9 Oct 2022
الدرس التاسع: من غزوة الطائف إلى إسلام ثقيف
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة الطّائف
وكان منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حنين إلى الطّائف. لم يرجع إلى مكّة ولا عرّج على شيء إلّا غزو الطّائف قبل أن يقسم غنائم حنين وقبل كل شيء. فسلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجعرّانة في طريقه إلى الطّائف ثمّ أخذ على قرن. وابتنى في طريقه ذلك مسجدا وصلى فيه، وأقاد في ذلك المكان [بدم وهو أول دم أقيد به في الإسلام] من رجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل [فقتله به]. ووجد في طريقه ذلك حصنا لمالك بن عوف النصري فهدمه، ووجد هنالك أطما قد تمنّع فيه رجل من ثقيف في ماله، فأمر بهدمه. ولم يشهد غزوة حنين ولا الطّائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة الثقفيان، كانا قد خرجا يتعلمان صناعة المنجنيق والدبابات.
ثمّ نزل عليه السّلام بقرب الطّائف بواد يقال له العقيق، فتحصنت ثقيف وحاربهم المسلمون. وحصن ثقيف لا حصن مثله في حصون العرب. فأصيب من المسلمين رجال بالنّبل. فزال النّبي عليه السّلام من ذلك المنزل إلى موضع المسجد المعروف اليوم. فحاصرهم عليه السّلام بضعا وعشرين ليلة، بل بضع عشرة ليلة، وقيل: عشرين يومًا. وكان معه عليه السّلام امرأتان من نسائه، أم سلمة إحداهما، فموضع المسجد اليوم بين منزلهما يومئذٍ. وتولّى بنيان ذلك المسجد عمرو بن أميّة بن وهب بن معتب الثّقفيّ. وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقطع أعناب الطّائف إلّا قطعة عنب كانت للأسود بن مسعود أو لابنه في ماله، وكانت تبعد عن الطّائف وسأله الكفّ عنها فكف عنها.
وكان يجير بن زهير بن أبي سلمى المزنيّ الشّاعر بن الشّاعر شهد حنينا والطائف وكان حسن الإسلام). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 228-229]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (تسمية من استشهد من المسلمين في حصار الطّائف
واستشهد من المسلمين في حصار الطّائف:
سعيد بن سعيد بن العاصي بن أميّة، وعرفطة بن جناب الأزديّ حليف لبني أميّة، وعبد الله بن أبي بكر الصّديق أصابه سهم فاستمر منه مريضا حتّى مات منه في خلافة أبيه، وعبد الله [بن] أبي أميّة بني المغيرة المخزومي أخو أم سلمة، وعبد الله الأكبر بن عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب، والسائب بن الحارث بن قيس السّهمي، وأخوه عبد الله بن الحارث بن قيس السّهمي، وجليحة بن عبد الله اللّيثيّ من بني سعد بن ليث، وثابت بن الجذع الأنصاريّ من بني سلمة، والحارث بن سهل بن أبي صعصعة الأنصاريّ من بني مازن بن النجار، والمنذر بن عبد الله الأنصاريّ من بني ساعدة. ومن الأوس رقيم بن ثابت بن ثعلبة). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 229]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (باب في قسمة غنائم حنين وما جرى فيها
ثمّ انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الجعرّانة: موضع قريب من حنين. وكان قد استأنى بقسمة الغنائم رجاء أن يسلموا ويرجعوا إليه، فلمّا قسمت الغنائم هنالك أتاه وفد هوازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، فقال لهم: "قد كنت استأنيت بكم وقد وقعت المقاسم، وعندي ما ترون فاختاروا: إمّا ذراريكم ونساؤكم وإمّا أموالكم" فاختاروا العيال والذرية وقالوا: لا نعدل بالأنساب شيئا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إذا صليت الظّهر فتكلموا واطلبوا حتّى أكلم النّاس في أمركم". فلمّا صلى الظّهر تكلموا، وقالوا: نستشفع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين. فقال النّبي عليه السّلام: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب وبني هاشم فهو لكم" وقال المهاجرون والأنصار: أما ما كان لنا فهو لرسول الله عليه السّلام، وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن في قومهما أن يردوا عليهما شيئا ممّا وقع لهم في سهامهم. وامتنع العبّاس بن مرداس السّلميّ وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع بن حابس وعيينة قومهما فأبت بنو سليم وقالوا: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله عليه السّلام: "من ضن منكم بما في يديه فإنّا نعوضه منه".
فرد عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءهم وأبناءهم وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها. وكان عدد سبي هوازن ستّة آلاف إنسان فيهم الشيماء أخت النّبي عليه السّلام من الرضاعة وهي بنت الحارث بن عبد العزّى من بني سعد بن بكر [بن هوازن] بنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعطاها، ورجعت إلى بلادها مسرورة بدينها وبما أفاء الله عليها.
وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأموال بين المسلمين. وأعطى المؤلّفة قلوبهم وغيرهم من الخمس أو من جملة الغنيمة على مذهب من رأى أن ذلك إلى اجتهاد الإمام، وأن له أن ينفل في البدأة والرّجعة [حسب] ما رآه بظاهر قول الله تعالى: {قل الأنفال لله والرّسول} يحكم فيها بما أراه الله. وليس ذلك لغيره صلّى الله عليه وسلّم بظاهر قوله عز وجل: {واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}. وللقول في تلخيص ذلك مواضع غير هذا). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 230-231]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): ( [أعطيات المؤلّفة قلوبهم]
ولم يختلف أهل السّير وغيرهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى المؤلّفة قلوبهم من قريش وغيرهم، ولا ذكر للمؤلفة قلوبهم في غير آية قسم الصّدقات. قالوا: أعطى قريشًا مائة بعير، وكذلك أعطى عيينة بن حصن والأقرع بن حابس.
قال ابن إسحاق: أعطاهم يتألفهم ويتألف بهم قومهم وكانوا أشرافا، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام مائة بعير، وأعطى سهيل بن عمرو مائة بعير، وأعطى حويطب بن عبد العزّى مائة بعير، وأعطى صفوان بن أميّة مائة بعير، وكذلك أعطى مالك بن عوف والعلاء بن جارية [الثّقفيّ حليف بني زهرة]. قال: فهؤلاء أصحاب المئين.
وأعطى رجالًا من قريش دون المائة، منهم مخرمة بن نوفل الزّهريّ، وعمير بن وهب الجمحي، وهشام بن عمرو العامري، لا أعرف ما أعطاهم. وأعطى سعيد بن يربوع خمسين بعيرًا، وأعطى عبّاس بن مرداس السّلميّ أباعر قليلة، فتسخطها وقال في ذلك:
وكانت نهابا تلافيتها... بكرى على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا... إذا هجع النّاس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيـ... د بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
إلّا أفائل أعطيتها... عديد قوائمها الأربع
وما كان حصن ولا حابس... يفوقان شيخي في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما... ومن تضع اليوم لا يرفع
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "اذهبوا فاقطعوا عنّي لسانه" فأعطوه حتّى رضي، فكان ذلك قطع لسانه. وقيل إن عبّاس بن مرداس أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أنت القائل: فأصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة" فقال أبو بكر الصّديق: بين عيينة والأقرع. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "هما واحد". وقال أبو بكر: أشهد أنّك كما قال الله عز وجل: {وما علّمناه الشّعر وما ينبغي له}.
قال أبو عمر: لو كان ما أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المؤلّفة قلوبهم من غنائم حنين من خمس الخمس كما زعم من زعم ذلك أو من الخمس الّذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: "مالي من غنائمكم إلّا الخمس، والخمس مردود عليكم". ما شقّ ذلك والله أعلم على الأنصار، حتّى قالوا ما هو محفوظ عنهم. وقد كتبت ذلك فيما بعد. ولكنه صلّى الله عليه وسلّم علم من إيمانهم وكرمهم أنهم سيرضون بفعله، لأن حرصهم على ظهور الدّين من حرصه، رضي الله عنهم). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 231-233]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (تسمية المؤلّفة قلوبهم
من بني أميّة: أبو سفيان بن حرب بن أميّة، وابنه معاوية، وطليق بن سفيان بن أميّة، وخالد بن أسيد بن [أبي] العيص بن أميّة.
ومن بني عبد الدّار بن قصي: شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وأبو السنابل بن بعكك، وعكرمة بن عامر بن هاشم.
ومن بني مخزوم: زهير بن أبي أميّة، والحارث بن هشام، وأخوه خالد بن هشام، وهشام بن الوليد بن المغيرة، وسفيان بن عبد الأسد، والسائب بن أبي السّائب.
ومن بني عدي بن كعب: مطيع بن الأسود، وأبو جهم بن حذيفة.
ومن بني جمح: صفوان بن أميّة بن خلف، وأخوه أحيحة بن أميّة، وعمير بن وهب بن خلف.
ومن بني سهم: [عدي بن] قيس بن حذافة.
ومن بني عامر بن لؤي: حويطب بن عبد العزّى، وهشام بن عمرو بن ربيعة.
ومن سائر قبائل العرب: من بني الديل بن بكر بن عبد مناة: نوفل بن معاوية.
ومن بني قيس ثمّ من بني عامر بن صعصعة ثمّ من بني كلاب بن ربيعة بن عامر: علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلابٍ.
ومن بني عامر بن صعصعة: خالد بن هوذة بن ربيعة بن عمرو بن عامر، وأخوه حرملة بن هوذة.
ومن بني نصر بن معاوية: مالك بن عوف بن سعيد بن يربوع.
ومن بني سليم بن منصور: عبّاس بن مرداس.
ومن غطفان ثمّ من فزارة: عيينة بن حصن.
ومن بني تميم ثمّ من بني حنظلة: الأقرع بن حابس.
وقد ذكر في المؤلّفة حكيم بن حزام والنضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة أخو النّضر بن الحارث المقتول ببدر صبرا. وذكر آخرون النّضير بن الحارث فيمن هاجر إلى أرض الحبشة فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلّفة قلوبهم. ومن هاجر إلى أرض الحبشة فهو من المهاجرين الأوّلين ممّن رسخ الإيمان في قلبه، وقاتل دونه، ليس ممّن يؤلف عليه.
وعند إعطاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أعطى المؤلّفة قلوبهم ولم يعط الأنصار ولا المهاجرين قال ذو الخويصرة [التّميمي]: قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم يا محمّد! فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أجل، فكيف رأيت؟ " قال: لم أرك عدلت. فغضب النّبي عليه السّلام، وقال: "ويحك إن لم يكن العدل مني فعند من يكون؟!! " فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال: "لا، دعوه، سيكون له شيعة يتعمقون في الدّين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرّمية"). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 233-234]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (موقف بعض الأنصار
قال ابن إسحق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: لما أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك العطايا في قريش وقبائل العرب. ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتّى كثرت منهم القالة، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم بما صنعت في هذا الفيء الّذي أصبت: قسمت في قومك وأعطيت قوما من العرب عطايا عظاما، ولم يكن في هذا الحيّ من الأنصار منها شيء، قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟ " قال: يا رسول الله ما أنا إلّا من قومي، قال: "فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة". قال: فخرج سعد فجمع من الأنصار في تلك الحظيرة، وجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم. فلمّا اجتمعوا أتاه سعد، فقال: يا رسول الله قد اجتمع لك هذا الحيّ من الأنصار.
فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: "يا معشر الأنصار ما قالةٌ بلغتني [عنكم] ووجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ " قالوا: بلى لله ورسوله المنّ والفضل. ثمّ قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ " قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المنّ والفضل. فقال: "أما والله لو شئتم لقلتم [فصدقتم] ولصدّقتم: أتيتنا مكذّبًا فصدّقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسينك.
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعةٍ من الدّنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إيمانكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب النّاس بالشّاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ والّذي نفس محمّد بيده لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك النّاس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار. اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار". قال: فبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسما وحظا، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّقوا.
وروي أن قائلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وتركت جعيل بن سراقة الضمري؟ فقال رسول الله: "والّذي نفس محمّد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض مثل الأقرع وعيينة ولكنّي تألفتهما ليسلما ووكلت جعيلا إلى إسلامه".
وكان هذا القسم بالجعرانة. وروى أبو الزبير وغيره عن جابر، قال: بصرت عيناي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجعرانة، وفي ثوب بلال فضّة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبض ويعطي النّاس). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 235-236]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (عمرة رسول الله من الجعرّانة
ثمّ خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتمرًا من الجعرّانة إلى مكّة، وأمر ببقايا الفيء فخمس بناحية مر الظهران. فلمّا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عمرته انصرف إلى المدينة، واستخلف على مكّة عتاب بن أسيد بن أبي العيص، وهو ابن نيف وعشرين سنة.
ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة لست بقين من ذي القعدة. وكانت وقعة الطّائف في ذي القعدة المؤرخ من السّنة الثّامنة من الهجرة. وكانت غيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ خرج من المدينة إلى مكّة فافتتحها وأوقع بهوازن وحارب الطّائف إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وستّة عشر يومًا.
واستعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن عوف بن سعيد بن يربوع النصري على من أسلم من قومه من قبائل قيس. وأمره بمغاورة ثقيف، ففعل، وضيق عليهم. وحسن إسلامه وإسلام المؤلّفة قلوبهم حاشا عيينة بن حصن، فلم يزل مغموزا عليه.
وسائر المؤلّفة قلوبهم منهم الخير الفاضل المجمع على خيره كالحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومنهم دون هؤلاء وقد فضل الله النّبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض، وهو أعلم بهم.
ثمّ انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّقوا وأقام الحج للنّاس عتاب بن أسيد في تلك السّنة، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام. وحج المشركون على مشاعرهم. وكان عتاب بن أسيد خيّرًا فاضلا ورعا.
وقدم كعب بن زهير بن أبي سلمى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسلما وامتدحه، وقام على رأسه بقصيدته الّتي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول. وأنشدها إلى آخرها، وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم. وكان قبل ذلك حفظ له هجاءٌ في النّبي عليه السّلام، فعاب عليه الأنصار إذ لم يذكرهم، فغدا على النّبي عليه السّلام بقصيدة يمدح فيها الأنصار وقبل النّبي عليه السّلام إسلامه وسمع شعره وأثابه). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 237]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (غزوة تبوك
ثمّ أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة بعد انصرافه من حصار الطّائف ذا الحجّة والمحرم وصفرا وربيعا الأول وربيعا الآخر وجمادى الأول وجمادي الآخرة. وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزوة الرّوم، وهي آخر غزاة غزاها صلّى الله عليه وسلّم بنفسه. وكان خروجه إلى غزوته تلك في حر شديد [وحين طاب] أول الثّمر وفي عام جدب.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يخرج غازيا إلّا ورّى بغيره إلّا غزوة تبوك، فإنّه بينها للنّاس لبعد المسافة ونفقة المال والشّقّة وقوّة العدو المقصود إليه. فتأخر الجد بن قيس من بني سلمة، وكان متّهمًا بالنفاق فاستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في البقاء وهو غني قوي فأذن له، وأعرض عنه فنزلت فيه: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين}. وكان نفر من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهوديّ عند جاسوم يثبطون النّاس عن الغزو فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلحة بن عبيد الله في نفر، وأمرهم أن يحرقوا عليهم البيت، ففعل ذلك طلحة، فاقتحم الضّحّاك بن خليفة، وكان معهم في البيت، جدار الدّار، فوقع، فانكسرت رجله. وفر ابن أبيرق وكان معهم.
وأنفق ناس من المسلمين واحتسبوا، وأنفق عثمان رضي الله عنه نفقة عظيمة جهز بها جماعة من المعسرين في تلك الغزوة. وروي أنه حمل في تلك الغزاة على تسعمائة بعير ومائة فرس وجهزهم حتّى لم يفقدوا عقالًا ولا شكالا، وروي أنه أنفق فيها ألف دينار.
وفي هذه الغزوة أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم البكاؤن وهم سبعة: سالم بن عمير [من بني عمرو] بن عوف، وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرّحمن بن كعب من بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام من بني سلمة، وعبد الله بن المغفّل المزنيّ وقيل: بل هو عبد الله بن عمرو المزنيّ، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعرباض بن سارية الفزاريّ. فاستحملوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يجدوا عنده ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون. فسموا البكائين. وذكروا أن ابن يامين بن عمير النضري حمل أبا ليلى وعبد الله بن مغفل على ناضح له يعتقبانه، وزودهما تمرا كثيرا. واعتذر المخلفون من الأعراب، فعذرهم رسول الله عليه السّلام.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وضرب عسكره على باب المدينة، واستعمل عليها محمّد بن مسلمة، وقيل: بل سباع بن عرفطة، وقيل: بل خلف عليها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الأثبت: أن رسول الله خلف عليا في غزوة تبوك، فقال المنافقون: استثقله، فذكر ذلك عليّ رضوان الله عليه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خبر سعد، فقال: "كذبوا، إنّما خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه لا نبي بعدي". والآثار بذلك متواترة صحاح قد ذكرت كثيرا منها في غير هذا الموضع.
وخرج عبد الله بن أبي سلول بعسكره، فضربه على باب المدينة أيضا، فكان عسكره فيما زعموا ليس بأقلّ العسكريين، وهو يظهر الغزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا نهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تخلف عبد الله بن سلول فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، خلّفهم سوء نياتهم ونفاقهم.
وتخلف في هذه الغزاة من صالحي المسلمين ثلاثة رجال، وهم: كعب بن مالك الشّاعر من بني سلمة، ومرارة بن ربيعة ويقال ابن الرّبيع عمرو بن عوف، وهلال بن أميّة الواقفي. فافتقدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد يوم أو يومين، فقيل له: تخلفوا. فعجب من ذلك، وعز عليه لأنّه كان يعرف إيمانهم وفضلهم.
ونهض صلى الله عليه وسلم، فخطر على حجر ثمود، فأمر أصحابه أن لا يتوضئوا من بئر ثمود، ولا يعجنوا خبزًا بمائها، ولا يستعملوا شيئا منه، فقيل له: بأن قوما عجنوا منه، فأمر بالعجين، فطرح للإبل علفا. وأمرهم أن لا يستعملوا ماء بئر النّاقة في كل ما يحتاجون إليه. وأمر أصحابه عليه السّلام بأن لا يدخلوا بيوت ثمود، وقال: "لا تدخلوا [بيوت] هؤلاء المعذّبين إلّا أن تكونوا باكين [خشية] أن يصيبكم مثل ما أصابهم". ونهاهم أن يخرج أحدهم منفردا، فخرج رجلان من بني ساعدة، كل واحد منهما منفرد عن صاحبه، أحدهما يريد الغائط، فخنق فأخبر النّبي عليه السّلام، فدعا له، فشفي والآخر خرج في طلب بعير له فأخذته الرّيح ورمته في جبل طيء، فردته بعد ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعطش النّاس في تلك الغزاة عطشا شديدا، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربه فأرسل عليهم سحابة ارتووا منها ودوابّهم وإبلهم، وأخذوا حاجتهم [من الماء].
وأضل صلّى الله عليه وسلّم ناقته، وقال من في قلبه نفاق: محمّد يدعي أن خبر السّماء يأتيه [و] لا يدري أين ناقته فنزل الوحي بما قال هذا القائل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فدعا أصحابه، فأخبرهم بقول القائل، وأخبرهم أن الله عز وجل قد عرفه بموضع ناقته وأنّها في موضع كذا قد تعلق خطامها بشجرة، فابتدروا المكان الّذي وصف عليه السّلام، فوجدوها هنالك. وقيل إن قائل ذلك القول زيد بن اللصيت القينقاعي وكان منافقا، وقيل إنّه تاب بعد ذلك، وقيل لم يتب، والله أعلم.
وفي هذه الغزاة ذكروا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رأى أبا ذر يمشي في ناحية العسكر وحده، فقال: "يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده". فكان، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: مات بالربذة وحده، وأخرج بعد أن كفن إلى الطّريق يلتمس من يصلّي عليه، فصادف إقبال ابن مسعود من الكوفة فصلى عليه، وكان ممّن سمع هذا الحديث، فحدث به يومئذٍ أيضا.
ونزل القرآن من سورة براءة وسورة الأحزاب بفضيحة المنافقين الّذين كانوا يخذلون المسلمين، وتاب من أولئك مخشن بن حمير، ودعا الله أن يكفر عنه بشهادة يخفي بها مكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 238-241]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): ( [بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة]
وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة، وقال له: "يا خالد إنّك ستجده يصيد البقر". فأتاه خالد ليلًا وقرب من حصنه وأرسل الله تعالى بقر الوحش فأتت تحك حائط القصر بقرونها، فنشط أكيدر ليصيدها. وخرج في اللّيل، فأخذه خالد، وبعث به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعفا عنه النّبي عليه السّلام، ورده إلى حصنه بعد أن صالحه على الجزية. وصالح يحنة بن رؤبة صاحب أيلة على الجزية). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 241-242]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): ( [العودة من تبوك]
وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتبوك بضع عشرة ليلة، ولم يتجاوزها، ثمّ انصرف وكان في طريقه ماء قليل، فنهى أن يسبق أحد إلى الماء، فسبق إليه رجلان، فاستنفدا ما فيه، فسبهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال ما شاء الله أن يقول. ثمّ وضع يده في الماء ودعا الله فيه البركة، فجاشت العين بماء عظيم كفى الجيش كله. وأخبر عليه السّلام أن ذلك الموضع سيملأ جنانًا. فكان كذلك. وبنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين تبوك والمدينة مساجد كثيرة نحو ستّة عشر مسجدا، أولها مسجد بناه بتبوك وآخرها بذي خشب). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 242]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (مسجد الضرار
وكان أهل مسجد الضرار قد أتوه وهو متجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجدا لذي العيلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنّا نحب أن تأتينا فتصلّي فيه، فقال لهم: "أنا في شغل السّفر، وإذا انصرفت فسيكون" فلمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر في منصرفه بهدم مسجد الضرار: أمر بذلك مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعاصم بن عدي أخاه وأمر بإحراقه، وقال لهم: "اخرجوا إلى هذا المسجد الظّالم أهله، فاهدموه وأحرقوه" فخرجوا مسرعين. وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة من نار. ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه وكان الّذين بنوه: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر وابناه: مجمع وزيد ابنا جارية، ونبتل بن الحارث من بني ضبيعة، وبحزج وهو من بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان من بني ضبيعة [ووديعة بن ثابت] من بني أميّة بن زيد. وثعلبة بن حاطب مذكور فيهم، وفيه نظر، لأنّه قد شهد بدرًا.
ومات عبد الله ذو البجاد [ين] المزنيّ في غزوة تبوك، فتولّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر غسله ودفنه، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبره، وقال: "اللهمّ إنّي راض عنه، فارض عنه"). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 242-243]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): ( [حديث كعب بن مالك وأصحابه المتخلفين]
وأما اختصار حديث كعب بن مالك وأصحابه الّذين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك لغير ريبة في الدّين ولا تهمة نفاق إلّا ما كان من علم الله في إظهار حالهم والزّيادة في فضلهم، رويناه من طرق صحيحة لا أحصيها كثرة عن ابن شهاب، وخرجه المصنفون وأصحاب المساند. ذكره ابن شهاب عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالكٍ أنّ أباه حدثه، قال: سمعت أبي كعب بن مالك، قال، فذكر الحديث، وفيه قال كعب بن مالكٍ:
فلمّا بلغني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد توجّه قافلا من تبوك ثاب إليّ لبّي وعلمت أنّي قد فعلت ما لم يرض الله ورسوله في تخلّفي عنه. فقلت أكذبه، وتذكرت ما يكون الكذب الّذي أخرج به من ذلك، فلم يتّجه لي. فلمّا قيل إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أطلّ قادمًا زاح عنّي الباطل، وعلمت أنّي لا أنجو منه إلا بالصّدق. فلمّا صبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة نزل بالمسجد، فصلّى ركعتين. ثمّ جلس فجاء المتخلّفون، فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلا، فقبل منهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. وجئت فسلّمت عليه فتبسّم تبسّم المغضب، وقال لي: "ما خلّفك؟ ألم أكن ابتعت ظهر ك؟ " فقلت: والله يا رسول الله لو جلست بين يدي غيرك لرجوت أن أقيم عنده عذري لأنّي أعطيت جدلا ولكنّي قد علمت أنّي إن كذبتك اليوم أطلعك الله عليه غدًا، ففضحت نفسي. فوالله ما كان لي عذرٌ في التّخلّف عنك، وما كنت قطّ أقوى منّي حين تخلّفت عنك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أما هذا فقد صدقكم، فقم حتّى يقضي الله فيك" فقمت ومعي رجالٌ من قومي: بني سلمة يقولون: ما علمناك أتيت قطّ غير هذا الذّنب، أفلا اعتذرت إليه فيسعك ما وسع المتخلّفين؟ وكان يكفيك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى هممت أن أنصرف إلى رسول الله فأكذب نفسي ثمّ قلت: هل لقي مثل هذا أحدٌ غيري؟ قالوا: [نعم] رجلان قالا مثل مقالك، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العمريّ وهلال بن أميّة الواقفيّ. فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوةٌ، فصمتّ حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كلامنا أيّها الثّلاثة خاصّةً فاجتنبنا النّاس وتغيّروا لنا، حتّى تنكّرت لي نفسي والأرض الّتي أنا فيها. فأمّا صاحباي فقعدا في بيوتهما، وأمّا أنا فكنت أخرج فأشهد الصّلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق لا يكلّمني أحدٌ، وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلّم عليه ولا أسمعه يردّ عليّ، فأقول: ليت شعري هلّ ردّ في نفسه. وكنت أصلّي قريبًا منه، وأسارقه النّظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، فإذا التفتّ نحوه أعرض عنّي حتّى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مشيت حتّى تسوّرت جدار "حائط" أبي قتادة، وهو ابن عمّي وأحبّ النّاس إليّ، فسلّمت عليه، فوالله ما زاد على السّلام، فقلت: يا أبا قتادة نشدتك الله هل تعلم أنّي أحبّ الله ورسوله؟ فسكت فناشدته ثانيةً، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي فعدت فوثبت [فتسوّرت] الجدار، وخرجت. ثمّ غدوت إلى السّوق فإذا رجلٌ يسأل عنّي من نبط الشّام القادمين بالطّعام إلى المدينة، يقول: من يدلّ على كعب بن مالكٍ، فجعل النّاس يشيرون له إليّ فجاءني، فدفع إليّ كتاب من ملك غسّان، فإذا فيه: أمّا بعد فقد بلغنا أنّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ، فالحق بنا نواسك. فعمدت إلى تنّورٍ، فسجرت فيه الكتاب. وأقمت حالي حتّى إذا مضت أربعون ليلةً إذا رسول رسول الله أتاني، فقال لي: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلّقها أم ماذا؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني فيهم حتّى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاضٍ، وجاءت امرأة هلال بن أميّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إنّ هلال بن أميّة شيخٌ كبيرٌ ضائعٌ لا خادم له أفتكره أن أخدمه؟ قال: "لا ولكن لا يقربنّك" قالت: والله يا رسول الله ما به من حركةٍ إليّ، وما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومي هذا حتّى تخوّفت على بصره. وقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خدمة امرأتك فقد أذن لهلال بن أميّة؟ فقلت: والله لا أفعل، إنّي لا أدري ما يقول لي وأنا رجلٌ شابٌّ.
قال: فلبثنا في ذلك عشر ليالٍ فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن الكلام معنا. فلمّا صلّيت [الصّبح] صبح خمسين ليلة وأنا قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت وضاقت عليّ نفسي، فأنا كذلك إذ سمعت صوت صارخٍ قد وافى على ظهر سلعٍ [ينادي بأعلى صوته] : يا كعب بن مالكٍ أبشر، فخررت لله ساجدًا وعلمت أن قد جاء الفرج، وآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتوبة الله علينا حين صلّى الفجر فذهب النّاس يبشّروننا. وركض رجلٌ إليّ فرسًا وسعى ساعٍ من أسلم حتّى وافى على الجبل، وكان الصّوت أسرع من الفرس.
فلمّا جاءني الّذي سمعت صوته يبشّرني نزعت ثوبيّ فكسوتهما إيّاه، والله ما أملك يومئذٍ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما ثمّ انطلقت أتيمّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتلقّاني النّاس يبشّرونني بالتّوبة، ويقولون: لتهنك توبة الله عليك، حتّى دخلت المسجد، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسٌ، حوله النّاس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله، فحيّاني وهنّأني، ووالله ما قام إليّ رجلٌ من المهاجرين غيره قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة. قال: فلمّا سلّمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال [لي] ووجهه يبرق من السّرور: "أبشر بخير يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أمّك" قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: "لا بل من عند الله" قال: وكان رسول الله إذا استبشر كأنّ وجهه قطعة قمرٍ. فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إنّ من توبتي إلى الله أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك" قلت: إنّي ممسكٌ سهمي الّذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله إنّ الله قد أنجاني بالصّدق وإنّ من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقًا ما بقيت. وكان ما نزل في شأني من القرآن قوله تعالى جلّ ذكره: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} إلى قوله: {يا أيها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصّادقين} ). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 243-246]
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (إسلام ثقيف
ولما كان في رمضان سنة تسع من الهجرة منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تبوك أتاه وفد ثفيف. وقد كان عروة بن مسعود الثّقفيّ لحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حين انصرافه من حصار الطّائف، فأدركه قبل أن يدخل المدينة، فأسلم. وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، وكان سيد قومه ثقيف، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنّهم قاتلوك". وعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امتناعهم ونخوتهم، فقال: يا رسول الله إنّي أحبّ إليهم من أبكارهم ووثق بمكانه منهم، فانصرف إليهم ودعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنه قد أسلم. فرموه بالنّبل، فأصابه سهم، فقتله. فزعمت بنو مالك أنه قتله رجل منهم، فقيل له: ما ترى في دمك؟ فقال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها إليّ، فليس في إلّا ما في الشّهداء الّذين قتلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يدخل إليكم. وأوصى أن يدفن معهم. فهو مدفون خارج الطّائف مع الشّهداء وذكروا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "مثله في قومه مثل صاحب ياسين في قومه".
ثمّ إن ثقيفا رأوا أن لا طاقة لهم بما هم فيه من خلاف جميع العرب ومغاورتهم لهم والتضييق عليهم، فاجتمعوا على أن يرسلوا من أنفسهم رسولا، كما أرسلوا عروة، فكلّموا عبد يا ليل بن عمرو بن عمير، وكان في سنّ عروة بن مسعود، في ذلك، فأبى أن يفعل، وخشي أن يصنع به ما صنع بعروة بن مسعود، وقال: لست فاعلا إلّا أن ترسلوا معي رجالًا، فأجمعوا على أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك فيكونوا ستّة. فبعثوا مع عبد يا ليل: الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة من بني معتب، ومن بني مالك: عثمان بن أبي العاصي بن بشر بن عبد دهمان. وأوس بن عوف أخا بني سالم وقد قيل إنّه قاتل عروة، ونمير بن خرشة بن ربيعة.
فخرجوا حتّى قدموا المدينة، فأول من رآهم بقناة المغيرة بن شعبة، وكان يرعى ركاب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [في] نوبته، وكانت رعيتها نوبا عليهم، فترك عندهم الركاب، ونهض مسرعا، ليبشر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقدومهم، فلقي أبا بكر الصّديق، فاستخبره عن شأنه فأخبره بقدوم وفد قومه: ثقيف، للإسلام. فأقسم عليه أبو بكر أن يؤثره بتبشير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فأجابه المغيرة إلى ذلك. فكان أبو بكر هو الّذي بشر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك.
ثمّ رجع إليهم المغيرة. ورجع معهم، وأخبرهم كيف يحيون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يفعلوا وحيوه بتحيّة الجاهليّة. فضرب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبّة في ناحية المسجد وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الّذي يختلف بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهو الّذي كتب الكتاب لهم، وكان الطّعام يأتيهم من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا يأكلون حتّى يأكل منه خالد بن سعيد. وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يكتب كتابهم أن يترك لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين. فأبى رسول الله إلّا هدمها. وسألوه أن لا يهدموا أوثانهم وألا يكسروها بأيديهم، فأعفاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كسرها بأيديهم، وأبي أن يدع لهم وثنا. وقالوا: إنّما أردنا أن نسلم بتركها من سفهائنا ونسائنا، وخفنا أن نروع قومنا بهدمها حتّى ندخلهم الإسلام وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصّلاة، فقال لهم: "لا خير في دين لا صلاة فيه".
فلمّا كتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابهم أمر عليهم عثمان بن أبي العاصي، وكان أحدثهم سنا، ورآه أحرصهم على تعلم القرآن وشرائع الإسلام. وأمره أن يصلّي بهم وأن يقدرهم بأضعفهم ولا يطول عليهم. وأمره أن يتّخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرا وبعث معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الأوثان والطاغية وغيرها، فأقام أبو سفيان في ماله بذي الهزم، وقال للمغيرة: ادخل أنت على قومك. فدخل المغيرة. وشرع في هذم الطاغية وهي اللات. وقام دونه قومه بنو معتب خشية أن يرمى كما رمي عروة بن مسعود، وخرج نساء ثقيف يبكين اللات حسرا وينحن عليها. فهدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها.
وقد كان أبو مليح بن عروة [بن مسعود] وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة بن مسعود يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شيء أبدا، فأسلما. وقال لهما: "توليا من شئتما" فقالا: نتولى الله ورسوله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "وخالكما أبا سفيان بن حرب" [فقالا: وخالنا أبا سفيان بن حرب].
فلمّا أسلم أهل الطّائف ووجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية سأل أبو مليح بن عروة بن مسعود [رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] أن يقضي دين [أبيه] عروة من مال الطاغية. وسأل قارب بن الأسود مثل ذلك. والأسود وعروة أخوان لأب وأم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمغيرة وأبي سفيان: "اقضيا دين عروة من مال الطّاغية".
فقال قارب: يا رسول الله [و] دين الأسود. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إن الأسود مات مشركًا". فقال قارب: يا رسول الله لكن تصل مسلما ذا قرابة يعني نفسه إنّما الدّين عليّ وأنا الّذي أطلب به. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقضاء دين الأسود بن مسعود من مال الطاغية. فقضى أبو سفيان والمغيرة دين الأسود وعروة ابني مسعود من مال الطاغية). [الدرر في اختصار المغازي والسير: 247-249]