله عليّ بن أبي طالب يوم الفتح.
وأما قيس بن صبابة فكان قد أتى النّبي عليه السّلام قبل ذلك مسلما ثمّ عدا على رجل من الأنصار فقتله بعد أن أخذ الدّية منه في قتيل له، ثمّ لحق بمكّة مرتدا. فقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله اللّيثيّ وهو ابن عمه. وفي سننه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "لا أعفى أحدا قتل بعد أخذ الدّية". هذا من المسلمين، وأما مقيس بن صبابة فارتد وقتل بعد أخذ الدّية.
وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما واستؤمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للأخرى، فأمّنها، فعاشت مدّة ثمّ ماتت في حياة النّبي عليه السّلام.
وأما سارة فاستؤمن لها أيضا، وأمنها عليه السّلام، وعاشت إلى أن أوطأها رجلٌ فرسًا بالأبطح في زمان عمر فماتت.
واستتر رجلان من بني مخزوم عند أم هانيء بنت طالب فأجارتهما وأمنتهما، فأمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمانها، وقال: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء وأمنا من أمنت" وكان عليّ أراد قتلهما، قيل: إنّهما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أميّة أخو أم سلمة، وأسلما وكانا من خيار المسلمين، وقيل: إن أحدهما جعدة بن هبيرة، والأول أصح.
وطاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكعبة، ودعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة بعد أن مانعته أمه ذلك ثمّ أسلمته. فدخل النّبي الكعبة ومعه أسامة بن زيد، وبلال بن رباح، وعثمان بن طلحة، ولا أحد معه غيرهم. فأغلق الباب عليه. وصلى داخلها ركعتين. ثمّ خرج وخرجوا، ورد المفتاح إلى عثمان بن طلحة، وأبقى له حجابة البيت وقال: "خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة" فهي إلى الآن في ولد شيبة بن عثمان بن طلحة.
وأمر عليه السّلام بكسر الصّور الّتي داخل الكعبة وحولها وكسر الأصنام الّتي حول الكعبة وبمكة كلها، وكانت الأصنام الّتي في الكعبة مشدودة بالرصاص وكان يشير إليها بقضيب في يده، فكلما أشار إلى واحد منها خر لوجهه، وكان يقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا". وأذن له بلال على ظهر الكعبة.
وخطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثاني يوم الفتح خطبة مشهورة عند أهل الأثر والعلم بالخبر، فوضع مآثر الجاهليّة حاشا سدانة البيت وسقاية الحاج، وأخبر صلّى الله عليه وسلّم أن مكّة لم يحل فيها القتال لأحد قبله، ولا يحل لأحد بعده، وإنّما حل له القتال في ساعة من نهار، ثمّ عادت كحرمتها بالأمس، لا يسفك فيها دم. ومن أحسن ما روي من خطبته مختصرا ما رواه يحيى بن سعيدٍ الأمويّ وغيره، عن محمّد بن إسحاق، عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزّبير عن أبيه:
أمر نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم ربيعة بن أميّة بن خلفٍ، فوقف تحت صدر راحلة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكان رجلا صيّتًا، فقال: "يا ربيعة قل: يا أيّها النّاس إنّ نبيّ الله يقول لكم: أتدرون أيّ بلدٍ هذا؟ وأيّ شهرٍ هذا؟ وأيّ يومٍ هذا؟ " فنادى بذلك، فقال النّاس: نعم هذا البلد الحرام والشّهر الحرام، فقال: "إنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة بلدكم هذا وكحرمة شهركم هذا وكحرمة يومكم هذا" ثمّ قال: "اللهمّ اشهد. أيّها النّاس إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا ليواطئوا عدّة ما حرّم الله، ألا وإنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض، وإنّ عدّة الشّهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله منها أربعةٌ حرمٌ: الثّلاثة متوالية، ورجبٌ مفردٌ الّذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلّغت؟ " فيقول النّاس: نعم. قال: "اللهمّ اشهد".
وتوقعت الأنصار أن يبقى النّبي عليه السّلام بمكّة، فأخبرهم أن المحيا محياهم وأن الممات مماتهم. ومر عليه السّلام بفضالة بن عمير بن الملوح اللّيثيّ، وهو عازم على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: "ما تحدث به نفسك؟ " قال: لا شيء كنت أذكر الله عز وجل، فضحك النّبي عليه السّلام، وقال: "أستغفر الله لك" ووضع يده عليه السّلام على صدر فضالة، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتّى ما أجد على ظهر الأرض أحب إليّ منه.
وهرب صفوان بن أميّة إلى اليمن، فاتبعه عمير بن وهب الجمحي بتأمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [إيّاه فرجع] فأكرمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال له: "انزل يا أبا وهب" فقال: إن هذا يخبرني عنك أنّك تمهلني شهرين، قال: "بل لك أربعة أشهر". وهرب ابن الزبعري الشّاعر إلى نجران ثمّ رجع، فأسلم. وهرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانئ بنت أبي طالب إلى اليمن، فمات هناك كافرًا.
ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السّرايا حول مكّة يدعو إلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال. وكان أحد أمراء تلك السّرايا: خالد بن الوليد خرج إلى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فقتل منهم وسبا، وقد كانوا أسلموا ولم يقبل خالد قولهم وإقرارهم بالإسلام، فوداهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بمال إليهم، فودى لهم جميع قتلاهم ورد إليهم ما أخذ منهم وقال لهم عليّ: انظروا إن فقدتم عقالًا لأدينه، فبهذا أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ورفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه فقال: "اللهمّ إنّي أبرأ إليك من صنع خالد".
ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى العزّى وكان بيتا بنخلة تعظمه قريش وكنانة وجميع مضر، وكان سدنته بنو شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم، فهدمه. وكان فتح مكّة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 211-222]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة حنين
فلمّا بلغ هوازن فتح مكّة جمعهم مالك بن عوف النصري من بني نصر بن معاوية، فاجتمع إليه قومه: بنو نصر وبنو جشم وبنو سعد بن بكر، وثقيف، وطائفة من بني هلال بن عامر. ولم يشهدها من قيس غير هؤلاء. وغابث عن ذلك عقيل، وقشير ابنا كعب بن ربيعة بن عامر. وبنو كلاب بن ربيعة بن عامر وسائر إخوتهم، فلم يحضرهم من كعب وقشير وكلاب أحد يذكر. وحملت بنو جشم مع أنفسهم شيخهم وكبيرهم: دريد بن الصمّة، وهو يومئذٍ شيخ كبير لا ينتفع به في غير رأيه، حملوه في هودج لضعف جسمه. وكان في ثقيف سيدان [لهم في الأحلاف] أحدهما قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، والآخر ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك. وكانت الرياسة في جميع العسكر إلى مالك بن عوف النصري، فحشد من ذكرنا، وساق مع الكفّار أموالهم، وماشيتهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن ذلك لتحمى به نفوسهم وتشتد في القتال عن ذلك شوكتهم.
ونزلوا بأوطاس، فقال لهم دريد بن الصمّة: مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصّغير ويعار الشّاء؟ قالوا: ساق مالك مع النّاس أموالهم وعيالهم [قال]: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، فسأله: لم فعلت ذلك؟ فقال مالك: ليقاتلوا عن أهليهم وأموالهم فقال دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنّها إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثمّ قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال دريد: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كلاب وكعب، فمن شهدها [من بني عامر؟] قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران، يا مالك إنّك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعليا قومهم، ثمّ الق الصّباة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. فأبى ذلك مالك وخالفت هوازن دريدا واتبعوه، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يغب عني:
يا ليتني فيها جذع... أخبّ فيها وأضع
وبعث [إليهم] رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ عشاء، فأتى بعد أن عرف مذاهبهم، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما شاهده منهم.
فعزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قصدهم، واستعار من صفوان بن أميّة بن خلف الجمحي دروعا، قيل: مائة درع، وقيل: أربعمائة. وخرج النّبي -عليه السّلام- في اثنى عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، إلى ما انضاف إليه من الأعراب: من سليم وبني كلاب وعبس وذبيان واستعمل على مكّة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة. ونهض -صلّى الله عليه وسلّم- في مقدمته مزينة، وفي الميمنة بنو أسد، وفي الميسرة بنو سليم وعبس وذبيان. وفي مخرجه هذا رأى جهال الأعراب شجرة خضراء، وكان لهم في الجاهليّة شجرة معروفة تسمى ذات أنواط يخرج إليها الكفّار يومًا معلوما في السّنة يعظمونها، فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط/ كما لهم ذات أنواط، فقال: عليه السّلام: الله أكبر، والّذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنّكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من [كان] قبلكم حذو القذة بالقذة، حتّى إنّهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.
ثمّ نهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتّى أتى وادي حنين وهو واد من أودية تهامة، وكان هوازن قد كمنت في جنبي الوادي، وذلك في غبش الصّبح، فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين، ولم يلو أحد على أحد، وثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته عليّ والعبّاس وأبو سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب، وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد وهو أيمن بن أم أيمن قتل يومئذٍ بحنين، والفضل بن العبّاس. وقيل في موضع جعفر بن أبي سفيان قثم من العبّاس. ولم ينهزم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ولا أحد من هؤلاء. وكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- على بغلته الشّهباء واسمها دندل والعبّاس آخذ بحكمتها، ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "أيها النّاس، إلى أين أيها النّاس؟! أنا رسول الله، وأنا محمّد بن عبد الله". وأمر العبّاس وكان جهير الصّوت أن ينادي: "يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشّجرة"، وبعضهم يرويه: "يا أصحاب السّمرة". وقد قيل إنّه نادى يومئذٍ: "يا معشر المهاجرين"، كما نادى: "يا معشر الأنصار". فلمّا سمعوا الصّوت أجابوا: لبيك، لبيك. وكانت الدعوة أولا يا للأنصار، ثمّ خصصت بأخرةٍ يا للخزرج. قال ابن شهاب: وكانوا أصبر عند الحروب. فلمّا ذهبوا ليرجعوا كان الرجل منهم لا يستطيع أن ينفذ ببعيره لكثرة الأعراب المنهزمين، فكان يأخذ درعه فيلبسها، ويأخذ سيفه ومجنه، ويقتحم عن بعيره [ويخلي سبيله] ويكر راجعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتّى إذا اجتمع حواليه صلّى الله عليه وسلّم مائة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضّرب.
واشتدت الحرب وكثر الطعن والجلاد، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ركائبه، فنظر إلى مجتلد القوم، فقال: "الآن حمي الوطيس". وضرب عليّ بن أبي طالب عرقوب جمل صاحب الرّاية أو فرسه فصرعه، ولحق به رجل من الأنصار، فاشتركا في قتله. وأخذ عليّ الرّاية، وقذف الله عز وجل في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة ورمى في وجوههم بالحصا، فلم يملكوا أنفسهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى}. [و] روينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممّن شهد حنينا قال: وقد سئل عن يوم حنين: لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتّى وصلنا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلمّا رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، وأخذ بكفه حصا أو ترابا، فرمانا به، وقال: شاهت الوجوه شاهت [الوجوه] فلم تبق عين إلّا دخلها من ذلك. فما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا.
وما استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا وأسرى هوازن بين يديه، وثبتت أم سليم في جملة من ثبت أول الأمر محتزمة ممسكة بعيرًا لأبي طلحة وفي يدها خنجر. وانهزمت هوازن. وملك العيال والأموال. واستحر القتل في بني مالك من ثقيف فقتل منهم خاصّة يومئذٍ سبعون رجلا منهم رئيساهم: ذو الخمار وأخوه عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة، ولم يقتل من الأحلاف إلّا رجلان، لأن قارب بن الأسود -وكان سيدهم يومئذٍ- فر بهم حين اشتدّ أول القتال. واستحر القتل في بني نصر بن معاوية. وهرب مالك بن عوف النصري في جماعة من قومه، ودخل الطّائف مع ثقيف. وانحازت طوائف من هوازن إلى أوطاس. وأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان السّلميّ من بني سليم دريد بن الصمّة، فقتله، وقد قيل إن قاتل دريد هو عبد الله بن قنيع بن أهبان من بني سليم، وقد قيل إن دريدا أسر يومئذٍ وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله لمشاهدته الحرب وموضع رأيه فيها. ولما انقضى الصدام نادى منادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من قتل قتيلا عليه بيّنة فله سلبه".
وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا عامر الأشعريّ واسمه عبيد وهو عم أبي موسى الأشعريّ في طائفة من المسلمين منهم أبو موسى إلى من اجتمع من هوازن بأوطاس. فشد على أبي عامر أحد بني دريد بن الصمّة فقتله، قيل: رماه سلمة بن دريد بن الصمّة بسهم فقتله. وأخذ أبو موسى الرّاية، وشد على قاتل عمه فقتله. وقيل: بل رمى أبا عامر رجلان من بني جشم، وهما: العلاء وأوفى ابنا الحارث، أصاب أحدهما قلبه والآخر ركبته، ثمّ قتلهما أبو موسى، وقيل: بل قتل أبو عامر تسعة إخوة من المشركين مبارزة، يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ثمّ يحمل عليه فيقتله، ثمّ حمل عليه عاشرهم فقتله. ثمّ أسلم ذلك العاشر بعد ذلك). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 223-228]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (تسمية من استشهد من المسلمين يوم حنين
واستشهد من المسلمين يوم حنين أربعة رجال: أيمن بن عبيد، وهو أيمن بن أم أيمن أخو أسامة بن زيد لأمه. ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، جمح به فرسه، فقتل. وسراقة بن الحارث بن عدي من بني العجلان من الأنصار. وأبو عامر الأشعريّ.
وكانت وقعة هوازن "وهي" يوم حنين في أول شوّال من السّنة الثّامنة من الهجرة وترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسم الغنائم من الأموال والنّساء والذراري، فلم يقسمها حتّى أتى الطّائف). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 228]