10 Oct 2022
الدرس الخامس: الحديث الحسن والضعيف
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (13- بيان الحديث الحسن ذكر ماهيته:
قال العلامة الطيبي: "الحسن مسند من قرب من درجة الثقة، أو مرسل ثقة وروى كلاهما من غير وجه، وسلم من شذوذ وعلة" وهذا الحد أجمع الحدود التي نقلت في الحسن وأضبطها وإنما سمي حسنًا لحسن الظن براويه). [قواعد التحديث: 143]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (14- بيان الحسن لذاته ولغيره:
اعلم أن ما عرفناه أولًا هو الحسن لذاته قال ابن الصلاح: "الحسن لذاته أن تشتهر رواته بالصدق ولم يصلوا في الحفظ رتبة رجال الصحيح؛ والحسن لغيره أن يكون في الإسناد مستور لم تتحقق أهليته، غير مغفل، ولا كثير الخطأ في روايته، ولا متهم بتعمد الكذب فيهان ولا ينسب إلى مفسق آخر واعتضد بمتابع أو شاهد فأصله ضعيف وإنما طرأ عليه الحسن بالعاضد الذي عضده فاحتمل لوجود العاضد ولولاه لاستمرت صفة الضعف فيه ولاستمر على عدم الاحتجاج به" كذا في فتح المغيث). [قواعد التحديث: 143-144]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (15- ترقي الحسن لذاته إلى الصحيح بتعدد طرقه:
اعلم أن الحسن إذا روي من وجه آخر ترقى من الحسن إلى الصحيح لقوته من الجهتين، فيعتضد أحدهما بالآخر؛ وذلك لأن الراوي في الحسن متأخر عن درجة الحافظ الضابط مع كونه مشهورًا بالصدق، والستر فإذا روي حديثه من غير، وجه ولو وجهًا واحدًا قوي بالمتابعة، وزال ما كان يخشى عليه من جهة سوء حفظ راويه فارتفع حديثه من درجة الحسن إلى الصحيح.
قال السيد الشريف: "ونعني بالترقي أنه ما حق في القوة بالصحيح لا أنه عينه"). [قواعد التحديث: 144]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (16- بيان أول من شهر الحسن:
قال الإمام النووي في التقريب وشارحه السيوطي: "كتاب الترمذي أصل في معرفة الحسن وهو الذي شهره وأكثر من ذكره وإن وجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله".
وقال الإمام تقي الدين بن تيمية قدس سره في بعض فتاويه: "أول من عرف أنه قسم الحديث إلى صحيح وحسن، وضعيف أبو عيسى الترمذي ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله، وقد بين أبو عيسى مراده بذلك فذكر أن الحسن ما تعددت طرقة، ولم يكن فيهم متهم بالكذب، ولم يكن شاذا وهو دون الصحيح الذي عرف عدالة ناقليه، وضبطهم" وقال: "الضعيف الذي عرف أن ناقله متهم بالكذب رديء الحفظ فإنه إذا رواه المجهول خيف أن يكون كاذبًا أو سيئ الحفظ فإذا وافقه آخر لم يأخذ عنه عرف أنه لم يتعمد كذبه، واتفاق الاثنين على لفظ واحد طويل قد يكون ممتنعًا، وقد يكون بعيدًا ولما كان تجويز اتفاقهما في ذلك ممكنًا نزل من درجة الصحيح" ثم قال تقي الدين قدس سره: "وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح، وضعيف، والضعيف كان عندهم نوعان ضعيف ضعفًا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي وضعيف ضعفًا يوجب تركه وهو الواهي"). [قواعد التحديث: 145]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (17- معنى قول الترمذي: "حسن صحيح":
للعلماء في ملحظ الترمذي بهذه العبارة وجوه نقلها السيوطي في التدريب. قالوا: "العبارة المذكورة مما استشكل؛ لأن الحسن قاصر عن الصحيح فكيف يجتمع إثبات القصور ونفيه في حديث، واحد وأجاب ابن دقيق العيد بأن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا حيث انفرد الحسن أما إذا ارتفع إلى درجة الصحة فالحسن حاصل لا محالة تبعًا للصحة لأن وجود الدرجة العليا، وهي الحفظ والإتقان لا ينافي وجود الدنيا كالصدق فيصح أن يقال حسن باعتبار الصفة الدنيا صحيح باعتبار العليا، ويلزم على هذا أن كل صحيح حسن، وقد سبقه إلى نحو ذلك ابن المواق قال الحافظ ابن حجر: وشبه ذلك قولهم في الراوي صدوق فقط وصدوق ضابط فإن الأول قاصر عن درجة رجال الصحيح والثاني منهم فكما أن الجمع بينهما لا يضر ولا يشكل فكذلك الجمع بين الصحة والحسن". اهـ). [قواعد التحديث: 145-146]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (18- الجواب عن جمع الترمذي بين الحسن والغرابة على اصطلاحه:
قد أنكر بعض الناس على الإمام الترمذي تحديده للحسن بما حد به من كونه يروى من غير وجه لقوله في بعض الأحاديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه والغريب الذي انفرد به الواحد، وأجاب الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "بأن الترمذي لم يعرف الحسن مطلقًا وإنما عرفه بنوع خاص منه وقع في كتابه، وهو ما يقول فيه حسن من غير صفة أخرى، وذلك أنه يقول في بعض الأحاديث حسن، وفي بعضها صحيح وفي بعضها غريب، وفي بعضها حسن صحيح، وفي بعضها حسن غريب وفي بعضها صحيح غريب، وفي بعضها حسن صحيح غريب، وتعريفه إنما وقع على الأول فقط وعبارته ترشد إلى ذلك حيث قال في آخر كتابه: "وما قلنا في كتابنا: حديث حسن، فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا؛ إذ كل حديث يروى، لا يكون راويه متهما بكذب ويروى من غير وجه نحو ذلك ولا يكون شاذا فهو عندنا حديث حسن" فعرف بهذا أنه إنما عرف الذي يقول فيه حسن فقط أما ما يقول فيه حسن صحيح أو حسن غريب أو حسن صحيح غريب فلم يعرج على تعريف ما يقول فيه صحيح فقط أو غريب فقط، وكأنه ترك ذلك استغناء لشهرته عند أهل الفن واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه حسن فقط إما لغموضه، وإما لأنه اصطلاح جديد ولذلك قيده بقوله: "عندنا" ولم ينسبه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي". اهـ.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في فتوى له: "الذين طعنوا على الترمذي لم يفهموا مراده في كثير مما قاله. فإن أهل الحديث قد يقولون: "هذا الحديث غريب" أي من هذا الوجه؛ وقد يصرحون بذلك فيقولون غريب من هذا الوجه فيكون الحديث عندهم صحيحًا معروفًا من طريق واحد. فإذا روي من طريق آخر، كان غريبًا من ذلك الوجه وإن كان المتن صحيحًا معروفا. فالترمذي إذا قال: حسن غريب قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق لكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن". اهـ). [قواعد التحديث: 146-147]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (19- مناقشة الترمذي في بعض ما يصححه أو يحسنه:
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية: "بعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه، كما قد ينازعونه في بعض ما يضعفه ويحسنه، فقد يضعف حديثًا ويصححه البخاري، كحديث ابن مسعود لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ابغني أحجارًا أستنفض بهن"؛ قال: فأتيته بحجرين وروثة قال فأخذ الحجرين وترك الروثة وقال: "إنها رجس".
فإن هذا اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي، فجعل الترمذي هذا الاختلاف علة، ورجح روايته له عن أبي عبيدة عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه، وأما البخاري فصححه من طريق أخرى لأن أبا إسحاق كان الحديث يكون عنده عن جماعة يرويه عن هذا تارة وعن هذا تارة، كما كان الزهري يروي الحديث تارة عن سعيد بن المسيب، وتارة عن أبي سلمة وتارة يجمعها فمن لا يعرفه فيحدث به تارة عن هذان، وتارة عن هذا يظن بعض الناس أن ذلك غلط وكلاهما صحيح وهذا باب يطول وصفه"). [قواعد التحديث: 147-148]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (20- بيان أن الحسن على مراتب:
نبه الأئمة على أن الحديث الحسن على مراتب كالصحيح. قال الحافظ الذهبي: "فأعلى مراتبه: بهز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ وابن إسحاق عن التيمي؛ وأمثال ذلك مما قيل فيه إنه صحيح، إنه أدنى مراتب الصحيح ثم بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وضعفه كحديث الحرث بن عبد الله وعاصم بن ضمرة وحجاج بن أرطاة ونحوهم"). [قواعد التحديث: 148-149]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (21- بيان كون الحسن حجة في الأحكام:
قال الأئمة: "الحسن كالصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه في القوة ولهذا أدرجه طائفة من نوع الصحيح، كالحاكم وابن حبان وابن خزيمة مع قولهم بأنه دون الصحيح المبين أولًا".
وقال السخاوي في الفتح: "منهم من يدرج الحسن في الصحيح لاشتراكهما في الاحتجاج، بل نقل ابن تيمية إجماعهم إلا الترمذي خاصة عليه".
قال الخطابي: "على الحسن مدار أكثر الحديث لأن غالب الأحاديث لا تبلغ رتبة الصحيح وعمل به عامة الفقهاء، وقبله أكثر العلماء وشدد بعض أهل الحديث، فرد بكل علة قادحة كانت أم لا، كما روي عن ابن أبي حاتم أنه قال: سألت أبي عن حديث فقال: "إسناده حسن" فقلت: "يحتج به" فقال: "لا". اهـ.
والصواب مع الجمهور لما بينه الخطابي. هذا في الحسن لذاته وأما الحسن لغيره فيلحق بذلك في الاحتجاج لكن فيما تكثر طرقه عند قوم، كما سنبينه في بحث انجبار الضعيف قريبًا). [قواعد التحديث: 149-150]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (22- قبول زيادة راوي الصحيح والحسن:
قال الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها: "وزيادة راويهما -أي الصحيح والحسن- مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة؛ لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها فهذه تقبل مطلقًا لأنها في حكم الحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة ولا يرويه عن شيخه غيره، وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الراوية الأخرى فهذه التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها فيقبل الراجح ويرد المرجوح، واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقًا من غير تفصيل ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذا ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح وكذا الحسن، والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها؛ ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة". اهـ). [قواعد التحديث: 151-152]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (23- بيان ألقاب للحديث نشمل الصحيح والحسن وهي الجيد والقوي والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمقبول:
"هذه الألفاظ مستعملة عند أهل الحديث في الخبر المقبول، والفرق بينها أن الجودة قد يعبر بها عن الصحة فيتساوى حينئذ الجيد والصحيح، إلا أن المحقق منهم، لا يعدل عن الصحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ويتردد في بلوغه الصحيح، فالوصف به حينئذ أنزل رتبة من الوصف بصحيح وكذا القوى، وأما الصالح فيشمل الصحيح والحسن لصلاحيتهما للاحتجاج، ويستعمل أيضًا في ضعيف يصلح للاعتبار، وسيأتي إن شاء الله معنى الاعتبار في تنبيه على حدة قبل بحث الأنواع التي تختص بالضعيف.
وأما المعروف فهو مقابل المنكر والمحفوظ مقابل الشاذ وسيأتي بيان ذلك والمجود الثابت يشملان الصحيح والحسن" كذا في التدريب وقد عرف الحافظ ابن حجر المقبول في شرح النخبة بالذي يجب العمل به عند الجمهور، والمراد بالذي لم يرجح صدق المخبر به). [قواعد التحديث: 152-153]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (24- بيان الضعيف ماهية الضعيف وأقسامه:
قال النووي: "الضعيف ما لم يوجد فيه شروط الصحة، ولا شروط الحسن، وأنواعه كثيرة: منها الموضوع والمقلوب، والشاذ والمنكر، والمعلل، والمضطرب، وغير ذلك" مما سيفصل بعونه تعالى). [قواعد التحديث: 153]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (25- تفاوت الضعيف:
يتفاوت ضعفه بحسب شدة ضعف رواته وخفته، كصحة الصحيح؛ فمنه أوهى، كما أن من الصحيح أصح. قال السخاوي في الفتح: "واعلم أنهم كما تكلموا في أصح الأسانيد، مشوا في أوهى الأسانيد؛ وفائدته ترجيح بعض الأسانيد على بعض وتمييز ما يصلح للاعتبار مما لا يصلح". اهـ.
وللحاكم تفصيل لأوهى أسانيد الرجال والبلاد ساقه في التدريب؛ ولابن الجوزي كتاب في الأحاديث الواهية). [قواعد التحديث: 153-154]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (26- بحث الضعيف إذا تعددت طرقه:
"اعلم أن الضعيف لكذب راويه أو لفسقه لا ينجبر بتعدد طرقة المماثلة له لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر. نعم! يرتقي بمجموعه عن كونه منكرًا، أو لا أصل له، وربما كثرت الطرق حتى أوصلته إلى درجة المستور، والسيئ الحفظ بحيث إذا وجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن" نقله في التدريب عن الحافظ ابن حجر.
وقال السخاوي في فتح المغيث إن الحسن لغيره يلحق فيما يحتج به، لكن فيما تكثر طرقه؛ ولذلك قال النووي في بعض الأحاديث: "وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوي بعضه بعضًا ويصير الحديث حسنًا ويحتج به". وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة، وظاهر كلام أبي الحسن بن القطان يرشد إليه، فإنه قال: "هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرفه أو عضده اتصال عمل، أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن واستحسنه شيخنا -يعني ابن حجر- وصرح في موضع آخر بأن الضعف الذي ضعفه ناشئ عن سوء حفظه إذا كثرت طرقه ارتقى إلى مرتبة الحسن.
وفي عون الباري نقلًا عن النووي أنه قال: "الحديث الضعيف عند تعدد الطرق يرتقي عن الضعف إلى الحسن، ويصير مقبولًا معمولًا به".
قال الحافظ السخاوي: "ولا يقتضي ذلك الاحتجاج بالضعيف، فإن الاحتجاج إنما هو بالهيئة المجموعة، كالمرسل حيث اعتضد بمرسل آخر، ولو ضعيفًا كما قاله الشافعي والجمهور". اهـ.
وقد خالف في ذلك الظاهرية قال ابن حزم في الملل في بحث صفة وجوه النقل الستة عند المسلمين ما صورته: "الخامس شيء نقل كما ذكرنا إما بنقل أهل المشرق والمغرب أو كافة عن كافة أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن في الطريق رجلًا مجروحًا بكذب أو غفلة أو مجهول الحال فهذا أيضًا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه وهو المتجه"). [قواعد التحديث: 154-155]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (27- ذكر قول مسلم رحمه الله إن الراوي عن الضعفاء غاش آثم جاهل:
قال الإمام النووي: "اعلم أن جرح الرواة جائز بل واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه، لصيانة الشريعة المكرمة وليس هو من الغيبة المحرمة بل من النصيحة لله تعالى ورسوله والمسلمين ولم يزل فضلاء الأئمة وأخبارهم، وأهل الورع منهم يفعلون ذلك". اهـ.
وقد تكلم الإمام مسلم على جماعة منهم في مقدمة صحيحة ثم قال: "وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب بذكره على استقصائه، وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا، وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر أو نهى أو ترغيب أو ترهيب فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق، والأمانة ثم أقدم على الراوية عند من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثما بفعله ذلك غاشًّا لعوام المسلمين إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها مع أن الأخبار الصحاح من رواة الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة، ولا مقنع ولا أحسب كثيرًا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن والضعف إلا أن الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من العدد، ومن ذهب في العلم هذا المذهب، وسلك هذا الطريق لا نصيب له فيه، وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم" انتهى كلام الإمام مسلم رحمه الله تعالى ورضي عنه ولقد شفى وكفى). [قواعد التحديث: 156]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (28- تشنيع الإمام مسلم على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة وقذفهم بها إلى العوام، وإيجابه رواية ما عرفت صحة مخارجه:
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى في خطبة صحيحه: "فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثًا فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة، والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأخبار الصحيحة، مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة، بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرًا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس، هو مستنكر عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة الحديث، لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل؛ ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة، بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها، إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت" ثم قال: "اعلم -وفقك الله تعالى- أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع، والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبيّنوا} الآية وقال عز وجل: {ممّن ترضون من الشّهداء} وقال سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم}. فدل بما ذكرنا من هذا الآي، أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول وأن شهادة غير العدل مردودة والخبر إن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في معظم معانيها إذ خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جمعهم: ودلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار، كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق وهو الأثر المشهور عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". ثم ساق مسلم رحمه الله ما ورد وعيد الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم- مما هو متواتر. ثم أسند عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم"). [قواعد التحديث: 157-158]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (29- تحذير الإمام مسلم من روايات القصاص والصالحين:
روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عاصم قال: "لا تجالسوا القصاص" وعن يحيى بن سعيد القطان قال: "لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث". وفي رواية: "لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث" قال مسلم: "يعني أنه يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب".
قال النووي: "لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفونه ويروون الكذب ولا يعلمون أنه كذب"). [قواعد التحديث: 158]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (30- شبهة من توسع فروى الأخبار الضعيفة واعتذاره:
عقد الصوفي الشهير أبو طالب المكي قدس الله سره في قوت القلوب بابا في تفضيل الأخبار، والرخصة والسعة في النقل والرواية مما يجدر بطالب هذا الفن تأمله لغرابة منزعه. قال قدس سره: في بعض ما رويناه يعني في كتابه: مراسيل ومقاطيع، ومنها ما في سنده مقال، وربما كان المقطوع والمرسل أصح من بعض المسند، إذ رواه الأئمة، وجاز لنا رسم ذلك لمعان:
أحدها: أنا لسنا على يقين من باطلها.
والثاني: أن معنا حجة بذلك، وهو روايتنا له، وأنا قد سمعنا، فإن أخطأنا الحقيقة عند الله تعالى فذلك ساقط عنا، كما قال الأسباط: {وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين} [يوسف: 81] في قولهم: {إن ابنك سرق} [يوسف: 81] فأخطؤوا الحقيقة عند الله تعالى، إلا أنهم كانوا معذورين لوجود الدليل، وهو: شهادتهم للصاع يستخرجون من رحل أخيهم.
والثالث: أن الأخبار الضعاف غير مخالفة الكتاب والسنة، لا يلزمنا ردها بل فيهما ما يدل عليها.
والرابع: أنا متعبدون بحسن الظن، منهيون عن كثير من الظن، مذمومون بظن السوء.
والخامس: أنه لا يتوصل إلى حقيقة ذلك إلا من طريق المعاينة، ولا سبيل إليها، فاضطررنا إلى التقليد والتصديق بحسن الظن بالنقلة مع ما تسكن إليه قلوبنا، وتلين إليه أبشارنا، ونرى أنه حق كما جاء في الخبر، وأيضا: فإنه ينبغي أن نعتقد في سلفنا المؤمنين أنهم خير منا، ثم نحن لا نكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على التابعين، فكيف نظن بهم أن يكذبوا وهم فوقنا؟!
على أنه قد جاءت أحاديث ضعاف بأسانيد صحاح، فكذلك يصلح أن نورد أحاديث صحاحا بسند ضعيف؛ لاحتمال أن يكون قد روي من وجه صحيح، إذ لم نحط بجملة العلم، أو لأنه بعض من يضعفه أهل الحديث يقويه بعضهم، وبعض من يخرجه أحد أو يذمه أحد يعدله، ويمدحه آخر فصار مختلفا فيه.
فلم يرد حديثه بقول واحد دون من فوقه أو مثله، أو لأن بعض ما يضعف به رواة الحديث وتعلل به أحاديثهم لا يكون تعليلا ولا جرحا عند الفقهاء، ولا عند العلماء بالله تعالى. مثل: أن يكون الراوي مجهولا لإيثاره الخمول وقد ندب إليه، أو لقلة الاتباع له؛ إذ لم يقم لهم الأثرة عنه، أو سينفرد بلفظ أو حديث حفظه، أو خص به دون غيره من الثقات، أو يكون غير سائق للحديث على لفظه، أو لا يكون معتنيا بحفظه ودرسه.
وقد يتكلم بعض الحفاظ بالإقدام والجراءة، فيجاوز الحد في الجرح، ويتعدى في اللفظ، ويكون المتكلم فيه أفضل منه، وعند العلماء بالله تعالى أعلى درجة، فيعود الجرح على الجارح، أو يكون رأى عليه لباسا، أو سمع منه كلاما يجرحه عند الفقهاء علله به بعض القراء من الرواة، وأن بعض من يضعفه أصحاب الحديث هو من علماء الآخرة ومن أهل المعرفة بالله تعالى، وله في الرواية والحديث مذاهب غير طريقة بعض أصحاب الحديث، فيعمل في روايته بمذهبه، فلا يكون أصحاب الحديث حجة عليه إلا كان هو حجة عليهم؛ إذ ليس هو عند أصحابه من العلماء دون أصحاب الحديث ممن ضعفه، إذ رأى غير رأي مذهبه.
وقال بعض العلماء: الحديث وإن كان شهادة، فقد وسع فيه بحسن الظن كما جوز فيه قبول شهادة واحدة أي للضرورة كشهادة القابلة ونحوها.
وروينا معناه عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: والحديث إذ لم ينافه كتاب أو سنة، وإن لم يشهدا له إن لم يخرج تأويله عن إجماع الأمة، فإنه يوجب القبول والعمل بقوله صلى الله عليه وسلم. كيف وقد قيل: والحديث الضعيف عندي آثر من الرأي والقياس.
وهذا مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه والحديث الذي تداوله عصران، أو رواه القرون الثلاثة، أو دار في العصر الواحد، فلم ينكره علماؤه وكان مشهورا لا ينكره الطبقة من المسلمين، احتمل ووقع به، حجة.
وإن كان في سنده قول إلا ما خالف الكتاب والسنن الصحيحة، أو إجماع الأمة أو ظهر كذب ناقليه بشهادة الصادقين من الأئمة.
وقال وكيع بن الجراح: ما ينبغي لأحد أن يقول: هذا الحديث باطل؛ لأن الحديث أكثر من ذلك.
وقال أبو داود: قال أبو زرعة الرازي: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشرين ألف عين تطرف، كل واحد قد روى عنه ولو حديثا ولو كلمة أو رواية، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن يحصى.
وذكر رجل عند الزهري حديثا فقال: ما سمعنا بهذا!! فقال الزهري: أكل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت؟ قال: لا. قال: فثلثاه؟ قال: لا. قال: نصفه؟ فسكت، فقال: عد هذا من النصف الذي لم تسمعه!!
وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: كان يزيد بن هارون يكتب عن الرجل، وهو يعلم أنه ضعيف! وكان له ذكاء وعلم بالحديث.
وقال إسحاق بن راهويه: قيل للإمام أحمد بن حنبل: هذه الفوائد التي فيها المناكير ترى أن نكتب الجيد منها؟ فقال: المنكر أبدا منكر، قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يحتاج إليهم في وقت. وكأنه لم يرد بالكتابة عنهم بأسا.
وقال أبو بكر المروزي عنه: إن الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه، ومما يدلك على مذهبه في التوسعة أنه أخرج حديثه كله في المسند المأثور عنه، الذي رويناه عن أشياخنا عن ابنه عبد الله عنه، ولم يعتبر الصحيح منه، وفيه أحاديث كثيرة يعلم الثقات أنها ضعيفة، وهو أعلم بضعفها منهم، ثم أدخلها في مسنده، لأنه أراد تخريج المسند ولم يقصد تصحيح السند، فاستجاز روايتها كما سمعها، وقد كان قطع أن يحدث الناس في سنة ثمان وعشرين وتوفي في سنة إحدى وأربعين فلم يسمع أحد منه في هذه المدة إلا ابنه عبد الله وابن منيع جزءا واحدا بشفاعة جده أحمد بن منيع.
وحدثونا عنه (أعني الإمام أحمد) قال: كان عبد الرحمن ينكر الحديث، ثم يخرج إلينا بعد وقت، فيقول: هو صحيح قد وجدته. قال وأما وكيع فلم ينكر، ولكن يقول إذ سئل عنه: لا أحفظه.
وحدثونا عن ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي قال: كان خالي قد خط على أحاديث، ثم صحح عليها بعد ذلك، وقرأتها عليه، فقلت: قد كنت خططت. قال: نعم، ثم تفكرت فإذا أني إن ضعفتها أسقطت عدالة ناقليها، فإن جاءتني بين يدي الله تعالى، وقالت: لم أسقطت عدالتي رأيتني سمعت كلامي، لم يكن له حجة.
هذا كان مذهب الورعين من السلف، وقد كان بعضهم يقول: كنا نترك مجالسة شعبة، لأنه كان يدخلنا في الغيبة!، وإنما كان كلامه في التضعيف.
وقال بعضهم في تضعيف الرواة: إن خلصت نيتك، يعني أن أردت الله عز وجل والدين بذلك، لم يكن لك ولا عليك.
فهذه الفصول التي ذكرناها هي أصول في معرفة الحديث، وهو علم لأهله، وطريق هم سالكوه، ثم حدث قوم لم يكن لهم علم يختصون به. ولا حال من علم يوصفون به، ولا شغل من عبادة تقطعهم، فجعلوا لنفوسهم علما تشاغلوا به، وشغلوا من استمع إليهم، فصنفوا كتبا وأخذوا يتكلمون في نقلة الأخبار بالتعليل، وتتبع العثار، فطرقوا لأهل البدع إلى رد السنن، وإيثار الرأي والمعقول عليها لما يرون من طعنهم فيها واغتبطوا بالقياس والنظر، لما وجدوا من زهدهم في السنة والخبر، سيما في زمانك هذا، والأحاديث في الترغيب في الآخرة، والتزهيد في الدنيا، والترهيب لوعيد الله تعالى، وفي فضائل الأعمال وتفضيل الأصحاب متقبلة محتملة على كل حال، مقاطيعها ومراسيلها لا تعارض ولا ترد، وكذلك في أهوال القيامة ووصف زلازلها وعظائمها، لا تنكر بعقل بل تتقبل بالتصديق والتسليم، كذلك كان السلف يفعلون؛ لأنه العلم قد دل على ذلك، والأصول قد وردت به.
وقد روينا: من بلغه عن الله فضيلة أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أعطاه الله ثواب ذلك، وإن لم يكن ما قيل.
والخبر الآخر: من روى عني حقا فأنا أقوله، وإن لم أكن قلته، ومن روى باطلا فإني لا أقول بالباطل. انتهى كلام أبي طالب في القوت وفي بعض كلامه المذكور نظر يعلم مما أسلفنا أولا، سنذكر أن التحقيق قبول الضعيف في الفضائل بشروطه). [قواعد التحديث: 159-164]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (31- ذكر المذاهب في الأخذ بالضعيف واعتماد العمل به في الفضائل:
ليعلم أن المذاهب في الضعيف ثلاثة:
الأول لا يعمل به مطلقًا؛ لا في الأحكام، ولا في الفضائل. حكاه ابن سيد الناس في عيون الأثر، عن يحيى بن معين، ونسبه في فتح المغيث لأبي بكر بن العربي، والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضًا يدل عليه شرط البخاري في صحيحة، وتشنيع الإمام مسلم على رواة الضعيف كما أسلفناه وعدم إخراجهما في صحيحهما شيئًا منه، وهذا مذهب ابن حزم رحمه الله أيضًا حيث قال في الملل والنحل: "ما نقله أهل المشرق والمغرب أو كافة عن كافة أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن في الطريق رجلًا مجروحًا بكذب أو غفلة، أو مجهول الحال فهذا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه". اهـ.
الثاني: أنه يعمل به مطلقًا قال السيوطي: "وعزى ذلك إلى أبي داود وأحمد لأنهما يريان ذلك أقوى من رأي الرجال".
الثالث: يعمل به في الفضائل بشروطه الآتية وهذا هو المعتمد عند الأئمة.
قال ابن عبد البر: "وأحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى ما يحتج به".
وقال الحاكم: "سمعت أبا زكريا العنبري يقول الخبر إذا ورد لم يحرم حلالًا، ولم يوجب حكما، وكان في ترغيب أو ترهيب أغمض عنه وتسوهل في رواته". ولفظ ابن مهدي فيما أخرجه البيهقي في المدخل: "إذا روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحلال والحرام والأحكام، شددنا في الأسانيد، وانتقدنا في الرجال وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال". ولفظ أحمد في رواية الميموني عنه: "الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيها حكم". وقال في رواية عباس الدوري عنه: "ابن إسحاق رجل تكتب عنه هذه الأحاديث" -يعني المغازي ونحوها- وإذا جاء الحلال والحرام أردنا قومًا هكذا -وقبض أصابع يده الأربع). [قواعد التحديث: 165-166]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (32- الجواب عن رواية بعض كبار الأئمة عن الضعفاء:
قال الإمام النووي في شرح مسلم: "قد يقال لم حدث هؤلاء الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم؟ لا يحتج بهم ويجاب عنه بأجوبة:
أحدها: أنهم رووها ليعرفوها وليبنوا ضعفها لئلا يلتبس في وقت عليهم أو على غيرهم أو يتشككوا في صحتها.
الثاني: أن الضعيف يكتب حديثه ليعتبر أو يستشهد ولا يحتج به على انفراده.
الثالث: رواية الراوي الضعيف يكون فيها الصحيح والباطل، فيكتبونها ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعض ذلك من بعض وذلك سهل عليهم معروف عندهم وبهذا احتج سفيان رحمه الله حين نهى عن الراوية عن الكلبي فقيل له: أنت تروي عنه فقال: "أنا أعلم صدقة من كذبه".
الرابع أنهم قد يروون عنهم أحاديث الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال والقصص، وأحاديث الزهد، ومكارم الأخلاق ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلال، والحرام وسائر الأحكام، وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث، وغيرهم التساهل فيه ورواية ما سوى الموضوع منه، والعمل به لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع معروفة عند أهله، وعلى كل حال فإن الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئًا يحتجون به، على انفراده في الأحكام فإن هذا شيء لا يفعله إمام من أئمة المحدثين، ولا محقق من غيرهم من العلماء، وأما فعل كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ذلك، واعتمادهم عليه فليس بصواب بل قبيح جدًّا، وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه لم يحل له أن يحتج به فإنهم متفقون على أنه لا يحتج بالضعيف في الأحكام وإن كان لا يعرف ضعفه لم يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفا أو بسؤال أهل العلم به إن لم يكن عارفا". اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى: "قد يكون الرجل عندهم ضعيفًا لكثرة الغلط في حديثه ويكون حديثه الغالب عليه الصحة فيروون عنه لأجل الاعتبار به، والاعتضاد به فإن تعدد الطرق، وكثرتها يقوى بعضها بعضًا حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فجارًا وفساقًا فكيف إذا كانوا علماء عدولًا ولكن كثر في حديثهم الغلط، وهذا مثل عبد الله بن لهيعة فإنه من أكابر علماء المسلمين، وكان قاضيًا بمصر كثير الحديث، ولكن احترقت كتبه فصار يحدث من حفظه فوقع في حديثه غلط كثير مع أن الغالب على حديثه الصحة قال أحمد قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به مثل ابن لهيعة، وأما من عرف منه أنه يتعمد الكذب فمنهم من لا يروي عن هذا شيئًا، وهذه طريقة أحمد بن حنبل، وغيره لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار به والاعتضاد، ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب، ويقول إنه يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي وينهى عن الأخذ عنه ويذكر أنه يعرف ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيرًا بشخص إذا حدثه بأشياء يميز بين ما صدق فيه وما كذب فيه، بقرائن لا يمكن ضبطها. وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدق، وقرائن تدل على أنه كذب". اهـ.
وروى الإمام ابن عبد البر في: "جامع بيان العلم وفضله" في باب الرخصة في كتابة العلم عن سفيان الثوري أنه قال: "إني أحب أن أكتب الحديث على ثلاثة أوجه، حديث أكتبه أريد أن أتخذه دينًا وحديث رجل أكتبه فأوفقه لا أطرحه، ولا أدين به وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به، وقال الأوزاعي تعلم ما لا يؤخذ به كما تتعلم ما يؤخذ به"). [قواعد التحديث: 166-168]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (33- ما شرطه المحققون لقبول الضعيف:
قال السيوطي في التدريب: "لم يذكر ابن الصلاح والنووي لقبوله سوى هذا الشرط كونه في الفضائل ونحوها".
وذكر الحافظ ابن حجر له ثلاثة: شروط أحدها أن يكون الضعف غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين، والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه؛ نقل العلائي الاتفاق عليه؛ الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به؛ الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط.
وقال الزركشي: "الضعيف مردود ما لم يقتض ترغيبًا، أو ترهيبًا، أو تتعدد طرقه؛ ولم يكن المتابع منحطًّا عنه". اهـ.
قال السيوطي: "ويعمل بالضعيف أيضًا في الأحكام إذا كان فيه احتياط". اهـ). [قواعد التحديث: 168-169]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (34- تزييف ورع الموسوسين في المتفق على ضعفه:
ذكر شارحو صحيح البخاري عند قوله في كتاب البيوع "باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات" أن غرض البخاري بيان ورع الموسوسين، كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم انفلت منه، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يجري أماله حرام أم حلال، وليست هناك علامة تدل على الحرمة، وكمن يترك تناول الشيء لخبر ورد فيه متفق على ضعفه وعدم الاحتجاج به ويكون دليل الإباحة قويًّا وتأويله ممتنع أو مستبعد.
قال الغزالي: "الورع أقسام: ورع الصديقين، وهو ترك ما لا يتناول بغير نية القوة على العبادة؛ وورع المتقين، وهو ترك ما لا شبهة فيه، ولكن يخشى أن يجر إلى الحرام؛ وورع الصالحين، وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع فإن لم يكن فهو ورع الموسوسين. قال: ووراء ذلك ورع الشهود، وهو ترك ما يسقط الشهادة أعم من أن يكون ذلك المتروك حراما أم لا"). [قواعد التحديث: 169-170]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (35- ترجيح الضعيف على رأي الرجال:
نقل السخاوي في فتح المغيث عن الحافظ ابن منده مما سمعه من محمد بن سعد الباوردي: "أن النسائي صاحب السنن لا يقتصر في التخريج عن المتفق على قبولهم، بل يخرج عن كل من يجمع الأئمة على تركه". قال العراقي: "وهو مذهب متسع". قال ابن منده: "وكذلك أبو داود يأخذ مأخذ النسائي، يعني في عدم التقيد بالثقة والتخريج لمن ضعف في الجملة وإن اختلف صنيعهما". وقال السخاوي: "أبو داود يخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وهو أقوى عنده من رأي الرجال، وهو تابع في ذلك شيخه الإمام أحمد فقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بالإسناد الصحيح إليه قال: سمعت أبي يقول: لا تكاد ترى أحدا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه غل والحديث الضعيف أحب إلي من الرأي".
قال: "فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه وصاحب رأي فمن يسأل قال: يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي".
وذكر ابن الجوزي في الموضوعات أنه كان قدم الضعيف على القياس. بل حكى الطوفي عن التقى ابن تيميه أنه قال: اعتبرت مسند أحمد فوجدته موافقًا بشرط أبي داود وزعم ابن حزم أن جميع الحنفية على أن مذهب إمامهم أيضًا: أن ضعيف الحديث أولى عنده من الرأي والقياس. اهـ.
ثم رأيت في: "منهاج السنة" للإمام تقي الدين بن تيميه ما نصه: "وأما نحن فقولنا إن الحديث الضعيف خير من الرأي ليس المراد به الضعيف المتروك لكن المراد به الحسن؛ كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ وحديث إبراهيم الهجري وأمثالهما ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه. وكأن الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي إما صحيح، وإما ضعيف. والضعيف نوعان: ضعيف متروك، وضعيف ليس بمتروك؛ فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح، فجاء من لا يعرف إلا اصطلاح الترمذي، فسمع قول بعض الأئمة: "الحديث الضعيف أحب إليّ من القياس" فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه اتبع للحديث الصحيح، وهو في ذلك من المتناقضين الذي يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه". اهـ). [قواعد التحديث: 170-171]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (36- بحث الدواني في الضعيف:
قالت المحقق جلال الدين الدواني في رسالته أنموذج العلوم: "اتفقوا على أن الحديث الضعيف، لا تثبت به الأحكام الشرعية، ثم ذكروا أنه يجوز، بل يستحب العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال. وممن صرح به النووي في كتبه لا سيما كتاب: "الأذكار" وفيه إشكال لأن جواز العمل، واستحبابه كلاهما من الأحكام الشرعية الخمسة فإذا استحب العمل بمقتضى الحديث الضعيف، كان ثبوته بالحديث الضعيف، وذلك ينافي ما تقرر من عدم ثبوت الأحكام بالأحاديث الضعيفة.
وقد حاول بعضهم التفصي عن ذلك وقال: إن مراد النووي أنه إذا ثبت حديث صحيح أو حسن في فضيلة عمل من الأعمال، تجوز رواية الحديث الضعيف في هذا الباب؛ ولا يخفى أن هذا لا يرتبط بكلام النووي فضلًا عن أن يكون مراده ذلك! فكم من فرق بين جواز العمل واستحبابه، وبين مجرد نقل الحديث، على أنه لو لم يثبت الحديث الصحيح أو الحسن في فضيلة عمل من الأعمال، يجوز نقل الحديث الضعيف فيها لا سيما من التنبيه على ضعفه، ومثل ذلك في كتب الحديث، وغيره كثير شائع يشهد به من تتبع أدنى تتبع، والذي يصلح للتعويل أنه إذا وجد حديث ضعيف في فضيلة عمل من الأعمال، ولم يكن هذا العمل مما يحتمل الحرمة أو الكراهة فإنه يجوز العمل به، ويستحب لأنه مأمون الخطر، ومرجو النفع إذ هو دائر بين الإباحة والاستحباب فالاحتياط العمل به. رجاء الثواب وأما إذا دار بين الحرمة والاستحباب فلا وجه لاستحباب العمل به. وأما إذا دار بين الكراهة والاستحباب فمجال النظر فيه واسع إذ في العمل دغدغة الوقوع في المكروه، وفي الترك مظنة ترك المستحب فلينظر إن كان خطر الكراهة أشد بأن تكون الكراهة المحتملة شديدة كان خطر الكراهة أضعف بأن تكون الكراهة على تقدير وقوعها ضعيفة دون مرتبة ترك العمل على تقدير استحبابه فالاحتياط العمل به وفي صورة المساواة يحتاج إلى نظر تام، والظاهر أنه يستحب أيضًا لأن المباحات تصير بالنية عبادة فكيف ما فيه شبهة الاستحباب لأجل الحديث الضعيف فجواز العمل واستحبابه مشروطان أما جواز العمل فبعدم احتمال الحرمة وأما الاستحباب فيما ذكر مفصلًا.
"بقي ها هنا شيء وهو أنه عدم احتمال الحرمة فجواز العمل ليس لأجل الحديث إذ لو لم يوجد يجوز العمل أيضًا لأن المفروض انتفاء الحرمة. لا يقال: الحديث الضعيف ينفي احتمال الحرمة لأنا نقول الحديث الضعيف لا يثبت به شيء من الأحكام الخمسة، وانتفاء الحرمة يستلزم ثبوت الإباحة والإباحة حكم شرعي فلا يثبت بالحديث الضعيف ولعل مراد النووي ما ذكرنا، وإنما ذكر جواز العمل توطئة للاستحباب.
"وحاصل الجواب: أن الجواز معلوم من خارج، والاستحباب أيضًا معلوم من القواعد الشرعية الدالة على استحباب الاحتياط في أمر الدين فلم يثبت شيء من الأحكام بالحديث الضعيف، بل أوقع الحديث شبهة الاستحباب فصار الاحتياط أن يعمل به، فاستحباب الاحتياط معلوم من قواعد الشرع". انتهى كلام الدواني.
وقد ناقش الدواني رحمه الله الشهاب الخفاجي في: "شرح الشفا" فقال بعد نقله ملخص كلامه المذكور ما صورته: "ما قاله الجلال، مخالف لكلامهم برمته، وما نقله من الاتفاق غير صحيح، مع ما سمعته من الأقوال -يعني في العمل بالضعيف- والاحتمالات التي أبداها لا تفيد سوى تسويد وجه القرطاس، والذي أوقعه في الحيرة توهمه، أن عدم ثبوت الأحكام به متفق عليه، وأنه يلزم من العمل به في الفضائل والترغيب أنه يثبت به حكم من الأحكام، وكلاهما غير صحيح أما الأول فلأن من الأئمة من جوز العمل به بشروطه، وقدمه على القياس، وأما الثاني فلأن ثبوت الفضائل والترغيب لا يلزمه الحكم ألا ترى أنه لو روى حديث ضعيف في ثواب بعض الأمور الثابت استحبابها والترغيب فيه أو في فضائل بعض الصحابة رضوان الله عليهم أو الأذكار المأثورة، لم يلزم مما ذكر ثبوت حكم أصلا، ولا حاجة لتخصيص الأحكام والأعمال كما توهم للفرق الظاهر بين الأعمال وفضائل الأعمال وإذا ظهر عدم الصواب؛ لأن القوس في يد غير باريها ظهر أنه إشكال ولا خلل ولا اختلال". اهـ.
وأقول إن للشهاب ولعًا في المناقشة غريبًا، وإن لم يحظ الواقف عليها بطائل! وتلك عادة استحكمت منه في مصنفاته، كما يعلمه من طالعها؛ ولعله هو الذي سود وجه القرطاس ها هنا؟ إذ لا غبار على كلام الجلال. وأما انتقاده عليه بنقله الاتفاق على أن الحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام مع وجود الخلاف فيه فلأنه عنى اتفاق مدققي النقاد وأولى اشتراط الصحة في قبول الإسناد، كالشيخين وأضرابهما ممن أسلفنا النقل عنهما في المذهب الأول في الضعيف، إن لم نقل إن الجلال لم ير مقابله مما يجدر سوقه مقابلًا، حتى يحكي الخلاف فيه؛ وكثيرًا ما يترفع المؤلفون عن الأقوال الواهية؛ ولو في نظارهم فيحكون الاتفاق، ومرادهم اتفاق ذوي التحقيق، كما هو معلوم في المؤلفات المتداولة.
وأما مناقشته، بأن ثبوت الفضائل والترغيب لا يلزمه الحكم، فإلزام لما لم يلتزمه الجلال؛ لأنه لم يدعه، وكلامه في الأعمال خاصة؛ فمؤاخذته بمطلق الفضائل افتراء أو مشاغبة! وأما قوله: "ولا حاجة لتخصيص الأحكام ... إلى آخره". فشط من القلم إلى جداول الجدل الفاضح! وهل كلامه إلا في الأحكام والأعمال؟ وتعليله بظهور الفرق بين الأعمال وفضائلها غير ظاهر هنا، لاتحادها في هذا البحث؛ لأن الإضافة في فضائل الأعمال بيانه، أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الأعمال الفاضلة. فتأمل لعلك ترى القوس في يد الجلال، كما رآه الجمال). [قواعد التحديث: 173-175]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (37- مسائل تتعلق بالضعيف:
الأولى: من رأى حديثا بإسناد ضعيف، فله أن يقول: "هو ضعيف بهذا الإسناد" ولا يقول: "ضعيف المتن" بمجرد ذلك الإسناد، فقد يكون له إسناد آخر صحيح؛ إلا أن يقول إمام إنه لم يرد من وجه صحيح، أو إنه حديث ضعيف مبينًا ضعفه.
الثانية: من أراد رواية ضعيف بغير إسناد فلا يقل: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل يقول: روي عنه كذا، أو بلغنا عنه كذا، أو ورد عنه، أو جاء عنه، أو نقل عنه" وما أشبه ذلك من صيغ التمريض كروى بعضهم، وكذا يقول في ما يشك في صحته وضعفه. أما الصحيح فيذكر بصيغة الجزم، ويقبح فيه صيغة التمريض، كما يقبح في الضعيف صيغة الجزم.
الثالثة: لا يتصدى للجواب عن الحديث المشكل إلا إذا كان صحيحًا. وأما إذا كان ضعيفًا فلا. قال العلامة السيد أحمد بن المبارك في "الإبريز" في خلال بحث في بعض الأحاديث الضعيفة: وإن كان الحديث في نفسه مردودًا، هان الأمر ولله در أبي الحسن القابسي رحمه الله حيث اعترض على الأستاذ أبي بكر بن فورك رحمه الله حيث تصدى للجواب عن أحاديث مشكلة وهي باطلة، قال القابسي: "لا يتكلف الجواب عن الحديث حتى يكون صحيحًا والباطل يكفي في رده كونه باطلًا". اهـ.
وأما اعتذار ابن حجر الهيتمي في: "فتاواه الحديثية" عن ابن فورك بأنه: "إنما تكلف الجواب عنها مع ضعفها لأنه ربما تشبث بها بعض من لا علم له بصحيح الأحاديث من ضعيفها، فطلب الجواب عنها بفرض صحتها إذ الصحة والضعف ليسا من الأمور القطعية بل الظنية، والضعيف يمكن أن يكون صحيحًا، فبهذا الفرض يحتاج إلى الجواب عنه" فلا يخفي ما فيه إذ الكلام مع من يعلم، ومن لا يعلم فأحقر من أن يتمحل له والإمكان المذكور لا عبرة به لأنا نقف مع ما صححوه أو ضعفوه وقوف الجازم به ونطرح ذاك الفرض الذي لا عبرة له في نظر الأئمة إذ لا ثمرة لهم فافهم.
وفي الموعظة الحسنة: لا يستحق ما لا أصل أن يشتغل برده بل يكفي أن يقال: "هذا كلام ليس من الشريعة" وكل ما هو ليس منها فهو رد أي مردود على قائله، مضروب في وجهه. اهـ.
نعم، لو اختلف في صحة حديث لعلة فيه رآها بعضهم غير قادحة فصححه وخالفه آخر، فلا بأس أن يشتغل بتأويل هذا المعلل المختلف في صحته لاحتمال صحته فيتأول على هذا التقدير.
الرابعة: إذا قال الحافظ الناقد المطلع في حديث: "لا أعرفه" اعتمد ذلك في نفيه؛ لأنه بعد التدوين والرجوع إلى الكتب المصنفة يبعد عدم اطلاعه على ما يورده غيره، فالظاهر عدمه كذا في التدريب.
الخامسة: قولهم: هذا الحديث ليس له أصل أو: لا أصل له قال ابن تيميه: معناه ليس له إسناد.
السادسة: قال الحافظ ابن حجر: "لا يلزم من كون الحديث لم يصح أن يكون موضوعًا".
قال الزركشي: "بين قولنا موضوع، وقولنا لا يصح بون كثير، فإن في الأول إثبات الكذب والاختلاق، وفي الثاني إخبارًا عن عدم الثبوت، ولا يلزم منه إثبات العدم، وهذا يجيء في كل حديث قال فيه ابن الجوزي لا يصح ونحوه.
السابعة: قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: "الضعيف لا يعل به الصحيح"). [قواعد التحديث: 175-177]