10 Oct 2022
الدرس الأول: تمهيد
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (تمهيد
الحمد لله الذي أنزل أحسن الحديث، وأودع درر بيانه في محكم الحديث، وألهم حملته العدول، وحفظته الفحول، إيضاح مصطلحه وقواعده، ليدنوا اجتناء ثمرات فوائده فإنه لسماء المعارف الشمس البازغة، وللهداية إلى طريق الحق الحجة الدامغة، أحمده حمد من أعمل بالحمد لسانه، وشغل بالشكر أركانه وجنانه، وأشكره شكر معترف بامتنانه، مغترف من بحر بره وإحسانه وأصلي وأسلم على من أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، سيدنا محمد أفضل من كحلت به الرسالة أجفانها، ونظمت به النبوة جمانها، وعلى آله الفائزين بتلقي إرساله، واتباع أقواله وأفعاله، وعلى أصحابه الذين دأبوا في المآثر الصالحة، ونصبوا على تعاطي التجارات الرابحة، وعلى السادة الأتباع، الذين اقتفوا مسالك الأتباع، وجانبوا محدثات الابتداع، وعلى من تبعهم بإحسان، وتأسى بهم في حفظ الهدي النبوي المصون، ما أرسل راو الإسناد وعنعنه، وصحح متنه وحسنه.
أما بعد: فإن من سعادة الأمة أن يكون لديها من العلماء طائفة مهتمة، يختص عملها بتنوير عقولهم بالمعارف الحقة، وتحليتها بالعلوم الصافية بكمال الدقة، لا ينون في تبيين طرق السعادة ومواردها. ولا يألون جهدًا في السلوك بهم في جوادها، وذلك أن بداهة العقل حاكمة بأن جل المعارف البشرية، والعقائد الدينية، والأحكام الشرعية، مكتسبة أي من العلوم النظرية، فإن لم يكن في الناس معلم حكيم، قصرت العقول عن درك ما ينبغي لها دركه من التقويم، وانقطعت دون الكفاية مما يلزم لسد ضرورات الحياة الأولى، والاستعداد لما يكون في الأخرى، وساوى الإنسان في معيشته سائر الحيوانات، وحرم سعادة الدارين وفارق هذه الدنيا على أتعس الحالات. وإن من أعظم ما يسعى إليه الساعون، ويتنافس في الدعوة إليه المتنافسون، علوم الحديث الكاشفة النقاب، عن جمال وجوه مجملات الكتاب، والمدار لتفصيل الأحكام، وتبيين أقسام الحلال والحرام: إذ مستندها ما صح من الأخبار، وثبت حسنه من الآثار، ولا طريق لتعريف ذلك، إلا بما اصطلح عليه من أصول تلك المسالك. ولما كان الشيء يشرف بشرف موضوعه أو بمسيس الحاجة إليه، كان فن المصطلح مما جمع الأمرين، وفاز بالشرفين؛ لأنه يبصر من سواء السبيل الجواد، ويرقى الهمم لتعرف سنن الرشاد، وإني منذ تنشقت من علم الحديث أرج أردانه، حتى عمت من بحره في زاخره، وجريت طلقًا في ميدانه، لم أزل أسرح طرق الطرف في رياضه، وأورد ذود الفكر في حياضه، أستشيم بارقه إذا سرى، وأجرى مع هواه حيث جرى، وأنظم فرائده، وأقيد أوابده، وأدل على مقاصده، وأعوج إلى معاهده، حتى أشحذت كليل العزم، وأيقظت نائم الهم، وأجبت داعي الفكر لمقترحه، من جمع ما كنت وعيت من مصطلحه؛ إذ هو قطب تدور عليه أفلاك الأخبار، وعباب تنصب منه جداول معاني الآثار، قد سجم وابل فضله في الأصول فأزهرها، وتبسم وجه إقباله في الفروع فنورها، فاستخرت الله فيما قصدت، وتوكلت عليه فيما أردت، وشرعت في جمع لبابه، والمهمات من أبوابه، وإبراز دفائنه وكنوزه، وحل غوامضه ورموزه، ومن الكتب المعول عليها، والأصول المرجوع إليها، حتى غدا جامعًا لمجمع المصطلحات، وحاصرًا لأمهاتها المعتبرات، مع تنبيهات نافعة وتنويرات ساطعة، توضح معالم أسرار الآثار، وتصيرها كالشمس في رائعة النهار، وضممت إليه فرائد تبهج الألباب، عثرت على خباياها في غير ما كتاب، مما لم يذكر في أسفار المصطلح، ولا يعلم مظانها إلا من لزند التنقيب اقتدح، فقيدت شواردها، وقصرت أوابدها على أسلوب جديد، يسهل الوقوف على أسرار هذا الفن الباهرة، ويرقى إلى الرسوخ في مقاصد السنة الطاهرة، والحذق في رد الخلاف إلى الحق المأثور، الذي تطمئن به القلوب وتنشرح الصدور. مما يتنافس فيه الكاملون، ويتباهى بتحصيل معرفته الراغبون، وقد سميته: "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث" ورتبته على مقدمة وعشرة أبواب، مذيلة بخاتمة في فوائد متنوعة يضطر إليها الأثري، ثم بتتمة في مقصدين بديعين. وعلى الله التكلان، في كل وقت وأوان، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله). [قواعد التحديث: 45-46]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (مقدمة الكتاب في مطالع مهمة
المطلع الأول:
قال الزركشي في قواعده: "إن تصنيف العلم فرض كفاية على من منحه الله فهمًا واطلاعًا فلو ترك التصنيف لضيع العلم على الناس وقد قال تعالى: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين} الآية، ولن تزال هذه الأمة في ازدياد وترق في المواهب والعلم". اهـ.
وقال نابغة البلغاء ابن المقفع في مقدمة الدرة اليتيمة: "وجدنا الناس قبلنا لم يرضوا بما فازوا به من الفضل لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة، فكتبوا به الكتب الباقية، وكفونا مئونة التجارب والفطن، وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم والكلمة من الصواب وهو بالبلد غير المأهول فيكتبه على الصخور مبادرة منه للأجل، وكراهية لأن يسقط ذلك على من بعده، فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده الرحيم بهم الذي يجمع لهم الأموال، والعقد إرادة أن لا تكون عليهم مئونة في الطلب وخشية عجزهم إن هم طلبوا فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم، وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم فيكون كأنه إياهم يحاور، ومنهم يستمع غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتخل في آرائهم، والمنتقي من أحاديثهم ولم تجدهم غادروا شيئًا يجد واصف بليغ في صفة له مقالًا لم يسبقوه إليه لا في تعظيم لله عز وجل وترغيب فيما عنده ولا في تصغير للدنيا وتزهيد فيها ولا في تحرير صنوف العلم، وتقسيم أقسامه وتجزئة أجزائها وتوضيح سبلها، وتبيين مآخذهم، ولا في وجوه الأدب، وضروب الأخلاق. فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال، وقد بقيت أشياء من عمل الأمور فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس" انتهى كلامه.
وفي قوله: "وقد بقيت... " فتح لباب التصنيف على نحو هذا المعنى وقد قالوا: ينبغي أن لا يخلو تصنيف من أحد المعاني الثمانية التي تصنف لها العلماء وهي: اختراع معدوم، أو جمع مفترق، أو تكميل ناقص، أو تفصيل مجمل، أو تهذيب مطول، أو ترتيب مخلط، أو تعيين مبهم، أو تبيين خطأ كذا عدها أبو حيان يمكن الزيادة فيها.
قال ملا كاتب جلبي رحمه الله: "ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقًا، ولا وجه لإنكاره من أهله وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار والله در القائل:
قل لمن لا يرى المعاصر شيئًا = ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثًا = وسيبقى هذا الحديث قديما
واعلم: أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له، وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي، ليس له انقطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما لم يدخر لكثير من المتقدمين، فلا تغتر بقول القائل: "ما ترك الأول للآخر! " بل القول الصحيح الظاهر: "كم ترك الأول للآخر! " فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته، ورداءته في ذاته لا تقدمه، وحدوثه. ويقال "ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم: ما ترك الأول شيئًا" لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التعلم، فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظاهر، وهو خطر عظيم، وقول سقيم فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها كما قال عليه الصلاة والسلام: "أمتي أمة مباركة لا يدرى أولها خير أو آخرها" قال ابن عبد ربه في العقد: "إني رأيت آخر كل طبقة، واضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أهذب لفظا وأسهل لغة، وأحكم مذاهب، وأوضح طريقة من الأول؛ لأنه ناقض متعقب، والأول بادي متقدم".
وفي كتاب: "جامع بيان العلم وفضله" للحافظ ابن عبد البر عن علي -رضي الله عنه- أنه قال في خطبة خطبها: "واعلموا أن الناس أبناء ما يحسنون وقدر كل آمري ما يحسن فتكلموا في العلم تتبين أقداركم". قال ابن عبد البر: "ويقال إن قول علي بن أبي طالب: قيمة كل امرئ ما يحسن، لم يسبقه إليه أحد، وقالوا: "ليس كلمة أحض على طلب العلم منها" وقالوا: "ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل: "ما ترك الأول للآخر شيئًا". اهـ.
المطلع الثاني:
أتأسى في هذا التصنيف الميمون بقول السيد مرتضى اليماني رحمه الله في كتابه: "إيثار الحق على الخلق": "وإنما جمعت هذا المختصر المبارك، إن شاء الله تعالى، لمن صنفت لهم التصانيف، وعنيت بهدايتهم العلماء؛ وهم من جمع خمسة أوصاف، معظمها: الإخلاص والفهم والإنصاف، ورابعها -وهو أقلها وجودًا في هذه الأعصار- الحرص على معرفة الحق من أقوال المختلفين وشدة الداعي إلى ذلك الحامل على الصبر والطلب كثيرًا وبذل الجهد في النظر على الإنصاف ومفارقة العوائد وطلب الأوابد".
قال رحمه الله: "فإن الحق في مثل هذا الأعصار قلما يعرفه إلا واحد، وإذا عظم المطلوب قل المساعد، فإن البدع قد كثرت، وكثرت الدعاة إليها، والتعويل عليها، وطالب الحق اليوم شبيه بطلابه في أيام الفترة، وهم: سلمان الفارسي، وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما رحمهما الله تعالى؛ فإنهم قدوة الطالب للحق، وفيهم له أعظم أسوة فإنهم لما حرصوا على الحق وبذلوا الجهد في طلبه، بلغهم الله إليه، وأوقفهم عليه، وفازوا من بين العوالم الجمة، فكم أدرك الحق طالبة في زمن الفترة! وكم عمي عنه المطلوب له في زمن النبوة! فاعتبر بذلك واقتد بأولئك فإن الحق ما زال مصونًا عزيزًا نفيسًا كريمًا، لا ينال مع الإضراب عن طلبه وعدم التشوف والتشوق إلى سببه ولا يهجم على المبطلين المعرضين ولا يفاجئ أشباه الأنعام الغافلين؛ ولو كان كذلك ما كان على وجه الأرض مبطل ولا جاهل ولا بطال ولا غافل". انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
المطلع الثالث:
لا خفاء أن من المدارك المهمة في باب التصنيف، عزو الفوائد والمسائل والنكت إلى أربابها تبرؤا من انتحال ما ليس له، وترفعًا عن أن يكون كلابس ثوبي زور. لهذا ترى جميع مسائل هذا الكتاب معزوة إلى أصحابها بحروفها وهذه قاعدتنا فيما جمعناه ونجمعه.
وقد اتفق أني رأيت في "المزهر" للسيوطي هذا الملحظ حيث قال في ترجمة "ذكر من سئل عن شيء فلم يعرفه فسأل من هو أعلم منه" ما نصه: "ومن بركة العلم وشكره، عزوه إلى قائله؛ قاله الحافظ أو طاهر السلفي: سمعت أبا الحسن الصيرفي، يقول: سمعت أبا عبد الله الصوري يقول: قال لي عبد الغني بن سعيد: "لما وصل كتابي إلى أبي عبد الله الحاكم، أجابني بالشكر عليه، وذكر أنه أملاه على الناس، وضمن كتابه إلى الاعتراف بالفائدة وأنه لا يذكرها إلا عني". وأن أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثهم، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري، قال: سمعت أبا عبيد يقول: "من شكر العلم أن تستفيد الشيء، فإذا ذكر لك قلت: خفي عليّ كذا وكذا ولم يكن لي به علم، حتى أفادني فلان فيه كذا وكذا، فهذا شكر العلم. قال السيوطي: "ولهذا لا تراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفًا إلا معزوا إلى قائله من العلماء مبينا كتابه الذي ذكره فيه". اهـ.
المطلع الرابع:
قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر: "أول من صنف في الاصطلاح القاضي أبو محمد الرامهرمزي، فعمل كتابه: "المحدث الفاصل" لكنه لم يستوعب والحاكم أبو عبد الله النيسابوري لكنه لم يهذب ولم يرتب وتلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل على كتابه مستخرجًا وأبقى أشياء للمتعقب ثم جاء بعده الخطيب البغدادي فعمل على قوانين الرواية كتابًا سماه: "الكفاية" وفي آدابها كتابًا سماه: "الجامع لآداب الشيخ والسامع" وقل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا مفردًا فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: "كل من أنصف علم أن المحدثين بعده عيال على كتبه". ثم جمع ممن تأخر عنه القاضي عياض كتابه: "الإلماع" وأبو حفص الميانجي جزءًا سماه: "ما لا يسع المحدث جهله" والحافظ أبو بكر بن أحمد القسطلاني في: "المنهج المبهج عند الاستماع، لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع" إلى أن جاء الحافظ الإمام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري نزيل دمشق فجمع لما ولي تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية المعروفة بدار الحديث، كتابه المشهور، فهذب فنونه، وأملاه شيئًا فشيئًا واعتنى بتصانيف الخطيب المفرقة فجمع شتات مقاصدها وضم إليها من غيرها نخب فوائدها فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره فمنهم المختصر له كالنووي في تقريبه والناظم له كالعراقي والمستدرك والمعارض فجزاهم الله خيرًا". اهـ.
وكتابنا هذا حوى بمعونته تعالى لباب مقاصد هذا الفن، من خلاصة المصنفات المنوه بها، ومن نخب كتب الأصول، وممن حام حول خدمة فقه السنة مما ستقف، على العزو إليه بحوله تعالى وقوته، وهو نعم المعين). [قواعد التحديث: 47-54]