الدروس
course cover
الدرس العاشر: من حجة أبي بكر إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
9 Oct 2022
9 Oct 2022

1097

0

0

course cover
الدرر في اختصار المغازي والسير

القسم الثاني

الدرس العاشر: من حجة أبي بكر إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
9 Oct 2022
9 Oct 2022

9 Oct 2022

1097

0

0


0

0

0

0

0

الدرس العاشر: من حجة أبي بكر إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم


قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (حجّة أبي بكر الصّديق رضي الله عنه سنة تسع

وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر بالخروج إلى الحج وإقامته للنّاس، فخرج أبو بكر لذلك، ونزل صدر سورة براءة بعده. فقيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر يقرؤها على النّاس في الموسم؟ فقال: "إنّه لا يؤدّيها عني إلّا رجل من أهل بيتي". ثمّ دعا عليا، فقال له: "اخرج بهذه القصّة من صدر براءة، وأذّن بها في النّاس يوم النّحر إذا اجتمعوا بمنى". وأمره بما ينادي به في الموسم فخرج على ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العضباء، حتّى أدرك أبا بكر بالطّريق، فقال له أبو بكر بما رآه: أميرا أو مأمورا؟ قال: بل مأمورا.

ثمّ نهضا، فأقام أبو بكر للنّاس الحج سنة تسع على منازلهم الّتي كانوا عليها في الجاهليّة. وقد قيل: إن حجّة أبي بكر وقعت حينئذٍ في ذي القعدة على ما كانوا عليه من النسيء في الجاهليّة. وروى معمر، عن [ابن] أبي نجيح، عن مجاهد في قوله [تعالى] : {إنّما النسيء زيادة في الكفر} قال: كانوا يحجون [في كل] شهر عامين، حجّوا في ذي الحجّة عامين، ثمّ حجّوا في المحرم عامين، ثمّ حجّوا في صفر عامين، حتّى وافت حجّة أبي بكر [في الآخر من العامين] في ذي القعدة قبل حجّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ثمّ حج النّبي صلّى الله عليه وسلّم من قابل [في] ذي الحجّة، فذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول: "إنّ الزّمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض".

قال معمر، قال الزّهريّ، عن سعيد بن المسيب: لما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حنين اعتمر من الجعرّانة وأمّر أبا بكر على تلك الحجّة.

وذكر ابن جريج عن مجاهد، قال: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تبوك أراد الحج ثمّ قال: "إنّه يحضر البيت عراةٌ مشركون يطوفون بالبيت ولا أحبّ أن أحجّ حتّى لا يكون ذلك". فأرسل أبا بكرٍ ثمّ أردفه عليًّا.

قال أبو عمر:

بعث عليا ينبذ إلى كل ذي عهد عهده، ويعهد إليهم أن لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان مع سائر ما أمره أن ينادي به في كل موطن من مواطن الحج. فأقام الحج ذلك العام سنة تسع أبو بكر. ثمّ حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قابل حجّته الّتي لم يحجّ من المدينة غيرها. فوقعت حجّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العام المقبل في ذي الحجّة، فقال: "إن الزّمان قد استدار... " الحديث وثبت الحج في ذي الحجّة إلى يوم القيامة. فلمّا كان يوم النّحر في حجّة أبي بكر قام عليّ فأذن في النّاس بالّذي أمره به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: "أيها النّاس إنّه لا يدخل الجنّة كافر". روي في حديثه هذا: لا يدخل الجنّة إلّا نفس مؤمنة ولا يحجّ بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدّته. وأجّل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ثمّ لا عهد لمشركٍ ولا ذمّة لأحد كانت له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان.

حدّثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا أحمد بن زهير بن حربٍ، قال: حدّثنا سعيد بن سليمان، قال: حدّثنا عبّاد بن العوّام، قال: حدّثنا سفيان بن حصينٍ، قال: حدّثني أبو بشرٍ، عن مجاهدٍ:

أنّ أبا بكرٍ حجّ في ذي القعدة.

قال: حدّثنا سعيد بن سليمان، قال: حدّثنا عبّاد بن عبّادٍ، قال: قال سفيان بن حصينٍ "قال" وأخبرني إياس بن معاوية، عن عكرمة بن خالدٍ المخزوميّ أنّ أبا بكرٍ حجّ في ذي القعدة، فلمّا كان العام المقبل حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذي الحجّة، فخطب النّاس. وذكر الحديث.

حدّثنا عبد الوارث، قال: حدّثنا قاسمٌ، قال: حدّثنا بكر بن حمّادٍ، وحدّثنا عبد الله بن محمّدٍ، قال: حدّثنا محمّد بن بكرٍ، قال: حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا مسدّدٌ، قال: حدّثنا إسماعيل بن علبة، قال: حدّثنا أيّوب، عن محمّدٍ، عن أبي بكرة، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطب في حجّته، فقال: "إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض، السّنة اثنا عشر شهر، منها أربعةٌ حرمٌ: ثلاثةٌ متوالياتٌ ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم، ورجبٌ مفردٌ الّذي بين جمادى وشعبان").  [الدرر في اختصار المغازي والسير: 250-252]

هيئة الإشراف

#2

9 Oct 2022

قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (باب وفود العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بلادها للدخول في الإسلام

وذلك في سنة تسع وسنة عشر. وحجته صلّى الله عليه وسلّم في سنة عشر:

لما فتح الله عز وجل على رسوله عليه السّلام مكّة، وأظهره يوم حنين وانصرف من تبوك، وأسلمت ثقيف، أقبلت إليه وفود من العرب من كل وجه يدخلون في دين الله أفواجًا. وأكثرهم كان ينتظر ما يكون من قريش لأنهم كانوا أئمّة النّاس من أجل البيت والحرم وأنّهم صريح ولد إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم فلمّا فتح الله مكّة عليه أهلّ النّاس إليه، وكل من "قدم" عليه قدم راغبًا في الإسلام إلّا عامر بن الطّفيل وأربد بن قيس في وفد بني عامر، وإلّا مسيلمة في وفد بني حنيفة. فأما عامر بن الطّفيل بن مالك بن جعفر بن كلابٍ وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب فإنّهما قدما عليه في وفد بني عامر بن صعصعة وقد أضمر [عامر بن الطّفيل] الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم والغدر به، وأربد بن قيس هو أخو لبيد لأمه، [و] كان عامر بن الطّفيل قد قال له: إنّي شاغله عنك بالكلام، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسّيف. ثمّ جعل يسأله سؤال الأحمق ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "لا أجيبك في شيء ممّا سألت عنه حتّى تؤمن بالله ورسوله". وأنزل الله على أربد البهت والرعب فلم يرفع يدا. فلمّا يئس منه عامر قال: يا محمّد وإلّا لأملأنها عليك خيلا ورجالا. فلمّا وليا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "اللهمّ اكفني عامر بن الطّفيل وأربد بن قيس". وقال عامر لأربد: ما منعك أن تفعل ما تعاقدنا عليه، والله لا أخافك بعدها، وما كنت أخاف غيرك. وخرجا جميعًا في وفدهم راجعين إلى بلادهم، فلمّا كان ببعض الطّريق بعث الله على عامر بن الطّفيل الطّاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: أغدّةً كغدّة البكر أو غدّة البعير، وموتا في بيت سلوليّة. ووصل أربد إلى بلده فقال له قومه: ما وراءك؟ قال: والله لقد دعاني إلى عبادة شيء لو أنه عندي اليوم لرميته بالنّبل حتّى أقتله. فلم يلبث بعد قوله هذا إلّا يومًا أو يومين، وأنزل الله عليه صاعقة، وكان على جمل قد ركبه في حاجة، فأحرقه الله عز وجل هو وجمله بالصاعقة.

وقدم عليه صلّى الله عليه وسلّم وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب يكنى أبا هارون، وقيل بل هو مسيلمة بن ثمامة يكنى أبا ثمامة. واختلف في دخوله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فروي أنه دخل مع قومه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يسترونه بالثياب فكلمه [وسأله] فأجابه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنّك لو سألتني هذا العسيب -لعسيبٍ كان معه من سعف النّخل- ما أعطيتكه". وقد روي أن بني حنيفة لما نزلوا بالمدينة خلفوا مسيلمة في رحالهم وأنّهم أسلموا وذكروا مكان مسيلمة، وقالوا: إنّا قد خلّفنا صاحبا لنا في رحالنا يحفظها لنا. فأمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما سألوه، وأمر له بمثل ما أمر لقومه، وقال: "أما إنّه ليس بشركم مكانا" أي لحفظه ضيعة أصحابه، ثمّ انصرفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا انتهوا إلى اليمامة ارتدّ عدو الله مسيلمة وادّعى النّبوّة، وقال: قد أشركني الله في أمره. واتبعه أكثر قومه، وجعل لهم أسجاعا يضاهى بها القرآن، وأحل لهم الخمر [والزّنا]، وأسقط عنهم الصّلاة فمن سجعه قوله: "لقد أنعم على الحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى" ومثل هذا من سجعه، لعنه الله.

واتبعته بنو حنيفة إلّا ثمامة بن أثال الحنفيّ بقي على الإيمان بالله ورسوله ولم يرتد مع قومه.

وقدم "عليه" صلّى الله عليه وسلّم وفد بني تميم، منهم عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس الدّارميّ، وقيس بن عاصم المنقري، وعمرو بن الأهتم من بني منقر بن عبيد أيضا، والزبرقان بن بدر من بني بهدلة، ونعيم بن يزيد، وقيس بن الحارث، والحتات بن يزيد المجاشعي وهو الّذي آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين معاوية، وقد ذكرنا خبره في بابه من كتاب الصّحابة. وهؤلاء وجوه وفد تميم، وقدم معهم الأقرع بن حابس الدّارميّ وعيينة بن حصن الفزاريّ، وقد كانا قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسلما، وشهدا معه فتح مكّة وحنينا وحصار الطّائف، ثمّ جاءا مع وفد تميم. ونادوه من وراء الحجرات، وخبرهم في السّير والتّفسير. وأسلموا ولم يظهر منهم بعد الإسلام إلّا الخير والصّلاح إلّا أن عيينة كان أعرابيًا جافيا جلفا مجنونا أحمق مطاعًا في قومه.

وقدم عليه صلّى الله عليه وسلّم ضمام بن ثعلبة وافد قومه بني سعد بن بكر، وأسلم وحسن إسلامه، ورجع إلى قومه، فأسلموا.

وقدم عليه صلّى الله عليه وسلّم الجارود بن عمرو، وقيل: ابن بشر، العبدي في طائفة من قومه عبد القيس، وكان الجارود نصرانيّا فأسلم ومن معه، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ يحملهم، فقال: "والله ما عندي ما أحملكم عليه". فقالوا: إنّا نمر فنجد من ضوال الإبل في طريقنا فنأخذها؟ فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "ضالّة المؤمن حرق النّار". وحسن إسلام عبد القيس. وكان الجارود فاضلا صليبا في ذات الله. ولما ارتدّت العرب وارتد من ارتدّ من عبد قيس قام في رهطه، فأعلن بالإسلام ودعا إليه، وتبرأ ممّن ارتدّ من قومه، وثبت هو ورهطه على الإسلام، وقد كان قدم الأشج العصري من عبد القيس في وفد منهم قبل فتح مكّة فأسلموا. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث العلاء بن الحضرميّ قبل فتح مكّة إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم وحسن إسلامه، ثمّ هلك بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل ردة أهل البحرين، والعلاء عنده أمير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم على البحرين.

وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفد طييء، فيهم زيد الخيل وهو سيدهم، فعرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم الإسلام، فأسلموا. وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "ما وصف لي رجل من العرب إلّا وجدته دون ما وصف إلّا زيد الخيل فإن وصفه لم يبلغ [ما] وصف به". وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيد الخبر.

وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عدي بن حاتم الطّائي في قومه من طييء، وكان نصرانيّا، فمضى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأدخله [إلى بيته] تناول وسادة من أدم حشوها ليف، فطرحها، وقال له: "اجلس عليها" فقال: بل أنت فاجلس عليها يا رسول الله، فجلس رسول الله في الأرض وأجلسه على الوسادة، ثمّ لم يزل يكلمه ويعرض عليه ما في دينه النّصرانيّة ممّا أحدثوه فيه من الشّرك، ويعرض عليه الإسلام ويخبره أنه دين سيبلغ ما بلغ اللّيل والنّهار وأنه لا يبقى عربيّ إلّا دخل فيه طوعًا أو كرها، فقبل عدي الإسلام، وأسلم وحسن إسلامه، وتبعه قومه فأسلموا وحسن إسلامهم.

وقدم عليه فروة بن مسيك الغطيفي، وعداده في مراد، مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم وحسن إسلامه، وأمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قومه. ولم يرتد فروة حين ارتدّت العرب.

[وقدم عليه صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن معد يكرب، وكان قد قال لقيس بن المكشوح: إنّك سيد قومك وإن محمّدًا قد خرج بالحجاز نبيا، فاقدم بنا عليه، فإنّا إن قدمنا عليه لم يخف علينا أمره، فأبى قيس بن المكشوح، فقدم عمرو هو وناس معه من زبيد. وهجره قيس بن المكشوح وهدد كل واحد منهما صاحبه. ثمّ أسلم قيس بن المكشوح سنة عشر، وكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى فيروز الديلمي في قتال الأسود العنسي المتنبيء].

وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأشعث بن قيس في وفد كندة، قال ابن شهاب: في ثمانين رجلا من كندة، فأسلم وأسلموا، وقالوا: يا رسول الله نحن بنو آكل المرار وأنت من بني آكل المرار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لا، نحن من بني النّضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا". وتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قولهم، وقال لهم: "ائتوا العبّاس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث فناسبوهما بهذا النّسب" وذلك أن العبّاس وربيعة كانا تاجرين يضربان في البلاد، فكانا إذا نزلا بقوم قالا: نحن بنو آكل المرار يتعززان بذلك. فكان الأشعث يقول: والله لا أسمع أحدا يقول: إن قريشًا بنو آكل المرار إلّا ضربته ثمانين. وآكل المرار هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن كندي، ويقال كندة. قال ابن هشام: والأشعث بن قيس من ولد آكل المرار من قبل النّساء.

وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صرد بن عبد الله الأزديّ فأسلم وحسن إسلامه في وفد من الأزد، وأمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد -بمن أسلم- من يليه من أهل الشّرك من قبائل اليمن.

وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتاب ملوك حمير، مقدّمة من تبوك، بدخولهم في الإسلام، وإسلام همدان ومعافر وذي رعين، فكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا محفوظًا عند الرواة. وبعث إليه زرعة ذو يزن بن مالك بن مرّة الرهاوي بإسلامه وإسلام قومه ومفارقتهم الشّرك، فكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا.

وبعث فروة بن عمرو بن النافرة الجذامي ثمّ النفاثي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسولا بإسلامه وأهدى له بغلة. وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب بأرض الشّام، فلمّا بلغ الروم إسلامه طلبوه حتّى أخذوه فحبسوه فمات في حبسهم. وقد كان قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هدنة الحديبية قبل خيبر رفاعة بن زيد الجذامي ثمّ الضبيبي من بني الضبيب فأهدى له غلاما وأسلم وحسن إسلامه.

وقال أبو إسحاق السبيعي وغيره: كانت همدان قد قدم وفدهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منصرفه من تبوك، فآمنوا وأسلموا، وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكر ابن هشام خبرهم ورجزهم وشعرهم وما كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم، وذكر أنهم قدموا في الحبرات والعمائم العدنية. وفرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقدومهم وإسلامهم.

وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد في ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا ودخلوا فيما دعاهم خالد إليه من الإسلام. فأقام عندهم خالد يعلمهم كتاب الله وشريعة الإسلام. وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما فتح الله عليه من أهل نجران ومن إنصاف إليهم، فأجابه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كتابه، وأمره بالقدوم عليه، فقدم ومعه وفد بني الحارث بن كعب. فكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعث معهم عمرو بن حزم يفقههم في الدّين ويعلمهم السّنة، ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم. وكتب له بذلك كتابا فيه الصّدقات والديات وكثير من سنن الإسلام. ورجع وفد بني الحارث بن كعب إلى قومهم في بقيّة شوّال أو صدر ذي القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلّا أربعة أشهر، حتّى توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم).  [الدرر في اختصار المغازي والسير: 253-258]

هيئة الإشراف

#3

9 Oct 2022

قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): ( [حجّة الوداع]

قال ابن إسحاق:

فلمّا دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذو القعدة من سنة عشر تجهز للحجّ، وأمر النّاس بالجهاز [له] وخرج لخمس ليال بقين من ذي القعدة فيما حدّثني عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه [القاسم بن محمّد] عن عائشة.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا دجانة السّاعديّ، وقيل سباع بن عرفطة الغفاريّ.

قال أبو عمر:

ما كان في كتابنا هذا عن ابن إسحاق فروايتنا فيه عن عبد الوارث بن سفيان، عن قاسم بن أصبغ، عن محمّد بن عبد السّلام الخشني، عن محمّد بن البرقي، عن ابن هشام، عن زياد البكائي، عن محمّد بن إسحاق، وقراءة مني أيضا على عبد الله بن محمّد بن يوسف، عن ابن مفرج، عن ابن الأعرابي، عن العطاردي، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: وقراءة مني أيضا على عبد الوارث بن سفيان، عن قاسم [بن] أصبغ، عن عبيد بن عبد الواحد البزّار، عن [أحمد بن] محمّد بن أيّوب، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق. وما كان فيه عن موسى بن عقبة فقرأته على عبد الوارث بن سفيان وأحمد بن محمّد بن أحمد، عن قاسم، عن مطرف بن عبد الرّحمن بن قيس، عن يعقوب [عن] ابن فليح، عن موسى بن عقبة. ولي في ذلك روايات وأسانيد مذكورة في صدر كتاب الصّحابة. وفي الفهرسة روايتنا لكتاب الواقديّ وغيره تركنا ذلك ها هنا خشية الإطالة بذكره. وفي كتاب أبي بكر بن أبي خيثمة -روايتي له عن عبد الوارث عن قاسم عنه- من ذلك أطراف، والله المحمود على عونه وفضله كثيرا كما هو أهله.

قال الفقيه أبو عمر رضي الله عنه:

قال جماعة من أهل العلم بالسير والأثر إن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، لم يحجّ في الإسلام إلّا ثلاث حجات: اثنتين بمكّة. وواحدة بعد فرض الحج عليه من المدينة).  [الدرر في اختصار المغازي والسير: 259]

 

قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): ( [حديث جابر في حجّة الوداع]

وأحسن حديث في الحج وأتمه حديث جابر، حدّثناه أحمد بن سعيد بن بشر وأحمد بن قاسم بن عبد الرّحمن، قالا: حدّثنا محمّد بن عبد الله بن أبي دليمٍ، قال: حدّثنا محمّد بن وضاع، قال: حدّثنا محمّد بن مسعودٍ، قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ القطّان عن جعفر بن محمّدٍ، حدّثني أبي، قال: أتينا جابر بن عبد الله، وهو في بني سلمة، فسألناه عن حجّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحدّثنا:

أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، مكث بالمدينة تسع سنين، ثمّ أذّن في النّاس أنّ رسول الله حاجٌّ العام، فنزل بالمدينة بشرٌ كثيرٌ، كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله ويفعل ما يفعل. فخرج رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، لخمسٍ بقين من ذي القعدة وخرجنا معه، حتّى أتى ذا الحليقة. ونفست أسماء بنت عميسٍ بمحمّد بن أبي بكرٍ، فأرسلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: "اغتسلي واستثفري بثوبٍ، ثمّ أهلّي". فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتّى إذا استوت به ناقته على البيداء أهلّ بالتّوحيد. لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك، والملك، لا شريك لك. قال: ولبّى النّاس والنّاس يزيدون: ذا المعارج ونحوه من الكلام، ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يسمع ولا يقول لهم شيئًا. فنظرت مدّ بصري بين يدي رسول الله، من راكبٍ وماشٍ، ومن خلفه مثل ذلك، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك. قال جابرٌ: ورسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بين أظهرنا ينزل عليه القرآن، وهو يعلم تأويله، وما عمل به من شيءٍ عملنا. فخرجنا لا ننوي إلا الحجّ حتّى أتينا الكعبة، فاستلم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، الحجر الأسود، ثمّ رمل ثلاثًا ومشى أربعًا. حتّى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين وقرأ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى}. قال جعفرٌ: قال أبي: فقرأ فيهما بالتّوحيد: {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون} ثمّ استلم الحجر [الأسود] ثمّ خرج إلى الصّفا فقال: "نبدأ بما بدأ الله به" وقرأ: {إنّ الصّفا والمروة من شعائر الله}. ورقى على الصّفا حتّى إذا نظر إلى البيت كبّر ثمّ قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيءٍ قديرٌ. لا إله إلا الله [وحده] أنجز وعده، وصدق عبده وغلب أو قال: هزم الأحزاب وحده، [ثمّ دعا] ثمّ رجع إلى هذا الكلام، ثمّ دعا ثمّ رجع إلى هذا الكلام. ثمّ نزل حتّى إذا انصبّت قدماه في الوادي سعى حتّى صعد مشيًا حتّى أتى المروة فرقى عليها. حتّى إذا نظر إلى البيت قال عليها كما قال على الصّفا. فلمّا كان السّابع بالمروة قال: "أيها النّاس إنّي لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرةً، فمن لم يكن معه هديٌ فليحلّ وليجعلها عمرةً" فحلّ النّاس كلّهم. وقال سراقة بن خعثم، وهو في أسفل المروة: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبّك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصابعه، ثمّ قال: "للأبد بل لأبد [الأبد] " ثلاث مرّاتٍ، وقال: "دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة". وقدم عليٌّ رضي الله عنه من اليمن وقدم معه بهديٍ، وساق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه هديًا من المدينة، فإذا فاطمة قد حلّت ولبست ثيابًا صابغةً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، قالت: أمرني أبي. قال عليٌّ بالكوفة، لم يذكره جابرٌ: فانطلقت محرّشًا أستفتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الّذي ذكرت فاطمة. قال: قلت إنّ فاطمة لبست ثيابًا صابغةً واكتحلت، وقالت: أمرني أبي، قال: "صدقت، صدقت، أنا أمرتها". قال جابرٌ: فقال لعليٍّ: "بم أهللت؟ " قال: قلت: اللهمّ إنّي أهلّ بما أهلّ به رسولك، قال عليه السّلام: "فإنّ معي الهدي فلا تحلّ بحالٍ". وكان جماعة الهدي الّذي أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة والّذي أتى به عليٌّ مائةً. فنحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده ثلاثًا وستّين، وأعطى عليًّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه. ثمّ أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم من كل بدنةٍ ببضعةٍ فجعلت في قدرٍ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "قد نحرت ها هنا، ومنًي كلّها منحرٌ" ووقف بعرفة وقال: "وقفت ها هنا، وعرفة كلّها موقفٌ". ثمّ أتى المزدلفة فقال: "وقفت ها هنا، ومزدلفة كلّها موقفٌ".

أخبرنا عبد الله بن محمّدٍ، قال: حدّثني محمّد بن بكرٍ، قال: حدّثنا سليمان بن الأشعث أبو داود، قال: حدّثنا عبد الله بن محمّدٍ النّفيليّ وعثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمّارٍ وسليمان بن عبد الرّحمن، وربّما زاد بعضهم على بعضٍ الكلمة، قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل: [و] حدّثنا سعيد بن نصرٍ، قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا محمّد بن وضّاحٍ، قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدّثنا حاتم بن إسماعيل. وحدّثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا أحمد بن زهيرٍ، قال: حدّثنا محمّد بن سعيدٍ الأصفهانيّ وهارون بن معروفٍ، قالا: حدّثنا حاتم بن إسماعيل. وبعضهم يزيد على بعضٍ الكلمة والكلمتين والمعنى واحدٌ. قال: حدّثنا جعفر بن محمّدٍ عن أبيه، قال:

دخلنا على جابر بن عبد الله، وهو يومئذٍ قد ذهب بصره، فسأل عن القوم حتّى انتهى إليّ، فقلت: أنا محمّد بن عليّ بن حسين بن عليٍّ، وأنا يومئذٍ غلامٌ شابٌّ، فرحّب وسهّل، ودعا لي. فقالوا: جئنا نسألك فقال لي: سل عمّا شئت يا بن أخي، فقلت: أخبرني عن حجّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعقد تسعًا ثمّ قال:

أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحجّ، ثمّ أذّن في النّاس في العاشرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجٌّ، فقدم المدينة بشرٌ كثيرٌ كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعمل بمثل عمله. فخرجنا معه، حتّى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميسٍ محمّد بن أبي بكرٍ، فأرسلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي واستثفري بثوبٍ وأحرمي". وصلّى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في المسجد، ثمّ ركب القصواء حتّى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكبٍ وماشٍ، وعن يمينه ويساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله، فما عمل به من شيءٍ عملنا به. فأهلّ بالتّوحيد. لبّيك اللهمّ لبّيك، لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك. وأهلّ النّاس بهذا يهلّون [به] فلم يردّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، [عليهم] شيئًا منه، ولزم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، تلبيته، قال جابرٌ: لسنا ننوي إلا الحجّ، لسنا نعرف العمرة، حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الرّكن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا، ثمّ تقدّم إلى مقام إبراهيم، فقرأ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فجعل المقام بينه وبين البيت. قال جعفرٌ: فكان أبي يقول -ولا أعلمه ذكره إلا عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم- إنّه كان يقرأ في الرّكعتين: {قل هو الله أحدٌ} و {قل يا أيها الكافرون} ثمّ رجع إلى الرّكن فاستلمه. ثمّ خرج من الباب إلى الصّفا، فلمّا دنا من الصّفا قرأ: {إنّ الصّفا والمروة من شعائر الله} "نبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصّفا فرقى عليه حتّى رأى البيت، فاستقبل القبلة، ووحّد الله وكبّره، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيءٍ قديرٌ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده". ثمّ دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرّات ثمّ نزل إلى المروة حتّى إذا انصبّت قدماه رمل في بطن الوادي، حتّى إذا صعدتا مشى حتّى أتى المروة. ففعل على المروة كما فعل على الصّفا، حتّى إذا كان في آخر طوافٍ على المروة قال: "لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرةً، فمن كان [منكم] ليس معه هديٌ فليحلّ وليجعلها عمرةً" فحلّ النّاس كلّهم إلا النّبيّ عليه السّلام ومن كان معه هديٌ. فقال سراقة بن جعثمٍ: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبّك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بين أصابعه ثمّ قال: "دخلت العمرة في الحجّ -مرّتين- لا، بل لأبد الأبد". قال: وقدم عليٌّ من اليمن ببدنٍ إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فوجد فاطمة ممّن حلّ، ولبست ثيابًا صبيغًا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا. فكان عليٌّ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، محرّشًا على فاطمة، للّذي صنعت، مستفتيًا لرسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فيما ذكرت عنه، وأخبرته أنّي أنكرت ذلك عليها، فقال: "صدقت صدقت" ثمّ قال: "ماذا قلت حين فرضت الحجّ؟ قال: قلت: اللهمّ إنّي أهلّ بما أهلّ به رسولك، قال: "فإنّ معي الهدي فلا تحلّ". قال: فكان جماعة الهدي الّذي قدم به عليٌّ من اليمن والّذي أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من المدينة مائةً. قال: فحلّ النّاس كلّهم وقصّروا إلا النّبيّ عليه السّلام ومن كان معه هديٌ. فلمّا كان يوم التّروية توجّهوا إلى منًى، فأهلّوا بالحجّ. وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّى بها الظّهر والعصر والمغرب والعشاء والصّبح. ثمّ مكث قليلا، حتّى طلعت الشّمس. وأمر بقبّةٍ من شعرٍ تضرب له بنمرة. فسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا تشكّ قريشٌ إلا أنّه واقفٌ عند المشعر الحرام، كما كانت قريشٌ تصنع في الجاهليّة فأجاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أتى عرفة، فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتّى إذا زاغت الشّمس أمر بالقصواء، فرحلت له. فأتى بطن الوادي، فخطب النّاس فقال: "إنّ دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا [في بلدكم هذا] ألا كلّ شيءٍ من أمر الجاهليّة موضوعٌ تحت قدميّ، ودماء الجاهليّة موضوعةٌ، وإنّ أوّل دمٍ أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث -كان مسترضعًا في بني سعدٍ فقتلته هذيلٌ- وربا الجاهليّة موضوعٌ، وأوّل ربًا أضع [ربانا]: ربا عبّاس بن عبد المطّلب، فإنّه موضوعٌ كلّه، واتّقوا الله في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن [ذلك] فاضربوهنّ ضربًا غير مبرّحٍ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده أبدًا إن اعتصمتم به: كتاب الله. وأنتم مسئولون عنّي فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فقال بإصبعه السّبّابة يرفعها إلى السّماء ويشير إلى النّاس: "اللهمّ اشهد، اللهمّ اشهد، اللهمّ اشهد، ثلاث مرّاتٍ". ثمّ أذّن، ثمّ أقام فصلّى الظّهر، ثمّ أقام فصلّى العصر العصر، ولم يصلّ بينهما شيئًا. ثمّ ركب حتّى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته إلى الصّخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتّى غربت الشّمس وذهبت الصّفرة قليلا حين غاب القرص، وأردف أسامة بن زيدٍ خلفه، ودفع وقد شنق القصواء، حتّى إنّ رأسها ليصيب مورك رحله، [و] يقول بيده اليمنى: "أيّها النّاس السّكينة" كلّما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتّى تصعد، حتّى أتى المزدلفة، فصلّى بها المغرب والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئًا. ثمّ اضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى طلع الفجر، وصلّى الفجر حين تبيّن له الصّبح. بأذانٍ وإقامةٍ ثمّ ركب القصواء حتّى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبّره وهلّله ووحّده. ولم يزل واقفًا، حتّى أسفر جدًّا فدفع قبل أن تطلع الشّمس، وأردف الفضل بن عبّاسٍ، وكان رجلا أبيض حسن الشّعر وسيمًا، فلمّا دفع رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، مرّت [به] الظّعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهنّ، فوضع رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يده على وجه الفضل [فحوّل الفضل وجهه إلى الشّقّ الآخر ينظر، فحوّل رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يده من الشّقّ الآخر على وجه الفضل] يصرف وجهه من الشّقّ الآخر. حتّى أتى محسّرًا، فحرّك قليلا ثمّ سلك الطّريق الوسطى الّتي تخرج إلى ما يلي الجمرة الكبرى، حتّى أتى الجمرة الّتي عند الشّجرة فرماها بسبع حصياتٍ، يكبّر مع كلّ حصاةٍ منها -حصًا مثل حصا الحذف- رماها من بطن الوادي. ثمّ انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستّين بيده، ثمّ أعطى عليًّا، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه. ثمّ أمر من كلّ بدنةٍ ببضعةٍ، فجعلت في قدرٍ فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثمّ ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى البيت فأفاض، وصلّى بمكّة الظّهر وأتى بني عبد المطّلب وهم يسقون على زمزم، فقال: "انزعوا يا بني عبد المطّلب، فلولا أن يغلبكم النّاس على سقايتكم لنزعت معكم" وناوله دلوًا فشرب منه صلّى الله عليه وسلم).  [الدرر في اختصار المغازي والسير: 260-268]

هيئة الإشراف

#4

9 Oct 2022

قال أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البَرِّ النَّمريُّ (ت: 463هـ): (باب ذكر وفاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم

روى وكيعٌ، عن سفيان، عن عاصمٍ، عن ابن أبي رزينٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: لمّا نزلت: {إذا جاء نصر الله والفتح} السّورة كلّها علم النّبيّ عليه السّلام أنّه قد نعيت إليه نفسه.

وسأل عمر ابن عبّاسٍ عن هذه السّورة، فقال: يقول له: اعلم أنّك ستموت عند ذلك، فقال عمر: لله درّك يا بن عبّاسٍ، إعجابًا بقوله. وقد كان سأل عنها غيره من كبار الصّحابة فلم يقولوا ذلك.

ثمّ لمّا دنت وفاته أخذه وجعه في بيت ميمونة، فخرج إلى أهل أحدٍ، فصلّى عليهم صلاته على الميّت.

وكان أوّل ما يشكو في علّته الصّداع، فيقول: "وارأساه" ثمّ لمّا اشتدّ به وجعه استأذن أزواجه أن يمرّض في بيت عائشة، فأذنّ له في ذلك، فمرّض في بيت عائشة إلى أن مات فيه صلّى الله عليه وسلّم، وكان يقول في مرضه ذلك لعائشة: "ما زلت أجد ألم الطّعام الّذي أكلته بخيبر، ما زالت تلك الأكلة تعاودني، فهذا أوان قطعت أبهري". وأغمي عليه فظنّوا أنّ به ذات الجنب فلدّوه وكان العبّاس الّذي أشار بذلك، فلمّا أفاق أنكر ذلك عليهم، وأمر بالقصاص في ذلك منهم -واستثنى العبّاس برأيه- فلدّ كلّ من حضر في البيت إلا العبّاس.

وأوصاهم في مرضه بثلاثٍ: أن يجيزوا الوفد بنحوٍ ممّا كان يجيزهم به وأن لا يتركوا في جزيرة العرب دينين، [قال]: "أخرجوا منها المشركين. والله الله [في] الصّلاة، وما ملكت أيمانكم فأحسنوا إليهم". وقال: "لعن الله اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

وقال لهم: "هلمّوا أكتب لكم كتابًا لا تضلّوا بعده أبدًا". فاختلفوا وتنازعوا واختصموا، فقال: "قوموا عنّي، فإنّه لا ينبغي عندي تنازعٌ". وكان عمر القائل حينئذٍ: قد غلب عليه وجعه، وربّما صحّ، وعندكم القرآن. فكان ابن عبّاسٍ يقول: إنّ الرّزيّة كلّ الرّزيّة ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين أن يكتب ذلك الكتاب، لاختلافهم ولغطهم.

وسارّ فاطمة -رضي الله عنها- في مرضه ذلك، فقال لها: "بأن جبريل كان يعرض عليّ القرآن كلّ عامٍ مرّةً، وإنّه عرضه عليّ العام مرّتين، وما أظنّ أنّي ميّتٌ من مرضي هذا" فبكت، فقال لها: "ما يسرّك أنّك سيّدة نساء أهل الجنّة ما عدا مريم بنت عمران" فضحكت.

وكان يقول في صحّته: "ما يموت نبيٌّ حتّى يخيّر ويرى مقعده". روته عائشة.

قالت: فلمّا اشتدّ مرضه جعل يقول: "مع الرّفيق الأعلى، مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقًا".

وقال حين عجز عن الخروج إلى المسجد: "مروا أبا بكرٍ فليصلّ بالنّاس". وخرج يومًا من أيّام مرضه إلى المسجد تخطّ رجلاه في الأرض، يحمله رجلان أحدهما عليٌّ والآخر العبّاس، وقيل الفضل بن عبّاسٍ.

وقال في مرضه: "هريقوا عليّ من سبع قربٍ لم تحلل أوكيتهنّ لعلّي أعهد إلى النّاس" فأجلس في مخضبٍ لحفصة، ثمّ صبّ عليه من تلك القرب، حتّى طفق يشير بيده أن حسبكم. ثمّ خرج إلى النّاس فصلّى بهم. وقد أوضحنا معاني صلاته في مرضه بالنّاس مع أبي بكر ومكان المقدم منهما وما يصح في ذلك عندنا في كتاب التّمهيد، وبالله توفيقنا.

وأصبح النّاس يومًا يسألون عليًّا والعبّاس عن حال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اشتدّت به الحال، فقال عليٌّ: أصبح بخيرٍ، فقال العبّاس: ما الّذي تقول؟ والله لقد رأيت في وجهه من الموت ما لم أزل أعرفه في وجوه بني عبد المطّلب، ثمّ قال له: يا عليّ اذهب بنا نسأله فيمن يكون هذا الأمر بعده. فكره عليٌّ ذلك، فلم يسألاه. واشتدّ به المرض فجعل يقول: "لا إله إلا الله. إنّ للموت لسكراتٍ. الرّفيق الأعلى" فلم يزل يقولها حتّى مات.

ومات صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين بلا اختلافٍ، قيل: في وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتدّ الضّحى في صدر ربيعٍ الأوّل سنة إحدى عشرة لتمام عشر سنين من الهجرة ودفن يوم الثّلاثاء، وقيل: بل دفن ليلة الأربعاء ولم يحضر غسله ولا تكفينه إلا أهل بيته، غسّله عليٌّ، وكان الفضل بن عبّاسٍ يصبّ عليه الماء، والعبّاس يعينهم وحضرهم شقران مولاه. وقد ذكرنا في صدر كتاب الصّحابة سؤاله في هذا المعنى.

ولم يصدّق عمر بموته، وأنكر على من قال: مات، وخرج إلى المسجد، فخطب وقال في خطبته: إنّ المنافقين يقولون: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّي، والله ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى [عليه السّلام] ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلةً، ثمّ رجع إليهم، والله ليرجعنّ رسول الله كما رجع موسى، فليقطعنّ أيدي رجالٍ وأرجلهم، زعموا أنّ رسول الله مات.

ويأتي أبو بكرٍ بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكشف له عن وجهه صلّى الله عليه وسلّم، فقبّله، وأيقن بموته. ثمّ خرج فوجد عمر [رضي الله عنه] يقول تلك المقالة، فقال له: اجلس، فأبى عمر، فقال له: اجلس، فأبى. فتنحّى عنه، وقام خطيبًا، فانصرف النّاس إليه وتركوا عمر. فقال أبو بكرٍ [رضي الله عنه] : أمّا بعد فمن كان يعبد محمّدًا فإنّ محمّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيٌّ لا يموت ثمّ تلا: {وما محمّدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم...} الآية قال عمر [رضي الله عنه]: فلمّا سمعتها من أبي بكرٍ عرفت ما وقعت فيه، وكأنّي لم أسمعها قبل.

ثمّ اجتمع المهاجرون والأنصار في سقيفة بني ساعدة، فبايعوا أبا بكرٍ رضي الله [عنهم أجمعين]. ثمّ بايعوه بيعةً أخرى من الغد على ملإٍ منهم ورضًا، فكشف الله به الكربة من أهل الرّدّة، وقام به الدّين، والحمد لله رب العالمين.

كمل كتاب الدّرر بحمد الله وعونه وحسن توفيقه).  [الدرر في اختصار المغازي والسير: 269-272]