10 Oct 2022
الدرس السادس: مسائل في أنواع الحديث
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (38- ذكر أنواع تشترك في الصحيح والحسن والضعيف:
الأول المسند: هو على المعتمد ما اتصل سنده من راوية إلى منتهاه، مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.
الثاني المتصل: ويسمى الموصول وهو ما اتصل سنده سواء كان مرفوعًا إليه -صلى الله عليه وسلم- أو موقوفًا.
الثالث المرفوع: وهو ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة من قول أو فعل أو تقرير، سواء كان متصلًا أو منقطعًا، بسقوط الصحابي منه أو غيره؛ فالمتصل قد يكون مرفوعًا وغير مرفوعا، والمرفوع قد يكون متصلًا وغير متصل والمسند متصل مرفوع.
الرابع المعنعن: وهو ما يقال في سنده: فلان عن فلان، قيل إنه مرسل حتى يتبين اتصاله، والجمهور على أنه متصل إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضًا، مع براءة المعنعن من التدليس وإلا فليس بمتصل. وقد كثر المعنعن في الصحيحين؛ وكثير من طرقة صرح فيها بالتحديث والسماع في المستخرجات عليهما، وإن كان لا يرتاب في صحته فيهما وبراءة معنعنه من التدليس لدقة شرطهما وكثر أيضًا استعمال: "عن" في الإجازة فإذا قال أحدهم: "قرأت على فلان عن فلان" فمراده أنه رواه عنه فلا تخرج عن الاتصال.
الخامس المؤنن: وهو ما يقال في مسنده: "حدثنا فلان أن فلانا" وهو كالمعنعن. قيل إنه منقطع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى؛ والجمهور على أنه كالمعنعن في الاتصال بالشرط المتقدم.
السادس المعلق: وهو ما حذف من مبدأ إسناده واحد فأكثر على التوالي ويعزي الحديث إلى من فوق المحذوف من رواته؛ مأخوذ من تعليق الجدار والطلاق لاشتراكهما في قطع الاتصال وهو في البخاري كثير جدًّا. قال النووي: "فما كان منه بصيغة الجزم كقال، وفعل، وأمر وروى، وذكر معروفًا، فهو حكم بصحته عن المضاف إليه؛ وما ليس فيه جزم كيروى، ويذكر، ويحكى، ويقال، وحكي عن فلان، وروي، وذكر مجهولًا فليس فيه حكم بصحته عن المضاف إليه ومع ذلك فإيراده في كتاب الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارًا يونس به ويركن إليه وعلى المدقق إذا رام الاستدلال به أن ينظر في رجاله وحال سنده ليرى صلاحيته للحجة وعدمها.
السابع المدرج: وهو أقسام: أخدها مدرج في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يذكر الراوي عقيبه كلامًا لنفسه أو لغيره، فيرويه من بعده متصلًا بالحديث من غير فصل، فيتوهم أنه من الحديث؛ الثاني: أن يكون عنده متنان بإسنادين فيرويهما بأحدهما؛ الثالث: أن يسمع حديثًا من جماعة مختلفين في إسناده أو متنه فيرويه عنهم باتفاق ولا يبين ما اختلف فيه قالوا تعمد كل واحد من الثلاثة حرام، وصاحبه ممن يحرف الكلم عن مواضعه، وهو ملحن بالكذابين نعم ما أدرج لتفسير غريب لا يمنع ولذلك فعله الزهري وغير واحد من الأئمة.
الثامن المشهور: وهو ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين سمي بذلك لوضوحه ويطلق على ما اشتهر على الألسنة، فيشمل ما له إسناد واحد فصاعدًا بل ما لا يوجد له إسناد أصلا. "كذا في النخبة". وما اشتهر على الألسنة، أعم عن اشتهاره عند المحدثين خاصة أو عندهم أو عند العامة مما لا أصل له.
التاسع المستفيض: هو المشهور، على رأي جماعة من أئمة الفقهاء، سمي بذلك لانتشاره، من فاض الماء يفيض فيضا؛ ومنهم من غاير بين المستفيض والمشهور بأن المستفيض يكون في ابتدائه وانتهائه سواء، والمشهور أعم من ذلك ومنهم من غاير على كيفية أخرى، وليس من مباحث هذا الفن "كذا في شرح النخبة".
العاشر الغريب: هو ما رواه راو منفردًا بروايته، فلم يروه غيره أو انفرد بزيادة في متنه، أو إسناده، سواء انفرد به مطلقًا، أو بقيد كونه عن إمام شأنه أن يجمع حديثه لجلالته وثقته وعدالته، كالزهري وقتادة وإنما سمي غريبًا لانفراد راويه عن غيره كالغريب الذي شأنه الانفراد عن وطنه، والغالب أنه غير صحيح ومن ثم كره جمع من الأئمة تتبعها قال مالك: "شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس".
وقال الإمام أحمد: "لا تكتبوا هذه الغرائب، فإنها مناكير وغالبها عن الضعفاء". اهـ.
وينقسم الغريب إلى غريب متنا وإسنادا كما لو انفرد بمتنه واحد، وإلى غريب إسنادًا لا متنًا كحديث معروف روى متنه جماعة من الصحابة انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر؛ فيه يقول الترمذي: غريب من هذا الوجه ولا يوجد ما هو غريب متنًا، وليس غريبًا إسنادًا إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن انفرد به فرواه عنه عدد كثير فإنه يصير غريبًا مشهورًا، وغريبًا متنًا لا إسنادًا لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد فإن إسناده غريب في طرفه الأول مشهور في طرفه الآخر كحديث: "إنما الأعمال بالنيات" فإن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد الآخذ عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة ابن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب رفعه، ولا يدخل في الغريب إفراد البلدان كقولهم: "تفرد به أهل مكة أو الشام أو البصرة" إلا أن يراد بتفرد أهل مكة انفراد واحد منهم تجوزًا فيكون حينئذ غريبًا.
الحادي عشر، العزيز: وهو ما انفرد عن راويه اثنان أو ثلاثة ولو رواه بعد ذلك عن هذين الاثنين أو الثلاثة مائة فقد يكون الحديث عزيزًا مشهورًا وينفرد عن الغريب بكونه لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين، بخلاف الغريب.
سمي عزيزًا لقلة وجوده أو لكونه قوي بمجيئه من طريق أخرى.
الثاني عشر، المصحف: وهو الذي وقع فيه تصحيف، ويكون في الإسناد والمتن.
فمن الأول: العوام بن مراجم -بالراء والجيم- صحفه بعض الثقات فقال مزاحم -بالزاي والحاء- ومن الثاني حديث: "احتجر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد" أي اتخذ حجرة صحفه بعضهم: "احتجم"؛ وهذان القسمان من تصحيف اللفظ، وقد يكون في المعنى كقول محمد بن المثنى العنزي: "نحن قوم لنا شرف نحن من عنزة صلى إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فتوهم أنه صلى إلى قبلتهم وإنما العنزة هنا: "الحرية" تنصب بين يديه -صلى الله عليه وسلم.
فائدة: التصحيف لغة: الخطأ في الصحيفة، باشتباه الحروف، مولدة، وقد تصحف عليه لفظ كذا، والصحفي محركة من يخطئ في قراءة الصحيفة؛ وقول العامة: "الصّحفي" بضمتين، لحن.
الثالث عشر، المنقلب: وهو الذي ينقلب بعض لفظه على الراوي، فيتغير معناه، كحديث البخاري في باب: "إن رحمه الله قريب من المحسنين" عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه اختصمت الجنة والنار إلى ربهما... " الحديث، وفيه أنه: "ينشئ للنار خلقا". صوابه كما رواه في موضع آخر من طريق عبد الرزاق، عن همام عن أبي هريرة بلفظ: "فأما الجنة فينشئ الله لها خلقا.." فسبق لفظ الراوي من الجنة إلى النار وصار منقلبًا، ولذا جزم ابن القيم بأنه غلط ومال إليه البلقيني حيث أنكر هذه الرواية واحتج بقوله تعالى: {ولا يظلم ربّك أحدًا}.
الرابع عشر، المسلسل: وهو ما يتابع رجال إسناده على حالة واحدة إما في الراوي قولًا نحو: "سمعت فلانا يقول سمعت فلانا. إلى المنتهى" أو: "أخبرنا فلان والله، قال أخبرنا فلان والله...".
" أو فعلًا كحديث التشبيك باليد أو قولًا وفعلًا كحديث: "لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره" وقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على لحيته، وقال: "آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره" وكذا كل راو من رواته قبض وقال...
وإما على صفة واحدة كاتفاق أسماء الرواة كالمحمديين أو صفاتهم كالفقهاء أو نسبتهم كالدمشقيين.
وقد جمع الحفاظ في ذلك مؤلفات مشهورة، وأفضل المسلسلات ما دل على الاتصال في السماع، وعدم التدليس.
ومن فوائده استماله على زيادة الضبط من الرواة ولكن قلما يسلم عن خلل في التسلسل، وقد ينقطع تسلسله في وسطه أو أوله أو آخره كحديث الرحمة المسلسل بالأولية فإنه انتهى فيه التسلسل إلى عمرو بن دينار.
الخامس عشر، العالي: وهو ما قربت رجال سنده من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبب قلة عددها بالنسبة إلى سند آخر يرد بذلك الحديث بعينه بعدد كثير أو بالنسبة لمطلق الأسانيد، وأجله ما كان بإسناد صحيح ولا التفات إلى العلو مع ضعفه وإن وقع في بعض المعاجم.
ومن العلو القرب من إمام من أئمة الحديث كما لك، وإن كثر بعده العدد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنه القرب إلى الصحيحين وأصحاب السنن والمسانيد والأول العلو الحقيقي وما بعده العلو النسبي.
قال الحافظ في شرح النخبة: "وفي العلو النسبي الموافقة وهي الوصول إلى شيخ أحد المصنفين من غير طريقة كأن يروي البخاري عن قتيبة عن مالك حديثًا، فإذا روي من طريق البخاري كان العدد إلى قتيبة ثمانية، وإذا روي من غير طريقه كان العدد إليه سبعة، فالراوي من الثاني وافق البخاري في شيخه مع علو الإسناد على الإسناد إليه. وفي العلو النسبي البدل، وهو الوصول إلى شيخ شيخه كذلك وفيه أيضًا المساواة، وهي استواء عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد أحد المصنفين وفيه المصافحة وهي الاستواء مع تلميذ ذلك المصنف".
السادس عشر، النازل: وهو ما قابل العالي بأقسامه السابقة، والإسناد النازل مفضول إلا إن تميز بفائدة كزيادة الثقة في رجاله على العالي أو كونهم أحفظ أو أفقه، ونحو ذلك قال ابن المبارك: "ليس جودة الحديث قرب الإسناد بل جودته صحة الرجال".
السابع عشر، الفرد: وهو نوعان: فرد مطلق، وفرد نسبي. ولكل أقسام. فإما الفرد المطلق فهو ما تفرد به راو واحد عن جميع الرواة، ثقات وغيرهم. وله أربعة أحوال:
حال يكون مخالفًا لرواية من هو أحفظ منه فهذا ضعيف، ويسمى شاذا ومنكرًا كما سيأتي. وحال لا يكون مخالفًا ويكون هذا الراوي حافظًا ضابطًا متقنًا فيكون صحيحًا وحال يكون قاصرًا عن هذا، ولكنه قريب من درجته فيكون حديثه حسنًا، وحال يكون بعيدًا عن حاله فيكون شاذا منكرًا مردودًا فتحصل أن الفرد المذكور قسمان: مقبول، ومردود. والمقبول ضربان: فرد لا يخالف، وراويه كامل الأهلية، وفرد هو قريب منه، والمردود أيضًا ضربان: فرد مخالف للأحفظ، وفرد ليس في راويه من الحفظ والإتقان ما يجبر تفرده. القسم الثاني، الفرد النسبي: وهو ما كان بالنسبة إلى صفة خاصة. وهو أنواع: ما قيد بثقة كقولهم: لم يروه ثقة إلا فلان انفرد به عن فلان. أو قيد ببلد معين كمكة والبصرة ومصر، كقولهم: لم يرو هذا الحديث غير أهل البصرة، ونحو تفرد به أهل مصر لم يشركهم أحد، ولا يقتضي شيء من ذلك ضعفه إلا أن يراد تفرد واحد من أهل هذه البلاد فيكون من الفرد المطلق أو قيد براو مخصوص كقولهم لم يروه عن بكر إلا وائل ولم يروه عن وائل غير فلان فيكون غريبًا.
الثامن عشر المتابع "بكسر الباء": وهو ما وافق راويه راو آخر، ممن يصلح أن يخرج حديثه، فرواه عن شيخه أو من فوقه.
قال الحافظ في النخبة وشرحها: "والفرد النسبي إن وافقه غيره، فهو المتابع.
والمتابعة على مراتب، إن حصلت للراوي نفسه فهي تامة، أو لشيخه فمن فوقه فهي القاصرة، ويستفاد منها التقوية ولو جاءت بالمعنى كفى لكنها مختصة من كونها من رواية ذلك الصحابي".
التاسع عشر، الشاهد: وهو ما وافق راو راويه عن صحابي آخر. قال الحافظ في النخبة وشرحها: "وإن وجد متن يروي من حديث صحابي آخر يشبه في اللفظ والمعنى، أو في المعنى فقط فهو الشاهد. وخص قوم المتابعة بما حصل باللفظ سواء كان من رواية ذلك الصحابي أم لا والشاهد بما حصل بالمعنى كذلك وقد تطلق المتابعة على الشاهد وبالعكس". اهـ.
تنبيه: في التقريب وشرحه: "أن الاعتبار والمتابعات والشواهد أمور يتداولها أهل الحديث، يتعرفون بها حال الحديث. ينظرون: هل تفرد راويه أو لا؟ وهل هو معروف أو لا فالاعتبار أن يأتي إلى حديث لبعض الرواة فيعتبره بروايات غيره من الرواة بسبر طرق الحديث ليعرف هل شارحه في ذلك الحديث، راو غيره فرواه عن شيخه أو لا فإن لم يكن فينظر هل تابع أحد شيخ شيخه فرواه عمن روى عنه، وهكذا إلى آخر الإسناد وذلك المتابعة فإن لم يكن فينظر هل أتى بمعناه حديث آخر وهو الشاهد فإن لم يكن فالحديث فرد فليس الاعتبار قسيمًا للمتابع والشاهد بل هو هيأة التوصل إليهما". اهـ.
وقال الحافظ في النخبة وشرحها: "واعلم أن تتبع الطرق من الجوامع والمسانيد والأجزاء لذلك الحديث الذي يظن أنه فرد، ليعلم هل له متابع أم لا، هو الاعتبار"). [قواعد التحديث: 178-202]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (39- ذكر أنواع تختص بالضعيف:
النوع الأول الموقوف: وهو المروي عن الصحابة قولًا لهم أو فعلًا أو تقريرًا، متصلًا إسناده إليهم أو منقطعًا؛ ويستعمل في غيرهم مقيدًا؛ فيقال: وقفه فلان على الزهري ونحوه، وسبق أول الكتاب أن فقهاء خراسان يسمون الموقوف أثرًا والمرفوع خبرًا.
قال النووي: "وعند المحدثين، كل هذا يسمى أثرًا؛ أي لأنه مأخوذ من أثرت الحديث أي رويته" والموقوف ليس بحجة على الأصح.
الثاني، المقطوع: وهو ما جاء عن التابعين، أو من دونهم من أقوالهم، وأفعالهم موقوفًا عليهم وليس بحجة أيضًا.
فائدتان:
الأولى: قال الزركشي في "النكت": "إدخال المقطوع في أنواع الحديث فيه تسامح كبير، فإن أقوال التابعين، ومذاهبهم لا دخل لها في الحديث فكيف تعد نوعا منة قال: نعم يجيء هنا ما في الموقوف من أنه إذا كان ذلك لا مجال للاجتهاد فيهن يكون في حكم المرفوع، وبه صرح ابن العربي وادعى أنه مذهب مالك".
الثانية: من مظان الموقوف والمقطوع، مصنف ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق وتفاسير، ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وغيرهم.
الثالث، المنقطع: وهو ما لم يتصل إسناده، سواء سقط منه صحابي أو غيره. وبعبارة أخرى سواء ترك ذكر الراوي من أول الإسناد أو وسطه أو آخره، إلا أن الغالب استعماله في رواية من دون التابعي عن الصحابة كمالك عن ابن عمر.
الرابع، المعضل: "بفتح الضاد" وهو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر بشرط التوالي كقول مالك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقول الشافعي قال ابن عمر.
الخامس، الشاذ: قال الشافعي: "الشاذ ما رواه المقبول مخالفًا لرواية من هو أولى منه، لا أن يروي ما لا يروي غيره، فمطلق التفرد لا يجعل المروي شاذا كما قيل، بل مع المخالفة المذكورة".
السادس، المنكر: وهو الحديث الفرد الذي لا يعرف متنه عن غير راويه وكان راويه، بعيدًا عن درجة الضابط.
تنبيه: اعلم أن الشاذ والمنكر يجتمعان في اشتراط المخالفة لما يرويه الناس ويفترقان في أن الشاذ رواية ثقة أو صدوق والمنكر رواية ضعيف وقد غفل من سوى بينهما.
السابع، المتروك: وهو ما يرويه متهم بالكذب، ولا يعرف إلا من جهته ويكون مخالفًا للقواعد المعلومة أو معروفًا بالكذب في غير الحديث النبوي أو كثير الغلط أو الفسق أو الغفلة.
الثامن، المعلل: ويقال المعلول، وهو ما ظاهره السلامة، اطلع فيه بعد التفتيش على قادح؛ وتدرك العلة بعد جمع الطرق والفحص عنها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، ممن هو أحفظ أو أضبط أو أكثر عددًا مع قرائن تضم إلى ذلك يهتدي الناقد إليها إلى اطلاعه على تصويب إرسال في الموصول، أو تصويب وقف في المرفوع أو دخل حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك كإبدال راو ضعيف بثقة بحيث غلب على ظنه ما وقف عليه من ذلك فحكم به أو تردد في ذلك فوقف عن الحكم بصحة الحديث مع أن ظاهره السلامة من العلة.
وأكثر ما تكون العلة في السند، وقد تكون في المتن، ثم التي في السند قد تقدح في صحة المتن وقد لا تقدح.
وكما تكون خفية تكون ظاهرة فقد كثر إعلال الموصول بالإرسال، والمرفوع بالوقف إذا قوي الإرسال أو الوقف بكون راويهما أضبط أو أكثر عددًا على الاتصال أو الرفع.
وقد يعلون الحديث بأنواع الجرح من الكذب والغفلة وفسق الراوي وسوء الحفظ بل أطلق الخليل اسم العلة على غير القادح توسعًا، كالحديث الذي وصله الثقة وأرسله غيره.
التاسع المضطرب: "بكسر الراء". وهو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة، والاختلاف إما من راو واحد، بأن رواه مرة على وجه، ومرة على وجه آخر مخالف له أو أزيد من واحد بأن رواه كل من جماعة على وجه مخالف للآخر.
والاضطراب يوجب ضعف الحديث لإشعار بعدم الضبط من رواته الذي هو شرط في الصحة، والحسن.
ويقع الاضطراب في الإسناد وفي المتن وفي كليهما معًا ثم إن رجحت إحدى الروايتين أو الروايات يحفظ راويها أو كثرة صحبته المروي عنه، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات الآتية فالحكم للراجحة، ولا يكون الحديث مضطربًا.
تنبيه: قد يجامع الاضطراب الصحة، وذلك بأن يقع الاختلاف في اسم رجل واحد وأبيه ونسبته ونحو ذلك ويكون ثقة، فيحكم للحديث بالصحة ولا يضر الاختلاف فيما ذكر مع تسميته مضطربًا، وفي الصحيحين أحاديث كثيرة بهذه المثابة قال الزركشي: "قد يدخل القلب والشذوذ والاضطراب في قسم الصحيح والحسن".
العاشر: المقلوب: وهو ما بدل فيه راو بآخر في طبقته، أو أخذ إسناد متنه فركب على متن آخر. ويقال له المركب. والقصد فيه إما الإعراب، فيكون كالوضع أو اختبار حفظ المحدث، كما قلب أهل بغداد على البخاري لما جاءهم مائة حديث امتحانًا فردها على وجوهها فأذعنوا بفضله وقد يقع القلب غلطًا لا قصدًا كما يقع الوضع كذلك.
الحادي عشر، المدلس: "بفتح اللام" وهو ما سقط من إسناده راو لم يسمه من حدث عنه، موهمًا سماعه للحديث ممن لم يحدثه بشرط معاصرته له فإن لم يكن عاصره فليست الرواية عنه تدليسًا على المشهور.
ومن التدليس أن يسقط الراوي شيخ شيخه أو أعلى منه لكونه ضعيفًا، وشيخه ثقة أو صغيرًا تحسينًا للحديث، ومنه أن يسمي شيخه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف ثم إن كان الحامل للراوي على التدليس تغطية الضعيف فجرح لأن ذلك حرام وغش وإلا فلا، وما كان في الصحيحين وشبههما عن المدلسين: "بعن" فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى وإيثار صاحب الصحيح طريق العنعنة لكونها على شرطه دون تلك والله أعلم.
الثاني عشر، المرسل: وهو ما سقط منه الصحابي؛ كقول نافع قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا أو فعل كذا. أو فعل بحضرته كذا ونحو ذلك هذا هو المشهور. وقد يطلق المرسل على المقطع والمعضل السالف ذكرهما، كما يقع ذلك في كثير من السنن والصحيح أيضًا "كما في فتح المغيث". وهو رأي الفقهاء والأصوليين.
ومما يشهد للتعميم، قول ابن القطان: "إن الإرسال رواية الرجل عمن لم يسمع منه".
تنبيه: عدنا للمرسل في أنواع الضعيف، موافقة للأكثرين ولا بأس بالإشارة إلى المذاهب فيه، مع بسطٍ ما فإنه موقف مهم فنقول: للأئمة مذاهب في المرسل، مرجعها إلى ثلاثة: الأول: أنه ضعيف مطلقًا الثاني: حجة مطلقًا الثالث التفصيل فيه.
فأما المذهب الأول: فهو المشهور. قال النووي رحمه الله في التقريب: "ثم المرسل حديث ضعيف عند جماهير المحدثين وكثير من الفقهاء، وأصحاب الأصول". وقال رحمه الله في شرح المهذب بعد هذا: "وحكاه الحاكم أبو عبد الله عن سعيد بن المسيب وجماعة أهل الحديث" وقال مسلم في مقدمة صحيحه: "والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة ". اهـ.
قال النووي: "ودليلنا في رد العمل به، أنه إذا كانت رواية المجهول المسمى لا تقبل لجهالة حاله، فرواية المرسل أولى لأن المروي عنه محذوف مجهول العين والحال. قال الحافظ في شرح النخبة: "وإنما ذكر -يعني المرسل- في قسم المردود للجهل بحال المحذوف؛ لأنه يحتمل أن يكون صحابيًّا، ويحتمل أن يكون تابعيًّا وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفًا، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمل عن صحابي ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق، ويتعدد أما بالتجويز العقلي فإلى ما لا نهاية له، وأما بالاستقراء فإلى ستة أو سبعة وهو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض". اهـ.
وأما المذهب الثاني وهو من قال: "المرسل حجة مطلقًا" فقد نقل عن مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في رواية حكاها النووي، وابن القيم، وابن كثير وغيرهم وحكاه النووي أيضا في شرح المهذب عن كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم. قال: "ونقله الغزالي عن الجماهير" قال القرافي في شرح التنقيح: "حجة الجواز أن سكوته عنه مع عدالة الساكت، وعلمه أن روايته يترتب عليها شرع عام فيقتضي ذلك أنه ما سكت عنه إلا وقد جزم بعدالته فسكوته كإخباره بعدالته، وهو لو زكاه عندنا قبلنا تزكيته، وقبلنا روايته فكذلك سكوته عنه حتى قال بعضهم إن المرسل أقوى من المسند بهذا الطريق لأن المرسل قد تذمم الراوي وأخذه في ذمته عند الله تعالى، وذلك يقتضي وثوقه بعدالته، وأما إذا أسند فقد فوض أمره للسامع ينظر فيه، ولم يتذممه فهذه الحالة أضعف من الإرسال". اهـ. وفي التدريب عن ابن جرير قال: "أجمع التابعون بأسرهم على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين، قال ابن عبد البر: كأنه يعني أن الشافعي أول من رده". اهـ. وقال السخاوي في فتح المغيث: "قال أبو داود في رسالته: وأما المراسيل فقد كان أكثر العلماء يحتجون بها فيما مضى مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي حتى جاء الشافعي رحمه الله فتكلم في ذلك وتابعه عليه أحمد وغيره". اهـ. ثم اختلفوا هل هو أعلى منه المسند أو دونه أو مثله وتظهر فائدة الخلاف عند التعارض والذي ذهب إليه أحمد وأكثر المالكية والمحققون من الحنفية كالطحاوي وأبي بكر الرازي تقديم المسند قال ابن عبد البر: "وشبهوا ذلك بالشهود يكون بعضهم أفضل حالًا من بعض وأقعد وأتم معرفة وإن كان الكل عدولًا جائزي الشهادة". اهـ.
والقائلون بأنه أعلى وأرجح من المسند، وجهوه بأن من أسند فقد أحالك على إسناده، والنظر في أحوال رواته والبحث عنهم، ومن أرسل مع علمه ودينه وإمامته وثقته، فقد قطع لك بصحته، وكفاك النظر فيه كما قدمنا عن القرافي. ومحل الخلاف فيما قيل، إذا لم ينضم إلى الإرسال ضعف في بعض رواته، وإلا فهو حينئذ أسوأ حالًا من مسند ضعيف جزمًا ولذا قيل: إنهم اتفقوا على اشتراط ثقة المرسل، وكونه لا يرسل إلا عن الثقات، قاله ابن عبد البر، وكذا أبو الوليد الباجي من المالكية وأبو بكر الرازي من الحنفية. "وأما الثاني" فلا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير متحرز بل يرسل عن غير الثقات أيضًا وعبارة الأول: "فقال لم تزل الأئمة يحتجون بالمرسل إذا تقارب عصر المرسل، والمرسل عنه، ولم يعرف المرسل بالرواية عن الضعفاء، وممن اعتبر ذلك من مخالفيهم الشافعي فجعله شرطًا في المرسل المعتضد، ولكن توفق شيخنا في صحة نقل الاتفاق من الطرفين قبولًا وردًّا، قال لكن ذلك فيهما عن جمهور مشهور". اهـ. وفي كلام الطحاوي ما يومئ إلى احتياج المرسل، ونحوه إلى الاحتفاف بقرينة وذلك أنه قال -في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه سئل: "كان عبد الله مع النبي ليلة الجن قال: لا" ما نصه فإن قيل هذا منقطع لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا يقال: نحن لم نحتج به من هذه الجهة إنما احتججنا به. لأن مثل أبي عبيدة على تقدمه في العلم وموضعه من عبد الله، وخلطته بخاصته من بعده لا يخفى عليه مثل هذا من أموره، فجعلنا قوله حجة لهذا لا من الطريق التي وصفت ونحوه قول الشافعي رحمه الله في حديث لطاوس عن معاذ: "طاوي لم يلق معاذًا لكنه علام بأمر معاذ، وإن لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أخذ عن معاذ وهذا لا أعلم من أحد فيه خلافا". وتبعه البيهقي وغيره ومن الحجج لهذا القول أن احتمال الضعف في الواسطة حيث كان تابعيا لا سيما بالكذب بعيدا جدًّا فإنه أثنى على عصر التابعين، وشهد له بعد الصحابة بالخيرية ثم للقرنين كما تقدم بحيث استدل بذلك على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل فإرسال التابعي، بل ومن اشتمل عليه باقي القرون الثلاثة الحديث بالجزم من غير وثوق بمن قاله، مناف لها؛ هذا مع كون المرسل عنه ممن اشترك معهم في هذا الفضل. وأوسع من هذا قول عمر -رضي الله عنه: "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد. أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينًا في ولاء أو قرابة" قالوا فاكتفى -رضي الله عنه- بظاهر الإسلام في القبول إلا أن يعلم منه خلاف العدالة، ولو لم يكن الواسطة من هذا القبيل لما أرسل عنه التابعين، والأصل قبول خبره حتى يثبت عنه ما يقتضي الرد وكذا ألزم بعضهم المانعين بأن مقتضى الحكم لتعاليق البخاري المجزومة بالصحة إلى من علق عنه أن من يجزم من أئمة التابعين عن النبي بحديث يستلزم صحته من باب أولى لا سيما وقد قيل إن المرسل لو لم يحتج بالمحذوف لما حذفه فكأنه عدله. ويمكن إلزامهم لهم أيضًا بأن مقتضى تصحيحهم في قول التابعي، من السنة وقفه على الصحابي حمل قول التابعي: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم" على أن المحدث له بذلك صحابي، تحسينا للظن به في حجج يطول إيرادها لاستلزامه التعرض للرد مع كون جامع التحصيل في هذه المسألة للعلائي متكفلًا بذلك كله وكذا صنف فيها ابن عبد الهادي جزءًا). [قواعد التحديث: 202-224]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (40- ذكر مناقشة الفريق الأول لما ذكره أهل المذهب الثاني:
قال السخاوي في فتح المغيث بعد حكايته عن الحاكم أنه روى عن سعيد بن المسيب عدم قبول المرسل ما نصه: "وبسعيد يرد على ابن جرير الطبري من المتقدمين، وابن الحاجب من المتأخرين، ادعاؤهما إجماع التابعين على قبوله؛ إذ هو من كبارهم، مع أنه لم يتفرد من بينهم بذلك بل قال به منهم ابن سيرين والزهري، وغايته أنهم غير متفقين على مذهب واحد، كاختلاف من بعدهم ثم إن ما أشعر به كلام أبي داود في كون الشافعي أول من ترك الاحتجاج به ليس على ظاهره، بل هو قول ابن مهدين ويحيى القطان وغير واحد ممن قبل الشافعي، ويمكن أن يكون اختصاص الشافعي لمزيد التحقيق فيه"
ثم قال السخاوي: "وما أوردته من حجج الأولين مردود أما الحديث فمحمول على الغالب والأكثرية، وإلا فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين، من وجدت فيه الصفات المذمومة، لكن بقلة، بخلاف من بعد القرون الثلاثة فإن ذلك كثر فيهم واشتهر.
وقد روى الشافعي عن عمه، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، قال: إني لأسمع الحديث استحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به. وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدث به عمن أثق به، أو اسمعه من الرجل أثق به، قد حدث عمن لا أثق به. وهذا كما قال ابن عبد البر، يدل على أن ذلك الزمان، أي زمان الصحابة والتابعين كان يحدث فيه الثقة وغيره ونحوه ما أخرجه العقيلي من حديث ابن عون قال ذكر أيوب السختياني لمحمد بن سيرين حديثا عن أبي قلابة فقال أبو قلابة رجل صالح، ولكن عمن ذكره أبو قلابة، ومن حديث عمران بن حدير أن رجلا حدثه عن سليمان التيمي عن محمد بن سيرين أن من زار قبرًا أو صلى إليه فقد برئ الله منه قال عمران: "فقلت لمحمد عن أبي مجلز إن رجلا ذكر عنك كذا فقال أبو مجلز كنت أحسبك يا أبا بكر أشد اتقاء فإذا لقيت صاحبك. فأقرئه السلام وأخبره أنه كذب، قال ثم رأيت سليمان عند أبي مجلز فذكرت ذلك له فقال سبحان الله إنما حدثنيه مؤذن لنا، ولم أظنه يكذب فإن هذا والذي قبله فيهما رد أيضًا على من يزعم أن المراسيل لم تزل مقبولة معمولا بها، ومثل هذه حديث عاصم عن ابن سيرين قال: كانوا لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة بعد وأعلى من ذلك ما رويناه في الحلية من طريق ابن مهدي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخًا من الخوارج، يقول: بعد ما تاب: "إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم إنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثا". اهـ. ولذا قال شيخنا إن هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل إذ بدعة الخوارج كانت في صدر الإسلام والصحابة متوافرون ثم في عصر التابعين، فمن بعدهم وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمرًا جعلوه حديثًا، وأشاعوه فربما سمع الرجل الشيء فحدث به، ولم يذكر من حدثه به تحسينًا للظن فيحمله عنه غيره ويجيء الذي يحتج بالمقاطيع فيحتج به مع كون أصله ما ذكرت، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وأما الإلزام بتعاليق البخاري، فهو قد علم شرطه في الرجال وتقيده بالصحة بخلاف التابعين. وأما ما بعده فالتعديل المحقق في المبهم لا يكفي على المعتمد فكيف بالاسترسال إلى هذا الحد نعم قد قال ابن كثير: المبهم الذي لم يسم أو سمي ولم تعرف عينه لا يقبل روايته أحد علمناه، ولكن إذا كان في عصر التابعين, والقرون المشهود لها بالخير فإنه يستأنس بروايته ويستضاء بها في مواطن وقد وقع في مسند أحمد وغيره من هذا القبيل كثير، وكذا يمكن الانفصال عن الأخير بأن الموقوف لا انحصار له فيما اتصل بخلاف المحتج به وبهذا وغيره مما لا نطيل بإيراده قويت الحجة في المرسل، وإدراجه في جملة الضعيف). [قواعد التحديث: 224-226]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (41- ذكر المذهب الثالث في المرسل ممن اعتدل في شأنه وفصل فيه:
ذهب كثير من الأئمة إلى الاحتجاج بالمرسل بملاحظات دققوا فيها منهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
قال النووي في مقدمة شرح المهذب: "قال الشافعي رحمه الله: وأحتج بمرسل كبار التابعين، إذا أسند من جهة أخرى، أو أرسله من أخذ عن غير رجال الأول، أو وافق قول الصحابي، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه". هذا نظر الشافعي في الرسالة وغيرها. وكذا نقل عنه الأئمة المحققون من أصحابنا الفقهاء والمحدثين كالبيهقي والخطيب البغدادي وآخرين؛ لا فرق في هذا عنده بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره. هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون. وقد قال الشافعي في مختصر المزني في آخر باب الربا: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وعن ابن عباس: أن جزورًا نحرت على عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فجاء رجل بعناق، فقال أعطوني بهذه العناق! فقال أبو بكر -رضي الله عنه: لا يصلح هذا. قال الشافعي رحمه الله: "وكان القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، يحرمون بيع اللحم بالحيوان" قال الشافعي: "وبهذا نأخذ ولا نعلم أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالف أبا بكر الصديق -رضي الله عنه" قال الشافعي: "وإرسال ابن المسيب عندنا حسن" هذا نص الشافعي في المختصر نقلته بحروفه لما يترتب عليه من الفوائد فإذا عرف هذا فقد اختلف أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي: "إرسال ابن المسيب عندنا حسن" على وجهين حكاهما الشيخ أبو إسحاق في كتابه اللمع، وحكاهما أيضًا الخطيب البغدادي في كتابه: "كتاب الفقيه، والمتفقه الكفاية" وحكاهما جماعات آخرون:
أحدهما: معناه أنه حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل. قالوا لأنها فتشت فوجدت مسندة.
والوجه الثاني: أنها ليست بحجة عنده بل هي كغيرها على ما ذكرناه.
قالوا: وإنما رجح الشافعي رحمه الله بمرسله، والترجيح بالمرسل جائز. قال الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه: "والصواب الوجه الثاني؛ وأما الأول فليس بشيء". وكذا قال في الكفاية: "الوجه الثاني هو الصحيح عندنا من الوجهين؛ لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندًا، بحال من وجه يصح". قال: "وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على غيرهم كما استحسن مرسل سعيد" هذا كلام الخطيب.
وذكر الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله نص الشافعي كما قدمته. قال: "قال الشافعي: نقبل مراسيل كبار التابعين، إذا انضم إليها ما يؤكدها؛ فإن لم ينضم لم نقبلها، سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره". قال: "وقد ذكرنا مراسيل لابن المسيب لم يقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها". قال: "وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالها فيما زعم الحفاظ".
فهذا كلام البيهقي والخطيب، وهما إمامان حافظان فقيهان شافعيان، متضلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي، ومعاني كلامه؛ ومحلهما من التحقيق والإتقان، والنهاية في العرفان بالغاية القصوى، والدرجة العليا. وأما قول الإمام أبي بكر القفال المروزي رحمه الله في أول كتابه: "شرح التلخيص": "قال الشافعي في رهن الصغير: مرسل ابن المسيب عندنا حجة". فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والمحققين والله أعلم.
"قلت: ولا يصح تعلق من قال: إن مرسل سعيد حجة، بقوله: "إرساله حسن" لأن الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده، بل اعتمده لما انضم إليه من قول أبي بكر الصديق ومن حضره وانتهى إليه قوله من الصحابة -رضي الله عنهم، مع ما انضم إليه من قول أئمة التابعين الأربعة والذين ذكرهم وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة وهو مذهب مالك وغيره. فهذا عاضد ثان للمرسل فلا يلزم من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعضده فإن قيل ذكرتم أن المرسل إذا أسند من جهة أخرى احتج به. وهذا القول فيه تساهل لأنه إذا أسند عملنا بالمسند فلا فائدة حينئذ في المرسل، ولا عمل به والجواب أن بالمسند يتبين صحة المرسل وأنه مما يحتج به فيكون في المسألة حديثان صحيحان، حتى لو عارضهما حديث صحيح من طريق واحد، وتعذر الجمع قدمناهما عليه، والله أعلم". انتهى كلام النووي.
تتمة: أورد العلامة القرافي رحمه الله تعالى في التنقيح سؤالًا فقال: "الإرسال هو إسقاط صحابي من السند والصحابة كلهم عدول، فلا فرق بين ذكره والسكوت عنه؛ فكيف جرى الخلاف فيه؟ " وأجاب هو كما في نسخة من التنقيح: "بأنهم عدول إلا عند قيام المعارض وقد يكون المسكوت عنه منهم عرض في حقه ما يوجب القدح فيتوقف في قبول الحديث حتى تعلم سلامته عن القادح". اهـ.
وبهذا علل أيضًا من رد المرسل، كما في شرح جمع الجوامع للمحلي، واعترضه الشهاب: "بأن هذا يخالف ما مر من أنهم عدول لا يبحث عن حالهم" وأجاب ابن قاسم: "بأن هذا التوجيه مفرع على القول بأنهم كغيرهم يبحث عن عدالتهم". اهـ.
والتحقيق: أن جريان الخلاف فيه وقوة ضعفه لما أسلفناه أولًا عن شرح النخبة فتأمله). [قواعد التحديث: 226-230]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (42- بيان أكثر من تروى عنهم المراسيل والموازنة بينهم:
قال الحاكم في علوم الحديث: "أكثر ما تروى المراسيل من أهل المدينة، عن ابن المسيب؛ ومن أهل مكة عن عطاء بن أبي رباح؛ ومن أهل البصرة عن الحسن البصري ومن أهل الكوفة عن إبراهيم بن يزيد النخعي، ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال، ومن أهل الشام عن مكحول" قال: "وأصحها كما قال ابن معين مراسيل ابن المسيب لأنه من أولاد الصحابة، وأدرك العشرة وفقيه أهل الحجاز ومفتيهم وأول الفقهاء السبعة الذين يعتد مالك بإجماعهم كإجماع كافة الناس.
وقد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحة، وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره". قال: "والدليل على عدم الاحتجاج بالمرسل غير المسموع من الكتاب قوله تعالى: {ليتفقّهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}. ومن السنة: "تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم".
قال السيوطي: "تكلم الحاكم على مراسيل سعيد فقط، دون سائر من ذكر معه؛ ونحن نذكر ذلك: فمراسيل عطاء: قال ابن المديني: كان عطاء يأخذ عن كل ضرب؛ مرسلات مجاهد أحب إليّ من مرسلاته بكثير وقال أحمد بن حنبل. مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات؛ ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها؛ وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء بن أبي رباح، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. ومراسيل الحسن تقدم القول فيها عن أحمد. وقال ابن المديني: "مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح ما أقل ما يسقط منها! " وقال أبو زرعة: "كل شيء قال الحسن قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجدت له أصلًا ثابتًا ما خلا أربعة أحاديث".
وقال يحيى بن سعيد القطان: "ما قال الحسن في حديثه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وجدنا له أصلًا إلا حديثًا، أو حديثين" قال شيخ الإسلام ابن حجر: "ولعله أراد ما جزم به الحسن" وقال غيره: "قال رجل للحسن يا أبا سعيد! إنك تحدثنا فتقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلو كنت تسنده لنا إلى من حدثك؟ " فقال الحسن: "أيها الرجل ما كذبنا ولا كذّبنا!! ولقد غزونا غزوة إلى خراسان ومعنا فيها ثلاثمائة من أصحاب محمد". وقال يونس بن عبيد: "سألت الحسن قلت: يا أبا سعيد إنك تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنك لم تدركه" فقال: "يا ابن أخي لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ولولا منزلتك مني ما أخبرتك: إني في زمان كما ترى -وكان في زمن الحجاج- كل شيء سمعتني أقوله: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو عن علي بن أبي طالب غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا". وقال محمد بن سعيد: "كل ما أسند من حديثه، أو روي عمن سمع منه، فهو حسن حجة وما أرسل من الحديث فليس بحجة". مراسيل الحسن عندهم شبه الريح وأما مراسيل النخعي فقال ابن معين مراسيل إبراهيم أحب إليّ من مراسيل الشعبي. وعنه أيضًا أعجب إليّ من مرسلات سالم بن عبد الله، والقاسم وسعيد بن المسيب، وقال أحمد لا بأس بها. وقال الأعمش: "قلت لإبراهيم النخعي أسند لي عن ابن مسعود فقال إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت وإذا قلت قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله". اهـ). [قواعد التحديث: 230-233]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (43- ذكر مرسل الصحابة:
قال النووي: "ما تقدم من الخلاف في المرسل، كله في غير مرسل الصحابي؛ أما مرسل الصحابي كإخباره عن شيء فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- أو نحوه مما يعلم أنه لم يحضره، لصغر سنه، أو لتأخر إسلامه أو غير ذلك؛ فالمذهب الصحيح المشهور الذي قطع به جمهور أصحابنا وجماهير أهل العلم أنه حجة، وأطبق المحدثون المشترطون للصحيح القائلون بأن المرسل ليس بحجة على الاحتجاج به. وإدخاله في الصحيح وفي صحيحي البخاري، ومسلم من هذا ما لا يحصى، وقال أبو إسحاق الإسفراييني لا يحتج به بل حكمه حكم مرسل غيره إلا أن يتبين أنه لا يرسل إلا ما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- أو صحابي. قال: لأنهم قد يروون عن غير صحابي. قال النووي: "والصواب الأول وأنه يحتج به مطلقًا لأن روايتهم عن غير الصحابي، نادرة وإذا رووها بينوها فإذا أطلقوا ذلك فالظاهر أنه عن الصحابة، والصحابة كلهم عدول". اهـ.
أي فلا تقدح فيهم الجهالة بأعيانهم، وأيضًا فما يروونه عن التابعين، غالبه بل عامته إنما هو من الإسرائيليات، وما أشبهها من الحكايات والموقوفات). [قواعد التحديث: 234-236]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (44- مراتب المرسل:
قال السخاوي في فتح المغيث: "المرسل مراتب، أعلاها ما أرسله صحابي ثبت سماعه، ثم صحابي له رؤية فقط ولم يثبت سماعه ثم المخضرم، ثم المتقن كسعيد بن المسيب، ويليها من كل يتحرى في شيوخه، كالشعبي ومجاهد، ودونها مراسيل من كان يأخذ عن كل أحد، كالحسن.
وأما مراسيل صفار التابعين كقتادة، والزهري وحميد الطويل فإن غالب رواية هؤلاء عن التابعين). [قواعد التحديث: 236-237]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (45- بحث قول الصحابي من السنة كذا وقوله أمرنا بكذا ونهينا عن كذا:
اعلم أن قول الصحابي: "من السنة كذا، أو أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا" وما أشبهه، كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور؛ لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من له الأمر والنهي، ومن يجب اتباع سنته وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واحتمال أن يكون الآمر غيره، وأن يريد سنة غيره بعيد، وإن كنا لا ننكر أن إطلاق ذلك يصدق مع الواسطة، ولكن العادة أن من له رئيس معظم فقال: أمرنا بكذا فإنما يريد أمر رئيسه ولا يفهم عنه إلا ذلك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو عظيم الصحابة، ومرجعهم والمشار إليه في أقوالهم، وأفعالهم فتصرف إطلاقاتهم إليه وما قيل: "إن الفاعل إذا حذف احتمل النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره فلا نثبت شرعًا بالشك" فجوابه أن ظاهر الحال صارف للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم تقريره.
وكذلك السنة، أصلها في اللغة: الطريقة، ومنه سنن الطريق الذي يمشى فيه، غير أنها في عرف الاستعمال صارت موضوعة لطريقته عليه السلام في الشريعة. كذا قاله القرافي في التنقيح، ومما يؤيد أن ذلك في حكم الرفع في السنة ما رواه البخاري في صحيحة في حديث ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له: "إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة" قال ابن شهاب: "فقلت لسالم: أفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ " فقال: وهل يعنون بذلك إلا سنته -صلى الله عليه وسلم!. فنقل سالم -وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة- أنهم إذا أطلقوا السنة لا يريدون بذلك إلا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم. ومما يؤيد الرفع في: "كنا نؤمر" ما رواه الشيخان عن أبي موسى في قصة استئذانه على عمر؛ ولفظ البخاري: "عن أبي موسى قال استأذنت على عمر؛ ثلاثا فلم يؤذن لي وكأنه كان مشغولا فرجعت ففرغ عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ إيذنوا له! قيل: قد رجع فدعاني فقلت: "كنا نؤمر بذلك" فقال: "تأتيني على ذلك بالبينة؟ " فانطلقت إلى مجلس الأنصار، فسألتهم فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري، فذهبت بأبي سعيد الخدري فذهبت بأبي سعيد الخدري فقال عمر: "أخفي عليّ هذا من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألهاني الصفق بالأسواق" -يعنى الخروج إلى التجارية- زاد مالك في الموطأ: "فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم" قال الشراح: "وحينئذ فلا دلالة في طلبه البينة على أنه لا يحتج بخبر الواحد بل أراد سد الباب خوفا من غير أبي موسى أن يختلق كذبا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الرغبة والرهبة" وقالوا في بالحديث: "إن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" له حكم الرفع".
قال الحافظ في شرح النخبة: "وأما قول بعضهم: إن كان مرفوعًا، فلم لا يقولون فيه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فجوابه أنهم تركوا الجزم بذلك تورعًا واحتياطًا ومن هذا قول أبي قلابة عن أنس: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا". أخرجاه قال أبو قلابة: "لو شئت لقلت إن أنسًا رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم" أي لو قلت، لم أكذب لأن قوله: "من السنة" هذا معناه لكن إيراده بالصيغة التي ذكرها الصحابي أولى". اهـ.
أقول قوله: "تورعًا واحتياطًا" هذا يظهر في بعض الوجوه ومنه ما ذكره، وأحسن منه أن يقال: إن قولهم من السنة، أو كنا نؤمر، ونحوهما، هو من التفنن في تبليغ الهدي النبوي، لا سيما وقد يكون الحكم الذي قيل فيه أمرنا، أو من السنة، من سنن الأفعال لا الأقوال، وقد يقولون ذلك إيجازًا، أو لضيق المقام؛ وكثيرًا ما يجيب العالم عن المسائل التي يعلم حديثها المرفوع ويحفظه بحروفه بقوله: "من السنة كذا" لما ذكرنا من الوجوه ولغيرنا وهو ظاهر.
تنبيه: ذكرنا أن السنة لغة: الطريقة؛ والمراد بها في اصطلاح الشارع وأهل عصره، ما دل عليه دليل من قوله -صلى الله عليه وسلم- أو فعله، أو تقريره؛ ولهذا جعلت السنة مقابلة للقرآن، وبهذا الاعتبار تطلق على الواجب، كما تطلق على المندوب وأما ما اصطلح عليه الفقهاء وأهل الأصول من أنها خلاف الواجب فهو اصطلاح حادث، وعرف متجدد). [قواعد التحديث: 237-240]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (46- الكلام على الخبر المتواتر وخبر الآحاد:
اعلم: أن المتواتر ما نقله من يحصل العلم بصدقهم ضرورة، بأن يكونوا جمعًا لا يمكن تواطؤهم على الكذب على مثلهم، من أوله إلى آخره؛ ولذا كان مقيدًا للعلم الضروري وهو الذي يضطر إليه الإنسان بحيث لا يمكنه دفعه، ويجب العمل به من غير بحث عن رجاله، ولا يعتبر فيه عدد معين في الأصح.
ثم المتواتر قسمان: لفظي وهو ما تواتر لفظه، ومعنوي وهو ما تواتر القدر المشترك فيه. وللأول أمثله كثيرة منها حديث: "من كذب عليّ متعمدًا... " رواه نحو المائتين وحديث الحوض، رواه خمسون ونيف وحديث المسح على الخفين رواه سبعون، وحديث رفع اليدين في الصلاة رواه نحو الخمسين وسوى ذلك مما ساقه في التدريب.
وللثاني أمثلة أيضًا فمنه أحاديث رفع اليدين في الدعاء فقد روي عنه -صلى الله عليه وسلم- نحو مائة حديث فيه رفع يديه في الدعاء، لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها، وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع.
تنبيه: وقع في كلام النووي في شرح مسلم في المتواتر أنه لا يشترط في الخبرين به الإسلام، وكذا قال الأصوليون؛ ولا يخفى أن هذا اصطلاح للأصوليين؛ وإلا فاصطلاح المحدثين فيه، أن يرويه عدد من المسلمين؛ لأنهم اشترطوا فيمن يحتج برواية أن يكون عدلًا ضابطًا، بأن يكون مسلمًا بالغًا فلا تقبل رواية الكافر في باب الأخبار وإن بلغ في الكثرة ما بلغ، وعبارة جمع الجوامع مع شرحه: "ولا تقبل رواية كافر وإن عرف بالصدق لعلو منصب الرواية عن الكفار" نعم يقبل من الكافر ما تحمله في كفره إذا أسلم، كما سيأتي التطرق لها في الباب السادس في الإسناد في بحث توسع الحفاظ، في طبقات السماع وقد أفردت في مطولات المصطلح وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي له واحدًا أو أكثر). [قواعد التحديث: 241-243]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (47- بيان أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل:
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مقدمة مسلم: "نبه مسلم رحمه الله تعالى على القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع، وهو وجوب العمل بخبر الواحد فينبغي الاهتمام بها، والاعتناء بتحقيقها، وقد أطنب العلماء رحمهم الله في الاحتجاج لها وإيضاحها وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف، واعتنى بها أئمة المحدثين، وأول من بلغنا تصنيفه فيها الإمام الشافعي رحمه الله، وقد تقررت أدلتها النقلية، والعقلية في كتب أصول الفقه، ونذكر هنا طرفًا فنقول اختلف العلماء في حكمه فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول، أن خبر الواحد الثقة حدة من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم؛ وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل. وذهبت القدرية والرافضة وبعض أهل الظاهر. إلى أنه لا يجب العمل به؛ ثم منهم من يقول: منع من العمل به دليل العقل؛ ومنهم من يقول: منع دليل الشرع. وذهبت طائفة إلى أنه يجب العمل به من جهة دليل العقل. وقال الجبائي من المعتزلة: "لا يجب العمل إلا بما رواه اثنان عن اثنين" وقال غيره: "لا يجب العمل إلا بما رواه أربعة عن أربعة". وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم، وقال بعضهم: "يوجب العلم الظاهر دون الباطن". وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري وصحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد. وهذه الأقاويل كلها، سوى قول الجمهور، باطلة؛ وإبطال من قال: "لا حجة فيه" ظاهر.
فلم تزل كتب النبي -صلى الله عليه وسلم- وآحاد رسله، يعمل بها، ويلزمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- العمل بذلك، واستمر على ذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم، ولم تزل الخلفاء الراشدون، وسائر الصحابة، فمن بعدهم من السلف والخلف، على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسنة، وقضائهم به، ورجوعهم إليه في القضاء والفتيا، ونقضهم به ما حكموا على خلافة، وطلبهم خبر الواحد عند عدم الحجة ممن هو عنده، واحتجاجهم بذلك على من خالفهم، وانقياد المخالف لذلك، وهذا كله معروف لا شك في شيء منه، والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد وقد جاء الشرع بوجوب العمل به فوجب المصير إليه وأما من قال: "يوجب العلم" فهو مكابر للحسن وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب، وغير ذلك متطرف إليه". اهـ.
وفي حصول المأمول: "قد دل على العمل بخبر الواحد، الكتاب والسنة والإجماع ولم يأت من خالف في العمل به بشيء يصلح للتمسك به. ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد، وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط؛ وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة في الصحة، أو تهمة للراوي، أو وجود معارض راجح أو نحو ذلك". اهـ.
وقد جود الكلام على قبول خبر الواحد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: في رسالته الشهيرة في باب على حدة، ويجدر بذي الهمة الوقوف على لطائفة وأوسع فيه أيضًا الحافظ ابن حجر في الفتح عند قول البخاري: "باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان، والصلاة والصوم، والفرائض، والأحكام" فليرجع إليه ومما نقله فيه أن بعض العلماء احتج لقبول خبر الواحد أن كل صاحب أو تابع سئل عن نازلة في الدين فأخبر السائل بما عنده فيها من الحكم أنه لم يشترط عليه أحد منهم أن لا يعمل بما أخبره به. من ذلك حتى يسأل غيره فضلًا عن أن يسأل الكواف بل كان كل منهم يخبره بما عنده، فيعلم بمقتضاه ولا ينكر عليه ذلك فدل على اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد.
وفيه أيضًا: قال ابن القيم في الرد على من رد خبر الواحد إذا كان زائدًا على القرآن ما ملخصه: "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه أحدها: أن توافقه من كل وجه فيكون من توارد الأدلة، ثانيها: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، ثالثها: أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن. وهذا الثالث يكون حكما مبتدأ من النبي -صلى الله عليه وسلم- فتجب طاعته فيه ولو كان النبي لا يطاع إلا فيما وافق القرآن لم تكن له طاعة خاصة؛ وقد قال تعالى {من يطع الرّسول فقد أطاع اللّه} وقد تناقض من قال إنه لا يقبل الحكم الزائد على القرآن، إلا إن كان متواترًا أو مشهورًا فقد قالوا بتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم ما يحرم من النسب بالرضاعة، وخيار الشرط والشفعة، والرهن في الحضر وميراث الجدة وتخيير الأمة إذا أعتقت، ومنع الحائض من الصوم والصلاة، ووجوب الكفارة على من جامع وهو صائم في رمضان ووجوب إحداد المعتدة عن الوفاة، وتجويز الوضوء بنبيذ التمر وإيجاب الوتر وأن أقل الصداق عشرة دراهم وتوريث بنت الابن السدس مع البنت واستبراء المسبية بحيضة، وأن أعيان بني الأم يتوارثون، ولا يقاد الوالد بالولد، وأخذ الجزية من المجوس، وقطع رجل السارق في الثانية، وترك الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال، والنهى عن بيع الكالئ وغيرها مما يطول شرحه، وهذه الأحاديث كلها آحاد، وبعضها ثابت وبعضها غير ثابت، ولكنهم قسموها إلى ثلاثة أقسام ولهم في ذلك تفاصيل يطول شرحها، ومحل بسطها أصول الفقه وبالله التوفيق". اهـ). [قواعد التحديث: 243-248]