11 Oct 2022
الدرس العاشر: الإسناد
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (الباب السادس: في الإسناد؛ وفيه مباحث
1- فضل الإسناد:
اعلم: أن الإسناد في أصله خصيصة فاضلة لهذه الأمة ليست لغيرها من الأمم.
قال ابن حزم: "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الاتصال، خص الله به المسلمين، دون سائر الملل وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود، ولكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد -صلى الله عليه وسلم- بل يقفون بحيث يكون بينهم، وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرًا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه". قال: "وأما النصارى، فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق فقط، وأما النقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود، والنصارى" قال: "وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبي أصلًا ولا إلى تابع له، ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص".
وقال أبو علي الجياني: "خص الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد والأنساب، والإعراب". ومن أدلة ذلك ما رواه الحاكم وغيره عن مطر الوراق في قوله تعالى {أو أثارةٍ من علمٍ} قال: "إسناد الحديث". وقال ابن المبارك: "الإسناد من الدين لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" أخرجه مسلم
وقال سفيان بن عيينة: حدث الزهري يومًا بحديث فقلت هاته بلا إسناد؛ فقال الزهري أترقى السطح بلا سلم؟ وقال الثوري: الإسناد سلاح المؤمن. وقال أحمد بن حنبل: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف لأن أصحاب عبد الله كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة فيتعلمون من عمر، ويسمعون منه وقال محمد بن أسلم الطوسي قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله تعالى). [قواعد التحديث: 339-341]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (2- معنى السند والإسناد والمسند والمتن:
أما السند: فقال البدر بن جماعة والطيبي "هو الإخبار عن طريق المتن".
قال ابن جماعة: وأخذه إما من السند، وهو ما ارتفع وعلا من سفح الجبل؛ لأن المسند يرفعه إلى قائله؛ أو من قولهم فلان سند، أي معتمد فسمى الإخبار عن طريق المتن سندًا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه.
وأما الإسناد: فهو رفع الحديث إلى قائله. قال الطيبي: "وهما متقاربان في معنى اعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليهما" وقال ابن جماعة: " المحدثون يستعلمون السند والإسناد لشيء واحد".
وأما المسند: "بفتح النون" فله اعتبارات أحدها: الحديث السابق في أنواع الحديث؛ الثاني: الكتاب الذي جمع فيه ما أسنده الصحابة أي رووه، فهو اسم مفعول؛ الثالث: أن يطلق ويراد به الإسناد فيكون مصدرًا كمسند الشهاب ومسند الفردوس؛ أي أسانيد أحاديثهما.
وأما المتن: فهو ألفاظ الحديث التي تقوم بها المعاني قاله الطيبي: وقال ابن جماعة: "هو ما ينتهي إليه غاية السند من الكلام". وأخذه إمام المماتنة، وهي المباعدة في الغاية لأنه غاية السند أو من متنت الكبش إذا شققت جلدة بيضته، واستخرجتها فكأن المسند استخرج المتن بسنده أو من المتن، وهو ما صلب وارتفع من الأرض لأن المسند يقويه بالسند ويرفعه إلى
قائله أو من تمتين القوس أي شدها بالعصب؛ لأن المسند يقوي الحديث بسنده). [قواعد التحديث: 341-342]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (3- أقسام تحمل الحديث:
الأول: السماع من لفظ الشيخ إملاء من حفظه أو تحديثًا من كتابه.
الثاني: قراءة الطالب على الشيخ وهو ساكت يسمع، سواء كانت قراءة الطالب عليه من كتاب أو حفظ وسواء حفظ الشيخ ما قرئ عليه أم لا إذا أمسك أصله هو أو ثقةٌ غيره؛ ويسمى هذا عرضًا؛ لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه أهل السماع من الشيخ أعلى من القراءة عليه، أو القراءة أعلى أو هما سيان أقوال: أصحها أولها حكاه ابن الصلاح عن جمهور أهل المشرق، وأصله الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه كان يقرأ على الناس القرآن ويعلمهم السنن.
الثالث: سماع الطالب على الشيخ بقراءة غيره.
الرابع: المناولة مع الإجازة، كأن يدفع له الشيخ أصل سماعه، أو فرعًا مقابلًا به ويقول له: أجزت لك روايته عني.
الخامس: الإجازة المجردة عن المناولة وهي أنواع. أعلاها أن يجيز لخاص في خاص، أي: بكون المجاز له معينًا، والمجاز به معينًا، كأجزت لك أن تروي عني البخاري، ويليه الإجازة لخاص في عام كأجزت لك رواية جميع مسموعاتي ثم لعام في خاص نحو أجزت لمن أدركني رواية البخاري ثم لعام في عام، كأجزت لمن عاصرني رواية جميع مروياتي، ثم لمعدوم تبعًا للموجود كأجزت لفلان، ومن يوجد بعد ذلك من نسله، وقد فعل ذلك أبو بكر بن أبي داود فقال: أجزت لك، ولولدك ولحبل الحبلة يعني الذين لم يولدوا بعد
وأما إجازة المعدوم استقلالًا كأجزت لمن يولد لفلان، ولمن سيوجد فجوزها الخطيب البغدادي، وألف فيها جزءًا، وحكى صحتها عن أبي الفراء الحنبلي، وابن عمروس المالكي، ونسبه القاضي عياض لمعظم الشيوخ ومنعها غيرهم وصححه النووي في التقريب، وأما الإجازة للطفل الذي لا يميز فصحيحة قال الخطيب: "وعلى الجواز كافة شيوخنا، واحتج له بأنها إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه، والإباحة تصح للعاقل ولغيره قال ابن الصلاح: "كأنهم رأوا الطفل أهلًا للتحمل ليؤدي بعد حصول الأهلية لبقاء الإسناد. وأما المميز فلا خلاف في صحة الإجازة له. هذا، والصحيح الذي قاله الجمهور واستقر عليه العمل: جواز الرواية والعمل بالإجازة.
وادعى أبو الوليد الباجي، والقاضي عياض الإجماع عليها حتى قصر أبو مروان الطبني الصحة عليها، وحكى في التقريب، والتدريب عن جماعات إبطالها، وعن ابن حزم أنها بدعة بيد أن الجمهور على قبولها وصحتها وهو الذي درج عليه المحدثون سلفًا وخلفًا.
السادس: المناولة من غير إجازة، بأن يناوله الكتاب مقتصرًا على قوله: "هذا سماعي" ولا يقول له: اروه عني ولا أجزت لك روايته؛ فقيل تجوز الرواية بها والصحيح المنع.
السابع: الإعلام؛ كأن يقول هذا الكتاب من مسموعاتي على فلان، من غير أن يأذن له في روايته عنه وقد جوز بها الرواية كثيرون وصحح آخرون المنع.
الثامن: الوصية، كأن يوصي بكتاب إلى غيره عند سفره أو موته، فجوز بعضهم للموصي له روايته عنه تلك الوصية لأن دفعها له نوعًا من الإذن، وشبهًا من المناولة وصحح الأكثرون المنع.
التاسع: الوجادة، كأن يجد حديثًا أو كتابًا بخط شيخ معروف لا يرويه الواحد عنه بسماع، ولا إجازة فله أن يقول وجدت أو قرأت بخط فلان وفي مسند الإمام أحمد كثير من ذلك من رواية ابنه عنه قال النووي: "وأما العمل بالوجادة فعن المعظم أنه لا يجوز، وقطع البعض بوجوب العمل بها عند حصول الثقة به، قال: "وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه في هذه الأزمان غيره".
تنبيه: الألفاظ التي تؤدي بها الرواية على ترتيب ما تقدم هكذا: أملى عليًّ، حدثني، قرأت عليه، قرئ عليه وأنا أسمع أخبرني إجازة ومناولة أخبرني إجازة أنبأني مناولة أخبرني إعلاما أوصي إليّ، وجدت بخطه). [قواعد التحديث: 342-348]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (4- بحث وخبر في الإجازة ومعنى قولهم أجزت له كذا بشرطه:
قال الشهاب القسطلاني في المنهج: "الإجازة مشتقة من التجوز، وهو التعدي، فكأنه عدي روايته حتى أوصلها للراوي عنه.". اهـ.
وقال الغمام اللغوي ابن فارس رحمه الله في جزئه في المصطلح: "يعني بالإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية، والحرث، يقال منه استجزت فلانًا فأجازني إذا أسقاك ماء لأرضك أو ماشيتك قال القطامي:
وقالوا فقيم قيم الماء فاستجز = عبادة إن المستجيز على قتر
أي: على ناحية.
كذلك طالب العلم يسأل العالم أن يجيزه علمه فيجيزه إياه فالطالب، مستجيز والعالم مجيز". اهـ.
قال النووي: إنما تستحسن الإجازة إذا علم المجيز ما يجيزه، وكان المجاز له من أهل العلم واشترطه بعضهم في صحتها فبالغ وقال ابن سيد الناس: أقل مراتب المجيز أن يكون عالمًا بمعنى الإجازة العلم الإجمالي، من إنه روى شيئا، وأ، معنى إجازته لذلك الغير في رواية ذلك الشيء عنه بطريق الإجازة المعهودة، ولا العلم التفصيلي بما روى، وبما يتعلق بأحكام الإجازة، وهذا العلم الإجمالي، حاصل فيما رأيناه من عوام الرواة فإن انحط راوٍ في الفهم عن هذه الدرجة -ولا إخال أحدًا ينحط عن إدراك هذا إذا عرف به- فلا أحسبه أهلًا لن يتحمل عنه بإجازة ولا سماع، قال: وهذا الذي أشرت إليه من التوسع في الإجازة هو طريق الجمهور قال القسطلاني: وما عداه من التشديد فهو منافٍ لما جوزت الإجازة له من بقاء السلسلة نعم لا يشترط التأهل حين التحمل، ولم يقل أحد بالأداء بدون شرط الرواية، وعليه يحمل قولهم: أجزت له رواية كذا بشرطه ومنه ثبوت المروي من حديث المجيز
وقال أبو مروان الطبي: إنها لا تحتاج لغير مقابلة نسخة بأصول الشيخ.
وقال عياض: تصح بعد تصحيح روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها وصحة مطابقة كتب الراوي لها، والاعتماد على الأصول المصححة وكتب بعضهم لمن علم منه التأهل: "أجزت له الرواية عني وهو لما علم من إتقانه وضبطه غني عن تقييدي ذلك بشرطه". اهـ.
وقد أوسعت الكلام على مادة الإجازة في شرحي على الأربعين العجلونية المسمى: "بالفضل المبين على عقد الجوهر الثمين" في شرح خطبة المتن فارجع إليه إن شئت). [قواعد التحديث: 349-351]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (5- أقدم إجازة عثرت عليها:
جاء في شرح ألفيه العراقي نقلا عن الإمام أبي الحسن محمد بن أبي الحسين بن الوزان قال: ألفيت بخط أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب الحافظ الشهير صاحب يحيى بن معين وصاحب التاريخ ما مثاله: "قد أجزت لأبي زكريا يحيى بن مسلمة أن يروي عني ما أحب من كتاب التاريخ الذي سمعه مني، أبو محمد القاسم بن الأصبغ، ومحمد بن عبد الأعلى كما سمعاه مني، وأذنت له في ذلك ولمن أحب من أصحابه فإن أحب أن تكون الإجازة لأحد بعد هذا فأنا أجزت له ذلك بكتابي هذا، وكتبه أحمد بن أبي خيثمة بيده في شوال من سنة ست وسبعين ومائتين".
وكذلك أجاز حفيد يعقوب بن شيبة وهذه نسختها فيما حكاه الخطيب: "يقول محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة: قد أجزت لعمر بن أحمد الخلال، وابنه عبد الرحمن بن عمرو لختنه علي بن الحسن جميع ما فاته من حديثي مما لم يدرك سماعه من المسند وغيره، وقد أجزت ذلك لمن أحب عمر فليرووه عني إن شاءوا وكتبت لهم ذلك بخطي في صفر سنه اثنتين وثلاثين وثلاثمائة". اهـ). [قواعد التحديث: 351-352]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (6- هل قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا بمعنى واحد أم لا؟
قال الحكيم الترمذي قدس الله سره في نوادر الأصول: "من أراد أن يؤدي إلى أحد حديثًا قد سمعه، جاز له أن يقول أخبرني وحدثني، وكذلك إذا كتب إليه من بلدة أخرى جاز أن يقول أخبرني، وحدثني فإن الخبر يكون شفاها أو بكتاب وذلك قوله تعالى في تنزيله: {من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير} فإنما صار نبأ وخبرًا بوصول علم ذلك إليه، وكذلك يجوز أن يقول حدثني لأنه قد حدث إليه الخبر فسواء حدث شفاها أو بكتاب، وكذلك إذا ناوله كتابه فقال هذا حديثي لك، وهذا خبرني إياك فحدث عني، وأخبر عني جاز له أن يقول حدثني وأخبرني وكان صادقًا في قوله لأنه قد حدث إليه وأخبره فليس للمتمنع أن يمتنع من هذا تورعًا، ويتفقد الألفاظ مستقصيا في تحري الصدق بتوهم أن ترجمة قوله أخبرني وحدثني لفظه وبالشفتين، وليس هو كذلك فاللفظ لفظ والكلام كلام والقول قول والحديث حديث والخبر خبر، فالقول ترجيع الصوت، والكلام كلم القلب بمعاني الحروف، والخبر إلقاء المعنى إليك فسواء ألقاه إليك لفظًا أو كتابًا، وقد سمي الله القرآن في تنزيله: "حديثًا". حدث به العباد وخاطبهم به، وسمى الذي يحدث في المنام حديثًا فقال: {ولنعلّمه من تأويل الأحاديث}. اهـ.
وروى البخاري في صحيحه عن الحميدي قال: "كان عند ابن عيينة حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحدًا" قال الحافظ في الفتح إيراده قول ابن عيينة دون غيره دال على أنه مختاره، واستدل البخاري على التسوية بين هذه الصيغ بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي" -وفي رواية: "أخبروني" وفي رواية: "أنبئوني" فدل ذلك على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة.
ومن أصرح الأدلة فيه قوله تعالى: {يومئذٍ تحدّث أخبارها} وقوله تعالى: {ولا ينبّئك مثل خبيرٍ} وأما بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه الخلاف: فمنهم من استمر على أصل اللغة. وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة ورجحه ابن الحاجب في مختصره، ونقل عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، ومنهم من رأى إطلاقه ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه، وتقييده حيث يقرأ عليه وهو التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل فيخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج والأوزاعي والشافعي وابن وهب وجمهور أهل المشرق، ثم أحدث أتباعهم تفصيلًا آخر، فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال: حدثني، ومن سمع مع غيره جمع، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال: أخبرني، ومن سمع بقراءة غيره جمع وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل، وظن بعضهم أن ذلك على وجوب فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته نعم، يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط؛ لأنه صار حقيقة عرفية عندهم فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين). [قواعد التحديث: 353-356]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (7- قول المحدث وبه قال حدثنا:
قال القسطلاني: "إذا قرأ المحدث إسناد شيخه المحدث أول الشروع، وانتهى، عطف عليه بقوله في أول الذي يليه: "وبه قال حدثنا" ليكون كأنه أسنده إلى صاحبه في كل حديث أي لعود ضمير: "وبه" على السند المذكور كأنه يقول: "وبالسند المذكور، قال: أي صاحب السند لنا فهذا معنى قولهم: وبه قال). [قواعد التحديث: 356-357]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (8- الرمز بـ: "ثنا" و"نا" و"أنا" و"ح":
قال النووي: "جرت العادة بالاقتصار على الرمز في "حدثنا" و"أخبرنا" واستمر الاصطلاح عليه من قديم الأعصار إلى زماننا، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى فيكتبون من حدثنا "ثنا" وربما حذفوا الثاء ويكتبون من أخبرنا "أنا"، وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، وجمعوا بينهما في متن واحد كتبوا عند الانتقال من إسناده إلى إسناد "ح" وهي حاء مهملة مفردة، والمختار أنها مأخوذة من التحول لتحوله من إسناده إلى إسناده وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها "حا" ويستمر في قراءة ما بعدها، وقيل إنها من حال بين الشيئين إذا حجز لكونها حالت بين الإسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء، وليست من الرواية وقيل إنها رمز إلى قوله: "الحديث" وإن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصوا إليها: "الحديث" وقد كتب جماعة من الحفاظ موضعها: "صح" فيشعر بأنها رمز "صح"، وحسنت ها هنا كتابة "صح" لئلا يتوهم أنه سقط من الإسناد الأول ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرًا". اهـ.
قلت: وقد كان بعض مشايخنا المسندين إذا وصل إليها يقول: "تحويل"، وكنت أستحسنه منه). [قواعد التحديث: 357-358]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (9- عادة المحدثين في قراءة الإسناد:
قال النووي: "جرت عادة أهل الحديث بحذف "قال" ونحوه فيما بين رجال الإسناد في الخط، وينبغي للقارئ أن يلفظ بها، وإذا كان في الكتاب قرئ على فلان أخبرك فلان فيقولون قرئ على فلان قيل أخبرك فلان، وإذا تكررت كلمة: "قال" كقوله: "حدثنا صالح قال: قال الشعبي: "فإنهم يحذفون إحداهما في الخط فيلفظ بهما القارئ"). [قواعد التحديث: 358]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (10- الإتيان بصيغة الجزم في الحديث الصحيح والحسن دون الضعيف:
قال النووي في شرح مسلم: "قال العلماء ينبغي لمن أراد رواية حديث أو ذكره أن ينظر، فإن كان صحيحًا أو حسنًا قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا أو فعله أو تحو ذلك من صيغ الجزم"؛ وإن كان ضعيفًا فلا يقل قال أو فعل أو أمر أو نهى، وشبه ذلك من صيغ الجزم بل يقول روي عنه كذا أو جاء عنه كذا أو يروى أو يذكر أو يحكى أو بلغنا وما أشبهه".
وقال في شرح المهذب: "قالوا صيغ الجزم موضوعة للصحيح أو الحسن، وصيغ التمريض لسواهما. وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته من المضاف إليه، فلا ينبغي أن تطلق إلا فيما صح وإلا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه، وهذا الأدب أخل به جماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم بل جماهير أصحاب العلوم مطلقًا ما عدا حذاق المحدثين، وذلك تساهل قبيح فإنهم يقولون كثيرًا في الصحيح: "روي عنه" وفي الضعيف: "قال وروى فلان، وهذا حيد عن الصواب". اهـ). [قواعد التحديث: 359]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (11- متى يقول الراوي "أو كما قال":
قال النووي: "ينبغي للراوي وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظة فقرأها على الشك أن يقول عقيبه: أو كما قال؛ وكذا يستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده: أو كما قال، أو نحو هذا كما فعلته الصحابة فمن بعدهم والله أعلم.
وقد روى الدارمي في مسنده في باب: "من هاب الفتيا مخافة السقط" آثارًا كثيرة في ذلك فمن شاء فليرجع إليه"). [قواعد التحديث: 359-360]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (12- السر في تفرقة البخاري بين قوله: حدثنا فلان وقال لي فلان:
لا يخفى أن البخاري رحمه الله احتاط لصحيحة ما لم يحتط لغيره من مصنفاته، فإنه التزم فيه غاية الصحة فربما عبر في صحيحه يقول: "وقال لي علي بن عبد الله، يعني ابن المديني"؛ وفي غيره كتاريخه بقوله: "حدثا علي بن عبد الله" في القضية الواحدة. والسر في ذلك أنه لا يعبر في صحيحة بقوله: وقال لي فلان، إلا في الأحاديث التي يكون في إسنادها عنده نظر أو التي تكون موقوفة، وزعم بعضهم أنه يعبر في ذلك فيما أخذه في المذاكرة، أو المناولة قال الحافظ ابن حجر: "وليس عليه دليل"). [قواعد التحديث: 360]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (13- سر قولهم في خلال ذكر الرجال: يعني ابن فلان أو هو ابن فلان:
قال النووي: "ليس للراوي أن يزيد في نسب غير شيخه ولا صفته على ما سمعه من شيخه، لئلا يكون كاذبًا على شيخه فإذا أراد تعريفه وإيضاحه وزوال اللبس المتطرق وإليه لمشابهة غيره، فطريقة أن يقول: قال حدثني فلان يعني ابن فلان أو الفلاني، أو هو ابن فلان أو الفلاني أو نحو ذلك، وقد استعمله الأئمة، وقد أكثر البخاري ومسلم منه غاية الإكثار، وهذا ملحظ دقيق ومن لا يعاني هذا الفن قد يتوهم أن قوله: "يعني" وقوله: "هو" زيادة لا حاجة إليها، وأن الأول حذفها وهذا جهل وسرها ما عرفت"). [قواعد التحديث: 361]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (14- قولهم: دخل حديث بعضهم في بعض:
إذا روى الحفاظ حديثًا في صحاحهم أو سننهم أو مسانيدهم، واتفقوا في لفظه أو معناه، ووجد عند كل منهم ما انفرد به عن الباقين، وأراد راوٍ أن يخرجه عنهم بسياق واحد، فيقول حالتئذ: أخرج فلان وفلان وفلان دخل حديث بعضهم في بعض إشارة إلى أن اللفظ لمجموعهم، وأن عند كلٍّ ما انفرد به عن غيره). [قواعد التحديث: 361-362]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (15- قولهم: "أصح شيء في الباب كذا":
قال النووي في الأذكار: "لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث. فإنهم يقولون هذا أصح ما جاء في الباب وإن كان ضعيفا ومرادهم أرجحه أو أقله ضعفا"). [قواعد التحديث: 362]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (16- قولهم: "وفي الباب عن فلان":
كثيرًا ما يأتي بذلك الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في جامعه حيث يقول: "وفي الباب عن فلان وفلان" ويعدد صحابة، ولا يريد ذلك الحديث المعين بل يريد أحاديث آخر يصح أن تكتب في الباب. قال العراقي: "وهو عمل صحيح، إلا أن كثيرًا من الناس يفهمون من ذلك أن من سمي من الصحابة يروون ذلك الحديث بعينه وليس كذلك بل قد يكون كذلك" وقد يكون حديثًا آخر يصح إيراده في ذلك الباب). [قواعد التحديث: 363]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (17- أكثر ما وجد من رواية التابعين بعضهم عن بعض:
قال الحافظ ابن حجر: "أكثر ما وجد من رواية التابعين عن بعض بالاستقراء ستة أو سبعة"). [قواعد التحديث: 363]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (18- هل يشترط في رواية الأحاديث السند أم لا:
اختلف العلماء فيمن نقل حديثًا من كتاب من الكتب المشهورة، وليس له به سند من أحد بطريق من الطرق، هل يسوغ له أن يقول قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا فالجمهور على جوازه، وضعفه قوم كما هو ظاهر كلام العراقي، وصريح كلام الحافظ أبي بكر الإشبيلي، ونقل العلامة الشهاب ابن حجر المكي في فتاواه الحديثية عن الزين العراقي، أنه قال: نقل الإنسان ما ليس له به رواية غير سائغ بإجماع أهل الدراية، وعن الحافظ ابن جبر الإشبيلي خال الحافظ السهيلي أنه قال: "اتفق العلماء أنه لا يصح لمسلم أن يقول قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا حتى يكون عنده ذلك القول مرويا، ولو على أقل وجوه الروايات"، وأطال في ذلك من النقول ثم قال: "كلام النووي، وابن الصلاح متفق على عدم اشتراط تعدد الأصل المقابل عليه إذا كان النقل منه للرواية بخلافه للعمل والاحتجاج فقد اشترط ابن الصلاح تعدد الأصول المقابل عليها دون النووي فإنه اكتفى بأصل، واحد معتمد
وقال ابن برهان: ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه بل إذا صحت عنده النسخة من الصحيحين مثلًا، جاز له العمل بها وإن لم يسمعها". اهـ.
وإلى هذا أشار الزين العراقي في ألفيته حيث قال:
وأخذ متن من كتاب لعمل = أو احتجاج حيث ساغ قد جعل
عرضا له على أصول يشترط = وقال يحيى النووي أصل فقط
ثم قال ابن حجر في الفتاوى المذكورة: "ومن هذا وما قبله تعين حمل اشتراط ابن الصلاح للتعدد على الاستحباب، كما قاله جماعة، ولا منافاة بين ما قاله ابن برهان من الإجماع على الجواز بشرطه على ما إذا كان لمجرد الاستنباط، وبحمل عدمه بشرطه على ما إذا كان للرواية عن ذلك المصنف من غير أن تصح أصول بسماعه له ولا تيقن أنه سمعه من شيخه". اهـ. ملخصًا.
وقال الحافظ السيوطي في كتابه: "تدريب الراوي شرح تقريب النواوي":
خاتمة: زاد العراقي في ألفيته هنا لأجل قول ابن الصلاح حيث ساغ له وذلك أن الحافظ أبا بكر محمد بن جبر بن عمر الأموي "بفتح الهمزة" الإشبيلي خال أبي القاسم السهيلي قال في برنامجه، اتفق العلماء على أنه لا يصح لمسلم أن يقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا حتى يكون عنده ذلك القول مرويًّا، ولو على أقل وجوه الروايات لحديث: "من كذب عليًّ". اهـ. ولم يتعقبه العراقي، وقد تعقبه الزركشي في جزء له فقال فيما قرأته بخطه: نقل الإجماع عجيب، وإنما حكى ذلك عن بعض المحدثين؛ ثم هو معارض بنقل ابن برهان إجماع الفقهاء على الجواز فقال في الأوسط: ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه بل إذا صح عنده النسخة جاز له العمل بها، وإن لم يسمع، وحكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة، ولا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها وذلك شامل لكتب الحديث والفقه، وقال إلكيا الطبري في تعليقه من وجد حديثًا في كتاب صحيح جاز له أن يرويه ويحتج به، وقال قوم من أصحاب الحديث لا يجوز له أن يرويه لأنه لم يسمعه، وهذا غلط. وكذا حكاه إمام الحرمين في البرهان عن بعض المحدثين، وقال: هم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول -يعني المقتصرين على السماع لا أئمة الحديث- وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال كتبه إليه محمد بن عبد الحميد: "وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها، فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها والاستناد؛ إليها لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بها وبعد التدليس، ومن اعتقد أن الناس قد اتفقوا على الخطأ في ذلك فهو أولى بالخطأ منهم، ولولا جواز الاعتماد على ذلك لتعطيل كثير من المصالح المتعلقة بها، وقد رجع الشارع إلى قول الأطباء في صور، وليست كتبهم مأخوذة في الأصل إلا عن قوم كفار، ولكن لما بعد التدليس فيها اعتمد عليها كما اعتمد في اللغة على أشعار العرب لبعد التدليس". اهـ.
قال: -أي الزركشي المتقدم- "وكتب الحديث أولى بذلك من كتب الفقه وغيرها؛ لاعتنائهم بضبط النسخ وتحريرها فمن قال إن شرط التخريج من كتاب يتوقف على اتصال السند إليه فقد خرق الإجماع، وغاية المخرج أن ينقل الحديث من أصل موثوق بصحته وينسبه إلى من رواه، ويتكلم على علته وغريبه وفقهه. قال: وليس الناقل لإجماع مشهورًا بالعلم مثل اشتهار هؤلاء الأئمة قال: بل نص الشافعي في الرسالة على أنه يجوز أن يحدث بالخبر وإن لم يعلم أنه سمعه، فليت شعري أي إجماع بعد ذلك؟ قال: واستدلاله على المنع بالحديث المذكور أعجب وأعجب؛ إذ ليس في الحديث اشتراط ذلك وإنما فيه تحريم القول بنسبة الحديث إليه حتى يتحقق أنه قاله، وهذا لا يتوقف على روايته بل يكفي في ذلك وجوده في كتب من خرج الصحيح أو كونه نص على صحته إمام وعلى ذلك عمل الناس". اهـ.
"فتحرر من مجموعة ذلك أن الصحيح جواز نقل الحديث من الكتب المعتمدة وإضافته إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يكن للناقل به رواية لكن بشرط أن يكون المنقول عنه كتابًا معتمدًا به في الحديث مقابلًا، ولو بأصل واحد فلا يجوز إضافة حديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمجرد وجوده في كتاب لم يعلم مؤلفه أو علم ولم يكن من أهل الحديث كما يؤخذ من كلام العز بن جماعة" انتهى من القول السديد في اتصال الأسانيد للشهاب المنيني). [قواعد التحديث: 363-367]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (19- فوائد الأسانيد المجموعة في الأثبات:
اعلم أن في تطلب أسانيد الكتب غاية للحكماء سامية، ألا وهي التشوف إلى الرجوع إليها ومطالعتها. فإن العاقل إذا رأى حرص الأقدمين على روايتها بالسند إلى مصنفيها علم أن لها مقاما مكينا في سماء العرفان فيأخذ في قراءتها، واقتباس الفوائد، والمعارف منها فيزداد تنورًا وترقيا في سلم العلوم، فإن العلم قوام العالم وعماد العمران وهو الكنز الثمين والذخر الذي لا يفنى.
ومن فوائد أسانيد الكتب: حفظها من النسيان والضياع؛ ومن فوائدها: نشر العلوم والمعارف وترويجها وإذاعتها بين الخاصة والعامة، لتقف عليها الطلاب ومنها: الترغيب والتشويق لمطالعة الكتب فإن الرغبة في المطالعة من أكبر النعم التي خص بها نوع الإنسان، ومن فوائدها الدلالة على اعتبار الأولين لكتب العلم والتنويه بشأنها، وتعظيم قدرها وإعلائها فإن كتبهم تحمل علومهم ومعارفهم وتذيعها في الخافقين وتقربها من طلابها دانية القطوف، قريبة الجنا والمرء يفخر وينافس أقرانه إذا لقي رجلًا من كبار العلماء، وحادثه ساعة من الزمان فكيف إذا استطاع أن يقيم معه، ويحادثه مدة حياته؟ وهكذا من نظر في كتب الحديث فهو محادث للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومطلع على هديه وأخباره كما لو ساكنه، وعاشره وشافهه وما أقربه وأيسره لمن روى تلك الكتب ودراها ولذلك قال الترمذي عن سننه: "من كان في بيته فكأنما في بيته نبي يتكلم"، وهكذا يقال في بقية الجوامع الحديثية فاعلم ذلك.
وما أرق ما قاله الوزير لسان الدين بن الخطيب في مقدمة كتابه: "الإحاطة في أخبار غرناطة"، ولولا ذلك لو يشعر آت في الخلق بذاهب، ولا اتصل بغائب فماتت الفضائل بموت أهليها، وأفلت نجومها عن أعين مجتليها فلم يرجع إلى خبر ينقل، ولا دليل يعقل، ولا سياسة تكتسب، ولا أصالة إليها ينتسب فهدى سبحانه وألهم، وعلم الإنسان بالقلم ما لم يكن يعلم حتى ألفينا المراسم قائدة، والمراشد هادية والأخبار منقولة والأسانيد موصولة والأصول محررة والتواريخ مقررة والسير مذكورة والآثار مأثورة والفضائل من بعد أهلها باقية والمآثر قاطعة شاهدة كأن نهار القرطاس وليل المداد ينافسان الليل والنهار في عالم الكون والفساد، فمهما طويا شيئا ولعا بنشره أو دفنا ذكرًا دعوا إلى نشره). [قواعد التحديث: 368-369]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (20- ثمرة رواية الكتب بالأسانيد في الأعصار المتأخرة:
قال الشيخ ابن الصلاح: "اعلم أن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود منها في عصرنا، وكثير من الأعصار قبله إثبات ما يروى إذ لا يخلو إسناد منها عن شيخ لا يدري ما يرويه، ولا يضبط ما في كتابه ضبطا يصلح لأن يعتمد عليه في ثبوته، وإنما المقصود بها بقاء سلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة، زادها الله كرامة". اهـ). [قواعد التحديث: 369-370]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (21- بيان أن تحمل الأخبار على الكيفيات المعروفة من ملح العلم لا من صلبه وكذا استخراج الحديث من طرق كثيرة:
قد بين ذلك الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى في موافقاته بقوله في أقسام ما كان من ملح العلم:
"الثاني: تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها، ولا يطلب التزامها كالأحاديث المسلسلة التي أتى بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد، فالتزمها المتأخرون بالقصد فصار تحملها على ذلك القصد تحريا له، بحيث يتعنى في استخراجها، ويبحث عنها بخصوصها مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل، وإن صحبها العمل؛ لأن تحلفه في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث كما في حديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن... " فإنهم التزموا فيه أن يكون أول حديث يسمعه التلميذ من شيخه فإن سمعه منه بعد ما أخذ عنه، لم يمنع ذلك الاستفادة بمقتضاه، وكذا سائرها غير أنهم التزموا ذلك على جهة التبرك، وتحسين الظن خاصة وليس بمطرد في جميع الأحاديث النبوية أو أكثرها حتى يقال إنه مقصود فطلب مثل ذلك من ملح العلم لا من صلبه.
"والثالث: التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة لا على قصد طلب تواتره، بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرة من جهات شتى وإن كان راجعًا إلى الآحاد في الصحابة والتابعين أو غيرهم فالاشتغال بهذا من الملح لا من صلب العلم خرج أبو عمر بن عبد البر عن حمزة بن محمد الكناني قال: خرجت حديثا واحدًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق شك الراوي، فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل وأعجبت بذلك فرأيت يحيى بن معين في المنام فقلت له: يا أبا زكرياء قد خرجت حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق، قال فسكت عني ساعة ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت: "ألهاكم التكاثر"، هذا ما قال وهو صحيح في الاعتبار لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود منه فصار الزائد على ذلك فضلًا. اهـ). [قواعد التحديث: 370-371]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (22- توسع الحفاظ رحمهم الله تعالى في طبقات السماع:
قال السخاوي في فتح المغيث: "لما صار الملحوظ بقاء سلسلة الإسناد، توسعوا فيه بحيث كان يكتب السماع عند المزي وبحضرته لمن يكون بعيدًا عن القارئ، وكذا للناعس والمتحدث والصبيان الذين لا ينضبط أحدهم بل يلعبون غالبًا، ولا يشتغلون بمجرد السماع حكاه ابن كثير قال: وبلغني عن القاضي التقي سليمان بن حمرة أنه زجر في مجلسه الصبيان عن اللعب فقال: لا تزجروهم فإنا إنما سمعنا مثلهم، وكذا حكي عن ابن المحب الحافظ التسامح في ذلك، ويقول: كذا كنا صغارا نسمع، فربما ارتفعت أصواتنا في بعض الأحيان، والقارئ يقرأ فلا ينكر علينا من حضر المجلس من كبار الحفاظ كالمزي، والبرزالي والذهبي وغيرهم من العلماء، وذكر السخاوي قبل ذلك أن شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- سئل عمن لا يعرف من العربية كلمة فأمر بإثبات سماعه، وكذا حكاه ابن الجزري عن كلٍّ من ابن رافع وابن كثير وابن المحب، بل حكى ابن كثير أن المزي كان يحضر عنده من يفهم ومن لا يفهم -يعني من الرجال- ويكتب للكل السماع، وذكر أيضًا عند قول العراقي: "وقبلوا من مسلم تحملًا في كفره" ما نصه: "ومن هنا أثبت أهل الحديث في الطباق اسم من يتفق حضوره مجالس الحديث من الكفار رجاء أن يسلم، ويؤدي ما سمعه كما وقع في زمن التقي ابن تيمية أن الرئيس المتطبب يوسف بن عبد السيد اليهودي الإسرائيلي سمع في حال يهوديته مع أبيه من الشمس محمد بن عبد المؤمن الصوري أشياء من الحديث، وكتب بعض الطلبة اسمه في الطبقة في جملة أسماء السامعين فأنكر عليه، وسئل ابن تيميه عن ذلك فأجازه ولم يخالفه أحد من أهل عصره بل ممن أثبت اسمه في الطبقة: الحافظ المزي، ويسر الله أنه أسلم بعد، وسمي محمدًا، وأدى فسمعوا منه، وممن سمع منه الحافظ الشمس الحسين وغيره من أصحاب المؤلف -يعني العراقي- ولم يتيسر له هو السماع منه مع أنه رآه بدمشق، ومات في رجب سنة سبع وخمسين وسبعمائة". اهـ). [قواعد التحديث: 371-373]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (23- بيان الفرق بين المخرج "اسم فاعل" والمخرج "اسم مكان":
كثيرًا ما يقولون بعد سوق الحديث: "خرّجه فلان، أو أخرجه" بمعنى ذكره، فالمخرج "بالتشديد أو التخفيف" اسم فاعل، هو ذاكر الرواية كالبخاري؛ وأما قولهم في بعض الأحاديث: "عرف مخرجه" أو: "لم يعرف مخرجه" فهو "بفتح الميم والراء" بمعنى محل خروجه، وهو رجاله الراوون له لأنه خرج منهم). [قواعد التحديث: 373]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (24- سر ذكر الصحابي في الأثر ومخرجه من المحدثين:
اعلم أنه يكفي في الأثر المروي ذكر الصحابي الذي رواه، ومخرجه من المحدثين المشهورين، وفي ذلك فوائد جمة:
أما ذكر الصحابي ففائدته أن الحديث تتعدد رواته وطرقه وبعضها صحيح وبعضها ضعيف، فيذكر الصحابي ليعلم ضعيف المروي من صحيحة، ومنها رجحان الخبر بحال الراوي من زيادة فقهه وورعه ومعرفة ناسخه من منسوخه بتقدم إسلام الراوي وتأخره، وأما ذكر المخرج ففائدته تعيين لفظ الحديث وتبيين رجال إسناده في الجملة، ومعرفة كثرة المخرجين وقلتهم في ذلك الحديث لإفادة الترجيح، وزيادة التصحيح، ومنها: الرجوع إلى الأصول عند الاختلاف في الفصول إلى غير ذلك من المنافع الجليلة "كذا في شرح المشكاة"). [قواعد التحديث: 373-374]