11 Oct 2022
الدرس التاسع: الجرح والتعديل
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (الباب الخامس: في الجرح والتعديل وفيه مسائل
1- بيان طبقات السلف في ذلك:
قال الحافظ الذهبي الدمشقي رحمه الله تعالى في جزء جمعه في الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ما نصه: "وأما الصحابة -رضي الله عنهم- فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات فما يكاد يسلم من الغلط أحد لكنه غلط نادر لا يضر أبدًا إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوا العمل وبه ندين الله تعالى، وأما التابعون فيكاد يعدم فيهم من يكذب عمدًا لكن لهم غلط وأوهام فما ندر غلطه في جنب ما قد حمل احتمل ومن تعدد غلطه وكان من أوعية العلم اغتفر له أيضًا ونقل حديثه وعمل به على تردد بين الأئمة الأثبات في الاحتجاج بمن هذا نعته كالحادث الأعور وعاصم بن ضمره وصالح مولى التوأمة وعطاء بن السائب ونحوهم، ومن فحش خطؤه وكثر تفرده لم يحتج بحديثه، ولا يكاد يقع ذلك في التابعين الأولين، ولو وجد ذلك في صغار التابعين فمن بعدهم، وأما أصحاب التابعين كمالك والأوزاعي وهذا الضرب فعلى المراتب المذكورة ووجد في عصرهم من يتعمد الكذب أو من كثر غلطة فترك حديثه هذا مالك هو النجم الهادي بين الأمة، وما سلم من الكلام فيه، ولو قال قائل عند الاحتجاج بمالك فقد تكلم فيهن لعزر وأهين وكذا الأوزاعي ثقة حجة وربما انفرد ووهم وحديثه عن الزهري فيه شيء ما، وقد قال فيه أحمد بن حنبل: "رأي ضعيف وحديث ضعيف، وقد تكلف لمعنى هذه اللفظة وكذا تكلم من لا يفهم في الزهري لكونه خضب بالسواد، ولبس زي الجند، وخدم هشام بن عبد الملك. وهذا باب واسع، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث؛ والمؤمن إذا رجحت حسناته وقلت سيئاته فهو من المفلحين. هذا أن لو كان ما قيل في الثقة الرضي مؤثرًا فكيف وهو لا تأثير له؟ " انتهى كلام الذهبي). [قواعد التحديث: 304-306]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (2- بيان أن جرح الضعفاء من النصيحة:
قال الإمام النووي: اعلم أن جرح الرواة جائز، بل واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه لصيانة الشريعة المكرمة، وليس هو من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة لله تعالى ورسوله والمسلمين ولم يزل فضلاء الأئمة، وأخيارهم، وأهل الورع منهم يفعلون ذلك". وقد تكلم الإمام مسلم على جماعة منهم في مقدمة صحيحه، وقدمنا في مبحث الضعيف تحت ترجمة قول مسلم رحمه الله أن الراوي عن الضعفاء غاش آثم جاهل زيادة على ذلك فارجع إليه). [قواعد التحديث: 307]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (3- بحث تعارض الجرح والتعديل:
"إذا اجتمع في الراوي جرح مفسر وتعديل فالجمهور على أن الجرح مقدم. ولو كان عدد الجارح أقل من المعدل. قالوا: لأن مع الجارح زيادة علم؛ وقيل: إن زاد المعدلون في العدد على المجرحين قدم التعديل". انتهى ما في التقريب وشرحه. وهذا القول وإن ضعف فهو الذي يتجه. وما أحسن مذهب النسائي في هذا الباب: وهو أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه، ولذا أرى من الواجب على المحقق أن لا يكتفي في حال الراوي على المختصرات في أسماء الرجال بل يرجع إلى مطولاته التي تحكي أقوال الأئمة فعسى أن لا يرى إجماعًا على تركه بل يرى كثرة فيمن عدله فليتق الله الجارح، وليستبرئ لدينه والله الموفق.
ثم رأيت التاج السبكي قال في طبقاته: "الحذر كل الحذر أن تفهم أن قاعدتهم: الجرح مقدم على التعديل إطلاقها، بل الصواب أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره لم يلتفت إلى جرحه".
وقال أيضًا: "قد عرفناك أن الجارح لا يقبل منه الجرح، وإن فسره في حق من غلبت طاعته على معاصيه ومادحوه على ذاميه ومزكوه على جارحيه إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثله من تعصب مذهبي أو منافسة دنيوية كما يكون بين النظراء وغير ذلك، وحينئذ فلا يلتفت لكلام الثوري وغيره في أبي حنيفة وابن أبي ذئب وغيره في مالك وابن معين في الشافعي، والنسائي في أحمد بن صالح ونحوه، ولو أطلقنا تقديم الجرح لما سلم لنا أحد من الأئمة إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون". اهـ.
وقال الحافظ الذهبي في ميزانه في ترجمة الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ما نصه: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعدواه أو لمذهب أو لحسد وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ولو شئت لسردت من ذلك كراريس". اهـ.
وقال العارف الشعراني قدس سره في مقدمة الميزان: "ما من راوٍ من الرواة المحدثين والمجتهدين كلهم إلا وهو يقبل الجرح كما يقبل التعديل لو أضيف إليه ما عدا الصحابة، وكذا التابعون عند بعضهم لعدم العصمة، أو الحفظ في بعضهم، ولكن لما كان العلماء -رضي الله عنهم- أمناء على الشريعة، وقدموا الجرح أو التعديل عمل به مع قبول كل الرواة لما وصف به الآخر احتمالًا، وإنما قدم جمهورهم التعديل على الجرح وقالوا الأصل العدالة والجرح طارئ لئلا يذهب غالب أحاديث الشريعة كما قالوا أيضًا إن إحسان الظن بجميع الرواة المستورين أولى، وكما قالوا إن مجرد الكلام في شخص لا يسقط مروية فلا بد من الفحص عن حاله، وقد خرج الشيخان لخلق كثير ممن تكلم الناس فيهم إيثارًا لإثبات الأدلة الشرعية على نفيها ليحوز الناس فضل العمل بها؛ فكان في ذلك فضل كثير للأمة، أفضل من تجريهم؛ كما أن تضعيفهم للأحاديث أيضًا رحمه للأمة، بتخفيف الأمر بالعمل بها، وإن لم يقصد الحفاظ ذلك، فإنهم لو لم يضعفوا شيئًا من الأحاديث وصححوها كلها لكان العمل بها واجبًا، وعجز عن ذلك غالب الناس فاعلم ذلك". اهـ). [قواعد التحديث: 308-312]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (4- بيان أن تجريح بعض رجال الصحيحين لا يعبأ به:
قال الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: "ما احتج البخاري ومسلم به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب". وقال النووي في شرح البخاري: "ما ضعف من أحاديثهما مبني على علل ليست بقادحة". وقال الحافظ الذهبي في جزء جمعه في الثقات الذين تكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ما نصه وقد كتبت في مصنفي الميزان عددًا كثيرًا من الثقات الذين احتج البخاري أو مسلم، أو غيرهم بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في مصنفات الجرح، وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك، وما زال يمر بي الرجل الثبت، وفيه مقال من لا يعبأ به، ولو فتحنا هذا الباب على نفوسنا لدخل فيه عدة من الصحابة والتابعين والأئمة فبعض الصحابة كفر بعضهم بتأويل ما، والله يرضي عن الكل ويغفر لهم فما هم بمعصومين، وما اختلافهم ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا أصلًا، وبتكفير الخوارج لهم انحطت رواياتهم بل صار كلام الخوارج والشيعة فيهم جرحًا في الطاعنين فانظر إلى حكمة ربك نسأل الله السلامة، وهكذا كثير من كلام الأفران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى، ويطرح ولا يجعل طعنًا، ويعامل الرجل بالعدل والقسط. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح، في الفصل التاسع في سياق أسماء من طعن فيه من رجال الصحيح والجواب عنه ما نصه: "ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راوٍ كان مقتض لعدالته عنده، وصحة ضبطه وعدم غفلته، ولا سيما ما الضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين: وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما هذا إذا خرج له في الأصول فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط، وغيره مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنًا فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرًا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي، وفي ضبطه مطلقًا أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: "هذا جاز القنطرة" يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه قال الشيخ: أبو الفتح القشيري هو ابن دقيق العيد في مختصره لكتاب ابن الصلاح في مختصره: "وهكذا نعتقد وبه نقول ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة، وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما.
"قلت: فلا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح لأن أسباب الجرح مختلفة، ومدارها على خمسة أشياء: البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع في السند بأن يدعى في الراوي أنه كان يدلس أو يرسل: فأما جهالة الحال فمندفعة عن جميع من أخرج لهم في الصحيح لأن شرط الصحيح أن يكون راويه معروفًا بالعدالة فمن زعم أن أحدًا منهم مجهول فكأنه نازع المصنف في دعواه أنه معروف ولا شك أن المدعي لمعرفته مقدم على من يدعي عدم معرفته لما مع المثبت من زيادة العلم، ومع ذلك فلا تجد في رجال الصحيح أحدًا ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلًا كما سنبينه، وأما الغلظ فتارة يكثر من الراوي، وتارة يقل فحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له إن وحد مرويا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط علم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله، وليس في الصحيح بحمد الله من ذلك شيء وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال سيء الحفظ، أو له أوهام، أو له مناكير وغير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك، وأما المخالفة وينشأ عنها الشذوذ والنكارة فإذا روى الضابط والصدوق شيئًا فرواه من هو احفظ منه، أو أكثر عددًا بخلاف ما روي بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ، وقد تشتد المخالفة أو يضعف الحفظ فيحكم على ما يخالف فيه بكونه منكرًا، وهذا ليس في الصحيح منه إلا نزر يسير، أما دعوى الانقطاع فمدفوعة عمن أخرج لهم البخاري لما علم من شرطه، ومع ذلك فحكم من ذكر من رجاله بتدليس أو إرسال أن تسبر أحاديثهم الموجودة عنده بالعنعنة فإن وجد التصريح بالسماع فيها اندفع الاعتراض وإلا فلا، وأما البدعة فالموصوف بها إما أن يكون ممن يكفر بها أو يفسق فالمكفر بها لا بد أن يكون ذلك التكفير متفقًا عليه من قواعد جميع الأئمة كما في غلاة الروافض من دعوى بعضهم حلول الإلهية في علي أو غيره، أو الإيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة، أو غير ذلك وليس في الصحيح من حديث هؤلاء شيء البتة، والمفسق بها كبدع الخوارج والروافض الذين لا يغلون ذلك الغلو، وغير هؤلاء من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافًا ظاهرًا لكنه مستند إلى تأويل ظاهره سائغ فقد اختلف أهل السنة في قبول حديث من هذا سبيله إذا كان معروفًا بالتحرز من الكذب مشهورًا بالسلامة من خوارم المروءة موصوفًا بالديانة أو العبادة فقيل يقبل مطلقًا، وقيل يرد مطلقًا والثالث التفصيل بين أن يكون داعية لبدعته، أو غير داعية فيقبل غير الداعية، ويرد حديث الداعية وهذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة وادعى ابن حبان إجماع أهل النقل عليه لكن في دعوى ذلك نظر. ثم اختلف القائلون بهذا التفصيل فبعضهم أطلق ذلك، وبعضهم زاده تفصيلًا فقال إن اشتملت رواية غير الداعية على ما يشيد بدعته ويزينها ويحسنها ظاهرًا فلا يقبل، وإن لم تشتمل فتقبل، وطرد بعضهم هذا التفصيل بعينه في عكسه في حق الداعية فقال إن اشتملت روايته على ما يرد بدعته قبل وإلا فلا، وعلى هذا إذا اشتملت رواية المبتدع، سواء كان داعية أم لم يكن على ما لا تعلق له ببدعته أصلًا هل تقبل مطلقا أو ترد مطلقًا مال أبو الفتح القشيري إلى تفصيل آخر فيه فقال: إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو إخمادًا لبدعته وإطفاء لناره، وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث، ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته والله أعلم.
"واعلم: أنه قد وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد، فينبغي التنبيه لذلك وعدم الاعتداد به إلا بحق، وكذا عاب جماعة من الورعين جماعة دخلوا في أمر الدنيا فضعفوهم لذلك، ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط والله الموفق، وأبعد ذلك كله من الاعتبار تضعيف من ضعف بعض الرواة بأمر يكون الحمل فيه على غيره أو للتحامل بين الأقران، وأشد من ذلك تضعيف من ضعف من هو أوثق منه أو أعلى قدرًا أو أعرف بالحديث فكل هذا لا يعتبر به".
ثم سرد الحافظ أسماء من طعن فيه من رجال البخاري مع حكاية الطعن والتنقيب عن سببه، والقيام بجوابه والتنبيه على وجه رده فرحمه الله تعالى ورضي عنه وجزاه خيرا). [قواعد التحديث: 312-316]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (5- الناقلون المبدعون:
سلف في المقالة قبل أن من أسباب الجراح البدعة، ونقلنا عبارة الفتح في ذلك بما كفى، بيد أن نزيد المقام بيانا لأهميته فنقول.
ذهب الجمهور إلى أنه لا تقبل رواية المكفر ببدعته، وهو من يعتقد ما يستلزم الكفر قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته؛ لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها. فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف، فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرًا متواترًا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله"
قال السخاوي: "وسبقه ابن دقيق العيد فقال: الذي تقرر عندنا أنه لا نعتبر المذاهب في الرواية إذ لا نكفر أحدًا من أهل القبلة إلا بإنكار قطعي من الشريعة فإذا اعتبرنا ذلك، وانضم إليه الورع والتقوى فقد حصل معتمد الرواية، وهذا مذهب الشافعي حيث يقبل شهادة أهل الأهواء" ثم قال السخاوي: "وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيما رويناه عنه لا تظنن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم شرًّا وأنت تحد لها في الخير محلًّا".
وفي جمع الجوامع: "يقبل مبتدع يحرم الكذب". اهـ. قال المحلي: "لأمنه فيه مع تأويله في الابتداع سواء دعا الناس إليه أم لا". اهـ. ولذا رد العراقي على من زعم أنه لا يحتج بالدعاة بأن الشيخين احتجا بهم قال: فاحتج البخاري بعمران بن حطان، وهو من الدعاة -أي دعاة الخوارج- واحتجا بعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني وكان داعية إلى الإرجاء وأجاب بأن أبا داود قال: "ليس في أهل الأهواء أصح حديثًا من الخوارج" ثم ذلك عمران بن حطان وأبا حسبان الأعرج.
أقول: ها هنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن رجال الجرح والتعديل عدوا في مصنفاتهم كثيرًا ممن رمي ببدعة، وسندهم في ذلك ما كان يقال عن أحد من أولئك أنه شيعي أو خارجي، أو ناصبي أو غير ذلك مع أن القول عنهم بما ذكر قد يكون تقولا، وافتراء، ومما يدل عليه أن كثيرًا ممن رمي بالتشيع من رواة الصحيحين لا تعرفهم الشيعة أصلا، وقد راجعت من كتب رجال الشيعة كتاب: "الكشي" و"النجاشي" فما رأيت من رماهم السيوطي نقلًا عمن سلفه بالتشيع في كتابه، التقريب ممن خرج لهم الشيخان وعدهم خمسة وعشرين إلا راويين وهما أبان بن تغلب وعبد الملك بن أعين، ولم أر للبقية في ذينك الكتابين ذكرا، وقد استفدنا بذلك علما مهما، وفائدة جديدة وهي أنه ينبغي الرجوع في المرمى ببدعه إلى مصنفات رجالها فيها يظهر الأصيل من الدخيل والمعروف من المنكور، ونظير هذا ما كنت أدل عليه، وهو الرجوع في أقوال الفرق إلى مصنفاتها المتداولة حتى ينثلج بها الصدر وإلا فكم من قول افترى على مذهب، أو نقل مقلوبًا أو فاقد شرط كما يعلمه من حقق ورجع إلى الأصول، بل رأيت من الشراح من يضبط لفظه لغوية ويعزوها وبمراجعة المعزو إليه يظهر اشتباه في المادة، فتنبيه لهذه الفائدة واحرص عليها). [قواعد التحديث: 316-320]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (6- الناقلون المجهولون:
قال الخطيب البغدادي: "المجهول عند أهل الحديث، هل كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد، وأقل ما يرتفع به الجهالة أن يروي عنه اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه"
وقال الدارقطني: "تثبت العدالة برواية ثقتين عنه"). [قواعد التحديث: 320-321]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (7- قول الراوي حدثني الثقة أو من لا يتهم هل هو تعديل له؟
ذهب الأكثرون إلى أنه لا يكتفى به في التعديل حتى يسميه؛ لأنه وإن كان ثقة عنده، فلعله ممن جرح بجرح قادح عند غيره، بل إضرابه عن تسميته ريبة توقع ترددًا في القلب، وقيل إن قائل ذلك متى كان ثقة مأمونا فإنه يكتفى به كما لو عينه؛ إذ لو علم فيه جرحا لذكره، ولو لم يذكره لكان غاشًا في الدين، ولا يلزم من إبهامه له تضعيفه عنده لأنه قد يهم لصغر سنة، أو لطبيعة المعاصرة أو المجاورة مما تقتضيه ظروف الزمان، والمحققون على الأول كما في التقريب وشرحه). [قواعد التحديث: 321-322]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (8- ما وقع في الصحيحين وغيرهما من نحو ابن فلان أو ولد فلان:
قال النووي: من عرفت عينه وعدالته، وجهل اسمه ونسبه احتج به أي لأن الجهل باسمه لا يخل بالعلم بعدالته). [قواعد التحديث: 322]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (9- قولهم: عن فلان أو فلان وهما عدلان
قال النووي: وإذا قال الراوي: أخبرني فلان أو فلان على الشك، وهما عدلان احتج به أي لأنه قد عينهما وتحقق سماعه لذلك الحديث من أحدهما، وكلاهما مقبول. وذلك كحديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء، أو من زيد بن وهب أن سويد بن غفلة... الحديث). [قواعد التحديث: 323]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (10- من لم يذكر في الصحيحين أو أحدهما لا يلزم منه جرحه:
قال الذهبي في ميزانه في ترجمة أشعث بن عبد الملك: "ما ذكره أحد في الضعفاء. نعم، ما أخرجا له في الصحيحين فكان ماذا؟ ". اهـ). [قواعد التحديث: 323-324]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (11- اقتصار البخاري على رواية من روايات إشارة إلى نقد في غيرها:
قال الإمام تقي الدين بن تيميه في تفسير سورة: {قل هو اللّه أحد}: "قد أنكروا على مسلم إخراج أشياء كثيرة يسيرة: مثل ما روى في بعض طرق حديث صلاة كسوف الشمس أنه صلاها بثلاث ركوعات وأربع والصواب أنه لم يصلها إلا مرة واحدة بركوعين، ولهذا لم يخرج البخاري إلا هذا، وكذلك الشافعي وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وغيرهما، والبخاري سلم من مثل هذا فإنه إذا وقع في بعض الروايات غلط ذكر الروايات المحفوظة التي تبين غلط الغالط فإنه كان أعرف بالحديث وعلله وأفقه في معانيه من مسلم ونحوه". اهـ). [قواعد التحديث: 324]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (12- ترك رواية البخاري لحديث لا يوهنه:
قال الإمام ابن القيم في: "إغاثة اللهفان" في بحث كون المطلق ثلاثا كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر يحسب له واحدة، وتقرير حديث مسلم في ذلك ما نصه: "رد الحديث فيه ضرب من التعنت ورواته كلهم أئمة حفاظ" ثم قال: "والحديث من أصح الأحاديث، وترك رواية البخاري لا يوهنه، وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه الجامع المختصر الصحيح". اهـ.
وتوقف فيه بعض المحققين، بأن دعوى تسمية البخاري لجامعة بالمختصر، مطلوبة البيان، ودعوى التسمية غير دعوى عدم الإحاطة بالصحيح، فإنها معنى آخر لا ينكر، إلا أن المدار على ما وقع عليه السبر). [قواعد التحديث: 325]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (13- بيان أن من روى له حديث في الصحيح لا يلزم صحة جميع حديثه:
قال الشعراني قدس سره في مقدمة ميزانه: "قال الحافظ المزي والحافظ الزيلعي رحمهما الله تعالى: وممن خرج لهم الشيخان مع كلام الناس فيهم جعفر بن سليمان الضبعي والحارث بن عبيدة، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي، وأبو أويس، لكن للشيخين شروط في الرواية عمن تكلم الناس فيه منها أنهم لا يروون عنه إلا ما توبع عليه، وظهرت شواهده، وعلموا أن له أصلًا فلا يروون عنه ما انفرد به، أو خالفه فيه الثقات وهذه العلة قد راجت على كثير من الحفاظ لا سيما من استدرك على الصحيحين كأبي عبد الله الحاكم فكثيرًا ما يقول: "وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، أو أحدهما مع أن فيه هذه العلة" إذ ليس كل حديث احتج براويه في الصحيح يكون صحيحًا إذ لا يلزم من كون راويه محتجًا به في الصحيح أن يكون كل حديث وجدناه له يكون صحيحًا على شرط صاحب ذلك الصحيح لاحتمال فقد شرط من شروط ذلك الحافظ كما قدمنا". اهـ). [قواعد التحديث: 325-326]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (14- ما كل من روى المناكير ضعيف:
قال السخاوي في فتح المغيث: "قال ابن دقيق العيد: قولهم "فلان روى المناكير" لا يقتضي بمجردة ترك روايته، حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي إلى أن يقال فيه منكر الحديث لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك بحديثه؛ وقد قال أحمد بن حنبل في محمد بن إبراهيم التيمي: يروي أحاديث منكرة، وهو ممن اتفق عليه الشيخان وإليه المرجع في حديث: "إنما الأعمال بالنيات". اهـ.
وقال الحافظ الذهبي: "ما كل من روى المناكير بضعيف"). [قواعد التحديث: 327]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (15- متى يترك حديث المتكلم فيه:
نقل الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "أن مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه". اهـ. وهو مذهب جيد). [قواعد التحديث: 328]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (16- جواز ذكر الراوي بلقبه الذي يكرهه للتعريف وأنه ليس بغيبة له:
قال النووي: "قال العلماء من أصحاب الحديث والفقه وغيرهم: يجوز ذكر الراوي بلقبه وصفته ونسبه الذي يكرهه، إذا كان المراد تعريفه لا تنقيصه، وجوز هذا للحاجة كما جوز جرحهم للحاجة، ومثال ذلك الأعمش والأعرج والأحول، والأعمى والأصم والأثرم، وابن علية وغير ذلك، وقد صنفت فيهم كتب معروفة"). [قواعد التحديث: 328-329]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (17- الاعتماد في جرح الرواة وتعديلهم على الكتب المصنفة في ذلك:
لا يخفى أن الناس قد اعتمدوا في جرح الرواة وتعديلهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في ذلك، ولا يقال: قد اشترط الأئمة أن الجرح لا يثبت إلا إذا كان مفسرًا.
وفي بعض تلك المصنفات المختصرات لا يتعرض لبيان السبب بل يقتصر فيها على نحو: ضعيف، أو مستور؛ واشتراط ذلك يفضي إلى تعطيل تلك المصنفات لأنا نقول إنما لم يتعرض لسبب الجرح فيها اختصارًا. وظاهر أن كل تصنيف لم يتعرض فيه لذلك، فهو من المختصرات التي قصد بها تقريب الحكم للمراجع وإلا فالمطولات تكفلت بذلك، وليس الوقوف عليها لذي الهمة بعزيز). [قواعد التحديث: 330]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (18- بيان عدالة الصحابة أجمعين:
وأن قول الراوي عن رجل من الصحابة من غير تسمية لا يضر في ذلك الخبر قال النووي في التقريب: "الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به".
وقيل: يجب البحث عن عدالتهم مطلقًا. وقال المازري في شرح البرهان: لسنا نعني بقولنا: "الصحابة عدول" كل من رآه -صلى الله عليه وسلم- يوما ما أو زاره، أو اجتمع به لغرض وانصرف وإنما يعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه. فإذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمه، كان ذلك حجة، ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم). [قواعد التحديث: 330-332]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (19- بيان معنى لصحابي:
"هو من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا به، ولو ساعة، سواء روى عنه أم لا. وإن كانت اللغة تقتضي أن الصاحب هو من كثرت ملازمته، فقد ورد ما يدل على إثبات الفضيلة لمن لم يحص منه إلا مجرد اللقاء القليل، والرؤية، ولو مرة ولا يشترط البلوغ لوجود كثير من الصحابة الذين أدركوا عصر النبوة، ورووا ولم يبلغوا إلا بعد موته، ولا الرؤية لأن من كان أعمى مثل ابن أم مكتوم، وقد وقع الاتفاق على أنه من الصحابة، ويعرف كونه صحابيا بالتواتر، والاستفاضة وبكونه من المهاجرين أو من الأنصار"). [قواعد التحديث: 332-333]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (20- تفاضل الصحابة:
في شرح النخبة: "لا خفاء برجحان رتبة من لازمه -صلى الله عليه وسلم- وقاتل معه، أو قتل معه تحت رأيته، على من لم يلازمه، أو لم يحضر معه مشهدًا، وعلى من كلمه يسيرًا، أو ما شاه قليلًا، أو رآه على بعد، أو في حاله الطفولية؛ وإن كان شرف الصحبة حاصلًا للجميع ومن ليس له منهم سماع منه، فحديثه مرسل من حيث الرواية وهم مع ذلك معدودون في الصحابة لما نالوه من شرف الرؤية". اهـ). [قواعد التحديث: 333-334]