10 Oct 2022
الدرس الثاني: فضل علم الحديث
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (الباب الأول: في التنويه بشأن الحديث
وفيه مطالب
1- شرف علم الحديث:
عن أبي نجيح العرباض بن سارية السلمي -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون قلنا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنها موعظة مودع فأوصنا! قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد. وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن" وأبو نعيم وقال: "حديث جيد من صحيح حديث الشاميين". وفي بعض الطرق: فماذا تعهد إلينا؟ قال: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها فلا يزيغ عنها إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ".
وفي بعضها: "فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".
قال الحافظ المنذري: وقوله -صلى الله عليه وسلم: "عضوا عليها بالنواجذ" أي اجتهدوا على السنة وألزموها واحرصوا عليها كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفًا من ذهابه وتفلته والنواجذ الأنياب أو الأضراس.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "العلم ثلاثة؛ آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما سوى ذلك فهو فضل" رواه أبو داود وابن ماجه.
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته: "أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة".... نحو ما تقدم". رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما.
وفي رواية: "أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد" الحديث.
قال الإمام النووي قدس الله سره: "إن من أهم العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات، أعني معرفة متونها صحيحها وحسنها وضعيفها وبقية أنواعها المعروفات ودليل ذلك: أن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات؛ فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات وبيانها في السنن المحكمات.
وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالمًا بالأحاديث الحكميات فثبت بما ذكرناه أن الاشتغال بالحديث من أجل العلوم الراجحات وأفضل أنواع الخير وآكد القربات وكيف لا يكون كذلك وهو مشتمل على بيان حال أفضل المخلوقات عليه من الله الكريم أفضل الصلوات والسلام والبركات ولقد كان أكثر اشتغال العلماء بالحديث في الأعصار الخاليات حتى لقد كان يجتمع في مجلس الحديث من الطالبين ألوف متكاثرات فتناقص ذلك وضعفت الهمم فلم يبق إلا آثار من آثارهم قليلات والله المستعان على هذه المصيبة وغيرها من البليات، وقد جاء في فضل إحياء السنن المماتات أحاديث كثيرة معروفات مشهورات فينبغي الاعتناء بعلم الحديث والتحريض عليه لما ذكرنا من الدلالات ولكونه أيضًا من النصيحة لله تعالى وكتابه ورسوله وللأئمة والمسلمين والمسلمات وذلك هو الدين كما صح عن سيد البريات. ولقد أحسن القائل: "من جمع أدوات الحديث استنار قلبه واستخرج كنوزه الخفيات، وذلك لكثرة فوائده البارزات والكامنات وهو جدير بذلك فإنه كلام أفصح الخلق ومن أعطى جوامع الكلمات صلى الله عليه وآله وسلم صلوات متضاعفات".
وقال العلامة الشهاب أحمد المنيني الدمشقي الحنفي في القول السديد: "إن علم الحديث علم رفيع القدر، عظيم الفخر، شريف الذكر لا يعتني به إلا كل حبر، ولا يحرمه إلا كل غمر، ولا تفنى محاسنه على ممر الدهر؛ لم يزل في القديم والحديث يسمو عزة وجلالة، وكم عز به من كشف الله له عن مخبآت أسراره وجلاله؛ إذ به يعرف المراد من كلام رب العالمين ويظهر المقصود من حبله المتصل المتين، ومنه يدرى شمائل من سما ذاتًا ووصفًا واسمًا ويوقف على أسرار بلاغة من شرف الخلائق عربًا وعجمًا، وتمتد من بركاته للمعتنى به موائد الإكرام من رب البرية، فيدرك في الزمن القليل من المولى الجليل المقامات العلية، والرتب السنية من كرع من حياضه أو رتع في رياضه فليهنه الأنس بجنى جنانه السنة المحمدية، والتمتع بمقصورات خيام الحقيقة الأحمدية؛ وناهيك بعلم من المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بدايته، وإليه مستنده وغايته. وحسب الراوي للحديث شرفًا وفضلًا وجلالة ونبلًا أن يكون أول سلسلة آخرها الرسول وإلى حضرته الشريفة بها الانتهاء والوصول.
وطالما كان السلف الصالح يقاسون في تحمله شدائد الأسفار، ليأخذوه عن أهله بالمشافهة ولا يقنعون بالنقل من الأسفار فربما ارتكبوا غارب الاغتراب بالارتحال إلى البلدان الشاسعة لأخذ حديث عن إمام انحصرت روايته فيه أو لبيان وضع حديث تتبعوا سنده حتى انتهى إلى من يختلق الكذب ويفتريه وتأسى بهم من بعدهم من نقلة الأحاديث النبوية وحفظة السنة المصطفوية، فضبطوا الأسانيد وقيدوا منها كل شريد، وسبروا الرواة بين تجريح وتعديل، وسلكوا في تحرير المتن أقوم سبيل، ولا غرض لهم إلا الوقوف على الصحيح من أقوال المصطفى وأفعاله، ونفي الشبهة بتحقيق السند واتصاله فهذه هي المنقبة التي تتسابق إليها الهمم العوالي والمأثرة التي يصرف في تحصيلها الأيام والليالي"
وقال الإمام أبو الطيب السيد صديق خان الحسيني الأثري عليه الرحمة والرضوان في كتابه: "الخطة": "اعلم أن آنف العلوم الشرعية ومفتاحها ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها وعمدة المناهج اليقينية ورأسها ومبني شرائع الإسلام وأساسها ومستند الروايات الفقهية كلها ومآخذ الفنون الدينية دقها وجلها وأسوة جملة الأحكام وأسها وقاعدة جميع العقائد وأسطقسها، وسماء العبادات وقطب مدارها، ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها، هو علم الحديث الشريف الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملاك كل نهي وأمر ولولاه لقال من شاء ما شاء وخبط الناس خبط عشواء وركبوا متن عمياء فطوبى لمن جد فيه وحصل منه على تنويه يملك من العلوم النواصي، ويقرب من أطرافها البعيد القاصي. ومن لم يرضع من دره، ولم يخض في بحره، ولم يقتطف من زهره، ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام فقد جار فيما حكم وقال على الله تعالى ما لم يعلم؛ كيف وهو كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين، وقد أوتي جوامع الكلم وسواطع الحكم، من عند رب العالمين. فكلامه أشرف الكلم وأفضلها، وأجمع الحكم وأكملها كما قيل: "كلام الملوك ملوك الكلام". وهو تلو كلام الله العلام وثاني أدلة الأحكام. فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها؛ وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها، تتوقف على بيانه -صلى الله عليه وسلم- فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم ولم تضرب على ذلك المعيار القويم، لا يعتمد عليها ولا يصار إليها فهذا العلم المنصوص والبناء المرصوص بمنزلة الصراف لجواهر العلوم عقليها ونقليها وكالنقاد لنقود كل الفنون أصليها وفرعيها من وجوه التفاسير والفقهيات ونصوص الأحكام ومآخذ عقائد الإسلام وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام فما كان منها كامل العيار في نقد هذا الصراف فهو الحري بالترويج والاشتهار وما كان زيفا غير جيد عند ذاك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار فكل قول يصدقه خبر الرسول فهو الأصلح للقبول وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان فهي مصابيح الدجى ومعالم الهدى وبمنزلة البدر المنير من أنقاد لها فقد رشد واهتدى وأوتي الخير الكثير ومن أعرض عنها وتولى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلا التخسير فإنه -صلى الله عليه وسلم- نهى وأمر وأنذر وبشر، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن بل هي أكثر. وقد أرتبط بها اتباعه -صلى الله عليه وسلم- الذي هو ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين كيف وما الحق إلا فيما قاله -صلى الله عليه وسلم- أو عمل به أو قرره أو أشار إليه، أو تفكر فيه أو خطر بباله أو هجس في خلده واستقام عليه. فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب، والعمل بهما في كل إياب وذهاب ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء: "وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" فيا له من علم سيط بدمه الحق والهدى ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى.
وقد كان الإمام محمد بن علي بن الحسين عليه السلام يقول: "إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث". ولقد صدق فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة وهذا علم تعطى مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية لأنها في الحقيقة هي الاطلاع على جزئيات أحواله -صلى الله عليه وسلم- ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان وإليه أشار القائل بقوله:
أهل الحديث هموا أهل النبي وإن = لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا"
ويروى عن بعض الصلحاء أنه قال: "أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فالحاصل أن أهل الحديث، كثر الله تعالى سوادهم، ورفع عمادهم لهم نسبة خاصة، ومعرفة مخصوصة بالنبي لا يشاركهم فيها أحد من العالمين فضلا عن الناس أجمعين لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العليا، وأحواله الكريمة وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثال جماله الكريم، وخيال وجهه الوسيم ونور حديثه المستبين يتردد في حاق وسط جنانهم فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة، ونسبة ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة فأكرم بهم من كرام يشاهدون عظمة المسمى حين يذكر الاسم ويصلون عليه كل لمحة ولحظة بأحسن الحد والرسم"). [قواعد التحديث: 55-61]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (2- فضل راوي الحديث:
كفى خادم الحديث فضلًا دخوله في دعوته -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "نضر الله امرأ سمع مقالتي، فحفظها ووعاها وأداها". رواه الشافعي والبيهقي عن ابن مسعود، وأخرجه أبو داود والترمذي بلفظ: "نضر الله امرأ سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع". قال الترمذي: "حسن صحيح"
وعن زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "نضر الله المرء سمع منا حديثًا فبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه". رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه بزيادة وعن أنس بن مالك قال خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمسجد الخيف من منى فقال: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لم يسمعها الحديث" رواه الطبراني وروى نحوه الإمام أحمد وغيره عن جبير بن مطعم.
قال سفيان بن عيينة: "ليس من أهل الحديث أحد إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث".
وقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أرحم خلفائي" قيل: ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس". رواه الطبراني وغيره.
وكأن تلقيب المحدث بأمير المؤمنين مأخوذ من هذا الحديث، وقد لقب به جماعة منهم سفيان وابن راهويه والبخاري وغيرهم.
وقد قيل في قوله تعالى: {يوم ندعو كلّ أناسٍ بإمامهم} ليس لأهل الحديث منقبة أشرف من ذلك لأنه لا إمام لهم غيره -صلى الله عليه وسلم. كذا في التدريب وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". ورواه من الصحابة غير واحد أخرجه ابن عدي، والدارقطني وأبو نعيم.
وتعدد طرقه يقضي بحسنه كما جزم به العلائي. وفيه تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية، وتعظيم لهذه الأمة المحمدية، وبيان لجلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم في العالمين؛ لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين، بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها.
وقال النووي رحمه الله تعالى في أول تهذيبه: "هذا إخبار منه -صلى الله عليه وسلم- بصيانة هذا العلم وحفظه، وعدالة ناقليه. وإن الله يوفق له في كل عصر خلفا من العدول يحمونه وينفون عنه التحريف، فلا يضيع". وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر. وهكذا وقع ولله الحمد، وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئًا من علم الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئًا منه.
ومن شرف علم الحديث ما رويناه من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة". قال الترمذي: "حسن غريب" وقال ابن حبان في صحيحه: "في هذا الحديث بيان صحيح على أن أولى الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القيامة أصحاب الحديث إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم".
وقال أبو نعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر ما يعرف لهذه العصابة.
وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: لولا أهل المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر.
وقال أيضًا: "أهل الحديث في كل زمان كالصحابة في زمانهم".
وقال أيضًا: "إذا رأيت صاحب حديث فكأني رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
وكان أحمد بن سريج يقول: "أهل الحديث أعظم درجة من الفقهاء لاعتنائهم بضبط الأصول".
وكان أبو بكر بن عياش يقول: "أهل الحديث في كل زمان؛ كأهل الإسلام مع أهل الأديان".
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل" نقله الشعراني في مقدمة ميزانه.
وقال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس الله سره في فتوحاته في الباب الثالث عشر وثلاثمائة. وللورثة حظ من الرسالة ولهذا قيل في معاذ وغيره: "رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وما فاز بهذه الرتبة ويحشر يوم القيامة مع الرسل إلا المحدثون الذين يروون الأحاديث بالأسانيد المتصلة بالرسول عليه السلام في كل أمة فلهم حظ في الرسالة وهم نقلة الوحي وهم ورثة الأنبياء في التبليغ والفقهاء إذا لم يكن لهم نصيب في رواية الحديث فليست لهم هذه الدرجة ولا يحشرون مع الرسل بل يحشرون في عامة الناس ولا ينطلق اسم العلماء إلا على أهل الحديث وهم الأئمة على الحقيقة".
"وكذلك الزهاد والعباد وأهل الآخرة، ومن لم يكن من أهل الحديث منهم كان حكمه حكم الفقهاء لا يتميزون في الورثة ولا يحشرون مع الرسل بل يحشرون مع عموم الناس ويتميزون عنهم بأعمالهم الصالحة لا غير كما أن الفقهاء أهل الاجتهاد يتميزون بعلمهم عن العامة". اهـ(. [قواعد التحديث: 61-67]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (3- الأمر النبوي برواية الحديث وإسماعه
روي الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعدة من النار".
وروى الطبراني عن أبي قرصافة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "حدثوا عني بما تسمعون، ولا تقولوا إلا حقا، ومن كذب عليّ بني له بيت في جهنم يرتع فيه".
وروى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب عن ابن عباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "علموا، ويسروا، ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت! ".
وروى الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض القرآن وعلموا الناس، فإني مقبوض".
قال العارف الشعراني قدس سره في العهود الكبرى: "وفي كتابة الحديث وإسماعه للناس فوائد عظيمة منها: عدم اندراس أدلة الشريعة، فإن الناس لو جهلوا الأدلة جملة -والعياذ بالله تعالى- لربما عجزوا عن نصرة شريعتهم عند خصمهم، وقولهم: "إنا وجدنا آباءنا على ذلك" لا يكفي. وماذا يضر الفقيه أن يكون محدثا يعرف أدلة كل باب من أبواب الفقه. ومنها: تجديد الصلاة والتسليم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل حديث. وكذلك تجديد الترضي والترحم على الصحابة والتابعين من الرواة إلى وقتنا هذا ومنها: وهو أعظمها فائدة الفوز بدعائه لمن بلغ كلامه إلى أمته في قوله: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها" ودعاؤه مقبول بلا شك إلا ما استثني كعدم إجابته في أن الله تعالى لا يجعل بأس أمته فيما بينهم كما ورد". انتهى). [قواعد التحديث: 67-69]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (4- حث السلف على الحديث:
قال الشعراني قدس سره في مقدمة ميزانه: كان الأعمش -رضي الله عنه- يقول: "عليكم بملازمة السنة وعلموها للأطفال، فإنهم يحفظون على الناس دينهم إذا جاء وقتهم".
وكان وكيع رحمه الله تعالى يقول: "عليكم باتباع الأئمة المجتهدين والمحدثين فإنهم يكتبون ما لهم وما عليهم بخلاف أهل الأهواء والرأي فإنهم لا يكتبون قط ما عليهم".
وكان الشعبي وعبد الرحمن بن مهدي يزجران كل من رأياه يتدين بالرأي وينشدان:
دين النبي محمد أخبار = نعم المطية للفتي الآثار
لا ترغبن عن الحديث وأهله = فالرأي ليل والحديث نهار
وكان مجاهد يقول لأصحابه: "لا تكتبوا عني كل ما أفتيت به، وإنما يكتب الحديث ولعل كل شيء أفتيتكم به اليوم أرجع عنه غدًا". وكان أبو عاصم رحمه الله تعالى يقول: "إذا تبحر الرجل في الحديث، كان الناس عنده كالبقر". وكان الإمام أبو حنيفة -رضي الله عنه- يقول: "إياكم والقول في دين الله تعالى بالرأي؛ وعليكم باتباع السنة فمن خرج عنها ضل". ودخل عليه مرة رجل من أهل الكوفة والحديث يقرأ عنده فقال الرجل: "دعونا من هذه الأحاديث! " فزجره الإمام أشد الزجر، وقال له: "لولا السنة ما فهم أحد منا القرآن". وقيل له مرة: "قد ترك الناس العمل بالحديث واقبلوا على سماعه" فقال -رضي الله عنه: "نفس سماعهم للحديث عمل به". وكان -رضي الله عنه- يقول: "لم تزل الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب الحديث فإذا طلبوا العلم بلا حديث فسدوا". وكان يقول: "لا ينبغي لأحد أن يقول قولًا حتى يعلم أن شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقبله". وكان الإمام مالك -رضي الله عنه- يقول: إياكم ورأى الرجال إلا إن أجمعوا عليه: {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم} وما جاء عن نبيكم، وإن لم تفهموا المعنى فسلموا لعلمائكم، ولا تجادلوهم فإن الجدال في الدين من بقايا النفاق. وروى الحاكم والبيهقي عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أنه كان يقول: " إذا صح الحديث فهو مذهبي"
قال ابن حزم: "أي صح عنده أو عند غيره من الأئمة" وفي رواية أخرى: "إذا رأيتم كلامي يخالف كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعملوا بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضربوا بكلامي الحائط" وقال مرة للربيع: "يا أبا أسحق، لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين". وكان -رضي الله عنه- إذا توقف في حديث يقول: "لو صح ذلك لقلنا به". وكان يقول: "إذا ثبت عن النبي -بأبي هو وأمي- شيء لم يحل تركه لشيء أبدًا".
وروى البيهقي عن الإمام أحمد -رضي الله عنه- أنه كان إذا سئل عن مسألة يقول: "أو لأحد كلام مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ " وكان يتبرأ كثيرًا من رأي الرجال ويقول: "لا ترى أحدًا ينظر في كتب الرأي غالبًا إلا وفي قلبه دخل" وكان ولده عبد الله يقول: "سألت الإمام أحمد عن الرجل يكون في بلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحة من سقيمه، وصاحب رأي، فمن يسأل منهما عن دينه؟ فقال: يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي". وبلغنا أن شخصًا استشاره في تقليد أحد من علماء عصره فقال: "لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الأوزاعي، ولا النخعي، ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا". قال الشعراني: "وهو محمول على من له قدرة على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة".
وقال الشعراني أيضًا في العهود: "وسمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه الله يقول: ليس مراد الأكابر من حثهم على العمل على موافقة الكتاب والسنة إلا مجالسة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الأمر لا غير، فإنهم يعلمون أن الحق تعالى لا يجالسهم إلا في عمل شرعه هو ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أما ما ابتدع، فلا يجالسهم الحق تعالى ولا رسوله فيه، وإنما يجالسون فيه من ابتدعه من عالم أو جاهل". اهـ.
والآثار في الحث على الحديث عن السلف، وافرة وفي هذا القدر كفاية). [قواعد التحديث: 69-72]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (5- إجلال الحديث وتعظيمه والرهبة من الزيغ عنه:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم، وأبو داود ولفظة: "من صنع أمرًا على غير أمرنا فهو رد" وفي رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" رواه مسلم.
وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة بإسناد حسن.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستة لعنتهم ولعنهم الله، وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعز الله، ويعز من أذل الله والمستحل حرمة الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله والتارك السنة" رواة الطبراني وابن حبان في صحيحة والحاكم وقال: "صحيح الإسناد" قال المنذري: "ولا أعرف له علة".
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" رواه البغوي في شرح السنة. وقال النووي في أربعينه: "هذا حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح".
قال الشافعي -رضي الله عنه- في باب الصيد من الأم: "كل شيء خالف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سقط ولا يكون معه رأي ولا قياس فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس لأحد معه أمر ولا نهى غير ما أمر هو به".
وكان -رضي الله عنه- يقول: "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به".
وقال الإمام محمد الكوفي -رضي الله عنه: "رأيت الإمام الشافعي بمكة: وهو يفتي الناس، ورأيت الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه حاضرين فقال الشافعي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل ترك لنا عقيل من دار"؟ فقال إسحاق: "روينا عن الحسن!! وإبراهيم أنهما لم يكونا يريانه وكذلك عطاء ومجاهد" فقال الشافعي لإسحاق: "لو كان غيرك موضعك لفركت أذنه أقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول قال عطاء ومجاهد والحسن وهل لأحد مع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة بأبي هو وأمي" كذا في ميزان الشعراني قدس سره.
وقال الإمام الصغاني رحمه الله تعالى في: "مشارق الأنوار": "أخذت مضجعي ليلة الأحد الحادية عشرة من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقلت: اللهم أرني الليلة نبيك محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في المنام وإنك تعلم اشتياقي إليه، فرأيت بعد هجعة من الليل، كأني والنبي -صلى الله عليه وسلم- في مشربة، ونفر من أصحابنا أسفل منا عند درج المشربة، فقلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما تقول في ميت رماه البحر أحلال؟ فقال وهو مبتسم إليّ "نعم" فقلت وأنا أشير إلى من بأسفل الدرج: فقل لأصحابي فإنهم لا يصدقوني، فقال: "لقد شتمتني وعابوني! " فقلت: كيف يا رسول الله؟ فقال كلامًا ليس يحضرني لفظه وإنما معناه: "عرضت قولي على من لا يقلبه"؛ ثم أقبل عليهم يلومهم ويعظهم فقلت صبيحة تلك الليلة: وأنا أعوذ بالله من أن أعرض حديثه بعد ليلتي هذه إلا على الذين يحكمونه فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضى ويسلموا تسليمًا. اهـ.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في الباب العاشر في فقه الحديث مزيد لهذا بحوله سبحانه وقوته). [قواعد التحديث: 72-75]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (6- فضل المحامي عن الحديث والمحيي للسنة:
عن عمرو بن عوف -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال بن الحرث يومًا: "اعلم يا بلال" قال: "ما أعلم يا رسول الله؟ " قال: "إن من أحيا سنة من سنتي أميتت بعدي، كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئًا". رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه قال الحافظ المنذري: "وللحديث شواهد".
وعن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة". رواه الترمذي.
قال الإمام السيد محمد بن المرتضى اليماني رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه: "إيثار الحق على الخلق" ما نصه: "المحامي عن السنة، الذاب عن حماها كالمجاهد في سبيل الله تعالى يعد للجهاد ما استطاع من الآلات والعدة والقوة، كما قال الله سبحانه {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة} وقد ثبت في الصحيح أن جبريل عليه السلام كان مع حسان بن ثابت يؤيده ما نافح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أشعاره، فكذلك مع ذب عن دينه وسنته من بعده إيمانًا به وحبًّا ونصحًا له ورجاء أن يكون من الخلف الصالح الذين قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين" والجهاد باللسان أحد أنواع الجهاد سبله.
وفي الحديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
وقد أحسن من قال في هذا المعنى شعرًا:
جاهدت فيك بقولي يوم يختصم الـ = أبطال إذ فات سيفي يوم يمتصع
عن اللسان لوصال إلى طرق = في الحق لا تهتديها الذبل السرع
ثم قال: "ولا ينبغي أن سنتوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين له، كما لا يستوحش الزاهد من كثرة الراغبين، ولا المتقي من كثرة العاصين ولا الذاكر من كثرة الغافلين ينبغي منه أن يستعظم المنة باختصاصه بذلك مع كثرة الجاهلين له الغافلين عنه، وليوطن نفسه على ذلك فقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم وآله وسلم- أنه قال: "عن هذا الدين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء! " رواه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال: "هذا حديث حسن صحيح" ورواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد من حديث أنس وروى البخاري نحوه بغير لفظه من حديث ابن عمر وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "طلب الحق غربة" رواه الحافظ الأنصاري في أول كتابه: "منازل السائرين إلى الله" من حديث جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده وقال: "هذا حديث غريب، لم اكتبه عاليًا إلا من رواية علان، ولذلك شواهد قوية عن تسعة من الصحابة ذكرها البيهقي في: "مجمع الزوائد" فنسأل الله أن يرحم غربتنا في الحق، ويهدي ضالنا ولا يردنا عن أبواب رجائه، ودعائه وطلبه محرومين إنه مجيب الداعين، وهادي المهتدين وأرحم الراحمين). [قواعد التحديث: 75-78]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (7- أجر المتمسك بالسنة إذا اتبعت الأهواء وأوثرت الدنيا:
عن أبي ثعلبة الخشنى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ايتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحًّا مطاعًا وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن كالقبض على الجمر؛ للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله". رواه ابن ماجه والترمذي وقال: "حديث حسن غريب" وأبو داود وزاد قيل: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجر خمسين رجلًا منا أو منهم، قال: "بل أجر خمسين منكم".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي قال: "المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد" رواه الطبراني ورواه البيهقي من رواية الحسن بن قتيبة عن ابن عباس رفعه: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد".
وعن معقل بن يسار -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "عبادة في الهرج كهجرة إليّ" رواه مسلم والترمذي وابن ماجه). [قواعد التحديث: 78-79]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (8- بيان أن الوقيعة في أهل الأثر من علامات أهل البدع:
قال الإمام الحافظ أبو حاتم الرازي: "علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر وعلامة الجهمية أن يسموا أهل السنة مشبهة ونابتة وعلامة القدرية أن يسمعوا أهل السنة مجبرة، وعلامة الزنادقة أن يسموا أهل الأثر حشوية" نقله عنه الذهبي في كتاب: "العلو".
وقال الإمام العارف الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره في كتاب: "الغنية" نحو ما ذكر وزاد: "وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة عاصبيه وكل ذلك عصبية، وغياظ لأهل السنة ولا اسم لهم إلا اسم واحد وهو: "أصحاب الحديث" ولا يلتصق بهم ما لقيهم به أهل البدع كما لم يلتصق بالنبي تسمية كفار مكة ساحرًا، وشاعرًا ومجنونًا ومفتونًا وكاهنًا، ولم يكن اسمه عند الله وعند ملائكته وعند أنسه وجنه وسائر خلقه إلا رسولًا نبيًّا بريًّا من العاهات كلها: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلًا}. اهـ.
وزاد شيخ الإسلام ابن تيميه: "أن المرجئة تسميهم شكاكًا، قالوا: وهذا علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتقادًا واقتصادًا وقولًا وعملًا فكما كان المنحرفون عنه يسمونه بأسماء مذمومة مكذوبة وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس بها في المحيا والممات باطنًا". اهـ). [قواعد التحديث: 80]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (9- ما روي أن الحديث من الوحي:
عن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألا أوتيت القرآن، ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول علكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حرم الله". رواه أبو داود والدارمي وابن ماجه.
وعن حسان بن عطية قال: "كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن".
وعن مكحول قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "آتاني الله القرآن ومن الحكمة مثليه" أخرجهما أبو داود في مراسيله.
قال أبو البقاء في كلياته: "والحاصل أن القرآن والحديث يتحدان في كونهما، وحيًا منزلًا من عند الله بدليل: {إن هو إلّا وحيٌ يوحى}، إلا أنهما يتفارقان من حيث إن القرآن هو المنزل للإعجاز والتحدي به بخلاف الحديث، وإن ألفاظ القرآن مكتوبة في اللوح المحفوظ، وليس لجبريل عليه السلام، ولا للرسول عليه الصلاة والسلام أن يتصرفا فيها أصلًا، وأما الأحاديث فيحتمل أن يكون النازل على جبريل معنى صرفًا فكساه حلة العبارة وبين الرسول بتلك العبارة أو ألهمه كما نتفقه، فأعرب الرسول بعبارة تفصح عنه". اهـ.
وفي المراقاة أن "منهم" من قال بأنه عليه الصلاة والسلام كان مجتهدًا ينزل اجتهاده منزلة الوحي لأنه لا يخطئ وإذا أخطأ ينبه عليه بخلاف غيره.
وفيها عن الشافعي أنه قال: "كل ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مما فهمه من القرآن، قال: لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه" وقال: "جميع ما تقوله الأئمة شرح للسنة جميع السنة شرح للقرآن" وقال: "ما نزل بأحد من الدين نازلة إلا وهي في كتبا الله تعالى".
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود: "إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله". وعن ابن جبير: "ما بلغني حديث على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله تعالى". اهـ). [قواعد التحديث: 81-83]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (10- أيادي المحدثين البيضاء على الأمة وشكر مساعيهم:
يقول جامعه الفقير:
من أين للبليغ أن يحصي أيادي المحدثين، وهم الذين عشقوا الهدى النبوي دون العالمين، فتتبعوه ممن بدا وحضر، وكابدوا لأخذه أهوال السفر! فكم جابوا صحاري تتلظى يلظي الرمضاء، وقطعوا عن العمران فيافي تستدعي اليأس، وتروع الأحشاء فحفظوا، ووعوا ولعهد النفر للتفقه في الدين رعوا، ودفعوا عن الدين صنع الوضاعين، وانتحال المفترين وذبوا الكذب عن كلام الرسول الصادق بما مهدوه من تحري كل راو موافق فدونوا ما سمعوه بالسند، فرارًا عن الرمي باتباع الأهواء، وتحكيم الآراء فاستبرءوا لدينهم بجليل هذا الاحتياط، ودربوا الأمة على التثبت في توثيق عرى الارتباط رحماك اللهم فالاعتراف بآثرهم الحسنة أمر، واجب وشكر فضلهم لا يقص عنه إلا من هو عن الاتباع ناكب أفليست دواوينهم بعد القرآن دعائم الإسلام التي قامت عليها صروحه، وأعضاد الدين التي بأن منها صريحه لا جرم لولا أخذهم بناصية ما دونوه من صحيح السنة لانثالت على الناس جراثيم الأباطيل المستكنة التي رزئ بها الدين في عصر الوضاعين المنافقين الذين دخلوا في دين الله للتشويش فرد الله كيدهم بتنقيب المحدثين من خرافاتهم ودأبهم في التفتيش حتى أشرقت شموس صحاح الأخبار وانبعثت أشعتها في الأقطار وتمزقت عن البصائر حجب الجهالة وأغشية الضلالة، فرحم الله تلك الأنفس التي نهضت لتأييد الدين، ورضي عمن أحيا آثارهم من اللاحقين. آمين). [قواعد التحديث: 83-84]