10 Oct 2022
الدرس الرابع: أنواع الحديث | الحديث الصحيح
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (الباب الرابع: في معرفة أنواع الحديث وفيه مقاصد
1- بيان المجموع من أنواعه:
اعلم: "أن أئمة المصطلح، سردوا في مؤلفاتهم من أنواعه ما أمكن تقريبه، وجملة ما ذكره النووي، والسيوطي في التدريب خمسة وستون نوعًا وقال: "ليس ذلك بآخر الممكن في ذلك، فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى إذ لا تحصى أحوال رواه الحديث وصفاتهم ولا أحوال متون الحديث وصفاتها".
وقال الحازمي في كتاب العجالة: "علم الحديث يشتمل على أنواع كثيرة تبلغ مائة؛ كل نزع منها علم مستقل.". اهـ.
ومع ذلك فأنواع الحديث لا تخرج عن ثلاثة: حسن صحيح، وحسن، وضعيف. لأنه إن اشتمل من أوصاف القبول على أعلاها فالصحيح أو على أدناها فالحسن أو لم يشتمل على شيء منها فالضعيف وسترى تفصيل ما ذكر مع مهمات أنواعه على نمط بديع). [قواعد التحديث: 111]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (2- بيان الصحيح:
قال أئمة الفن: "الصحيح ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله، وسلم عن شذوذ وعلة، ونعني بالمتصل ما لم يكن مقطوعًا بأي وجه كان فخرج المنقطع والمعضل والمرسل على رأي من لا يقبله وبالعدل من لم يكن مستور العدالة ولا مجروحًا فخرج ما نقله مجهول عينًا أو حالًا أو معروف بالضعيف وبالضابط من يكون حافظًا متيقظًا فخرج ما نقله مغفل كثير الخطأ. وبالشذوذ ما يرويه الثقة مخالفًا لرواية الناس. وبالعلة ما فيه أسباب خفية قادحة فخرج الشاذ والمعلل وسيأتي بيان هذه المخرجات كلها إن شاء الله تعالى). [قواعد التحديث: 112]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (3- بيان الصحيح لذاته الصحيح لغيره:
اعلم: "أن ما عرفناه أولًا هو الصحيح لذاته لكونه اشتمل من صفات القبول على أعلاها؛ وأما الصحيح لغيره فهو ما صحح لأمر أجنبي عنه إذ لم يشتمل عن صفات القبول على أعلاها كالحسن: فإنه إذا روي من غير وجه. أرتقى بما عضده من درجة الحسن إلى منزلة الصحة وكذا ما أعتضد بتلقي العلماء له بالقبول فإنه يحكم له بالصحة وإن لم يكن له إسناد صحيح". وكذا ما وافق آية من كتاب تعالى أو بعض أصول الشريعة.
قال ابن الحصار: "قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبول والعمل"). [قواعد التحديث: 112-113]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (4- تفاوت رتب الصحيح:
تتفاوت رتب الصحيح بسبب تفاوت الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوة فإنها لما كانت مفيدة لغلبة الظن الذي علية مدار الصحة اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض بحسب الأمور المقوية، وإذا كان كذلك فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة، والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه فمن المرتبة العليا في ذلك ما أطلق علية بعض الأئمة أنه أصح الأسانيد كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وكمحمد بن سيرين عن عبيدة بن عمر، والسلماني عن علي وكإبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود وكمالك عن نافع عن ابن عمر وهذا قول البخاري.
قال الإمام أبو منصور التميمي: "فعلى هذا أجل الأسانيد الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر للإجماع على أن أجل الرواة عن مالك الشافعي وعليه فأجلها رواية الإمام أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك للاتفاق على أن أجل من أخذ عن الشافعي أهل الحديث الإمام أحمد وتسمى هذه الترجمة: "سلسلة الذهب". والمعتمد عدم إطلاق أصح الأسانيد لترجمة معينة منها نعم يستفاد من مجموعة ما أطلق الأئمة عليه ذلك أرجحيته على ما لم يطلقوه ويلتحق بهذا التفاضل ما اتفق الشيخان على تخريجه بالنسبة إلى ما انفرد به أحدهما، وما انفرد به البخاري بالنسبة إلى ما انفرد به مسلم لاتفاق العلماء بعدهما على تلقي كتابهما بالقبول كذا في شرح النخبة والتدريب). [قواعد التحديث: 113-115]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (5- أثبت البلاد في الحديث الصحيح في عهد السلف:
قال الإمام تقي الدين بن تيميه رحمه الله تعالى: "اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث ما رواه أهل المدينة ثم أهل البصرة ثم أهل الشام".
وقال الخطيب: "أصح طرق السنن، ما يرويه أهل الحرمين؛ مكة والمدينة، فإن التدليس عنهم قليل، والكذب ووضع الحديث عندهم عزيز. ولأهل اليمن روايات جيدة، وطرق صحيحة، إلا أنها قليلة، ومرجعها إلى أهل الحجاز أيضًا. ولأهل البصرة من السنن الثابتة بالأسانيد الواضحة، ما ليس لغيرهم من إكثارهم والكوفيون مثلهم في الكثرة غير أن رواياتهم كثيرة الدغل قليلة السلامة من العلل وحديث الشاميين أكثره مراسيل ومقاطيع وما اتصل منه مما أسنده الثقات فإنه صالح والغالب عليه ما يتعلق بالمواعظ".
وقال هشام بن عروة: "إذا حدثك العراقي بألف حديث فالق تسعمائة وتسعين وكن من الباقي في شك".
قال الحاكم: "أثبت أسانيد الشاميين الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة".
وقال الحافظ ابن حجر: "رجح بعض أئمتهم رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر". كذا في التدريب.
أقول: يتعرف حديث رواة هذه البلاد من مثل مسند أحمد فإنه يترجم فيه بمسند البصريين ومسند الشاميين وهكذا). [قواعد التحديث: 115-116]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (6- أقسام الصحيح:
قال النووي رحمه الله تعالى: "الصحيح أقسام: أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري ثم ما انفرد به مسلم ثم ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه، ثم على شرط البخاري ثم على شرط مسلم، ثم ما صححه غيرهما من الأئمة فهذه سبعة أقسام".
قال العلامة قاسم قطلوبوغا في حواشيه على شرح النخبة لشيخه ابن حجر: "الذي يقتضيه النظر، أن ما كان على شرطهما، وليس له علة يقدم على ما أخرجه مسلم وحده لأن قوة الحديث إنما هي بالنظر إلى رجاله لا بالنظر إلى كونه في كتاب كذا". اهـ). [قواعد التحديث: 116]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (7- معنى قولهم أصح شيء في الباب كذا:
قال النووي رحمه الله تعالى: "لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث فإنهم يقولون: "هذا أصح ما جاء في الباب" وإن كان ضعيفًا ومرادهم أرجحة أو أقله ضعفًا"). [قواعد التحديث: 117]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (8- أول من دون الصحيح:
قال النووي في التقريب "أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح البخاري".
واحترز: "بالمجرد" عن الموطأ للإمام مالك فإنه وإن كان أول مصنف في الصحيح، لكن لم يجرد فيه الصحيح، بل أدخل المرسل والمنقطع، والبلاغات وذلك حجة عنده. وأما البخاري فإنه وإن أدخل التعاليق ونحوها لكنه أوردها استئناسًا واستشهادًا فذكرها فيه لا يخرجه عن كونه جرح الصحيح كذا فرق ابن حجر وتعقبه السيوطي بأن ما في الموطأ من المراسيل مع كونها حجة عندنا إذا اعتضد وما من مرسل في الموطأ من المراسيل مع كونها حجة عنده بلا شرط وعند من وافقه من الأئمة هي حجة عندنا لأن المرسل حجة عندنا إذا اعتضد وما في مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد وقد صنف ابن عبد البر كتابًا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل". اهـ.
وعليه فأول من صنف في الصحيح الإمام -رضي الله عنه). [قواعد التحديث: 117-118]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (9- بيان أن الصحيح لم يستوعب في مصنف:
قال العلامة الأمير في شرح: "غرامي صحيح": "لم يستوعب الصحيح في مصنف أصلًا لقول البخاري: "أحفظ مائة ألف حديث من الصحيح ومائتي ألف من غيره" ولم يوجد في الصحيحين بل ولا في بقية الكتب الستة هذا القدر من الصحيح".
وقال النووي رحمه الله: "إن البخاري ومسلمًا -رضي الله عنهما، لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعياه وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جملة من مسائلة لا أنه يحضر جميع مسائلة لكنهما إذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدهما مع صحة إسناده في الظاهر أصلًا في بابه ولم يخرجا له نظيرًا ولا ما يقوم مقامه فالظاهر من حالهما أنهما اطلعا فيه على علة إن كانا رأياه ويحتمل أنهما تركاه نسيانًا أو إيثارًا لترك الإطالة أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده أو لغير ذلك والله أعلم.
وقال السخاوي في الفتح: "إن الشيخين لم يستوعبا كل الصحيح في كتابيهما، بل لو قيل إنهما لم يستوعبا مشروطهما لكان موجهًا؛ وقد صرح كل منهما بعدم الاستيعاب، وحينئذ فإلزام الدارقطني لهما في جزء أفرده بالتصنيف بأحاديث من رجال الصحابة رويت عنهم من وجوه صحاح تركاها مع كونها على شرطهما".
وكذا قول ابن حبان: "ينبغي أن يناقش البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما" ليس بلازم؛ ولذلك قال الحاكم: "ولم يحكما ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما خرجه هذا" وذكر السلفي في معجم السفر: "أن بعضهم رأى في المنام أبا داود صاحب السنن في آخرين مجتمعين وأن أحدهم قال: "كل حديث لم يروه البخاري فأفلت عنه رأس دابتك"). [قواعد التحديث: 118-119]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (10- بيان أن الأصول الخمسة لم يفتها من الصحيح إلا اليسير:
قال النووي: "الصواب أنه لم يفت الأصول الخمسة من الصحيح إلا اليسير أعني الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي، والنسائي، ولا يقال إن أحاديثها دون المقدار الذي عده البخاري المتقدم بكثير لأنا نقول: "أراد البخاري بلوغ الصحيح مائة ألف بالمكرر والموقوف وآثار الصحابة والتابعين وفتاويهم مما كان السلف يطلقون على كل منها اسم الحديث وهو متعين"). [قواعد التحديث: 120]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (11- ذكر من صنف في أصح الأحاديث:
جمع الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي فيما عد من أصح الأسانيد كتابًا في الأحكام رتبه على أبواب الفقه سماه: "تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد" وهو كل كتاب لطيف جمعه من تراجم ستة عشر قيل فيها إنها أصح الأسانيد إما مطلقًا أو مقيدًا ومع ذلك فقد فاته جملة من الأحاديث كما قاله ابن حجر). [قواعد التحديث: 120-121]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (12- بيان الثمرات المجتناه من شجرة الحديث الصحيح المباركة:
الثمرة الأولى:
صحة الحديث توجب القطع به، كما اختاره ابن الصلاح في الصحيحين، وجزم بأنه هو القول الصحيح.
قال السخاوي في فتح المغيث: "وسبقه إلى القول بذلك في الخبر المتلقى بالقبول الجمهور من المحدثين والأصوليين، وعامة السلف، بل وكذا غير واحد في الصحيحين".
قال أبو أسحق الإسفراييني: "أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها، ومتونها ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها قال: "فمن خالف حكمه خبرًا منها وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول".
ونقل السيوطي في التدريب، في آخر الكلام على الفائدة الرابعة من مسائل الصحيح عن الحافظ ابن نصر السجزي أنه قال: "أجمع الفقهاء، وغيرهم أن رجلًا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في البخاري صحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا شك فيه لم يحنث". اهـ.
ونقل بعد أيضًا أن إمام الحرمين قال: "لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في الصحيحين مما حكما بصحته من قول النبي ألزمته الطلاق لإجماع المسلمين على صحته". اهـ.
واستثنى ابن الصلاح من المقطوع بصحته فيهما ما تكلم فيه من أحاديثهما، وقد أجاب عنها الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح بتمامها قال النووي: "ما ضعف من أحاديثهما مبني على علل ليست بقادحة".
هذا وقيل إن صحة الحديث لا توجب القطع به في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان على الثقة، وعزاه النووي للأكثرين والمحققين، وأنهم قالوا: "إنه يفيد الظن ما لم يتواتر" قال في شرح مسلم: "لأن ذلك شأن الآحاد، ولا فرق في ذلك بين الشيخين وغيرهما، وتلقي الأمة بالقبول إنما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه، بخلاف غيرهما فلا يعمل به حتى ينظر فيه ويوجد فيه شروط الصحيح ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على القطع بأنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم".
وناقش البلقيني النووي فيما اعتمده، وذكر أن ما قاله ابن الصلاح محكي عن كثير من فضلاء المذاهب الأربعة وأنه مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة بل بالغ ابن طاهر المقدسي فألحق به ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم، خلافًا لمن أبى ذلك، قال: وهو أنواع، منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ التواتر فإنه احتف به قرائن منها: جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر إلا أن هذا مختص بما لم ينقده أحد من الحفاظ وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته".
ثم قال: ومنها المشهور، إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل، ومنها المسلسل بالأئمة الحفاظ حيث لا يكون غريبًا كحديث يرويه أحمد مثلا، ويشاركه فيه غيره عن الشافعي ويشاركه فيه غيره عن مالك فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته".
قال: "وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم فيها إلا للعالم المتبحر في الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل، وكون غيره لا يحصل له العلم لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور". انتهى قال ابن كثير: "وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه". قال السيوطي: "قلت وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه". اهـ.
أقول:
تلخص في القول بأن صحة الحديث توجب القطع به ثلاثة مذاهب:
الأول: إيجابها ذلك مطلقًا ولو لم يخرجه الشيخان وهو ما قاله ابن طاهر المقدسي.
الثاني: إيجابها ذلك فيما روياه أو أحدهما وهو ما اعتمده ابن الصلاح وغيره.
الثالث: إيجابها ذلك في الصحيحين، وفي المشهور وفي المسلسل بالأئمة، وهو ما اعتمده ابن حجر كما بينا.
الثمرة الثانية:
قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "اتفق العلماء على وجوب العمل بكل ما صح ولو لم يخرجه الشيخان".
وقال الإمام شمس الدين بن القيم في: "إعلام الموقعين: "ترى كثيرًا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلدة وقد خالفه راويه يقول: "الحجة فيما روى لا في قوله" فإذا جاء قول الراوي موافقًا لقول من قلده، والحديث يخالفه قال: "لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا قد رأينا ذلك في الباب الواحد وهذا من أقبح التناقض.
"والذي ندين لله به، ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر بنسخه أن القرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خلفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان لا راويه، ولا غيره إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره، وقت الفتيا أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا أو يكون في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله -ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه- لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك". اهـ.
وفي كتاب: "قاموس الشريعة" للسعدي: "إذا رفع الصحابي خبرًا عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإيجاب فعل وجب العمل به على من بلغه من المكلفين إلى أن يلقى خبرًا غيره ينسخ ذلك الخبر وحينئذ فعلى من عمل بالخبر الأول الرجوع إلى الثاني وترك العمل بالأول".
وفيه أيضًا: "كل مسألة لم يخل الصواب فيها من أحد القولين ففسد أحدهما لقيام الدليل على فساده صح أن الحق في الآخر قال الله تعالى: {فماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال فأنّى تصرفون}.
وقال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين: "كان الإمام أحمد إذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه، كائنًا من كان ولذا لم يلتفت إلى خلاف عمر -رضي الله عنه- في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر، ولا خلافة في استدامة المحرم الطيب الذي يطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك ولا خلافه في منع المنفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ وكذا لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي بن كعب -رضي الله عنهم- في ترك الغسل من الإكسال، لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلا ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين لصحة حديث سبيعة الأسلمية؛ ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما؛ ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك وهذا كثير جدًّا ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملًا، ولا رأيًا ولا قياسًا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد نص الشافعي في رسالته الجديدة على أن: "ما لا يعلم فيه الخلاف لا يقال له إجماع" ولفظه: "ما لا يعلم فيه الخلاف فليس إجماعًا"
ثم قال ابن القيم: "ونصوص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث أجل من أن يقدم عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم المخالف ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة، أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده". اهـ.
وقال العارف الشعراني قدس الله سره في الميزان: "فإن قلت: "فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها" فالجواب: "ينبغي لك أن تعمل بها فإن إمامك لو ظفر بها، وصحت عنده لربما كان أمرك بها فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة، ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه ومن قال: "لا أعمل بالحديث إلا إن أخذ به إمامي" فاته خير كثير كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذًا لوصية الأئمة فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا، وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بها وتركوا كل قياس كانوا قاسوه، وكل قول كانوا قالوه وقد بلغنا من طرق صحيحة أن الإمام الشافعي أرسل بقول للإمام أحمد بن حنبل: "إذا صح عندكم حديث فأعلموا به لنأخذ به، ونترك كل قول قلناه قبل ذلك أو قاله غيرنا فإنكم أحفظ للحديث ونحن أعلم به".
وقال الشعراني قدس سره أيضًا في الرد على من يزعم أن الإمام أبا حنيفة -رضي الله عنه- يقدم القياس على الحديث ما نصه: "ويحتمل أن الذي أضاف إلى الإمام أبي حنيفة، أنه يقدم القياس على النص ظفر بذلك في كلام مقلديه الذين يلزمون العمل بما وجدوه عن إمامهم من القياس، ويتركون الحديث الذي صح بعد موت الإمام فالإمام معذور وأتباعه غير معذورين، وقولهم: "إن إمامنا لم يأخذ بهذا الحديث" لا ينهض حجة لاحتمال أنه لم يظفر به أو ظفر به لكن لم يصح عنده وقد تقدم قول الأئمة كلهم: "إذا صح الحديث فهو مذهبنا" وليس لأحد معه قياس ولا حجة إلا طاعة الله وطاعة رسوله بالتسليم له". اهـ.
وقال العمدة الشهير السيد محمد عابدين الدمشقي في شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي: "إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى، من شدة احتياطه وورعه وعلمه بأن الاختلاف من آثار الرحمة قال لأصحابه إن توجه لكم دليل فقولوا به".
وقال بعد أسطر: "فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة؛ ونقله أيضًا الإمام الشعراني عن الأئمة الأربعة؛ ونقل فيها عن البحر قال إنهم نقلوا عن أصحابنا أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعلم من أين قلنا حتى نقل في السراجية أن هذا سبب مخالفة عصام للإمام، وكان يفتي بخلاف قوله كثيرًا لأنه لم يعلم الدليل، وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به.
وفيها أيضًا عن العلامة قاسم أنه قال في رسالته المسماة رفع الاشتباه عن مسألة المياه: "لما منع علماؤنا رضي الله تعالى عنهم من كان له أهلية النظر من محض تقليدهم على ما رواه الشيخ الإمام العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف، قال حدثنا أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال ليس لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعرف من أين قلنا تتبعت مآخذهم وحصلت منها بحمد الله تعالى على الكثير ولم أقنع بتقليد ما في صحف كثير من المصنفين... إلخ".
وقال في رسالة أخرى: "وإني ولله الحمد لأقول كما قال الطحاوي لابن حربويه لا يقلد إلا عصبي أو غبي". اهـ.
الثمرة الثالثة:
في "حصول المأمول من علم الأصول" ما نصه: "اعلم أنه لا يضر الخبر الصحيح عمل أكثر الأمة بخلافه؛ لأن قول الأكثر ليس بحجة؛ وكذا عمل أهل المدينة بخلافه، خلافًا لمالك وأتباعه؛ لأنهم بعض الأمة ولجواز أنهم لم يبلغهم الخبر. ولا يضره عمل الراوي له بخلافه خلافًا لجمهور الحنفية وبعض المالكية لأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر، ولم نتعبد بما فهمه الراوي، ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصالح للاستدلال بها، ولا يضره كونه مما تعم به البلوى خلافًا للحنفية، وأبي عبد الله البصري لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك، ولا يضره كونه في الحدود، والكفارات خلافًا للكرخي من الحنفية، ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية، ولا يضره أيضًا كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافًا للحنفية فقالوا إذا ورد بالزيادة كان نسخًا لا يقبل، والحق القبول لأنها زيادة غير منافية للمزيد فكانت مقبولة، ودعوى أنها ناسخة ممنوعة وهكذا إذا ورد الخبر مخصصًا للعام من كتاب أو سنة فإنه مقبول ويبنى العام على الخاص خلافًا لبعض الحنفية، وهكذا إذا ورد مقيدًا لمطلق الكتاب أو السنة المتواترة، ولا يضره أيضًا كون راوية انفرد بزيادة فيه على ما رواه غيره إذا كان عدلًا فقد يحفظ الفرد ما لا تحفظه الجماعة، وبه قال الجمهور وهذا في صورة عدم المنافاة وإلا فروية الجماعة أرجح ومثل انفراد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي وقفه الجماعة وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه فإن ذلك مقبول منه لأنه زيادة على ما ردوه وتصحيح لما أعلوه، ولا يضره أيضًا كونه خارجًا مخرج ضرب الأمثال".
الثمرة الرابعة:
قال الإمام شمس الدين ابن القيم الدمشقي في كتاب الروح: "ينبغي أن يفهم عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر عن مراده وما قصده من الهدي والبيان. وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله بل سوء الفهم عن الله رسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوء القصد من التابع فيا محنة الدين، وأهله والله المستعان وهل أوقع القدر به والمرجئة، والخوارج والمعتزلة والجهمية والروافض، وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام والذي فهمه الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ومن تبعهم عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فمهجور لا يلتفت إليه ولا يرفع هؤلاء به رأسًا ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها، فإنا لو ذكرناها لزادت على عشرات ألوف حتى إنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مراده كما ينبغي في موضع واحد وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس، وعرضه على ما جاء به الرسول وأما من عكس الأمر فعرض ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ما اعتقده وانتحله، وقلد فيه من أحسن به الظن فليس يجدي الكلام معه شيئًا فدعه وما اختاره لنفسه ووله ما تولى وأحمد الذي عافاك مما ابتلاه به". اهـ.
وقال الإمام علم الدين الشيخ صالح الفلاني المالكي الأثري في كتابه: "إيقاظ الهمم": "ترى بعض الناس إذا وجد حديثًا يوافق مذهبة فرح به وانقاد له وسلم وإن وجد حديثًا صحيحًا سالمًا من النسخ، والمعارض مؤيدًا لمذهب غير إمامه فتح له باب الاحتمالات البعيدة، وضرب عنه الصفح والعارض، ويلتمس لمذهب إمامه أوجها من الترجيح مع مخالفته للصحابة، والتابعين والنص الصريح وإن شرح كتابا من كتب الحديث حرف كل حديث خالف رأيه الحديث، وإن عجز من ذلك كله ادعى النسخ بلا دليل أو الخصوصية أو عدم العمل به أو غير ذلك مما يحضر ذهنه العليل وإن عجز عن ذلك كله ادعى أن إمامه اطلع على كل مروي أو جله فما ترك هذا الحديث الشريف إلا وقد اطلع على طعن فيه برأيه المنيف فيتخذ علماء مذهبه أربابا ويفتح لمناقبهم، وكراماتهم أبوابًا ويعتقد أن كل من خالف ذلك لم يوافق صوابًا، وإن نصحه أحد من علماء السنة اتخذه عدوا ولو كانوا قبل ذلك أحبابًا وإن وجد كتابا من كتب مذهب إمامه المشهورة قد تضمن نصحه وذم الرأي والتقليد، وحرض على اتباع الأحاديث المشهورة، نبذه وراء ظهره وأعرض عن نهيه وأمره واعتقده حجرًا محجورًا". اهـ.
أقول إن الشيخ الفلاني هو من كبار من أخذ عنه مسند الشام الشيخ عبد الرحمن الكزبري ومن طريقه ارتفع علو إسناده في البخاري هو ومن شاركه في الأخذ عنه رحمه الله تعالى.
الثمرة الخامسة:
لزوم قبول الصحيح وإن لم يعمل به أحد -قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في رسالته الشهيرة: "ليس لأحد دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول إلا لاستدلال ولا يقول بما استحسن فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق".
وقال أيضًا: "إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قضى في الإبهام بخمس عشرة، فلما وجد كتاب آل عمرو بن حزم وفيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" صاروا إليه قال ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم -والله أعلم- حتى ثبت لهم أنه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا الحديث دلالتان إحداهما قبول الخبر، والأخرى أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمض عمل من أحد من الأئمة يمثل الخبر الذي قبلوا، ودلالة على أنه لو مضى أيضًا عمل من أحد من الأئمة ثم وجد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودلالة على أن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده".
قال الشافعي: "ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا من المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه ولا غيركم بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك كل عمل خلفه ولو بلغ عمر هذا صار إليه إن شاء الله كما صار إلى ما بلغه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتقواه لله، وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلمه بأن ليس لأحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
وقال علم الدين الفلاني المتقدم ذكره في كتابه: "إيقاظ الهمم": "قال شيخ مشايخنا محمد حياة السندي، قال ابن الشحنة في: "نهاية النهاية": "وإن كان -أي ترك الإمام الحديث- لضعفه في طريقة فينظر إن كان له طريق غير الطريق الذي ضعفه به فينبغي أن تعتبر فإن صح عمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلدة عن كونه حنفيًّا بالعمل به، فقد صح أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" كذا قال بعض من صنف في هذا المقصود".
وقال في البحر: وإن لم يستفت ولكن بلغه الخبر وهو قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام: "أفطر الحاجم والمحجوم" وقوله: "الغيبة تفطر الصائم" ولم يعرف النسخ ولا تأويله فلا كفارة عليه عندهما لأن ظاهر الحديث واجب العمل خلافًا لأبي يوسف لأنه قال: "ليس للعامي العمل بالحديث لعدم علمه بالناسخ والمنسوخ".
ونقل ابن العز في حاشية الهداية ذلك أيضًا عن أبي يوسف وعلل بأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث؛ قال: "في تعليله نظر فإن المسألة إذا كانت مسألة النزاع بين العلماء، وقد بلغ العامي الحديث الذي احتج به أحد الفريقين كيف يقال في هذا إنه غير معذور فإن قيل: "هو منسوخ" فقد تقدم أن المنسوخ ما يعارضه، ومن سمع الحديث فعمل به، وهو منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح: لا تعمل به حتى تعرضه على رأي فلان، أو فلان وإنما يقال له: انظر هل هو منسوخ أم لا؟ أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخة كما في هذه المسألة فالعامل به في غاية العذر فإن تطرق الاحتمال إلى خطأ المفتي أولى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث، إلى أن قال: "فإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي كيف لا يسوغ الأخذ بالحديث فلو كانت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يجوز العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان، لكان قولهم شرطًا في العمل بها وهذا من أبطل الباطل ولذا أقام الله الحجة برسوله -صلى الله عليه وسلم- دون آحاد الأمة؛ ولا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطأه من صوابه، ويجوز عليه التناقض، والاختلاف ويقول القول ويرجع عنه ويحكي عنه عدة أقوال وهذا كله فيمن له نوع أهلية وأما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله تعالى: {فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون} وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتب له من كلامه أو كلام شيخه وإن علا، فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولي بالجواز، وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث فكما إذا لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرف معناها فكذلك الحديث. انتهى بحروفه.
الثمرة السادسة:
قال علم الدين الفلاني في: "إيقاظ الهمم" نقلًا عن الإمام السندي الحنفي قدس سره ما نصه: "تقرر أن الصحابة ما كانوا كلهم مجتهدين على اصطلاح العلماء، فإن فيهم القروي والبدوي ومن سمع منه حديثًا واحدًا أو صحبه مرة، ولا شك أن من سمع حديثًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن واحد من الصحابة -رضي الله عنهم- كان يعمل به حسب فهمه مجتهدًا كان أو لا، ولم يعرف أن غير المجتهد منهم كلف بالرجوع إلى المجتهد فيما سمعه من الحديث لا في زمانه -صلى الله عليه وسلم- ولا بعده في زمان الصحابة -رضي الله عنهم- وهذا تقرير منه -صلى الله عليه وسلم- بجواز العمل بالحديث لغير المجتهد، وإجماع من الصحابة عليه، ولولا ذلك لأمر الخلفاء غير المجتهد منهم سيما أهل البوادي أن لا يعملوا بما بلغهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مشافهة أو بواسطة حتى يعرضوا على المجتهدين منهم، ولم يرد من هذا عين ولا أثر؛ وهذا هو ظاهر قوله تعالى: {وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ونحوه من الآيات حيث لم يقيّد بأن ذلك على فهم الفقهاء، ومن هنا عرفت أنه لا يتوقف العمل بعد وصول الحديث الصحيح على معرفة عدم الناسخ، أو عدم الإجماع على خلافه، أو عدم المعارض، بل ينبغي العمل به إلى أن يظهر شيء من الموانع، فينظر ذلك، ويكفي في العمل كون الأصل عدم هذه العوارض المانعة عن العمل، وقد بنى الفقهاء على اعتبار الأصل في شيء أحكامًا كثيرة في الماء، ونحوه لا تحصى على المتتبع لكتبهم، ومعلوم أن من أهل البوادي والقرى البعيدة من كان يجيء إليه -صلى الله عليه وسلم- مرة أو مرتين ويسمع شيئًا ثم يرجع إلى بلاده ويعمل به والوقت كان وقت نسخ، وتبديل ولم يعرف أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر أحدًا من هؤلاء بالمراجعة ليعرف الناسخ من المنسوخ بل إنه قرر من قال: "لا أزيد على هذا ولا أنقص" -على ما قال- ولم ينكر عليه بأنه يحتمل النسخ بل دخل الجنة إن صدق؛ وكذلك ما أمر الصحابة أهل البوادي وغيرهم بالعرض على مجتهد ليميز له الناسخ من المنسوخ؛ فظهر أن المعتبر في النسخ ونحوه بلوغ الناسخ لا وجوده، ويدل على أن المعتبر البلوغ لا الوجود أن المكلف مأمور بالعمل على وفق المنسوخ ما لم يظهر عنده الناسخ فإذا ظهر لا يعيد ما عمل على وفق المنسوخ بل صحح ذلك حديث نسخ القبلة إلى الكعبة المشرفة، فإن خبره وصل إلى أطراف المدينة المنورة كأهل قباء، وغيرهم بعدما صلوا على وفق القبلة المنسوخة فمنهم من وصله الخبر في أثناء الصلاة ومنهم من وصله بعد أن صلى الصلاة والنبي -صلى الله عليه وسلم- قررهم على ذلك ولم يأمر أحدًا منهم بالإعادة فلا عبرة لما قيل: "لا يجوز العمل قبل البحث عن المعارض والمخصص وإن ادّعي عليه الإجماع" فإنه لو سلم فإجماع الصحابة وتقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- مقدم على إجماع من بعدهم على أن ما ادّعي من الإجماع قد علم خلافه كما ذكر في بحر الزركشي في الأصول" انتهى ملخصًا.
الثمرة السابعة:
قال ابن السمعاني: "متى ثبت الخبر، صار أصلا من الأصول، ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر لأنه إن وافقه فذاك وإن خالفه لم يجز رد أحدهما لأنه رد للخبر بالقياس وهو مردود بالاتفاق فإن السنة مقدمة على القياس". اهـ.
ومنه يعلم أن من رد حديث أبي هريرة في المصراة، المتفق عليه؛ لأنه لم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة فلا يؤخذ بما رواه مخالفًا للقياس فقد آذى قائله به نفسه وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه، ولا قول لأحد مع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كائنًا من كان، وأيا كان وممن كان و"إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل"، وأين القياس وإن كان جليًّا من السنة المطهرة إنما يصار إليه عند فقد الأصل من الكتاب والخبر لا مع وجود واحد منهما.
وقال ابن السمعاني في الاصطلاح: "التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة، وقد اختص أبو هريرة بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له يعني قوله: "إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا... " الحديث، وهو في كتاب العلم وأول البيوع أيضًا عند البخاري.
الثمرة الثامنة:
لا يضر صحة الحديث تفرد صحابي به -قال الإمام ابن القيم في: "إغاثة اللهفان" في مناقشة من طعن في حديث ابن عباس في المطلقة ثلاثًا بأنها كانت واحدة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر ما نصه: وقد رده آخرون بمسلك أضعف من هذا كله فقالوا: هذا حديث لم يروه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ابن عباس وحده، ولا عن ابن عباس إلا طاوس وحده قالوا فأين أكابر الصحابة، وحفاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم الذي الحاجة إليه شديدة جدًّا فكيف خفي هذا على جميع الصحابة وعرفه ابن عباس وحده وخفي على أصحاب ابن عباس كلهم، وعلمه طاوس وحده؟ وهذا أفسد من جميع ما تقدم.
ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبله الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير، ولم يرده أحد من الأئمة ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا قال: "إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل" وإنما يحكى عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء، وقد تفرد الزهري بنحو ستين سنة لن يروها غيره وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرده هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس -رضي الله عنه- حديث ركانة، وهو موافق لحديث طاوس عنه فإن قدح في عكرمة أبطل، وتناقض فإن الناس احتجوا بعكرمة وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه.
فإن قيل: "فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه، ولا يجزم بصحته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه السلام" قيل: "ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ أن يخالف الثقات فيما رووه، فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثًا منفردًا به لم يرو الثقات خلافه فإن ذلك لا يسمى شاذًّا. وإن اصطلح على تسميته شاذًّا بهذا المعنى لم يكن هذا الاصطلاح موجبًا لرده ولا مسوغًا له.
قال الشافعي رحمه الله: "وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات" قاله في مناظرته بعض من رد الحديث بتفرد الراوي فيه ثم إن هذا القول لا يمكن أحدًا من أهل العلم، ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم، وفتاويهم والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرًا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد".
الثمرة التاسعة:
ما كل حديث صحيح تحدّث به العامة -والدليل على ذلك ما رواه الشيخان عن معاذ -رضي الله عنه- قال كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال: "يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله"؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا" قلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلا أبشر به الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا! " وفي رواية لهما عن أنس أن النبي -صلى الله علينه وسلم- قال لمعاذ وهو ردفه: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار" قال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلا أخبر به الناس فيستبشروا. قال: "إذًا يتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا.
وروى البخاري تعليقًا عن علي -رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ " ومثله قول ابن مسعود: "ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" رواه مسلم.
قال الحافظ ابن حجر: "وممن كره التحديث ببغض دون بعض، أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على الأمير؛ مالك في أحاديث الصفات؛ وأبو يوسف في الغرائب؛ ومن قبلهم أبو هريرة كما روي عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن؛ ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين، أنه أتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي؛ وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب". اهـ.
ولما كان النهى للمصلحة لا للتحريم أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ.
قال بعضهم: "النهى في قوله: -صلى الله عليه وسلم- "لا تبشرهم" مخصوص ببعض الناس وبه احتج البخاري على أن للعالم أن يخص بالعلم قومًا دون قوم، كراهة أن لا يفهموا وقد يتخذ أمثال هذه الأحاديث البطلة والمباحية ذريعة إلى ترك التكاليف ورفع الأحكام وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد خراب العقبى. وأين هؤلاء ممن إذا بشروا زادوا جدًّا في العبادة وقد قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم: أتقوم الليل وقد غفر الله لك؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"). [قواعد التحديث: 121-143]